.
.
" أسقُط.. لا تتلَفّت.. ناظِر قاعَ الهاوية و ألقِ نفسكَ فيها. "
الصّوتُ الأنثويّ صدحَ داخلَ رأسه و ما لبِثَ أن تراجعَ و صوتِ انهمار المطر. وقفَ الصّبيُ هُناك، على ناصية العالم، الودقُ يغزو ثيابه، يوكاتا ببنطالٍ داكن واسِع الأطراف، أما نصفه العلويّ ناصع البياض فجعل منه الماء شفافًا و ألصقه بجسده مُظهرًا جلده من تحتِه.
" اسقُط.. " عادَ الصوتُ بنبرة مغناج و في حركةٍ مُفاجئة أخذَ الفتى خُطوة آمنة للوراء، هزّ رأسه بعُنف ليصرُخَ، علّه يُبيدُ طُغيان وُجودها. بأصابعه المُتوغلّةٌ في شعره الباهت هوى على ركبتيه و ركعَ على الأرض الرطبة مُردّدًا بهسترة: " لا تفعلي هذا .. أرجوكِ "
انحدرت القطرات من على وجهه، التيّه طغى على عينيه و سكنَ مُتجمّدًا حينَ تجسّدت هيئةُ الفتاة فوق رأسه، رأى قدميها المحشورتين في صندلٍ خشبيّ ثم رفعَ نظره بتردّد ليُقابِلَ وجهَها. كانت هُناك بشعرها القصيرِ الذي يلتّف حول رأسها في شكل جميل، بُنيّ لامِع ناسبَ عينيها البُندُقيتينِ المُستديرتين. منحته ابتسامة مُفعمةً بالبراءة و همست: " اسقُط.."
قرفصت لتُصبحَ بمستوى نظره و حدّقت به: " أنتَ خائف؟ "
لم يُجب، اكتفى بالجلوس على ركبيته و رفعَ عينيهِ إلى خاصّتِها و تعبيرٌ مُتذمّر على وجهه، رفعت كمّ الكيمونو الأحمر الذي ترتديه و غطّت فمها و هي تضحكُ بعذوبة: " يالكَ من طِفل! "
" لمَ تفعلينَ كل هذا؟ " سألها بهوانْ، في داخله هو مُدركٌ للجواب و لعلّهُ يهوى تعذيبَ نفسه برغبته في سماعه مِنها، لأنها تُحبّه حد التّملّك، لأنها أنانية لدرجة رغبتها في الاستحواذ عليه.
قالت: " لأنكَ سطحيّ.. مليءٌ بالهُراء.. لا تدري كيفَ تطمُر هذا الفراغ في داخلك. أنا لم أفعل شيئًا، أنتَ تتوهّم الأمور، فأنا لستُ سوى صورة داخل عقلك. انعِكاسٌ لرغبتك في أن تُؤخذَ و تُستحوذَ و تُمتَلَك.. لأنكَ لا تُطيقُ أن تكونَ أحد. "
ارتعدت أحداقه و هو يحملّقُ بها، طاوعها في خدر عندما سحبته من يده ليقفا عند الحافة. رأى من خلفها كُتلَ الغيومُ تتراصُّ و تتكاثف صادّةً كل ذرة ضوء قد تبغِ الولوجْ، المطرُ اشتّد ليسقُطَ ثقيلا، باردًا، مُنعشًا. احتضنت خصره بقوة دافنة وجهها في ردائه ثم نظرت إليه:
" اسقُط.. في أعماقِك و هُناكَ ستَجدُني. "
أفلتته و رمت ثقلها للأسفَل.