تحليل القصيدة مع الشرح : في قصيدة ( طوق الياسمين ) يصور لنا الشاعر نزار قباني ، وببراعة ، مرارة الحيقيقة بعد حياة ملئها الأمل والترقب التواق ، وهذه المشاعر ، أعني مشاعر الامل والترقب ، هي نتيجة للبراءة والاحاسيس الصادقة إزاء الآخر . والآخر ، هنا ، ولا شك هو المرأة التي عاش من اجلها وقتا طويلا و يعبأ كل ما لديه من افكار ومشاعر واحاسيس لكي يحتل مساحة في قلبها . إذن هو يعيش في وهم ، بكل ما لهذه المفردة من معنى . وكان عليه ان يكتشف ابعاد مشاعرها منذ البداية و لايوغل الى ما توغل اليه . نزار قباني في هذه القصيدة يكشف لنا واحد من اسرار حياة المرأة النفسية وهذا السر هو قدرة المرأة على أن تلبس ألف وجه . !! القصيدة إذن وبهذا المعنى ، يمكن ان تكون صورة الشاعر عن المرأة . هذا لا يمنع ، على الاطلاق ، من ان تكون تجربة مر بها الشاعر في وقت ما من اوقات حياته .. أو هي صوة ابتكرها الشاعر لموقف لا حظه او لحكاية تناهت الى سمعه من هنا أو هناك . ايا كان الامر ، فهذا لا يغير من واقع الامر شيئا ، وتبقى القصيدة ، على الرغم من جماليتها ، موقفا كونه الشاعر عن المرأة . صوت القصيدة هو لرجل يعيش مرارة اكتشافه الحقيقة . لقد استيقظ ، إذن من احلام يقظته ورأى بأم عينه كيف ان طوقه ، أعني طوق الياسمين ، الذي ربما اشتراه من رجل او امرأة شاردة في الطريق تدعي ان اطواقها هذه علامة لوفاء العاشقين ، اصبح مداسا بالاقدام . لقد اقتنى الطوق لكي يبرهن على وفائه لها . لم يكن للطوق قيمة في ذاته .. بل في رمزيته . عن الياسمين يحدثنا الباحث مالك شبل في معجمه فيقول ( ثلاثمئة توع من الياسمين معروفة بأسم مشترك : الزيتونيات ، فهرسها علماء النبات ، من بينها : الياسمين الإسباني ، النرجس الأسلي ، والياسمين الابيض . إن اعتدال المناخ الذي يسيطر على المناطق الإسلامية يعطي الياسمين الذي ينبت فيها رائحة خاصة ما يجعله يتردد ذكره في شعر الغزل القديم ويستخدم في صناعة العطور وفي تحضير الاطعمة . يقطع الأولاد في تونس والقاهرة وإصفهان أغصانا صغيرة من الياسمين ويضفرونها أكاليل تقوم كشعارات للانتصار ) (1) . إذن الياسمين ، ووفق*منظور هذا الباحث هو رمز للانتصار. وفي القصيدة ، كذلك يغدو الياسمين رمزا لانتصار الحب . وحتى لا يقع القارئ الذي لم يقرأ القصيدة في تيه الافكار ، سوف نجعله ، من خلال قراءة مقاطع القصيدة على النحو الذي وجدناه في الديوان ، ان يرتب افكاره ومشاعره واحاسيسه لكي يعيش عوالم القصيدة . يقول نزار قباني في القصيدة :- شكراً .. لطوق الياسمين
وضحكت ِ لي .. وظننت أنك ِ تعرفين
معنى سوار الياسمين
يأتي به رجل إليكِ ..
ظننت أنك ِ تدركين
في القصيدة ، تكرارات في المقاطع سوف لن نكررها بدورنا . ولذلك فسنكتفي بالمقاطع التي لن تتكرر .*اللغة ، لغة أسف وحزن وعتاب . انها نهاية الرحلة .. اعني رحلته معها . رحلته منذ*جاءها بسوار الياسمين وقدمه اليها علامة وفاء لحبه وانها هي الشيئ الوحيد لديه .. . لم يكن يعرف حقيقة مشاعرها نحوه . لقد ظن فقط انها ادركت . ونرى ان الشاعر عندما يستخدم مفردتي ؛ تعرفين وتدركين كان يعنى استغرابه من الفترة التي استمرت معه تبادله ما ظن انها تدعيه . ولكن مفردة شكرا*تدل عله ادركه بحقيقة موقفها . وسوف نرى في المقطع الثاني كيف ان الشاعر او قل البطل نفسه يروي بعضا من اشكال اللعبة التي تلعبها معه أو واحد من ادوراها . يقول الشاعر :- وجلستِ في ركنٍ ركين ْ
تتسرحين
وتنقطين العطرَ من قارورةٍ وتدمدمين ْ
لحنا فرنسي الرنين
لحنا كأيامي حزين
*
اين كانت تسرح شعرها . لابد انهما كان في الغرفة لوحديهما . هي امام المرآة تسرح شعرها الاشقر وهو يتابع عملية التسريح جالسا على سريرها ينتظر ما ينظره اي رجل بعد ان تتزين له*امرأة . الدمدمة mumble أو التمتمة أو الدندنة buzz كما يقول صاحب مختار الصحاح هي (أن تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول ) (2)*. و لا نريد الدخول في أمر هذا النمط من السلوك الذي يدخل ضمن اشكال التعبير اللغوي أو الصوتي . وقد يكون ظاهرة مرضية في بعض حالات الفصام فيسمى النمطية mannerism أو لزمان perseveration , ولكن الشاعر جنبنا مثل هذا الدخول اصلا عندما ربط مفردة*الدمدمة*مع النغمة . معنى هذا ان هذه المرأة تعيش لحظات انفعالية تتناسب مع جو العلاقة الذي يسود غرف الازواج ، ولكن الشاعر وقع في مطب جعلنا نؤول او نشم رائحة عدم الرضا لديها في هذه العلاقة . وكان الاجدر بصاحبنا هذا .. أعني*صاحب السوار ان يكتشف من النغمة الحزينة التي كانت ترددها انها علامة لعدم الرضا . ولكنه ، وعلى ما يبدو ، فأنه لم يأخذ هذا الجانب على محمل الجد ولم يتمكن من تمييز مشاعرها ، حيث طغت عليه مشاعر الحب الذاتية من دون الاخذ بنظر الاعتبار حقيقة مشاعر الطرف الآخر . لقد اعتبر صاحب السوار هذا أن هذه النغمة التي كانت ترددها شفتيها علامة السرور والبهجة والفرح*. وفي هذا المعنى يقول الشاعر هوفمان ( عندما يكون القلب مفعما ، يجب ان ‘تفتح الشفاه ) (3 ) على هذا الأعتبار كان صاحبنا قد انشغل بما لديه من قناعات عن مشاعرها ، وهي قناعات سوف يكتشف اهوالها لاحقا . المهم هنا هو وجوده معها في غرفة تفوح منها روائح الحب !!. وراح يمضي وهو ينتظرانتهائها من تسريحها لشعرها والدخول في ما هو متوقع من نواتج هذا التهيوء .*في الشرق العربي اعتقاد خاص حول الشَّعر ولا بأس من الوقوف عند رأي شبل في معجمه حول هذا الجانب من الجسم . يقول شبل ( يمكن إرخاء الشعر( التسريح ) تارة وطورا إخفاؤه من حيث هو يرمز إلى كرامة الإنسان وإلى حميمته في وقت واحد . يطلب إلى المسلم بإلحاح أن يعتني بلحيته وشاربيه . وينظر إلى الرجل الأمرد بحذر وريبة . وتحثّ المرأة على حلق عانتها . لكن شعر الساقين والإبطين لا تشتملها أوامر رجال الدين المتشددة ، فدلال المرأة ورغبة شريكها هما وحدهما يقومان بالباقي ، وهو ليس محرما ) (4) . إذن فللشعر دلالة جنسية رمزية . فالتسريح ، بهذا المعنى هو استعداد للفعل الجنسي .*بهذا المعنى تكون مشاعرها منسجمة مع صاحب السوار بكل ما تحمله هذه المفردة من معنى . ويستمر الشاعر بوصف ذكرياته عن مواقفه ، حيث يقول :-- قدَمَاكِ في الخف المقصب
جدولان من الحنين
وقصدت ِ دولاب الملابس ِ
تقلعين .. وترتدين
وطلبت ِ أن أختار ماذا تلبسين
أفََلي أذن ؟
أفلي أنا تتجملين ؟
*
ما كان منه الا ان يسألها سؤاله المؤلم : أفلي إذن تتجملين ؟؟؟؟؟؟ . سؤال طالما حيره ودمره وأوقعه في شكوك لا مخرج منها . ويستمر الشاعر .. صاحب السوار في سرد تفاصيل ذكرياته معها فيقول : ووقفت ِ في دوامة الألوان ملتهب َ الجبين
الاسود المكشوف من كتفيه ِ
هل تترددين ؟
لكنه لون حزين
لون كأيامي حزين .
*
هو الآخر تاه في دوامة الالوان والاشكال . يبدو ان خزانة ملابسها ممتلئة بالثياب والفساتين*بمختلف الالوان والاشكال . هذا الامتلاء هو سبب هذا التيه . ومن كل الالوان اختار اللون الاسود . لا ندري لماذا وقع الاختيار على هذا اللون*؟ هل ربط*الشاعر بين سواده وأحزان ايامه ؟ . إذا كان الامر كذلك فلماذا يستمر في هذه اللعبة معها ؟ ونعتقد أن اختياره لهذا اللون يعود الى سيطرة مشاعر الشكوك عليه . ومع ذلك فقد انصاعت له ووافقته الرأي . يقول صاحب السوار :- ولبسته ِ
وربطت ِ طوق َ الياسمين
**
لم تكتف بالانصياع لرغبته فحسب بل راحت تبرهن له على مصداقية مشاعرها نحوه بإرتداء طوق الياسمين الذي اهداه اليها . أي تمثيل هذا الذي تمارسه هذه المرأة مع هذا الرجل المسكين .*يكرر الشاعر عبارته الحزينة فيقول :- وظننت أنكِ تعرفين
معنى سوار الياسمين
يأتي به رجل اليكِ ..
ظننت أنكِ تدركين ..
في خضم هذه الصراعات التي لا تتشابه في الابعاد . فهو موجود معها في الغرفة ويختار الوان ملابسها ويختار لها اللون الاسود وترتدي طوق الياسمين ومع ذلك يكرر عبارته الحزينة . هل هو يعرف حقيقة مشاعرها حتى يكرر هذه العبارة ؟ الموقف غير متماسك منطقيا في بنائه . وهذا اللاتماسك يتجلى في المقطع التالي . يقول صاحب السوار:- هذا المساء ْ ..
بحانة صغرى رأيتكِ ترقصين ْ
تتكسرين على زنود المعجبين ْ
تتكسرين
وتدمدين ْ ..
في أذن فارسكِ الامين ْ
لحنا فرنسي الرنين
لحنا كأيامي حزين
*
اين كان صاحب السوار في الصباح حتى يذهب الى هذه الحانة الصغرى في هذا المساء ؟*هنا*عدم تناسق في البناء الزمني لبنية السرد في القصيدة . هنا تقطع في الزمن .. بل في ذاكرة صاحب السوار. هل من المعقول ان يكون معها في غرفة واحدة في الصباح ويراها في الحانة عند المساء ؟ . هذا هو الذي يجعلنا ان نعتقد بهذا التخلل في الزمن . ايا كان الأمر فأن وجودها في الحانة وهي تراقص احدهم كان بمثابة صدمة له . اين حنانها .. اين تسريحة شعرها وتجملها له .. اين تعطرها من قارورة العطر... أليس وجودها هنا مفارقة عجيبة ...؟؟ . نعم يمكن ان يكون قد ذهب الى هذه الحانة لكي يبكي قدره . ومن الممكن ايضا انه ذهب لمقابلة احدهم .. و.. و.. . كل هذا جائز ولكن ان يجدها هناك امامه وهي تراقص فارسها الامين فهذا هو الكارثة بعينها . الم ايكن في هذا الصباح هو الاخر فارسها الامين .. بل الفارس الأوحد وهي له تتجمل ؟؟ . كان ، على ما يبدو ، في شك من هذا التجمل ولذلك سألها ألي تتجملين وكرر العبارة اكثر من مرة . الادهى من ذلك انه سمع دمدمتها في أذن ذلك الفارس المنبهر بها وهو الآخر قد سمع ما سمعه هو . ألم تقل له أى فستان وبأى لون أرتدي . دلاله الانصياع واحترام رغباته واهوائه بل ذوقه .. هل سوف يختار هذا الفارس اللون الأسود هو الاخر . ؟؟ . لكن القصيدة تقول لنا ان هناك معجبين كثر ينتظرون دورهم لمراقصتها ولسماع ما سمعه هو وهذا الفارس الأمين . هكذا يوحي لنا النص . انها تتكسر على زنود المعجبين . في هذه اللحظة وهي منشغلة بمراقصة هذا الفارس الذي لايدري رقم دوره في اللعبة . بدأ صاحبنا ، اعني صاحب سوار الياسمين يكتشف اسرار اللعبة ويفك خيوطها .. لقد بدأ يتقين من شكوكه إذن ، فهي لم ولن تتجمل له ولا لهذا الفارس الأمين . ايخبر هذا الفارس ويدمرغطرسته الجوفاء ؟ أم يتركه ليكتشف الأمر بنفسه ؟ لقد تاهت نظراته بين الحاضرين في الحانة . لم يعد ينتبه على شيئ ، خصوصا إذا علمنا أن أضواء الحانة تكون حمراء . لقد اصيب بالدوار ، أتعلمون ما رأى ؟ هذا ما يخبرنا به المقطع الأخير من القصيدة الذي يقول :- وبدأت أكتشف اليقين
وعرفت أنك ِ للسوى تتجملين
وله ترشين العطورَ ..
وتقلعين وترتدين ..
ولمحت طوقَ الياسمين ْ
في الأرض .. مكتوم الأنين ْ
كالجثة البيضاء ..
تدفعه جموع الراقصين ْ
ويهم فارسك ِ الأمين بأخذه ..
فتمانعين ..
وتقهقين ْ ..
( لا شيئ ، يستدعي انحناءك َ ..
ذاك َ طوق الياسمين ْ .. )
لقد رأى كل تاريخه .. حبه .. ذكرياته .. كل ما قاله لها .. كل ماقالته له ، مرمي هنا في الأرض كالجثة البيضاء مكتوم الأنين .. أليست هذه فاجعة كبرى ؟ دمرته كما دمرت الأخرين .. على ما يبدو .. تحنن هذا الفارس على طوق الياسمين هذا . فأنحنى . هو الآخر يريد اهدائه لها تعبيرا عن مصداقية ذراعيه الملتفة حول خصرها وهي تتمايل بين هذين الذراعين مثل فراشة مزركشة الالوان كما فعلت معه وهي تسرح شعرها لتدعوه الى باحة جسدها .. ها هو يرى انها ليست غير امرأة من نساء الليل يجبن الحانات للمتاجرة بأجسادهن مع قليل من التبغ والخمرة . وكان الدليل على هذه القناعة هو تلك القهقه التي تنم عن لا أبالية مطلقة من الأشياء . أي حب هذا الذي يتكلمون عنه ؟ وما معنى الحوار بين العيون الذي يتحدثون عنه .. لا شيئ من هذا وذاك .. كله هراء في هراء وعبث ولا معنى . حتى طوق الياسمين لا يرمز على شيئ . انه ليس غير وريقات بيضاء سرعان ما يلتهمها اللون الأصفر والذبول . ذلك كله هو طوق الياسمين . إذن ما أشقاك يـــــــــــــا طوق الياسمين .
img3] https://b.top4top.net/p_635r6o2e1.png[/img3] |
__________________
شكرا لكِ يُونا . على الطقم الأكثر من رائع
التعديل الأخير تم بواسطة Florisa ; 11-23-2017 الساعة 10:32 AM |