فترة ما بين عاميّ 1923 928
في عام 1923 وبعد أن عاشت مستعمرة ليبيا الإيطالية لعدّة سنواتٍ في هدوء نسبيّ مع ضعف في سيطرة الطليان، قرَّرت الحكومة الإيطالية تغيير سياستها اتّجاه ليبيا جذرياً، فقرَّرت قلب سياستها مع الحركة السنوسية من الحوار والتفاهم إلى الحرب والإخضاع بالقوة،
وألغت جميع الاتفاقيات السابقة التي كانت قد أبرمتها مع الليبيّين وبدأت هجوماً شاملاً على معاقل الجهاد،
ممَّا أدى إلى تفجُّر حرب عنيفة في أنحاء الجبل الأخضر بعد هدوءٍ كان قد دام لعدّة سنوات.
واستمرَّت الحرب في الأعوام التالية، لتزداد شدة وعنفاً عاماً بعد عام.
شهدت الفترة الممتدة بين عاميّ 1924 925 مناوشات عديدة ومعارك دامية بين الثوَّار والقوَّات الإيطاليَّة، ووسَّع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر ولمع اسم عمر المختار كقائدٍ بارع يُتقن أساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل.
وأخذ البدو من أبناء القبائل ينضمّون إلى صفوف المجاهدين، وبادرت القبائل بإمداد هؤلاء بما يحتاجون من مؤنٍ وعتادٍ وأسلحة. كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار، وكان النواة الأولى وحجر الأساس لمعسكرات الجبل الأخضر الثلاثة، وكان عمر المختار يُلقَّب بنائب الوكيل العام.
وكان هناك مجلس أعلى استشاري في المعسكر يترأَّسه عمر المختار ويضم مختلف شيوخ وأعيان القبائل، كما كان هناك نظام رتب عسكرية يماثل ذاك العثماني ويشمل ترقياتٍ لأصحاب الإنجازات والأعمال البارزة.
وقد أقرَّ حاكم برقة الإيطالي إتيليو تروتسي في مذكّراته المنشورة بعنوان "برقة الخضراء"، بأنَّ تكتيك ملاحقة الثوار وضربهم المستمرّ بالجبل الأخضر الذي اتبع منذ استلام الجنرال مومبيللي القيادة عام 1926 قد أدَّى إلى إنهاك القوة الإيطالية واستنفاذ قواها بقدر ما أنهك قوات الثوار، مما جعله أسلوباً غير مجدٍ. كما وأقر تروتسي بالطريقة نفسها بالأثر المعنويّ السيء الذي خلَّفته ضربات الثوار المتلاحقة على القوات الإيطالية بتلك الفترة، والتي لم تستطع ردَّ هذه الضربات أو إيقافها.
خلال تلك الفترة كانت إيطاليا تصب اهتمامها على مدينة برقة التي لم تستطع احتلالها منذ أن زحفت جيوشها على أجدابيا سنة 1923، وانحصرت مجهوداتها على معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يومًا من معركة إلَّا ليدخل في معركة أخرى.
وقد قام عمر المختار بتأسيس معسكرٍ للمجاهدين في الجبل الأخضر، وأصبح يتولَّى بنفسه إدارته والإشراف على تدريب المقاتلين وتنظيم هجماتهم.
ثم اتَّخذ لاحقاً منطقة شحات قاعدة عسكرية له ولرجاله.
وفي عام 1927 تبدَّلت قيادة الجيش الإيطالي في برقة، وتولّى أمرها القائد العام "ميزتي"، وأخذ على عاتقه تنفيذ الخطة الهادفة إلى ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الأخضر، كما استبدل حاكم بنغازي الإيطالي "مومبيلي" بخلفه الفريق أوَّل "تيروتس"، وهو من زعماء الحزب الفاشي، وزوِّد القائد ميزتي بعدد كبير من كبار الضبَّاط وأركان الحرب لمساعدته. وفي نفس السنة تقدمت القوات الإيطاليَّة من طرابلس الغرب بقيادة الفريق أوَّل رودولفو غراتسياني، فاحتلت واحة الجفرة والقسم الأكبر من فزان واشتبكت مع القبائل المحليَّة في عدَّة وقعات كانت الغلبة فيها للجيش الإيطالي.
وقد ضاعفت الحكومة الإيطاليَّة من جهودها غير العسكريَّة أيضًا، فبذلت الأموال الطائلة والوعود لزعماء القبائل حتى يكفوا عن القتال، فأصابت في ذلك نجاحًا كبيرًا كان من نتيجته أن سقطت الجغبوب ومرادة وزلة وجالو وأوجلة ومرادة في أيديهم.
وقد حاول عمر المختار مراراً إقناعهم بعدم التفاوض مع الإيطاليين والاستمرار في المقاومة.
لكن بعد بدء الرضا السنوسي الدخول هو الآخر في المفاوضات مع الإيطاليين بأواخر عام 1927، متّجهاً في ذلك إلى عقد السلم معهم، أصدر أوامره إلى عمر المختار من جالو بضرورة وقف العمليات العسكرية،
وقبل عمر المختار بنقل هذه الأوامر إلى رجاله، فخفَّت وتيرة القتال في أنحاء الجبل الأخضر بانتظار تجلّي الموقف.
وكان احتلال تلك الواحات الصحراوية التي استسلم زعماؤها قد جعل عمر المختار في عزلة تامَّة في الجبل الأخضر ومع هذا ظلَّ المختار يشن الغارات على درنة وما حولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه، وفرّ الطليان تاركين عددًا من السيَّارات والمدافع الجبليَّة وصناديق الذخيرة والجمال، ودواب النقل. معركة أم الشافتير
المختار مع بعض المجاهدين.
بتاريخ 28 مارس 1927، اشتبك المجاهدون مع القوَّات الإيطاليَّة في معركة ضارية عُرفت باسم معركة الرحيبة أو موقعة يوم الرحيبة، وقد تكبّد فيها الطليان خسائر جسيمة.
كانت تلك الهزيمة بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البعير، فلم تعد الحكومة الإيطاليَّة في روما قادرة على تقبَّل أي هزيمة بعد أن ظهر جيشها بمظهر هزليّ أمام باقي جيوش أوروبا، كذلك كان الحكَّام الإيطاليّون في ليبيا قد طفح بهم الكيل من الهزائم المُتكررة، وكان لا بدّ لهم من إعادة اعتبارهم ورفع معنويَّات الجنود المنهارة، فشرعوا يعدّون الجيوش الجرَّارة لاحتلال الجبل الأخضر واتخاذه قاعدة لها.
كانت القوَّات الإيطاليَّة عظيمة العدد والعِتاد، فضمَّت فرق نظاميَّة إيطاليَّة وإريتريَّة وليبيَّة محليَّة، بالإضافة لبضعة فرق غير نظاميَّة من مرتزقة ليبيّون وأفارقة، وعدَّة دبَّابات وسيَّارات مصفحة وفرق هجَّانة وبطاريَّات مدفعيَّة. ويُضاف إلى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة.
بالمُقابل، تراوح عدد المجاهدين ما بين 1500 إلى 2000 مجاهد، 25% منهم تقريبًا من سلاح الفرسان،
ويرافقهم حوالي 12 ألف جمل.
علمت إيطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة أم الشفاتير فارادت أن تحكم الطوق عليهم، فزحفت القوّات الإيطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصارًا حول المختار ورجاله من ثلاث جهات، وبقوّات جرّارة تكوّنت من حوالي 2000 بغل 000 جندي، 000 جمل بالإضافة إلى السيّارات المُصفّحة والناقلة.
ولمَّا علم المختار بما يخططه الطليان، شرع يعد العدّة مع باقي قادة الجهاد لمُلاقاة العدو، فأعدوا خطة حربيَّة وقاموا بحفر خنادق ليستتر بها المجاهدون وخنادق أخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتمَّ ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة الشيخ حسين الجويفي البرعصي، أمَّا عمر المختار فقاتل إلى جانب المقاتلين الآخرين من غير أصحاب الرتب. ولم يطل الأمر حتى اشتبك المجاهدون مع الطليان في معركة حامية الوطيس، وسقط من الليبيّون الكثير من الرجال، وحتى النساء والأطفال، بعد أن قصفت الطائرات الفاشيَّة أماكن تمركزهم، لكنَّ المختار والباقون تمكنوا من دحر الإيطاليين وأجبروهم على التقهقر والانسحاب مرة أخرى. بلغ عدد القتلى الليبيين 200 شخص، كان من بينهم والد زوجة عمر المختار الذي بكاه بكاءًا حارًا وقال بعد أن سمع بمقتله: «راحو الكل ياعين الجيران وأصحاب الغلا».
بعد انتهاء المعركة، أصبحت القوَّات الإيطاليَّة منهوكة القوى مُصابة بالإعياء من شدة المعارك المستمرة منذ فترة طويلة دون توقف، وكشفت المعركة لعمر المختار عن ملامح السياسة الفاشسيَّة الجديدة وهي الإبادة والتدمير للمصالح والرجال على حدٍ سواء، فاتخذ اجراءات ترحيل النساء والأطفال والشيوخ إلى السلّوم لحمايتهم من الغارات الجويَّة الإيطاليَّة، وتيسيرًا لسهولة تحرّك المجاهدين وفق ما يتطلبه الموقف الجديد. كما أعاد تنظيم المجاهدين على هيئة فرق صغيرة تلتحم مع العدو عند الضرورة، وتشغله في أغلب الأوقات مما يُقلل من نسبة الخسائر المحليَّة أثناء المعارك ويُلحق الخسائر الفادحة بالأعداء وفق التكتيك الجديد لحرب العصابات، ألا وهو الهجوم في الوقت المناسب والانسحاب عند الضرروة.
بالإضافة إلى ذلك، أيقن المُختار ضرورة العمل على التعريف بالقضيَّة الليبيَّة والنضال الليبي ضد إيطاليا في البلاد الإسلاميَّة والأوروبيَّة على حدٍ سواء، فطلب من بعض المجاهدين الهجرة إلى الخارج للتعريف بالقضيَّةِ في البلدان التي يحلّون بها، فكان من نتيجة هذا تشكيل الجاليات الليبيَّة في الخارج.[
وفي 10 أغسطس عام 1927 زحفت فرقة لورنزيني الإيطالية باتّجاه دور العبيد، وهو أحد معسكرات الثوار الأساسية ومكان إقامة عمر المختار آنذاك، ممَّا دفع الثوار إلى الانسحاب منه باتّجاه الجنوب الغربي، إلا أن الإيطاليين استمرُّوا بملاحقتهم بمساعدة الطيران الاستطلاعيّ الذي كان يدلّها على كافة تحرُّكات الثوار. وقد بدأ الصّدام في مساء اليوم التالي 11 أغسطس في وادي الشبولية، حيث حاصرت الفرقة الإيطالية الوادي من جهتيه وقصفته بالمدفعية، وبعد مقتل العشرات من الثوار تمكَّن عمر المختار من النجاة بمساعدة مجموعة صغيرة من رجاله واتَّجه شرقاً، إلا أنه ترك صندوق رسائل ووثائق خاصة حصل عليها الإيطاليون. مرحلة المفاوضات
في شهر سبتمبر عام 1927، غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر فادحة، واشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسيَّة الهامَّة، ففي أواخر شهر يناير سنة 1928 توجهت قوَّتان إيطاليَّتان بقيادة غراتسياني إلى فزان للاستيلاء على ما تبقّى منها، فلمَّا بلغ هذا الخبر آذان عمر المختار، قام برجاله وتمركزوا في مكان يقع بين جبلين يُعرفان بالجبال السود، وما أن وصل الطليان حتّى انقض المُجاهدون عليهم وأرغموهم على التقهقر، وعاود الطليان الكرَّة مجددًا لكنهم هُزموا مرَّة أخرى أمام المختار ورجاله وفرَّوا تاركين وراءهم غنائم وأسلابًا كثيرة.
فلم يعد هناك مناصٌ من أن يُعيد الطليان النظر في خططهم، مما أدى إلى وقوع أزمة كبيرة في روما، وبدأت الحكومة تبحث بصورة جديَّة وسائل إخماد المقاومة وترسم الخطط السياسية الجديدة التي ترأى ضرورة التقيّد بها في كل من برقة وطرابلس الغرب. وقد توقفت الأعمال العسكريَّة طلية ما تبقّى من سنة 1928، بعد أن أدركت الحكومة أنَّه لا فائدة من الاستمرار في العمليَّات العسكريَّة ضد المجاهدين، وقال الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني: «إننا لا نُحارب ذئابًا كما يقول غراتسياني، بل نحارب أسودًا يُدافعون بشجاعة عن بلادهم. إنَّ أمد الحرب سيكون طويلًا».
خلال شهر ديسمبر من عام 1928، استقال كلٌّ من فيدرزوني وزير المستعمرات الإيطالي، وديبونو حاكم طرابلس الغرب، وتيروتزي حاكم برقة، فعُيِّن ديبونو وزيرًا للمستعمرات وأعلن موسوليني توحيد الإدارة في القطرين الليبيين، وعين المشير بادوليو حاكمًا على طرابلس الغرب وبرقة. تولّى بادوليو مهامه بداية شهر يناير من عام 1929، واتبع برنامجًا مبنيًا على كسب الوقت أولًا ثم العمل رويدًا رويدًا من أجل تقوية المراكز المُحتلّة والقضاء على المقاومة الليبيَّة، فقام تخفيض عداد الجيش إلى القدر الذي يكفي للقيام بحرب العصابات، وحاول الحفاظ على هيبة الحكومة عبر إنفاقه الأموال المتوفرة في مد الطرق في الجبل الأخضر مما يسهل عليه التنقلات العسكريَّة، تمهيدًا للقيام بهجوم شامل كاسح على المجاهدين يقضي عليهم، ولمَّا كانت هذه الخطة تتطلَّب وقتًا، وتخوّفت الحكومة من اطلاع المختار عليها، سعت إيطاليا إلى مفاوضة عمر المختار لتهدئة الأحوال وضمان استقرار الأوضاع للفترة اللازمة فقط. مفاوضات السلام في سيدي ارحومة
صورة لعمر المختار.
خلال منتصف فبراير سنة 1929، نزلت قوات المجاهدين من جبل الهروج للانقضاض على النوفلية من جانب وعلى إجدابيا من جانب آخر، فاجتمعت ثم انقسمت ثلاث فرق التحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في 5 مارس، واشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عند النوفلية في 14 مارس، واتجهت الثالثة صوب منطقة العقيلة في 23 مارس، واستقر المجاهدون في جبل سلطان، لكنهم لم يمكثوا طويلًا إذا اضطرّوا إلى الانسحاب أمام القوَّات الإيطاليَّة العظيمة صوب وادي الفارغ.
كان لتلك الأعمال الأثر الأكبر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فورًا من أجل استمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ، فطلب من أحد القادة العسكريين، وهو العقيد باريلا، أن يُعلم عمر المختار برغبته بالاجتماع به للمفاوضة في شروط الصلح، فحدد باريلا موعدًا للاجتماع دون أن ينتظر جواب المختار، إذ أراد أن ينتهز فرصة اطمئنان المجاهدين لقرب بداية المفاوضات وانشغالهم بعيد الفطر، فانقض الطليان عليهم وهم يؤدون صلاة العيد، لكن المختار ورجاله تكمنوا مرَّة أخرى من ردّ الطليان على أعقابهم. أمام هذا الواقع، كلَّف بادوليو متصرف درنة المدعو "دودياشي" لتمهيد المفاوضة مع عمر المختار وصحبه، فاتصل بالمجاهدين واقترح على المختار أن يكون الاجتماع يوم 2 مارس في منزل علي باشا العبيدي للبحث في موضوع الصلح، غير أنَّ اللقاء طال حتى حصل أخيرًا يوم 20 مارس، إذ كان المختار قد اشترط على الحكومة الإيطاليَّة أن تُظهر حسن نواياها، وذلك عبر إطلاق سراح السيّد محمد الرضا وإعادته إلى برقة من منفاه، ولم يقبل الاجتماع مع أي مسؤول إيطالي قبل حصول ذلك.
اجتمع عمر المختار مع مندوب الحكومة دودياشي في منزل على العبيدي كما تمَّ الاتفاق، وحضر الاجتماع عدد كبير من مشايخ البلاد وأعيانها، ثمَّ أُجِّلت المُفاوضة إلى الأسبوع التالي، وانعقد اجتماع آخر في سانية القبقب ولم يستطع المتفاوضون التوصل إلى نتيجة مُرضية. عاد المختار واجتمع مع باريلا في الشليوني في الجبل الأخضر في يوم 6 أبريل ولم يصل المتفاوضون إلى نتيجة، وفي 20 أبريل عادت المباحثات في بئر المغارة بوادي القصور بحضور عدد من الأعيان والأكابر، وخلالها خيَّر مفوَّض الحكومة الإيطاليَّة عمر المختار بين ثلاثة أمور: الذهاب إلى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتبًا ضخمًا وعاملته بكل احترام، ولكن المختار رفض هذه الشروط رفضًا قاطعًا.
واستؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يسمَّى قندولة بالقرب من سيدي رويفع، وحضر الاجتماع عدد من كِبار الضبَّاط الذين عقدوا العزم على الإيقاع بالمختار وأسره، لكن الأخير كان قد احتاط للأمر ولم يسفر هذا الاجتماع عن شيء.
وفي 26 مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الاجتماع قدّم الوفد الإيطالي فيه صيغة تقريرية لشروط إيطاليا وأبرزها تسليم المجاهدين نصف سلاحهم مقابل ألف ليرة للبندقية، وضم نصف المجاهدين الآخر الذي احتفظ بسلاحه إلى تنظيمات تنشئها الحكومة لفترة من الزمن يُتفق عليها إلى أن يتم إعداد المكان المناسب لإقامتهم وتموينهم ومراقبتهم، ولم تتضمن تلك الشروط أي حق سياسي لليبيين وقد رفضها المختار بشدَّة كما عارض فكرة نزع السلاح من المجاهدين. وعُقد اجتماع ثالث في قندولة حضره عدد من قادة المقاومة وعدد آخر من الأعيان والمشايخ، ولم يُخف المختار في هذا الاجتماع شكوكه في نوايا إيطاليا، فطلب حضور مراقبين من مصر وتونس يشهدون على الاتفاق الذي يتم التوصل إليه، كما وضع عشرة شروطٍ لعقد لصلح مع إيطاليا من بينها - والمساواة بين الليبيين والمستوطنين الطليان بالإضافة إلى حضور المراقبين - كفل الحقوق الدينية والثقافية بالسماح بتدريس الدين الإسلامي واللغة العربية والحقوق السياسية بالسماح للشعب بانتخاب الحكومة علاوة على ترك السلاح في أيدي المواطنين الليبيين، ويقول شهود عيان أن هذا اللقاء كان صاخبًا وتبودلت فيه الاتهامات إلّا أنه تم الاتفاق على لقاء عمر المختار مع الفريق أوَّل سيشلياني نائب الحاكم في برقة، وقد تم هذا اللقاء يوم 3 يونيو 1929.
ويبدو أن الفريق أوَّل سيشلياني أقنع المختار أن لقاءه مع المشير بادوليو قد يكون مفيدًا ومثمرًا، وتمَّ الاتفاق على أن يُعقد في سيدي ارحومة بالقرب من المرج يوم 19 يونيو.
لقاء سيدي ارحومة الذي حضره كل من عمر المختار (الثاني من اليسار)، وپيترو بادوليو (الرابع من اليمين)، حاكم طرابلس الغرب وبرقة، وسيشلياني (الثاني من اليمين)، نائب حاكم برقة.
وقع اللقاء التاريخي بين حاكم ليبيا العام وقائد الثورة في برقه في المكان والزمان المحددين للتفاوض من أجل إحلال السلام في ربوع ليبيا، ووصل عمر المختار إلى سيدي ارحومة على رأس أربعمائة مقاتل وقد طوقوا المنطقة واتخذوا احتياطات أمنيَّة للمحافظة على زعيمهم، ووصل بادوليو ورفاقه في أربع سيَّارات يرافقهم حشد من كبار الضبَّاط ورجال الجيش والشرطة والموظفين. وفي الاجتماع قرأ المجاهدون شروطهم التي تسلمها بادوليو ووعد برفعها إلى رؤسائه، ودار نقاش حول السلام والتنازلات التي قدمها كل من الطرفين واقترح المشير بادوليو عقد هدنة لمدة شهرين تتوقف فيها جميع العمليات العسكرية لأن المفاوضات قد تستغرق بعض الوقت ويجب أن تدور في جو هادئ، ووافق المختار على ذلك. وانتهى الاجتماع بصورة ودّية وتبادل الطرفان الهدايا، فقد وزّع بادوليو ساعات ذهبية على مساعدي عمر المختار وأهدى الأخيرُ جوادًا عربيًّا أصيلًا إلى بادوليو، وأُخذت الصور التذكارية للمفاوضين يتوسطهم عمر المختار وبادوليو. وكان لقاء عمر المختار ببادوليو لقاء الند للند. وقد وصف الكاتب الإيطالي كانيڤاري اللقاء فقال: «وصل عُمر المُختار مكان الاجتماع محاطًا بفرسانه كما يصل المُنتصر الذي جاء ليملي شروطه على المغلوب».
تم الاتفاق على عقد لقاءٍ جديدٍ في 26 يوليو بسيدي رويفع بين عمر المختار وسسيشلياني، فذكره عمر المختار بوعد الطليان بأن يوافقوا على شروطه العشرة، إلا أن سيشلياني تحجَّج بعدم إمكانية عقد الاتفاق إلا في بنغازي، ووافق عمر المختار. أرسل المختار الحسن بن رضا السنوسي نائباً عنه، فأقام الحسن في بنغازي 15 يوماً، ثمَّ عاد إليه بعد توقيع المعاهدة يحمل شروطاً مختلفةً تماماً عن تلك التي كان قد اتفق عليها المختار مع الطليان بالأصل، تشمل منح صلاحيات للحكومة الإيطالية بوضع رجال عمر المختار في معسكرٍ خاص تنقلهم متى وكيفما شاءت وتبدل أسلحتهم كيفما شاءت وتضعهم تحت إمرة ضابط إيطالي وتدفع لهم مرتَّبات شهرية بل وبإمكانها تسريحهم عند الضرورة، كما تدفع الحكومة للمختار والحسن مرتبات شهريَّةً مع أماكن إقامة.
وقد رفض عمر المختار هذه الشروط رفضاً تاماً، وقال للحسن: «لقد غرُّوك يا بنيّ بمتاع الدنيا الفاني»،[95] ثم قال للحاضرين «إنّي لا أرضى بهذه الشروط، وأفضّل الموت جوعاً وعطشاً ولا ألقي بنفسي وإخواني بين أيدي الإيطاليين يتصرَّفون فينا كما شاؤوا»، ورفض باقي الحاضرون الشروط، فعندها غضب الحسن، وطلب ممَّن يؤيده أن يقوم معه، فقام معه 300 رجل، وذهبوا إلى الإيطاليين في بنغازي، ومنذ ذلك الوقت انقطعت علاقات عمر المختار مع الحسن بن رضا.
عاد بادوليو من سيدي ارحومة إلى بنغازي يحمل مفاجأة كبيرة أذهلت الجميع، فقد أبرق إلى روما معلنًا أنَّ عمر المختار ورجاله قد استسلموا دون ذكر الشروط التي تم على أساسها الاستسلام، وعقد في طرابلس الغرب مؤتمرًا صحافيًّا نفى فيه أنه قام بمفاوضات مع عمر المختار وأنَّ الأخير استسلم بناء على ضغط رجاله الذين أرهقتهم الحرب والحرمان والمصاعب، وذُهل الناس في ليبيا لهذا النبأ، وكان عمر المختار أكثرهم ذهولًا، فهو لم يستسلم ولم يعد بادوليو بشيءٍ باستثناء الاتفاق على هدنةِ شهرين، غير أن هذا الاستسلام المزعوم كذَّبته الوقائع فقد ظل عمر المختار ورجاله محتفظين بسلاحهم ينتظرون رد إيطاليا بخصوص مواصلة المفاوضات ولكن الإيطاليون صدقوا بادوليو وظلوا ينتظرون وصول عمر المختار إلى بنغازي مستسلمًا وطال انتظارهم ولم يسلّم المجاهدون بندقية واحدة. ما بعد المفاوضات
كان موقف بادوليو حرجًا وصعبًا وقد اهتزت مصداقيته، فاستسلام عمر المختار لم يتحقق والثورة لم تنته وبدأت روما تتسائل عن حقيقة الموقف، غير أن بادوليو صمم على السير في طريقه وصمّ أذنيه عن الانتقادات وكان واثقًا من أن الثورة في طريق الانهيار بعد أن انفصل عنها البعض، وبعد أن واصل العملاء وكبار الموظفين مساعيهم لتمزيق ما تبقى من الثوّار مع عمر المختار. وكان بادوليو مقتنعًا أنَّ هدنة لبضعة أشهر يصحبها عمل ذكي لعمليات الإغراءات المالية وشق صفوف الثوار تكفي للوصول إلى سلم يؤمن سيادة إيطاليا الكاملة على ليبيا. كما كان مستعدًّا لتقديم الكثير إلى عمر المختار على المدى المباشر دون أن يصل إلى اتفاقية رسمية مكتوبة كان الطرف الليبي يُطالب بها، وقد وعده الفريق أوَّل سيشلياني بها، وقد راهن بادوليو على الخلافات التي يغذيها الإيطاليون وعلى تعب سكان الجبل الأخضر وهي عوامل تجعل من استئناف القتال في وقت قريب أمرا مستحيلًا.
غير أن عمر المختار كان أبعد نظرًا فقد أدرك من البداية حدود اللعبة الإيطالية فأخذ حذره وابتعد بقواته عن المراكز الإيطالية ليجنبها عمليات الإغراءات والاستقطاب التي وقع فيها البعض وواصل احترامه للهدنة على أمل مواصلة المفاوضات وقد بعث برسالة إلى الفريق أوَّل سيشلياني يوم 29 يونيو سنة 1929، يلفت نظره إلى المماطلة الإيطالية والتسويف في استئناف المفاوضات وإلى تصرفات كبار الموظفين الإيطاليين والعملاء لبث الفتنة بين المجاهدين واستمالتهم إلى إيطاليا عن طريق الإغراءات الماديَّة والمالية وكانت رسالة المختار واضحة فقد أراد أن يشعر بادوليو أنه على علم بمخططاته ومحولاته للقضاء على الثورة بدون حرب.
وطلب المختار في نفس الرسالة تحديد موعد لمقابلة الفريق أوَّل سيشلياني، وفي حالة الرفض أو عدم الإجابة يكون عمر المختار في حل مما قيدته به آداب المجاملة في انتظار نتيجة المفاوضات، وسوف تعود الأمور لما كانت عليه، وكان جواب إيطاليا هو أنها على استعداد ولا داعي للإنذار بإعادة الحرب.
وفي يوم 25 سبتمبر أرسل عمر المختار رسالة إلى سيشلياني أشعره فيها بأن مندوبي الحكومة ورؤساء التفاوض المرتبطين بالسلطات الإيطاليَّة يقومون ببث الخلاف بين المجاهدين بمساعدة بعض المتصرفين الذين يقومون بتوزيع المؤن والأغذية وأن المسؤوليَّة تقع على الحكومة إذا تسبب ذلك في سوء تفاهم.
وفي 19 أكتوبر بعث عمر المختار برسالة إلى بادوليو ينذره بأن الهدنة لن تجدد بعد الرابع والعشرين من الشهر الجاري، وبعث في نفس الوقت ببيان إلى الصحافة المصريَّة نشرته صحيفتا المقطم والأهرام يوم 20 أكتوبر ضمنه مجمل الحوار الذي دار بينه وبين بادوليو في سيدي ارحومة والذي صحح فيه الوقائع التي كان يذيعها الإيطاليون على غير جديتهم ومحاولاتهم تدمير المقاومة عن طريق شراء الضمائر والدسيسة وشق الصفوف وأكد أن اجتماع سيدي ارحومة انتهى بالاتفاق على الهدنة وقد سلَّم الجانب الليبي شروطه إلى بادوليو الذي وعد بنقلها إلى رؤسائه. وقد أحدث بيان عمر المختار الذي نشرته الصحافة المصرية هزَّة في روما وغضبًا بسبب الأوضاع المتردية في ليبيا والتي يبدو أن بادوليو عاجز عن حلها.
حاول بادوليو إقناع المسؤولين في روما بأن الأمور سائرة على ما يرام، وأرسل يوم 16 نوفمبر 1929 برقيَّة إلى وزير المستعمرات جاء فيها: «لا أدري ما هي الأكاذيب الأخرى التي يخترعها عمر المختار لاتهام الحكومة بأنها لم تفِ بكلمتها وأنكم تعلمون أن خيال المشايخ العرب واسع عندما يتعلق الأمر بإخفاء الحقائق ولا يجب العدو ورائهم وإنما ضربهم بقوة.. فإذا ظلت حركة عمر المختار معزولة فيكون من السهل القضاء عليها، إن ثُلثيّ الثوَّار سيكونون في جانبنا، إنَّ الوضع لا يثير أي قلق وسنتغلب عليه في وقت قصير». انفجار الموقف
المختار (يُشار إليه بسهم) وسط رجاله.
ما أن تجلّى لعمر المختار صحَّة ما اعتقد به منذ البداية، وهو عدم جدوى المفاوضات السياسيَّة مع الدولة المُستعمرة، حتى خاطب المجاهدين وأبناء شعبه قائلًا: «فليعلم إذًا كلُّ مجاهد أنَّ غرض الحكومة الإيطاليَّة إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطاليَّة شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قوميَّة تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوبٌ تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخصٍ وغالٍ». ثمَّ ختم المختار هذا النداء بقوله: «لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ماهي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع».
انفجر الموقف قبل ثلاثة أسابيع من الموعد الذي حدده عمر المختار لانتهاء الهدنة، فقد هاجمت مجموعة من المجاهدين دورية من الضابطيَّة وأبادتها، وتسبب الحادث في غضب الإيطاليين وبادوليو بصوره خاصَّة الذي انهارت آماله في إنهاء الثورة سلميًّا، وانزعج موسوليني وأوقف الاتصالات الجارية في مصر وأمر بالعودة إلى القوة والحرب.
اتهمت إيطاليا عمر المختار بالخيانة وخرق الهدنة، وعلى الرغم من أنَّ حادث الاعتداء على الدوريَّة الإيطاليَّة كان مُحاطًا بالغموض، وتأكيد عمر المختار أنّه لم يأمر بعمل كهذا وهو الذي حدد موعد انتهاء الهدنة وهو الحريص على وعوده وتعهداته. ويُرجّح أنَّ الذي دبر الحادث هو من المستفيدين من الحرب وبعضهم كان يتعاون مع الثوّار ويبيع لهم السلاح. وكان رد فعل الفريق أوَّل سيشلياني على قتل أفراد الدورية إرسال أربع طائرات لقصف منتجعات المجاهدين بمن فيها من نساء وأطفال وشيوخ وقد تمكن المجاهدون من إسقاط إحدى الطائرات وأسر طيَّارها، وأصدر سيشلياني بعد مرور يوم على الحادث بيانًا قال فيه: «لقد فرضت علينا خيانة عمر المختار استئناف الحرب ضد الثوَّار وسيكون قتالٌ شاملٌ بدون رحمة أو توقف ضد كل من يرفع السلاح في وجه الحكومة أو حمله بدون ترخيص».
وما لبثت المعارك أن انتشرت في منطقة الجبل الأخضر حتى أُقفلت جميع الطرق،
فحشد الإيطاليّون قوَّاتهم وطائراتهم وآليَّاتهم لمهاجمة وتطويق الثوَّار وإبادتهم، وتولّى الطيران الدور الأول في المعركة. لكن القوّات الإيطاليَّة فشلت في مهمتها وتمكن الثوَّار من الإفلات من عملية التطويق بفضل استماتة قوَّات الحماية كما اعترف الفريق أوَّل سيشلياني بذلك. وكانت هذه أول معركة يخوضها بادوليو ضد المجاهدين ولم تختلف نتائجها عن نتائج المعارك التي سبقتها والتي أطاحت بثلاثة حكَّام طليان، وقد أدرك بادوليو أن خصمه شديد ومنظم وذكي ولا يُمكن التغلب عليه في حرب تقليديَّة وقد وصف بادوليو عمر المختار لوزير المستعمرات فكتب: «عمر المختار هو المحور الذي تدور حوله الثورة وهو يحظى بسلطة ونفوذ مطلقين ولا يُشاركه أحد في السلطة ولديه نواب مخلصون وملتزمون فمن المستحيل استعمال الأسلوب المعتاد لاستغلال كوامن الغيرة والتنافس والحقد التي تتوفر دائمًا حيث يوجد عدَّة زعماء، إن إرادة عمر المختار القويَّة هي التي تُملي القوانين في أي وقت وأي ظرف».
يُتبع
__________________ "لبّيك إن العمر دربٌ موحشٌ إلا إليك "
يا رب |