صوتُ زخاتِ المطرِ الغزيرة المتضاربة على نافذة غرفتهِ غزت الصوتَ الذي كان فيها وما كان سوى ضجةٍ فكريّة لا يسمعها غيره.بقي يحدق بالنافذة لبعض الوقت حتى بدأ ينحسر المطر فعادت أفكاره لتستولي على تركيزه،حول أنظاره لما فوق المنضدة وما لبث أن اتجه ناحيتها،أمسك بالكتابِ وقد بدأت أصابعه تتحسسُ الاحرف المكتوبة بشكلٍ زخرفيّ جميل على غلافه.
تحركتْ يدهُ لتُقلب صفحاته بينما تتقلب الذكرياتُ في ذهنه،تلك الذكريات التي باتت رماديةً شاحبةً مقيتة.توقف عند إحدى الصفحاتِ حين وقعتْ زُبرجديتاهُ على جملةٍ فيها ومنها بدأ يتمتم بالمكتوب:
"هل أصَابكَ ما أصَابني ؟..أمْ أنّ هَذا الدّاء زَعزع كَياني أنا فَقطْ!"
"أأصْبحَ حُبي الآنَ بِمثَابة الدّاء!"
"لمْ يصبح،بَل تَغلغل فيَّ بهذه الصفةِ منْ البداية.."
اظهر طيف ابتسامة ساخرة لكن سرعان ما انقلبت ملامحه لتعكس صورة التعاسة متمثلة في نظراتٍ خاوية تشيرُ لقلبٍ شبهِ ممزق،ما كان ليتوقع أن يمر بيومٍ كهذا،الألم ليس جديداً عليه لكن أن تكونَ هيَّ السبب!هذا ما جعله يعيش في ضياعٍ لا مخرجَ منه..عادت لذاكرته حادثة ذاك اليوم المظلم،ما انفك يبارحه شعورُ العجز عن مساعدتها كطائرٍ يراقب جانيه وهو يقطع سبيل حريته والريشة تتطاير تلوَ الاخرى أمامه ولا يحركُ ساكناً.أجل هي كانت الحريةَ له!
وتعساً لمنْ يسلبُ حرية منْ لا يملكُ روحه..
كرهك للعالم يتوقف على مغادرته لمن تحبُ كما يتجسد حبك له وقت عثورك على روحكَ الأخرى..كره كل شيءٍ حتى نفسه حين سماعه لنشيجها قبل ثوانٍ من أن توافيها المنية.
كانت قد قالت يوماً بمحياً خجلٍ حين ناولته ذاك الكتابْ قبل الحادثة بشهر:
"أخذ مني الكثير من الوقت والجهد حتى أنهيته رغم أني اختزلت الكثير..لا تقرأه حتى ترى الوقتَ مناسباً له"
كان وقتها قد تساءل كثيراً عن سبب اختيارها لهذا العنوان ليكون اختصاراً لقصتهما السامية لكنهل رفضت أن توضح شيئاً وقالت أنه لن يكون لهُ معنى إن لم يفهم بنفسه.أحس الآن بأنه فهمه أخيراً ،أغلقَ الكتاب وقد عاد ليتحسس الكتابة في الغلافِ ثم نطق بهمسٍ:"يا عِقابيَّ المُنعّم"