عيون العرب - ملتقى العالم العربي - عرض مشاركة واحدة - حَصيلَةة تَمَكُثْ •
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 03-11-2018, 07:59 PM
X
 










لا يُنِيرُ الشارِعَ إلا عَواميدُ الكَهرُباءْ المتفَرعَ في الحَيّ،
المكان هادِئ ولا نَفَس فيه؛ مقارنة بالوَقت.

وَطَأتهُ فتاة بَدى أنها في السابعة أو الثَامنة عشر من عُمرها،
كانَ الوَقتُ مُتأَخرًا على وُجودها خارِج المَنزل لكنها في النِهاية وقَفت أمامه؛
فًتَحت البابَ الخارجي ودخلت بدون أن تُغلِقَهُ حتى!
فَتحت الداخلي والَتعب يَنخر عِظامها، ولجت وأغلقته خلفها،
أسندت ظَهرًها عَليّه وأرخَت جَسَدَها عليه لينزلق وتجلسَ ضامةً رُكْبَتَيها، شَهَقتْ وهيَّ تحاول أن لا تبكي؛
وضعت كفيها على أنْفِها وفَمها، إحمَرت وجنتيها وهي تَبكي بصمت ودموعها تنساب مبللةً وجهها...

،*

فَتَحت عينيها على ضوء الشمس البارد يَتَسلل منَ النافذة، لعلها ارتاحت الليلة لتُجيبَ نداء النور قَبل المُنبه!

جلست تُحَدق باللا شيء؛ سرعان ما توسعت عينيها هاتفة: "هل عادَ أبي!"

أبْعَدَت اللحاف عنها ونَهَضت بسرعة، خرجت صاعدة إلى الأعلى حيثُ غرف النوم!
فتحت أحد الأبواب وجالت بنظرها تبحث لكنَ الغُرفة فارِغة وحتى الغبار لم يتحركْ إنشًا،
تلاشت إبْتِسامَتها وتلاشى كل ما دب في قلبها من مشاعر لدقائق، شعرت أن المشاعر كلها دخلت قلبها في آن وخَرجت في آخر،
ثوان حتى بدى القلق والخوف يتَسلل إليها، شحُب وجهها وأطلت تنظر نحو الدرج بشُرود
-: "كيف وصلتُ فراشي!؟"

قطعَ تفكيرَها صوت خَفيف يَصدُر من المَطبَخ، تحركت بهدوء متمتمة
-: "إن لم يَكن أبي من يكون!"

نزلت الدرَج ليصبح باب المنزل أمامها، ترآءة لها موقِفها بالأمس.

"أسنَدَت ظهرَها على الباب وجلست محتضنة قدميها!"

-: "إنْتَهى بي المَطاف نائمة هناكْ، كيف أمْكَن من دَخل الدُخول!"

يستحيل أن يَدخُل أحد وهي مسندة ظَهرَها عليه، ثُمَ إنَ نومَها ليسَ بذلكَ العُمق؛ حيث إن حاولَ أحدٌ الدُخول كانتْ لتستَيقظْ!

سارت مبتعدة عن الممر ووقَفت أمامَ ستارَة المَطبخ، أبْعدتها بأناملَ مُرتَجِفة.
لاح المطبَخ لها بشكلٍ لم تَره منذ زمن طويل، منذ وفاة والدَتها،
كان يَضج بالحوية والفطور شبه معد والبيض يفرقع معلنًا عن وشَكٌ نضوجِه،
ولكن ذلكَ لَم يسعدها بقدر أن يُنسيها وجود غريب أمامَها يُمسك بالمِقلاة. كل ما تراه ظهر رجل أطول من والدها وربما أجهم مِنه قَليلًا،
حبال المئزر ظاهرة على ظهره ويرتدي تحته بلوزة صوفية سكرية وبنطال أسود.
إلتفت بابتسامة هادئة
-: صباح الخير آتسوكو.

كانت عيناهُ الزيتونيتان تبرقان تحت نظارته الطبية المستطيلة فيما يرفع شعره الأسـود للأعلى تاركًا جبهته الناصعة تشرق.
له لحية خفيفة في أسفل ذقنه، بدا في أواخر العشرين أو بداية الثلاثين.

حدقت به بصدمة أهلكتها وقلبها، هتفت بحنجرة مرتعشة
-: مـ.. من أنتَ!؟

أطفأ النار وحمل المِقلاة، سكب البيض في الطبق ووضعها بحوض الغسيل،
التفت مشيرًا نحوه الطاولة بابتسامة مرحة
-: إجلسي لنتَكلم فلم يَعد هناكَ الكثيرْ من الوقتْ للمدرسة!

تمتمت بحدة وحذر
-: مستحيل، أخرج من هنا!

إبتسم لعدم معرفتها بشأنه وتسرعها بالحكم بعد أن قال
-: لو أني دخلت كنت سأخرج لكني وجِدتُ وسأختفي!

شدت قبضتها لتصفو ملامحه ويقول بجد لا يشوبه شيء
-: وجِدتُ لحاجتكِ، سأرحل فقط إن لم تعودي بحاجتي!

ضيقت عينيها بعدم فهم وقد جذبَ كلامهُ اهتمامها
-: أي حاجة!

أشار لها على الُكرسي وقد أعاد إبتِسامته لُتساعده على كسبِ ثقتِها.
صكت على أسنانها بغيظٍ وسارت نحو الكرسي لتجلس.
جلسَ مُقابلها من الجهة الأخرى لترمقه بحدة، وعناد، تمتم بهدوء محافظًا على إبتسامته
-: لو نمتِ وأنتِ تبكين؛ سَتحدث أشياءٌ عجيبة، أتعلَمين!؟

رمقَته بملل
-: خرافة!

رفع سبابته يعرض رأيه
-: في أغْلب الأحيان تَكون كذلك! لكن في الأمس لم تَكن، أنا أتيتُ برغبتكِ!

هتَفت برجاءٍ وقَد نَفذ صبرها
-: أي رَغبة!؟ من تكون!؟

أجاب بدءاً من سؤالها الثاني
-: أنا شخص قادر على عيش المزيد؛ ولكن حدث ما جعلني أموت قبل أواني، لذا وهبت روحي بما تبقى لها من الزمن لتعيشه! كنتُ يومًا شخصًا عاديًا ولكنني مت، ثم أُعيد تأهيلي، وأنا هنا لأنك بحاجتي!
عندما تمنيتي وجُود والدكِ قُربَكِ وجود من يهتمُ لأمركِ ويسعى ليسعِدَكِ، أتَيتُ لحين عودَته!

بعينيها العسليتين أخذت تحملق به، أرادت تكذيبَه وعدَم التَصديق؛ لكنه يحدِثها عن مَشاعرها ويَصفُها لها بشَكلٍ جعلها تُدركُ ما كانت تَشعر بهِ بشكلٍ دقيق!
هتفت نافية
-: أنا بالتَأكيد لم أقصدْ ذلك، هناكَ سوء فَهم!

حول ابتسامته الحانية إلى إبتسامة واثِقة
-: لو لم تقصدي ذلكَ ما كُنتُ لأظهر، فلا تنفي ذلكَ!

طأطأت برأسها شارِدة متوترة سُرعان ما رفعته وهَتَفَت
-: لما لا تعُود لحياتكَ قبل موتِكَ!؟

تأففَ بملل مصطنع وقال بضَجَر
-: هذا غَيرُ مهم، أنا مَيت منذُ زمن بالنسبة لمَن يعرفونَني وأنا نفسي لا أعرِفهم، ألم أقل أنه تَمَ إعادة تأهيلي!

تنَهدَت بقلق متَمتِمة بهدوء
-: كَيفَ سأتعامَلُ مع هذا!؟

قالَ مُشَجعًا بمرح
-: خُذي الأمورَ كما هيَّ مؤقَتًا و كُلَ شي سيسير كما كَتَبَ القَدَرُ له! في النهاية هذا كُلهُ لصالحِكِ!

لوحَ بيديه بَعدَ كلماتِه ونهضَ قائلًا يحثها على الإستِعجال
-: فَهمتي ما تُريدينَ الآن لذا كُلي بسرعة فالمَدرسة لا تَنتَظر!

قَطَبَت على جملة "كُلي بسرعة" سرعان ما إستوعبَت بقية الجُملة لتلفت نحو الساعة بصدمة، هتفت بهلع
-: لم يَبقى سوى 20 دقيقة!

التفتت نحو الفطور، رفعت بصرها نحوه حيث يقف مكتفًا ذراعيه وعلى وجهه إبتسامة تقول لها "ألم تثقي بي!؟"

تنهدت متمتمة
-: ما باليد حيلة.

أمسكت كوب الحليب متمتة
-: شُكرًا على الطعام!

شربته دُفعة واحدة، وأكلت ما في طبقها بِسُرعة ونهضت قائلة
-: كان لذيذًا، شكرًا لك!

خرجت من المطبخ إلى غرفتها، أعدت نفسها ونزلت لتطل برأسها عليه مجددًل حيث كان يجلس ممسكًا بصحيفة، تمتمت بعناد!
-: عندما أعود سنكمل حديثنا فأنا لم أقْتًنع بالعيش مع شَخصٍ لا أعرفه؛ ليعتنيَّ بي بلا مقابل!

خرجت بلا إضافة ليبتسم على موقفها...
أمضت يومًا مدرسيًا صاخبًا آخر ككل الأيام الأخرى التي تُمضيها مع أصدقائها، لكنها كانت الأقلَ صخبًا هذه المرة.
ككل يوم لم يتسنى لها العَودة للمنزل قبلَ بدء دومها الجزئي كعاملة في الفندُقِ القَريب!
مر الوقت وعقارِبُ الساعةِ مندفعة للأمام، لم يكن لدَيها الوقتُ لتلحظها قبل أن تصل للحادية عشر حيثُ إنتهى وقتُ العمل!
وطأت قَدمُها الحي الذي كان هادئًا منصاعًا لقوانين الوقت!
خطت خطوات بطيئة متعبة، تفكر في مشكلتها التي كانتْ أفضل من أنّ تُسمى مُشكِلة!
لمحت من بعيد شخصًا يقف عند عامودِ الإنارة، لم ترى ملامحه حيث كان بعيدًا والضوء ظرب عليه ظلًا قاتِمًا، مع كلِ خطوى بات ملامحهُ أوضح حتى أدركت أنه هو، مشكِلتها الذي لَم تعرف إسمَه!

اتجهت نحوه ليعدلَ وقفتهُ ويفلتَ ذراعيه المكتفين، رفَعت حاحِبها متمتمة
-: ماذا تفعل هنا!؟

لم يجبها بل قال بضجرٍ مؤنبًا
-: فتاة تعودُ إلى منزلها في هٰذا الوَقت! ماذا سيقولُ عنها الناس! اليوم آخر يوم تَعملينَ به

رمقته من تحت جفنيها الثقيلان قائلةً بلا مبالاة
-: لا تأمرني! ثم إني أحتاج للمال فأبي لا يُرسِلُ لي ما يكفيني!

صفَّق بكفيه صفقة قائلًا مع إبتسامته النشيطة
-: لا عَليكِ منَ الآن وحتى عودةِ والدِكِ أنا من سيعمَل!

أضاف بعد أن فكر قليلًا
-: حصلتُ اليوم واحدًا مناسب جدًا من الأجر والوقتْ!

رمقته بملل متمتمة
-: ما هو هذا العَمل!؟

إبتسم قائلًا وقَد حرَكَ قدميهِ نحوَ المنزل
-: مترجم في مَكتَبٍ للتَرجمة!

سارت خَلفهُ رافعةً حاجبها
-: وأي لغة تُتقن!

رَفعَ إبهامهُ والسبابة والوسطى
-: ما عدا اليابانية، الإنجليزية، والصينية، والفرنسية!

رمشت بإعجابٍ متمتمة
-: مذهل!

مرت ثوانٍ صامتة وهي تسيرُ خَلفهُ، شردت تنظر إليه، خصلات شعره المرفوعة للخَلف وطوله وجهامته، بدا لها أنها مرتاحة لوجوده، لا تشعر أنه ثمة حاجز بينهما بصفته رجل غريب!
متى بدأَ كُلُ هذا، أسبَبُ ذلكَ إبتسامتهُ الحانية، أهي من جعلَهُ مألوفًا هكَذا!
تلكَ الإبتِسامة التي يَستحيل أن تراها على وجهِ غريب، تُرسمُ فقط على وجه شخص يهتم لک، ک صديق، ک أخ، ک أم، ک أب!
أهو حقًا يمثلُ الأبَ بالنسبةِ لها، لربما أكثر، من يدري!
المشكلة الآن: هل توافق على بقائه، أذلكَ ما يمليه العقل، من هو ليبقى معها، ليسَت طفلة ليعتني بها!

فَتحَ الباب الخارجي وبعدها الداخلي وهي خلفة ،
استفاقت من شرودها لتقول بجد
-: حتى الآن لم أعرف من تكون، لا إسمكَ،ولا عمركَ، ولا حتى هدَفكَ من ذلكَ، وهل قِصتُكَ صادِقة حقًا!؟

إلتفت قائلًا بنبرة وملامحَ جدية أكثر مِما توقعت أن يبدي
-: مستعد لإعطائِكِ الدليل الذي تَرغَبين!

أردف بإبتسامة ساخرة، لم تدرك معناها إلا مع نهاية جملته
-: عمري أظنه كان 38 ولكن لا أدري كم سنةً مضى على موتي، أما إسمي فقد كانَ يرمزُ لي بـ A-1753 ولكني إتخَذتُ واحدً اليوم، من الآنَ فصاعدًا أدعى أوريكي إيساو!

رف جفنها متمتمة باستخفاف
-: أوريكي! إسم عائلتي ما علاقتكَ به!

تمتم يستفزها
-: لقَبُ من عَليَّ أن أستعير!

تنهدَت بضجر متمتمة
-: آخر سؤالين لم تجب عنهما، ما هدَفكَ وهل ما قُلتَهُ حقيقة؟

أشار للداخل
-: لندخل ونكمل، الجو بارد هنا!

أومأت وخَلعت حذائها، دخلت الصالة خلفه ليَجلس متمتمًا
-: هدفي إستغلال أيامٍ حصلتُ عليها لإسعاد شَخصِ بحاجة للسعادة! أما الحقيقة فأنا لم أكذب منذ أن ظهرت حتى الآن!

رمت حقيبَتها وجاكيتها، هتفت بضجر وهي تخرج من الغرفة
-: لستُ بحاجة للسعادة!

إبتسم إبتسامة هادئة، حركَ نظاراتهِ الطبية لينعكِسَ عليها الضوء!

فتحت الثلاجة وأخذت تتفحصها ليلفت نظرها غداءٌ جاهز من ارز وقطع لحم مع المرق!
حركت أنفها تشم رائحته اللذيذة المنبعثة والتي عبقت الثلاجة، أخرجته متمتمة في ذاتها
-: "لم أتناول شيئًا كهذا منذ أشهر، متى قامَ بإعداده!

حملت عيدانها وخرجت من المطبخ وبيدها الطبق، دخلت الصالة تود نطق ما في بالها ولكن اوقفها إختفائه
تركت الطبق على الطاولة قصيرة الأرجل وخرجت هاتفة
-: إيساو سان!

ركضت نحو باب المنزل ونظرت أمامه، كان حذائها الأبيض الوحيد أمام الباب فيما إختفى الأكبر حجمًا!
تمتمت بهدوء
-: أينَ يُمكنُ أن يَذهب! هل يُعقَلُ أنهُ إنزعجَ من كلامي!

تنهدت بهدوء و التفتت لتعود للصالة بخطى بطيئة، جلست أمام الطاولة وأمسكت العيدان بشرود وشرعت بالأكل!
.
.
يتبع


__________________

-

-
لا تَبُح بما في داخِلكَ لنَفسِكَ فهي لا تَحْفظ الأسْرار.

نُقطَةة إِنتَهىٰ •
رد مع اقتباس