عبد السلام العجيلي/المقامة الطبية
حدثنا عبد السلام بن محب:قالكنت في معهد الطب, ادرس الامراض وأسرارها, والجراثيم وأضرارها, والطفيليات وأخبارها,على الاستاذ الذي شاع ذكره في العالمين أي شيوع, وسطع علمه أبهى سطوع..الدكتور جبرائيل بن بختيشوع,وبينما نحن في درس من دروس ذلك النطاسي العلامة, والفطحل الفهامة, إذ دخل علينا القاعة فتى مصاب, بمختلف العلل والاوصاب:من حدبة في ظهره, وسلعة في صدره,وقرحة في جذموره, وانصباب في تاموره... قد برز لفرط الهزال ظنبوبه, وتغنغر عرقوبه, وأصابه بعد النحول قحول, وبعد الفلوج شلول,فلما وقع نظر الاستاذ عليه,أفرغ ليترا من الكحول في يديه, وخطا خطوتين الى الوراء, وثبت نظارتيه فوق عينيه على السواء, ثم أخرج صوته من أنفه أخنا, فبدأ باسم الله وببقراط ثنى, وصاح فيه: من تكون.. أيها المأفون?.فعطس المريض عطسة قدت من أضلاعه عشرا, وزفر زفرة أحالت الجليد جمرا,وقال:ما بين مختبر التشريح والنسج أنا القتيل بلا إثم ولا حرجما زلت في مبحث الاعصاب أدرسها ما بين منعكس منها ومنعرجوفي الظنابيب أنساها وأحفظها لا بارك الله في الظنبوب من سمجحتى بليت بداء لا دواء له:بالخلب والألب, والتَّنواء, والخّمّجأودى شبابي لم أشعر بلذته ولا تنشقت من طيب الأرجفثار من الاستاذ ثائره وعلا نائره وقال: خل عنك القريض, فما أنت شاعر هنا بل مريض, قل ما الذي تشكو منه وكيف بدا. وكيف أمسى جسمك وكيف غدا?ما سوابقك الارثية في التكوين, وكيف صحة جدك التاسع والتسعين?وهل مات خال عم أمك أم لايزال حيا, وكيف كان يأكل اللحم كباباً آنذاك أم شيا?وأخبرني عن حالتك الراهنة, أصحيحة معدتك أم واهنة? وهل يجيء نفسك ويعود, وأخيرا.. كم في جيبك من النقود?.فارتفع صوت المريض بالعويل,وقال ما أنا بالغريب عنكم بل زميل.أنا الذي أذابت دماغه المداواة والامراض, وقرحت فؤاده القلويات والاحماض,وعششت في عقله كل الجراثيم, وضحى أيامه على مذبح الغين والميم, فاعفوني من السؤال والاستجواب والاستطباب ومضاد الاستطباب, فقد استفحل الداء, وعز الدواء, وسقطت النواجذ والارحاء, فالتفت الاستاذ إلينا, وقال انعموا بهذا المريض عينا.. دونكم إياه فاقرعوه واسمعوه,وجسوه ومسوه, فاندفعنا إليه كالسيل, وهو ينادي بالثبور والويل, فنزعنا عنه أسماله, وجسسنا كبده وطحاله, وشددناه ومططناه, وأفرجنا عنه وغططناه,وقرعنا صدره فإذا أضلاع كأصابع البيان, تهتز بمختلف النغمات والالحان, وعضلات كالأوتار,تدق أنواع البشارف والادوار, وقلب يركض خببا, ويدق عجبا, ويصيح واحربا.فلما فحصناه مرات ومرات, وأيقنا بأنه لم يصبح بعد في الاموات, فتح الاستاذ جرابه, واستخرج كتابه, واستشار دليل الطبيب, فيمن ينجع فيه الدواء ومن يخيب, وبعد تصفح وتقليب, وترجيع وتطريب, التفت إلينا وقال:يا له من داء عضال! أعطوا هذا المسكين دواء يزيد ضره, ويقصف عمره, ويكفي الناس والطب شره, اكتبوا له قيراطا من السم الهاري, وحبة من الفصفور الناري وخشكنانة من زرنيخ, لا يقول بعدها آخا ولا إيخ. وليأخذ من هذا الدواء جرعة قبل الموت وجرعة بعده, وأنا قمين بأن يبلغ الليلة لحده فأخذ المريض الوصفة وخرج مذعورا,ولا جزاء ولا شكورا.فصحنا به:يا هذا إذا عبرت الصراط, فبلغ تحياتنا جالينوس وبقراط, وسلم على الحرث بن كلدة ولقمان الحكيم, وكل طبيب هناك أو عليم! فصاح بنا:لا, ليس طريقي على الجحيم! وأسرع خائفا منا, كأن وراء ظهره جناً, حتى غبنا عن عينيه وغاب عنّا.
تمت ارجو الرد