ترنيمةُ أمل ~
وقت منتصف الليل .. عند سطوع البدر .. كان يجلس على كرسيه كعادته كل يوم .. يحتسي قهوته السادة داخل شرفة غرفته .. بكل هدوء .. في هذا الوقت المتأخر يُعكر التفكير صَفوَ هدوءه .. صراع بينه و بين نفسه .. مع كل رشفة يرتشفها يظهر له سؤال جديد ، يهدد هدوءه بالكامل ..
بدأ حواره مع نفسه بسؤالها :
- " امم .. أتراني على صواب ؟! ، هل أسير في المسار الصحيح ؟! ، أم هل ضللتُ طريقي ؟! ، و أضعتُ عنواني ؟! .. "
بدا و كأنهُ تائهٌ في دوامة زمنية لا متناهية الأبعاد .. تائهٌ في بحرٍ من الأفكار المتلاطمة التي تأبى أن تبتعد عنه .. خصوصاً في هذا الوقت من كل يوم .. أعاد سؤال نفسه ثانيةً :
- لماذا لا أستطيعُ النوم كبشرٍي طبيعي ؟!! ، هههه هل اختلَّ توازني ؟! ، أتراني أصبحتُ غريباً ؟! ، و كأنني مجهول الهوية بالنسبة لذاتي ..
أخذ يتأوه بشدة :
- آآه .. متى سأرتاحُ من هذا الشقاء ؟! .. لم تعد لي أي طاقة لأكافح من أجل الحياة .. طاقتي قد اندثرت منذ زمن .. منذ اختفاءه .
- و ما إنْ نطق تلك الكلمة .. حتى اتسعت عيناه فجأة .. فشهق باسمه من دون تردد :
- " رائف .. " ثم أعاد تكرار الاسم ثانيةً ..
- " رائف .. أين أنت في هذا العالم البائس ؟! .. أين خطفك شبح الموت مني و لم يعيدك إليّ ؟! .. آآه يا صديقي كم اشتقت إليك .. اشتقتُ لأقوالك .. لحكمتك .. لحواراتك المنطقية التي لا ملل فيها .. افتقدتُ تحفيزك و تشجيعك .. لوسامتك .. لضحكاتك .. لكل شيء .. "
ثم استرسل بكل حزن و أسى قائلاً :
" و ماذا ترك لي الموت منك ؟! .. امم لم يترك لي شيئاً سوى ذكراك .. ذكرياتي معك .. طموحاتنا المشتركة .. آمالنا و أحلامنا .. ههه نهفاتنا .. مِزاحنا .. و مقالبنا .. آآآهٍ أين عساها ذهبت كل هذه الذكريات .. أتُرِكَتْ لي ليخطِفكَ الموت مني .. "
ثم بدأ بالبكاء رويداً رويداً .. فازداد بكاؤه أكثر .. :
- " و هل البكاء للأنثى فقط يا صديقي .. لا أبداً .. أأخذك الموت مني ؟! .. آآه لو تعلم كم مرة يقتلني الاشتياق إليك ؟! .. حقاً إن الاشتياق و الحنين لحبيبٍ طعمهُ مرٌ كما العلقم .. رائف أين ذهبت و تركتني وحيدا في هذا العالم البائس ؟! .. أسير في حلقة يعتمرها الظلام من كل جانب .. حتى امتد الظلام لنفسي .. لقلبي و عقلي .. فاتسعت فجوته ُ .. اختفت بقعة الضوء التي كنا نتفاءل بها دائماً كلما قيدنا اليأس .. و لكن ماذا عسايَّ أن أفعل ؟! .. اختفت بلا عودة أبدية .. ضاع الحلم و تاه في بعدٍ لا متناهي الأبعاد .. معدوم المكان و الزمان .. في بقعةٍ لم يطأها أي إنسان .. خطفك شبح الموت مني إلى الأبد .. فتركني أعاني مرارة الشوق و الحنين إليكِ .. أتعلم أن الحنين ذو مذاق مر إنْ طال أمده .. باتَ صديقكَ كجسد هامد يعيش في متاهات هذا العالم الفسيح من دون روح أو حتى مشاعر .. ههه تبلدت مشاعري .. هههه أأصبحتُ وحشاً بشرياً ؟! .. هل سأبقى كذلك إلى أن يأتي ظل الموت و يخطفني من هذا العالم ؟! .. أين أنت في وقتٍ أحتاجك فيه .. و قد تركني الجميع و رحلوا بلا عودة ؟! .. آآه لقد قطعني الاشتياق قطعة قطعة .. "
- ثم جاءه صوت من بعيد .. رجل طويل نحيل .. وسيم الوجه .. ذو عينان زمرديتان .. يرتدي نظارته الطبية .. يشير إلي من بعيد بيده قائلا :
- " لا .. لستَ كذلك " .. ثم أشار إليَّ لأذهب إليه .. و نجلس على تلك المنضدة في الحديقة المليئة بزهور و وُريدات قد زرعها جدي ..
ذهبتُ مسرعاً إليه .. لا أكاد أصدق .. هل ما أراه حقيقة أم أنه مجرد هلوسة .. وصلتُ إليه .. نظرتُ إليه بنظراتٍ من التعجب .. ردّ على نظراتي :
- " ما هذهِ النظرة البلهاءُ على وجهك ؟! " .. ثم جلس .. فجلست بجانبه .
- " أأنت رائف حقاً .. هل أنت حي ؟! " .. أجبتهُ متعجباً
- " هههه .. أسامة .. هل أصابكَ الخَرفُ باكراً ؟! .. أنا رائفٌ بشحمه و لحمه .. مالي أراك قد ضقت ذرعاً بالحياة و ما فيها "
- " لقد ضقتُ ذرعاً بكل شيء .. امم لا رغبة لي في البقاء و العيش وحيداً "
- " و لِمَ هذا اليأس ؟! .. أأنتَ أسامة الملقب بفتى الأمل ؟! .. أم أنني أخطأت ؟! "
- " ههههه فتى الأمل ؟ ! .. ههه .. أسامة الذي تعرفهُ قد مات منذ زمن "
- ماذا تقول ؟!! .. و لِمَ كل هذا التشاؤم "
- " إنها الحياة يا صاحبي .. تتحداكَ لتقيس قدرتك .. تخلقُ العقبات أمامك لتهزمك .. و كلما اجتزت مرحلة .. ازدادت صعوبة تخطيك للمرحلة القادمة .. ماذا أقول لك ؟! .. لقد تجرعتُ ما يكفي و بزيادة.. لقد أُنهكت طاقتي .. لم يعد لدي مخزونٌ من الطاقة الكامنة لأكافح من أجل الحياة .. حياتي من بعدك لا تُطاق "
- " الحياة تتحداك لتُظهر قوتك .. و إن خابت قوتكَ و اندثرت فحتماً ستقضي عليك و كأنك تموت أمامها ألف موتة و موتة .. و هل تتوقف الحياة على فقداننا شخص نحبه ؟! "
- " كلامٌ منطقي .. لكنني ضقتُ ذرعاً بها .. هههه و من قال لك بأنني لم أموت ألف موتة و موتة .. حياتنا باتت جحيم .. و الموت أفضل من العيش في عالم بائس كهذا .. قوتي اضمحلت منذ زمن .. فلتفعل بي الحياة ما تشاء .. ما الذي تقوله ؟ّ .. أجل توقفت حياتي بعد مماتك " أجبتهُ بجدية
- " وا أسفاهُ على صديقي القديم .. و إنه ليؤسفني أن أراك بهذه الحالة المزرية .. " قالها و ملامح الحسرة بدت على وجهه .. ثم استرسل بجدية يتبعها توبيخ :
- " أنت تواسي نفسكَ ليس إلا .. للأسف يا صديقي .. لقد خَسرتَ معركتك أمام نفسك .. و الآن تُظهر لي مبرراتٍ مزيفة لا نفع لها و لا فائدة من قولها . سوى أنها تُزيدك ضعفاً و جبناً .. وا أسفاه عليك يا صديقي .. لقد صفعتك الحياة صفعة .. لم تستطع أن تقف بعدها .. لِمَ لا تقف في وجهها "
- " هِيْ رائف .. ربما نعم .. يمكنك القول بأنني أكذب على نفسك و أغِشها .. صفعة الحياة قوية يا صديقي .. صدقني .. لِمَ لم أقفُ في وجهها لأنني أعلم بأنها الفائزة في النهاية .. الامل اندثر .. و التفاؤل اضمحل .. بِتُ في متاهة لا متناهية الأبعاد يا صديقي "
- " قُلِ بربكَ ما هذا الاستهتار ؟! .. أتزيدُ الوجع ضِعفاً على نفسك ؟! .. بِتَ في متاهةٍ لأنك تكذب على نفسك .. الأمل لم يندثر و التفاؤل لم يضمحل .. الحياة أفقدتكَ ثقتك بنفسك .. لدرجة أنك تقولُ تُرهاتٌ لا معنى لها .. صدقني يا رفيقي أنت على خطأ .. نفسك تحاول السيطرة عليك .. لتفوز بالمعركة .. نفسك تتمرد عليك و تحاول عِصيانك .. و أنت تقذف نفسك للجحيم بنفسك .. عُد لرشدك يا أسامة "
- " ماذا أقول لك يا صديقي .. غابت معالم واقعيتي .. و اُكتسيتْ بثوب خيالي البائس ..ربما تكون على حق .. و لكن ما باليد حيلة .. حروفي اُعتصرت بشدة داخلي حتى تمردت نفسي عليّ .. فلبيتُ طلبها .. لقد تعبتْ .. لقد أُنهكت .. حُملتُ ما هو فوق طاقتي بزيادة .. هههه لقد أصاب قلبي التصحر .. فخَسر تربته و انقلب لأرض جرداء بلا زهور أو أشجار .. " ثم أشرتُ لقلبي و قلتُ له :
- " للأسف لا مكان للخير هُنا "
ردّ عليَّ بغضب قائلاً :
- " لقد أصبحت أسيراً لأفكارك البائسة .. الأمل لم يمت أتعلم لماذا؟! .. لأنه صدى نهاية شيءٍ و ولادة شيءٍ آخر .. لذا تعلمْ من النهاية حتى تكون بدايتك لامعة .. أتعلم ما هو الأمل يا أسامة ؟! .. الأمل هو الثقة بالله و الصبر .. تمعن في هذه الآية الجميلة .. قال ربنا جلَّ و علا : " و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب " .. تمعن في فحوى هذه الآية المباركة .. ثم يقول الباري عزوجل : " لا يكلفُ الله نفساً إلا وسعها " .. اروِ قلبك بقطراتٍ من الأمل .. جرعة صغيرة كافية لإحيائهِ و إعادة الروح إليه .. الثقة بالله هو الأمل مع أخذك بالأسباب .. إن كنتَ قد ضجرت من الحياة .. و شعرت بأنك تائه .. ضائع .. فصلِ ركعتين لله .. اهمس في سجودك و خاطب ربك مباشرة .. قل له ما تشعر به .. سيستجيب حتماً "
بعد سماعي كلماته لا أدري ماذا جرى لي ؟! .. أحسست و كأن الحياة قد عادت إليَّ .. كلماته روت قلبي بقطرات من الأمل .. أنعشته فبات روضة مزدهرة .. يااه .. كم هو عذبٌ كلامك يا صديقي !
تنهدتُ بفرح و سعادة قائلاً :
- "كلام جميل .. الحمد لله الذي أكرمني بصديقٍ مثلك .. يُعيد إليَّ روحي يا توأم روحي .. أعدك أن أصبح أقوى و أقوى لأجاهد الحياة بكل قوتي .. شكراً لك يا صديق عمري "
- اعتلت الابتسامة محياه .. أجاب :
- " يااه .. ما أجمل شعوري و أنا أراك تبتسم من جديد ! .. لا تجعل اليأس و الضعف يقيدك .. بل اخرج من هالة الكآبة التي قيدتك .. حطمها .. هَشمها .. و ابني بدلاً منها قصراً من الأمل للأبد "
بعد ذلك احتضنني بشدة و هو يبكي :
- " و الآن قد حاان وقت الوداع " ..
أشاح بوجهه .. يوليني ظهره و هو يبكي :
- " إلى اللقاء في وقت قريب .. كنْ كجمرة نار متأججة .. لا يخبوا توهجها يوماً " .. ثم رحل
استيقظتُ من نومي .. أحاول تفسير ما جرى .. ما الذي حدث ؟! .. هل كل ما حدث كان مجرد حلم ؟! .. أذن أذان الفجر .. فتوضأت و ذهبتُ إلى المسجد لأصلي و في كل ركوع أو سجود أخاطب ربي .. شعرتُ بأن همومي و أحزاني تتلاشي و تسقطُ تدريجياً .. يااه ما أجمل هذا الشعور .. تسجد لربك .. تخبره عن حاجتك بكل طمأنينة .. تُحسُ بأن هالة من السعادة و الطمأنينة قد أحاطت بك .. يااه حقاً إن الأمل حياة !
بعد انتهائي من صلاتي .. دعوتُ لرائف ..
" رحمة الله عليك يا صديقي .. أنت حي بقلبي و عقلي "
#Nour~