قرص الشمس يلتهب في الأفق، و على إمتداد جسر بروكلن المعلق، كان زحام السيارات نذير شؤم.
ثمن ساعة من التعرق داخل سيارته ذات الحجم الصغير،
يراها خردة؛ كومة حديد لا طائل منها!
الحرارة تستعر على جلد جسده الهزيل، العرق ينضح من جبينه و راحتيه، تجتاحه رغبة عارمة في حك فروة شعره الأشقر،
و لا يحكها.
كل ذلك، يفقده صوابه، و يضعه في مواجهة سافرة مع أفكارٍ لا تحِد.
ركبته تهتز، تصله الرائحة العفنة للجثة التي تربض وراءً فوق المقعد،
يشعر بحموضة في حلقه، بصعوبة يزدرد لعابه،
ثم تلهج شفتاه بينه و بين نفسه:
_لتبتلعني الأرض!
تمنى أن يقفز فوق الحواجز أمامه، من سياراتٍ تأبى إلا أن تحرك ساكنًا!
أراد أن يخلع عنه رداء الجزع، أن يرمي بالجثة إلى البحر كيفما إتفق، فيُخرس ضميره، و يتحرر.
إسترق النظر عبر مرآة سيارته إلى الخلف، يراهم يخطون صوبه.
كان يعلم، منذ البدء، انهم يراقبونه.
امتقع وجهه، حاول تملك الرعشة التي سرت في يده، بتدخين سيجارة. مد ذراعه الموشومة، و أخرج واحدة من صندوق السيارة، ردد بصره بين المرآة و القداحة المعلقة. و عندما همَّ بإضرام النار في طرف سجارته، في حين غفلة منه، باغته طرق على زجاج النافذة.
إلتفت، فكان من الطارق إشارة أن إفتح.
لم يفتح، سقطت السيجارة من فمه، ضل يحملق فيه بعينان زائغتان.
و هو كذلك، حتى إذا ما أشهر الآخر شارة الشرطة،
تدارك وضعه، أخذ نظارته السوداء، و ترجل بأناة، ثم إرتدها.
_أوراقك!
ارتبك. أخرجها من جيب بنطاله الجينز، و قدمها له.
راقبه يقرأها، ثم ثوان قبض على جهازه اللاسلكي،
و قال فيما يبادله النظرات:
_وجدته. أكرر، وجدته.
حدث كل شيء سريعًا، لم يفهم ما جرى إلا حين عاد الشرطي إليه و قال:
_بوب هاردي، أنت رهن الإعتقال.
شعر أنه تعرى على مرأى من الناس جميعًا، كان مكشوفًا من البداية.
فتح الشرطي فاهه، كان يوشك على قول شيء فيما يهيأ الأصفاد،
بيد أن بوب دفعه في حركة عنيفة، تراجع الشرطي إثرها إلى الخلف قسرًا، ثم أطلق لقدميه العنان.
_توقف، مكانك!
صرخ فيما يستل مسدسه من حزام سرواله،
ثم تبعه على الأثر عدوًا.
أثناء ركضه كالمجنون، سقطت نظاراته عنه، تركها على الأرض و واصل الركض، يلسعه باطن فخذيه مع كل حركة.
كاد الشرطي أن يدركه لولا أنه و بحركة سريعة أسقط أحدهم من دراجته النارية بأن ركله،
و ركبها، ثم انطلق بها في سرعة جنونية قبل أن ينهض صاحبها.
إنتحى أقصى اليمين تجنبًا لأي عائق قد يحول بينه و بين هربه،
و إذ برصاصة تخترق رأسه بغتتة.
يختل توازنه، ثم ينزلق و الدراجة فوق أديم الأرض،
و تقلب تقلبًا عنيفًا حتى استقر جسده
على بعد يردات من الدراجة التي ارتطمت بسيارة أحدهم!
فتح جفنيه قليلا، فتراءى له طيف يرقد إلى جانبه،
تمتم اسمه بصوت متهدج فيما يبكي:
_بيل.
تبادرت إلى ذهنه ذكرى مسالمة،
لصديقه بيل، حين أتاه بالفكرة، و سردها له، ثم هتف قائلا:
_دعنا نخض في هذا، بوب!
نأخذ اللوحة باكرًا، نحللها، نرسمها، ثم نعيدها ليلاً.
أسفر حينها عن ابتسامة جانبية، و قد كان مطلبه هينًا فيما بدى له.
راح ينتحب، و يصرخ:
_أنظر إلينا الآن، أين نحن من كل شيء؟ سرقنا فنتهيت إلى قتلتك و جنيت على نفسي.
زحف ببطء شديد نحو شبحه.
_أتسمعني، بيل...
حاول النهوض على أربع و إن لم تزل جراحه تنزف دمًا، لكنه سقط على وجهه، سقطة نهائية.