02-22-2018, 10:44 PM
|
|
تكسرت أسباب الإرادة في بضع أزمات، بضع هي أقرب لبلوغ حدها الأقصى بصدماتها المتتالية، أجهدت كيانه كما أجهدت روحه المبصرة للحقيقة!
تلك التي اعتمدها منهجاً لتقوم عليها حياة من لا حياة له، هو وغيره ممن سيجبرهم على السير في دربه المجهول.
بجانب ذلك التفكير الرمادي المتهالك، اصطفت الكلمات متزاحمة لا تهتدي لخيوط النجاة من تلك البؤرة، عندما أعلن العالم وكذلك قلوب بعض البشر القريبين منه استحالة العودة إلى الاستقامة، وفيه انطوى على نفسه ليرسم منحى جديد بقواعد دموية، لم يتصور نفسه يبلغ هذا الطريق في صحوته، هكذا ظن سابقاً! أنه كان على دراية تامة بخفايا القلوب، لكنه استطاع مؤخراً اكتشاف زيف تلك الصحوة ويا لها من أوجاع أطلقت تأوهات قلبه!
في ذلك الوقت... كان يغرق في نورٍ خادع، جبان وأحمق، ظن أن الحياة تضاء على هواه لكنها لطمته بالحقيقة المفجعة، بل صفعته أيدي من كان يعشق كنف البقاء لأجلهم، وكأن البشر تجري في دمائهم تلك المشاعر السامية؟!
حتى هو ودع تلك المبادئ لأجله، ولأجل استنشاق هواء آخر غير ذلك الذي بات يشعره بالتقزز، أنّا له أن يكون كما كان؟! وأنّا له أن يصفح؟!
وهل للمرء قدرة على الصفح؟... الصفح! الغفران!
ما كان يوماً مؤمناً بتلك الأقاويل بالرغم من عدم مروره بتجارب تعكس له تلك الأفعال، وها هو يتجرعها دفعة واحدة بلا رحمة، وأيقن أشد اليقين أنه كان يؤمن بما هو حق القول!
لن يصفح، لن يغفر، ولن يعيد التفكير لمرتين، قطع ذلك الشيء المسمى بالضمير من فؤاده وتقدم...
أولى خطواته كانت صوب تلك المرآة السوداء الشاحبة، كان مظهرها مخيفاً، كأنها تعكس دواخله المظلمة، وعكست ملامحه الحادة الغريبة، ووجهه الجديد وكيانه الآخر!
عيناه عانقتا الظلمة ما لم يُؤلف منه يوماً، ووجهه الذي اعتاد الحدة حديثة العهد...
ظن أنه قادر، وسيقنع روحه الجديدة بأنه قادر، إلا أن التفكير أتعبه، أرهقه رغم التوافق،
عشق براثين الغيهب لكن عقله ما فضلها يوماً، وكأنه بذلك يخبره بأنني موجود، أنا الحقيقة فارحل!
صراع ملحمي، آلمه رأسه بسبب تلك السراديب المظلمة، لم تكن بذات الظلمة، فكل طريق يفاجئه بما هو متوقع...
صديقنا الذي عادى الحياة بقلب شغوف للموت، وروح امتصت الظلمة إلا قليلاً، بقي جزءٌ منه يحترق بالوحدة، ذلك التفكير الرمادي الذي يخوض معركة البقاء، فإما الرجوع وإما الغوص في أعماق الخطيئة!
عقله حائر متشتت بين هذا وذاك، تارة يدفعه للعدول والهرب، وتارة يجبره على التقدم في جحيمه الخاص...
أصدقاءَ العُمْر سَيَقْتُل، غدروه فاستحقوا المصير المحتم، اختفى مدة أجل معلوم وعاد، الشاب المرح عاشق الحياة دُفِنَ حيثُ تُرِك، وجاء هذا المتقمص الجديد........
طلب منهم المجيء لهذا المنزل المتواري خلف السحب، على قمة هذا الجبل البعيد، في ليلة حالكة الظلمة....
طالت ابتسامته جانب وجهه، ومكرٌ من نوعِ خاصِ التمعت به عيناه وهو يغذي نفسه من مشاعر الخوف والقلق المُتَكَتِّل..
تجرع النبيذ بلا جرعات، وهذان الشابان واقفان يحدقان في الصور التي ملأت جدران الصالة القرمزية غامضة الهيئة، وبتلك الجثة التي جفت دماؤها على الأرضية السوداء.
انتشل بعينيه تلك الكعكعة التي تحجرت في الأفواه، وضحك بصخب مرجعاً رأسه للوراء، قطعها عندما تأكد من أن الواقفيْن أمامه خَبِروا الواقع.....
وبسط ذراعيه على جانبيه وهو يُحَيّيهم بصوت ألجمهم بصقيعه:
" وهنا تنهي فصول حكايتنا أحِبَّاء العمر الأوغاد."
أشار بإحدى يديه إلى صورة قريبة احتوته في وقت مضى وأردف مُتَشَنِّجَاً:
" أَوَتَعْلَمون كم عانى ذلك الجبان في شبابه بسببكم؟.....لا...... أجل لا تعلمون، ولكنكم رأيتموني هذا أكيد، أنا الذي سَعَيْتُم جاهدين لأجل اقصاءه من هذه الحياة فهنيئاً لما اقترفتموه يا سادة، وهنيئاً لي ولادتي الجديدة."
وبدون سابق تنبيه، عَلَتْ حاجبيه تقطيبة من نوعٍ غريب وهو يحدق بالشابة الصامتة وسط المدخل......
وعلم أخيراً أنها ما كانت سوى وهم ابتدعها عقله اللاواعي... ولكن الجانب الذي لطالما أراده أن يغفو عاد يَضجّ كيانه....
وها هو يثبت له أنها لم تكن بالشيء المُبْتَدَع....
صوت الناي أعاد له جزءاً من ذكرياته الراحلة، نغمات صوتها أعادت له الحنين لتلك الأيام، ولجزء من الثانية تمكن تفكيره الحق من اختراق تلك الترهات التي كتمت أنفاسه.......
سقط مسدسه على الأرض بلا وعي، وأرهف مسمعه يَتَلَذّذ صوتها المفقود منذ سنوات، هذه الصهباء التي فارق الحياة لأجل لقياها.....
تَخابُرٌ من نوع عاجي التفَّ بكليهما، صدح به صوت واحد فقط، الحقيقة ولا شيء سواها.......
الروح لا تتقلب كتقلب الأشهر والعوام....
لست أنا بالقائل بل أنت، حكيم زمانك، صانع البسمة على الأفواه، لم تَؤُل بك الأحوال إلى المكان الذي تظن، فروحك هنا، في تلك الصور التي تُقَدَّرُ بالمئات، بداخلكَ أنت لا بتلك السراديب السرمدية....
التمعت عيناه وهو يراها، بهيئتها المعتادة، ووقفتها الشامخة، وروحها القوية التي أحب، ولغز قفز وسط الطريق....
كيف لمن وصل الحياة الأخرى العودة إلى هذه الدنيا، ظن أنها ماتت، قتلها هؤلاء الشبان بلا رحمة، لكنها أفضلهم حالاً، أفضلُ حالاً منه!
ضريبة هذا اللقاء مقتل أحدهم، ودً لو قتل البقية لكن هيهات، كل الموازين انقلبت، والحقيقة عادت لتتبختر بالخداع!
أمسك خصلة سوداء من شعره وجرها إلى وسط جبينه، وتمتم بصوت ضائع:
" ومع أَيِّهم تختارين البقاء عزيزتي؟"
تقدمت بلا خشية حتى وقفت أمامه مباشرة, ورفعت يدها الباردة فوق يده وسحبتها لتعود تلك الخصلة إلى موضعها وهمست بمصداقية أَنعَشَته:
" معك أنت، مظهرك الغريب بدا رائعاً رغم التناقض... وحلول تلك الأحجيات امتلكتها في جعبتي، أنا من كنت أسيِّر اللعبة لا أنت كما ظننت، الشرطة قادمة لأجل أولئك، وعن ذلك الذي لا أريد ذكر اسمه حتى..."
أشارت إلى الجثة وأردفت بكراهية: " فقد استحق الموت البطيء، لستَ من قتله فهو قاد نفسه للجنون."
رجت بصمت محدقة بعينيه رجاءاً دخل إلى أعماقه، وابتسم على إثره وهو يرحب بهذه الصاعقة القاتلة الجديدة....
كره التصنع لكنه لم يكره نفسه الجديدة، سيحتفظ بالتغير الظاهري، أمّا عن تلك الروح التي جَذبت له نصفه الآخر فسيسعى للحفاظ عليها حتى آخرِ قطرة دمٍ تخرجُ من جسده.....
__________________
"وَالعقلُ استَلهَمَ مِنّا عِصْيانَ الأفُقِ فَزال مُخلفّاً بُرودَة بلوتُو" سبحان الله-الحمدلله-لا اله الا الله-الله اكبر |