الزهرة السادسة والستون : الصيدلية إيفا.
الظلامُ يعتنقُ كُلَّ ما حوله مغرقًا إياهُ ببحورهِ
هوَ همسَ بتعبٍ : أينَ.. أنا ؟.
قطرة سقطت وسطَ الظلامِ ليليها صوتُ تلكَ الطفلةِ قائلة : أختكَ الصغرى إلى جانبكَ، أليسَ هذا رائعًا ؟، ران تشان..
راين : سا..را ؟..
سألَ إدغار : هيي راين.. لِمَ أنتَ سعيد ؟، ألا تعتقدُ أنَّ هذا خاطئ نوعًا ما ؟.
سارا : هذا صحيح !، هُناكَ خطأ ما بكلِّ تأكيد !، أعني لِمَ عساكَ تكونُ سعيدًا وأنتَ لم تفعل شيئًا جيدًا يذكرُ في حياتكِ قط !.
إدغار : أرأيت ؟، حتى سارا تظنُ ذلكَ !، إنهُ غريب تمامًا !، توقف عَن كونكَ سعيدًا !.
عَمّ الصمتُ للحظةِ ليكسرهُ صوتها : ما الأمر ران تشان ؟، لِمَ لا تجيب ؟.
قالَ إدغار ساخرًا : لقد فهمت !، أنتَ تشعرُ بالذنبِ و الندم !، الندمُ لأنكَ تخليتَ عنا !، الندمُ لأنكَ التقيتَ بنا !، لأنكَ تجاوزتَ الحدود المرسومة لكَ بكلِ وقاحةٍ و إهمال !!.
سارا : لكن..
أكملَ إدغار : ندمكَ لن يغيرَ شيئًا... لن..
سارا : يعيدَ الموتى إلى الحياة.
استيقظَ معتدلًا في جلوسهِ فزعًا يلهثُ بشدةٍ و شعورٌ بقلبهِ و كأنهُ قد سقطَ في معدتهِ يفتكُ بكلِ خليةٍ في جسدهِ، كأنَّ حنجرتهُ على وشكِ الخروجِ من حلقهِ و بالبردِ يرعشُ في جسدهِ المرتجف، هو بقيَ شاردًا محدقًا بالفراغِ في محاولاتٍ منهُ لتهدأة نفسه، عقلهُ يقولُ لا بأس لكنَ جسدهُ يأبى الاستجابةَ والحراك،تخللَ مسامعهُ خشخشةٌ هي لتحركِ الملائاتِ قربهُ لتظهرَ حمراءُ الشعرِ من بينها بشعرها المنفوشِ و عينيها الناعستينِ تتثائبُ بشدةٍ
قالت : صباح الخير.. أخي الأكبر...
ابتسمَ لها بهدوءٍ مربتًا على شعرها فأجاب: صباحُ الخير ماري.. أنمتِ جيدًا ؟.
عانقت ذراعهُ بشدةٍ متكأة على كتفهِ فهمست بسعادة : أجل.. إنهُ بفضلِ كونكَ قربيَ أخي.
فتحت عينيها تنظرُ إلى وجههِ فتحسست وجنتهُ سائلة : ما الأمر أخي ؟، لِمَ تبكي ؟.
أشاحَ بوجههِ عنها سريعًا ليغطيَ كفهُ بكمِ يدهِ و يبدأ بفركِ عينيهِ بسعادهِ بقوةٍ هاتفًا : لا شيء !، مجردُ حلمٍ سيء !.
تركت روزماري السريرَ لتبرزَ ميرا النائمة على إحدى الوسائدِ على حافةِ السريرِ فسكبت الأولى من الدلوِ دمًا إلى الكوبينِ و قدمت أحدهما إلى راين
قالت : أولًا عليكَ بشربِ البعضِ و استعادة عافيتك!، فحينَ لا نشربُ من الدمِ كفايتنا تطاردنا كوابيسٌ و هلوساتٌ مزعجة !.
ابتسمَ لها راين آخذًا الكوبَ من يدها ليشربهُ دفعةً واحدة فقال : أنذهب ؟، إلى حيثُ والدتي...
و في مكانٍ آخر... مكانٌ مظلمٌ يضيئهُ سوى نورٌ خفيفٌ مسلطٌ على تلكَ الطاولات التي ازدحمت سطوحها بالأوراقِ و الأنابيبِ المخبريةِ و الدوارق الحاوية على سوائلٍ بشتى الألوانِ فضلًا عن علبِ المساحيقِ و قناني الغازِ المقعدية الصغيرة، ثُمَّ مكتبٌ غمرتهُ الأوراق حتى آخرِ إنشٍ منه فحجبتهُ بالكاملِ و تلكَ المرأة بشعرها الأحمر الداكن الطويل و المجعد المبعثر بفوضويةٍ تامةٍ تنامُ على سطحِ المكتبِ بهدوءٍ ففُتحَ بابهُ ليعكرَ مزاجها ويفسدَ نومها
همهمت بانزعاجٍ بسببٍ صريرهِ العالي ثُمَّ قالت متململةً بينما تنهض : سواءَ ماري أم لوكا، كم مرة عليّ أن أقولَ لكم ابتعدوا عن مخبري !.
لكن ما صدمها كانَ صوتًا لم يتخلل مسمعها منذُ قرنٍ و ثلاثةِ عقودٍ منَ الزمنِ تقريبًا
قالَ : أعتذرُ عن التطفلِ أمي.
رفعت رأسها بسرعةٍ نحوَ مصدرِ الصوت لتقفَ مصدومة : راين !.
اقتربت منهُ لتحوطَ وجههُ بكلا كفيها فقالت : لقد كبرت حقًا !، حتى أنكَ أمسيتَ أطولَ مني !.
ضربت رأسهُ بكفِّ يدها لتردف : كم مرة أخبرتكَ أن لا تناديني بأمي !، لا تجعل مني عجوزًا !.
هو قهقهَ بهدوءٍ فقال : أرى أنكِ لم تتغيري أبدًا !، إيفا...
ثُمَ تذمرَ مستكملًا : كُلُّ الناسِ يستقبلونَ بالأحضانِ عندَ عودتهم إلا أنا يتمُ إستقباليَ بضربةٍ على رأسي !.
عانقتهُ إيفا على حينِ غرةٍ و اعتصرتهُ بقوةٍ لتجيب : لا تكن سخيفًا !، أنتَ أكبرُ أولادي فكيفَ لي أن لا أحتضنك ؟، مرحبًا بعودتكَ عزيزي...
بادلها راين العناقَ من فورهِ بينما يشعرُ بالنيرانِ تتأججُ في صدرهِ و قلبهِ فهمّ بعضِ شفتهِ السفلية مانعًا نفسهُ من البكاءِ، فمهما كانَ هذهِ والدتهُ التي لم يحتضنها منذُ قرنٍ و ثلاثةِ عقود.
همسَ بصوتٍ مرتجف : لقد اشتقت إليكِ كثيرًا.. حقًا.
ما لبثَ أن أنهى جملتهُ فإذ بدموعٍ حارةٍ تسيلُ على رقبتهِ فهي و على عكسهِ لم تحاول أبدًا قمعها، أمسى راين غير قادرٍ على الحركةِ أو النطقِ بأيِّ حرفٍ لبضعِ وقتٍ لكنهُ استجمعَ شتاتَ نفسهِ في النهايةِ ليهمسَ بهدوء
راين : بربك !، تبكين ؟، لا أصدق أنّ إيفا تبكي !.
تذمرت إيفا منزعجة : اخرس !، و إن يكن ؟، أنا شيطانةٌ تملكُ مشاعرَ أيضًا !، ماذا تظنني وحشًا؟.
اكتفى راين بالقهقهةِ بهدوءٍ بينما هي تحتضنهُ إليها أكثرَ فأكثرَ ليستمرا على هذهِ الحالةِ بضعَ وقتٍ.