غامَ عقلُها في ثانية، فتوقّفت عن الرّكض. تلفّتت يمنة و يسرة لا تدري أينَ هيَ و لا أي دربٍ تسلُك. ليسَ و كأنه شارعٌ غريبٌ عنها، و إن كان، فنظامُ تحديد المواقع شغّالٌ في هاتفها لكنّها و رغمَ ذلك لم تعرفْ أينَ موطؤها فِعلًا.
و كأن قُبّة سوداء غطّت دِماغها و فجأة باتَت ذاكرتُها المكانيّة عاجزة تمامًا! فكّرت أن هذا يحصُل مُجدّدًا و ذُعرت حرفيًا عندما جرَت بعصبية في كل اتجاه، التفّت عند نهاية التقاطع، عبرت إلى الجانب الآخر من الطريق، دخلت الزُّقاق ثم عادت أدراجها، توقفت و قد شعرت بكل شيء حولها يدورُ في دوامة داكنة من الصّمت المُطبق. قرفصت في يأس في مكانها في منتصف الرّصيف تضمّ ركبتيها إليها و جذعها بكامله يرتعش، عليها أن تتذكّر، همست لنفسها بصوتٍ خرجَ واهنًا بسبب حلقها الجاف، عاودت: "يجبُ أن أتذكرّ، لوسي يجبُ أن تتذكّري، تذكّري.."
أغمضت عينيها بقوة و هي تشعر بدموعها الدافئة تزحف على وجنتيها، شدّت ذراعيها و هي تشعرُ بالمُقت تجاه نفسها، تجاهَ ضعفها.
أزّ الهاتف في يدها عقبه صوتُ آلي لبرنامج تحديد الأماكن: "نهجُ الألفية "
رفعت رأسها بهدوء و شخصت أمامها و صوتُ البرنامج مستمر في ترديد اسم المكان "نهج الألفية"
صورةٌ ضبابية لثلاثِ هيئاتٍ بشرية تعلّقت في مكان ما من ذهنها، فتاة تتوسّط شابّين، كانت تنظر إليهم من خلال نافذة السيارة، شيء من رائحة التّبغ عالقة في الداخل.
الثلجُ يتساقطُ على الثلاثة في الخارج، يتقاذفونه بينهم. اضمحّل اليافعون الثلاث لتحل محلهم هيئاتٌ أصغر، أطفال و مرّة أخرى صَبيَّان و فتاة، عرفت الأشقر فورًا، كان باسمَ الوجه كما عهدته دومًا، الآخرُ امتلك تقاسيمَ أكثرَ هدوءً. توقف بصرها على الطفلة و شعرها الأسودُ الطّويلُ يُعرّف عنّها و لَكم أدهشتها البهجة التي تلمعُ من حولها. أخذت أولى خطواتها للأمام و لحقت بهم، أينما كان هذا الوهمُ سائرًا ستسيرُ خلفه. ستتبعُ أثرَ أجمل ما تركه لها الماضي و لن تُبالي بما ينتظرها في نهايةِ تلكَ الذّكرى. و هي تتمعّنهم بشرود ابتسمت دون إدراكٍ منها لدُعاباتهم و مُزاحهم مع بعض. ضمّت معطفها و البردُ يشتّد بجسدها النّحيل بينما تخطو عبر الثّلجُ المتراكم على جانبيّ الطريق.
عندما توّجه مارتن لفتح الباب ذلك المشهد كان آخر شيء قد يخطرُ على باله.
لوسي تهوي بينَ ذراعيّه، جسدُها كلُّه مُتصلّب من البرد و الجليد، شفتاها مُتشقّقتان، حمراوان كحالِ حدود عينيها و قد عبرهما خطُّ دمعٍ غزيرْ، سقطت و طُرحَ الوعيُ منها. حملها و ذراعاها تتدليان كما شعرها الطويلْ و حرِصَ على وضعها برفق على الأريكة.
إلى جانبه جثت الشقراء و قد جلبت زُجاجة عطرْ، رشّت الرّذاذ على راحة يدها و قرّبتها من وجه لوسي علّها تستنشق بعضًا منه
ــ لا يجبُ أن نترُكها مُبتلّة هكذا!
تحدّثت بسرعة و قلقْ، بينما استمرّ مارتن في مُحاولاته الدؤوبة لجعلها تتيّقظ. اندسّت منشفة بين يديّ آنا فأمسكتها ناظرة لجيمي قبل أن تلتفت إلى لوسي مُجدّدًا و تباشر بمسحِ وجهها و رقبتها و ما ظهر من أطرافها. ارتعشت رموشها و رُويدًا بدا أنها تستعيدُ وعيها بما حولها و انزاحت تنهُدّات عميقة عن صدور الثّلاثة عندما فتحت عينيها.
لكن إذ بها تقفز من مكانها فجأة صائحة: ــ ماتي!
و استمرتْ بهلع و هَستَرة: ــ أخي! إنه لا يرُدُّ عليّ، لقد طرده أبي من البيت و.. و أنا.. تُهت!.. نسيتُ الطريقَ إلى هُنا.. نسيتُ كل شيء!..
تقهقرَ صوتُها مُنخفِضًا و عاودَتها نوبة بُكاءٍ أخرى و هي تستذكرُ ما عايشته. تحدّثت و هي تمسحُ دموعها بطرفِ كُمّها:
ــ لقد تركتُ المنزل أيضًا. أخبرتُ والداي أنني لن أعود لو لم يعدْ ماتي
توسّعت عينا آنا في صدمة: ــ و ماذا كان رد هاري؟
تنهّدت: ــ لم أبقى لأسمعه لستُ مُهتمة على أي حال، لطالما افتقرتُ للشجاعة لمُواجهته، و مع كل ما حصلَ اليوم أظنني بغلتُ حدّي.
ذُهِلَ مارتن، وجهُ آنا رسمَ نشوةَ نصرْ و نجحَ الأمر في جعل حاجبيّ جيمي يرتفعان في اندهاشْ و كانَ أوّل من تحدّث هذه المرّة و قد استرجعَ وجهه جموده مع أن نبرته خرجت في غاية الدفء:
ــ هذا بيتُكِ لوسي، سنكونُ دومًا هُنا سواء احتجتِنا أم لا فنحنُ عائلة
حدّقت به بعينين مُلتمعتين بالدموع و ابتسمت بخفّة ثم فاجأها مارتن بأن جذب رأسها و نقر جبينه بجبينها حتى تأوّه كِلاهما من الضّربة
لم يكن من الممكن استبيان أي من خصلات غُرّتيهما المُتشابكة تعودُ له أم لها لتماثلهما في السّوادْ، عصرت عينيها و تمتمت بوَجعْ:
ردّ هو الآخر بنفس النّبرة: ــ أعلمْ
ابتعدَ عنها مُمسكًا وجهها بينَ كفّيه و اخترق بعينيه القاتمتين ملامحها المُنكسرة، طمأنها: ــ سيكون كل شيء على ما يُرامْ
تكفّلت آنا بتجهيز حمام ساخن للوسي و قدّم لها جيمي من مضاداته الحيوية تجنّبًا لأن تُصاب بالزُّكام. و عندما صعدت للسرير لتنام مارتن بقيَ عندَ قدميها فتذمّرت و هي تندّس تحتَ المُلائة:
ــ حسنًا هذا يتجاوز المعقول، مارتن تعلمُ أنني لستُ طفلة يُمكنك أن تذهب لتنام حتمًا أنت مُتعب.
تأفّف بادّعاء مُقلّدًا إياها بطريقة ساخرة: ــ تعلمين أحيانا تُصبحينَ مُزعجة بشكل يفوق الاحتمال
حدّقت به ثم أفلتت منها ضحكة استحال عليها كبتُها. انزلقت داخل سريرها ساحبة الغطاء لنصف وجهها و كركرت من أسفله:
ــ يليقُ بكَ أن تعملَ كجليسة أطفال
قلبَ عينيه و لم يقدر أن يمنع نفسه عن الابتسام. لم تكف عن نعته بجليسة الأطفال و هو لم يغضب بل اكتفى بالتمعن فيها بصمت و هي تغرقُ رًويدًا في النوم.
استكانت العاصفة مُنذُ فترة لا بأس بها فأغشى الصّمتُ زوايا تلك الفيلا كما بدى لهما أنه فعلَ بكل بقعةٍ من كاوس.
جلسَ الرفيقان عندَ المدفئة بطريقة مُتماثلة فكلاهما يطوي ركبتيه إليه و يضمهما بذراعيه، كانا متشابهين و مُتضادّين، قصّة الشعر تكادُ تكون نفسها لولا بعض المميزات من هاته للأخرى و بينما شعرُ مارتن ينضخُ بالقتام إلى يمينه كان شعرُ آنا يومضُ كالشّمس.
شيء من الكآبة غزا وجهيهما و هما يتمعنان المدفئة و كأنها أعجبُ شيء في الكون، بينما اكتفيا بمضغ أفكارهما بصمتْ.
بقدمينِ حافيتين تقدّم أحمرُ الشّعرِ و بيده صينية صغيرة، أخذ كوبَ حليبه و وضع الصينية على الأرض قبالة آنا و جلس على جانبها الفارغ يمينا. توسّطتهُما، حملت هي الأخرى كوبها و شربت منه و لحقها مارتن
سألتْ الشّابة: ــ كم السّاعة الآن؟
ــ الثانية إلا رُبع. أجاب جيمي
تجرّع داكنُ الملامح حليبه بسرعة و انكمش وجهه للطعم الكثيف العالق بلسانه، تمتم: ــ يُستحسنُ لهذا أن يُساعدَ على النّوم كما تدّعون
و أومأ إلى آنا فنظر مارتن إليها، كانت تُسندُ رأسها على ركبتيها و تنامُ بعُمق كما هو واضحٌ من تنفّسها من فمها الذي سقط مفتوحًا
ــ أوه حقًا! بدوتَ كذلك و هي تنامُ على كتفتك منذ قليل
وقف جيمي بمللْ و بدا لمارتن أنه ضايقه نوعًا ما و يا له من انجاز حريٌّ به التفاخر به!، حرّك أحمر الشعر كتفيها بهدوء و نادى باسمها بضعة مرّات لكنّها لم تستجب. تحاملَ على نفسه و سوّى ظهرها و فور ما دسّ ذراعه اسفل جذعها و تأهّب لرفعها توسّعت عيناها و بؤبؤاها ضائقان لأقصى حد انقلبت فجأة عليه في حركة رشيقة، كانت سريعة و غير مُتوّقعة فارتطم فكّه بالأرض و هي تُثبّتُ ظهره برُكبتها!
أنَّ في ألم فيما صدر عن مارتن صوتٌ مُنبهر. ثم بدا أن آنا تفطّنت حدّقت أمامها ثم نظرت للأسفل:
ــ ما الذي يجري؟! جيمي لمَ أنتَ على الأرض؟
ــ ربما لأنكِ تجلسينَ عليّ!. قالها كمن يُحتضر
ساد الصمت لبرهة و إذ بمارتن يقهقه ممسكًا خصره، يتمرّغ أرضًا و هو يضحك بقوة حتى سالت دموعه:
ــ أوه يا ربّاه. أينَ تعلّمتِ هذه الحركة إنها مُدهشة
ثم وقف و هو مستمر بالكركرة و أمسك آنا من ذراعها: ــ هيا فنأخذكِ لغرفتكْ
جذبتها و قد غارت في اللاوعي مجدّدًا: ــ أعرفُ الطريق
وقفت مُتمايلة تدوس على جيمي، ثم شقّت طريقها بُفردها تتعثّر عبر الدّرج و هي شبه نائمة.
ضوءُ النّهار الغائم سطعَ عبرَ النافذة الحائطية، لم يكن قد أسدل الستائر لأنه ببساطة لم يعتد النّوم في صالونه.. تألّم عندما حرّك جسده المُتصلّب جرّاء النّوم غير المُريح على الأريكة، تمدّد مكانه علّه يفّك الشلل عن أطرافه. ثم شعرَ بكُرة الفراء السوداء المُستقرة فوق بطنه، كانت القطة نيس تحظى بمطرحٍ مثاليّ و تضايقت فعلا لأنه أيقظها إذ مشت فوقه مُتعمّدة الدّوس على رأسه و وثبت برشاقة للأريكة المُجاورة و تكوّمت هُناكْ.
حكّ عينيهِ و هو سائرٌباتجاه الحمام، اليوم فقط أدرك أهمية الحمام المنفصل عن غرفة النّوم، لم يسعه سوى أن يُفكّر أن هذا الوضع جنونيّ. شيء فيه ندِم لأنه كذب على ماتي البارحة لكنّه حتما سيشعر بالسوء لو أنه أتى -و هذا ما كان سيقوم به حتمًا- و الجو بينه و بين فيكتوريا مُكهرب بما فيه الكفاية. إنه يرى ضرورة لخلق فجوة زمنية للتروّي لأنه يعرف طبع هاري إنه أسوءُ من والده حتى، و فيكتوريا ليست من تنسى سريعًا، أما ماتي فهو الذي أثار قلقه أكثر لأنه ببساطة عاجزٌ عن توقّع خطوته التالية فالأشهر الماضية ليست كفيلة بطمرِ خمسَ عشرة سنة من الفُراق.
قبلَ أن يهمّ بفتح باب الحمام انتبه لبابِ غرفته شبه المفتوح، هو ليسَ في مزاجٍ حتمًا للاصطدام بفكتوريا و مع أبكرِ الصّباح إنه يُفكّر جديًا في الاغتسال و ارتداء ثيابه و الخروج لأبعدِ مقهى تجنّبًا للقاء أي من معارفه. و كان هذا ما فعله بالضّبط! تحرّك كاللّص في شقّته الخاصة، أخذ قميصًا نيليًا بقلنسوة من على مَنشَر الغسيل و ارتدى حذاءً رياضيًا أبيض و حالما أغلق الباب خلفه حرّر زفيرَ ارتياح.
مشى عبرَ شوارع كاوس قليلة الازدحام بعد ليلةٍ ثلجية باردة، في طريقه ابتاع كوبَ قهوة من الحجم الكبير و جلسَ أسفل تِمثالٍ حجريّ استوطن ساحة فسيحة غُطّيت أرضيتها الحجرية بطبقة رقيقة من الثّلج. كان التمثالُ لسيّدة يونانية تحملُ قيثارة، ملامحها تناقضت بينَ عيونٍ نُقشَت من وجع و ابتسامة ارتقت اعنان تلك السّحبِ المُتراكبة.
رشفَ من قهوته و تمعّن في المارّة، ماذا سيفعل، هو سأل نفسه السؤال مرارًا لكنّه الآن فضّل أن يتناسى كل شيء للحظة، فليتوقّف الزّمن لوهلة تفتحُ له فُرصة التجرّد من نفسه. و ربما ليستنكر أفعاله، تلك التي ماعادَ واثقًا ما منبعها و أينَ تصّب. تساءل أثالثٌ منه يُناضل للخروج للنور؟ الفكرة أرعبته.
خمس عشرة سنة من التنكر و لم يشعرُ يومًا أن شخصه يتزعزع بل كافحَ جاهدًا ليُلملمَ نفسه و يَحفظَ جوهره، كل ما كان لديه هو الآن و غدًا و هاهو الآن يدرك لتوّه كم كانت تلك فترة هادئة جدًا و مُسالمة. يحنّ إليها؟ مُحال! رفعَ الكوبَ مجدّدًا لفمه و طعمُ القهوة يشعره أن بمقدوره تصويبَ تفكيره.
لحظةُ تأمل، تفكيرٌ عميق، كريس يأخذ الوضع بجدّية تامة، ثم و كأن الارسال في دماغه انقطع عندما انهمرت عليه كتلةٌ من الثلج انزلقت من على قيثارة المرأة الحجرية، و فعليًا شهق و قامَ بسرعة من مكانه يقفزُ بشكل أخرق و هو يحك ظهره و رقبته و قد انسّل شيء من الثلج البارد أسفل ثيابه.
تنهّد بإعياء و قد قرّر خطوته التالية، عليه أن يُصلحَ الأمر، يجبُ أن يتصّل بماتي و يُسويّ كل شيء، بعض الأمور لا تحتاجُ تفكيرًا بقدر ما تحتاجُ لاندفاع..
كان يدسّ مفتاحه في قفل الباب و حالما دخل و أوصده خلفه استأنس جسده المُتجمّد بدفء الشّقة، صحيحُ أن لندن باردة أيضًا لكنه لا يكاد يصدّق شتاء كاوس. ارتدى خُفّه المنزليّ و هو يسيرُ باتجاه غرفة الجلوس و انتبهَ للهدوء الذي يعم المكان.
نادى عليها و هو يسيرُ مُتجّهًا نحو غرفة الجلوس، لم يأته أي ردّ فخمّن أن تكونَ قد رحلت. أو الأصح أنه كان يدعو في صميمه أن تكون رحلت.
مهما فكرت و مهما خطّطت فلا سُلطة لكَ على القدر، إنها مشيئة الحياة التي ستُمرّغك مرة بعد أخرى. ستنكسُ تطلّعاتك و تهدمُ خيالاتك، لأنها صلِفة و من جهة أخرى لأنك مُخرجٌ فاشِلْ. ذاكَ ما كان يدور في ذهن كريس و قد التقت عيناهُ بعينيّ ماتي المُرهقتَين. هذا الأخيرُ جالسٌ على الأريكة أسفل الإطار البرونزي المُشوّه و فيكتوريا بجانبه.
تم و الحمد لله ~
أقصر فصل كتبتهُ في تاريخ هذه الرّواية xD
ركود، عنوانه يفضحه، و لا عباراتٍ افتتاحية، لا أحد من الجماعة فوق يرغب في الحديث، لابد أنهم مصدومون xD
حسنا أتمنى أن تكونوا مثلهم
شُكرٌ خالص من الروح لسنو، إنها فتاة رائعة بحق،
و نيان اذهبي للجحيم هذا ما لديّ هذه المرّة =.=
سأعملُ على جعل الفصل القادم طويلا حد الغثيان
و في أمان الله