الحمامة واليمامة الحمامة واليمامة (1)
- مرحبا،
- أهلا،
- ما اسمك؟
- حمامة. وأنت؟
- يمامة.
- يمامة؟! وما معنى اليمامة؟! أنا لا أعتقد أن هذا الاسم صحيح.
كلانا حمامة كما ترين، فمن أين لك بهذه الياء الغريبة؟!
لا تترددي بأن هذه التسمية دخلت علينا من خارج وادي الحمام.
وهرعت اليمامة راجعة إلى وكنها بعد ما حل الظلام وهي تشكر صديقتها الحمامة على ثقافتها الراقية وعلمها الوافر الذي - ودون أي شك - نتج عن القراءة والتحقيق والمطالعة.
لم تشك اليمامة في صدق صديقتها، ولكن النوم جافاها فلم تستطع الهجوع...
فلجأت إلى نقالها تتصفح مجموعات التواصل والمواقع، ونقرت قاموس المعاني، وبحثت عن معنى اسمها:
اليمامة:
جنس طير من فصيلة الحماميات، بري، له أجنحة متوسطة الحجم، ومنقار صغير وذنب طويل، سريع الطيران.
وبدأت تحرك رأسها على دقات ميل الثواني في ساعة حائط عشها.
وتساءلت هامسة: أين الخطأ يا صديقتي؟! الحمامة واليمامة (2)
وقبل أن تشرق الشمس طارت اليمامة نحو صديقتها الحمامة لتخبرها أنها على خطأ واليمامة اسم عربي كما جاء في القاموس.
لكن الحمامة أصرت على رأيها وقرّت بأعلى صوتها:
أنتم أهل البر أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا تعلموا حدود ما نطالب به من حقوق سُلبت منا منذ عقود.
فارجعي إلى بر الياء بر الذلة والخضوع والمساومة، ولا يحق لك أن تخطفي في وادينا وادي الحاء والحق والكفاح والتضحية.
ابتعدي من وادينا وادي الحضارة والتقدم، وارجعي إلى صحرائكم صحراء البدو والتخلف. وتفاجأت اليمامة من هذا الرد القاسي والغليظ والذي لا يمت لقاموس الحمام ولا الصداقة ولا السياسة بأية صلة؛ رد أحدث شقاقا بينها وبين صديقتها الحمامة.
شقاق يصعب التكهن ماذا سوف يجلب إلى ديار الحمام من دمار! الحمامة واليمامة (3)
رجعت اليمامة في اليوم الثاني إلى الحمامة لعلها تستطيع أن تنهي الخصام وتجمع بين الشملين، فهدلت بصوت ذي حنان مخاطبة صديقتها الحمامة:
اسمعي هذه القصة يا صديقتي، لعلها تنتهي بنا إلى الوفاق والانسجام ومن ثم إلى التحالف ضد أعدائنا: لي ابنة عم تشتاق إلى أبويها كثيرا، ولهذا سموها ذات التوق.
ورأت إحدى صديقاتها نموا لريش أحمر على رقبتها فأصبحت تناديها بذات الطوق، ثم وبعد فترة وجيزة وعندما اكتمل طوق ابنة عمي على رقبتها أمرت صديقتُها السربَ أن ينبذ الاسم القديم ويلتزم بالاسم الجديد والذي يغيظ الطيور الجوارح بطائه العربية. ثم وبعد عقد من الزمن أمست بعض الحمامات الناشطات تهاجم من هدلت بالاسم القديم، أي ذات التوق؛ وتتهمها بالجبن والخيانة ضد السرب.
وحصلت مشاحنات كان السرب في غنى عنها تماما، حتى هتفت ذات صباح ابنة عمي بالحمام قائلة:
أصدقائي وصديقاتي، لا فرق بين اسمي القديم واسمي الجديد، كلاهما اسم عربي كما تقول القواميس، فمن أراد أن يناديني بذات التوق، فإني ما زلت أشتاق إلى أمي وأبي وإليكم جميعا إذا ما فارقتكم يوما أو ساعة.
ومن أحب أن يناديني بذات الطوق، فهذا طوقي الأحمر يشهد له على صحة تسميته.
فلماذا هذا الجدل الذي لا طائل فيه ولا غناء، سوى إنه يجلب لنا التفرقة التي تفرح أعداءنا الطيور الجارحة؟!
وعندما أتت اليمامة إلى نهاية قصتها، قرت الحمامة بصوت متقطع استهزاء، وطارت مبتعدة وكأنها تتعمد مغايظة اليمامة. الحمامة واليمامة (4)
ولأن صحراء الياء ووادي الحاء متجاوران، فقد تتلاقى الحمامتان على غصن شجرة تقع على حدود المنطقتين.
وعند أول لقاء بعد سرد قصة ذات التوق، أو ذات الطوق، سجعت اليمامة لصديقتها الحمامة قائلة:
كانت الغاية من قصتي هي التقرب إليك وكسب مودتك ووفائك؛ وأطلب منك الآن أيضا وبحق الأخوة التي تربطنا بجميع الحمام، أن ترجعي إلى العقل والمنطق؛ وهل ثمة طائر عاقل منصف يقبل أن نتفرق ونحن حمامتان خلقنا من نفس الريش ونفس الدم واللحم؟! لدينا نفس التطلعات والآمال، نفس الهواجس والهموم؛ فتعالي أن تبقى كل منا على طبيعتها ومعتقدها وطريقتها في الطيران، وأن نتحد عند الكر والفر مع أعدائنا العقاب والباز والباشق والصقر والنسر... لكن الحمامة امتنعت من أن تصالح أختها، أو تتعاون معها ما لم تعترف ببطلان الياء والاعتراف بصحة الحاء.
فصوتت اليمامة برفق: صديقتي، سأعترف بصحة الحاء، ولكن هذا لا يستوجب بطلان الياء، ذلك لأنني وبعد البحث والمطالعة أيقنت أن اسمي اسم صحيح.
فتعالي ننبذ الاختلاف ونركز على اشتراكاتنا وما أكثرها!
ولنعمل من غد معا، ولماذا نؤجل عمل اليوم إلى غد؟! فلنعمل من الآن معا... تعالي الآن نخرج في مظاهرة اعتراضا على تغيير مجرى النهر. غير أن الحمامة رفضت واحتدت على صديقتها وهدرت بغضب كان ارتعاشه بائنا في منقارها:
أنت تخططين لي؟! ابتعدي أيتها الصغيرة!
وصفقت جناحيها وأعرضت مبتعدة تاركة اليمامة في ذهول وامتهان. الحمامة واليمامة (5)
لم تنم اليمامة تلك الليلة بسبب الإهانة التي وجهتها لها الحمامة، وقررت أن ترد الكيل بكيلين!
وانتظرت الفجر ...وقبل أن ينجلي سواد الليل طارت من وكرها واستقرت على سلك كهربائي ودمها يفور غيظا.
وما إن رأت الحمامة حتى انفجرت صارخة بوجهها:
اسمعي أيتها الحضرية المدجنة، لا تستطيعين الطيران كما أطير ومتى أشاء، ولا بالسرعة التي أنطلق؛ ولا تحسنين الهديل كما أحسن؛ أيتها الملونة السمينة، لمن تُشترى الحبوب في الأقفاص؟! لحرة طليقة مثلي، أم لسجينة طائعة مثلك؟!
إن كنت تنادين بالحرية كما تزعمين، عليك أن تبحثي عن حبوبك في الأماكن الطلقة كما أفعل، لا أن تنتظريها في قفصك في ذلة واحتقار!
وهل تُقدم إليك هذه الحبوب من غير مقابل؟! ... يا من تصرفاتك مريبة!
ها هم يسقونك ماء أجاجا في قفصك ولا يحق لك أن تحتجي! اخرجي محتجة إن كنت شجاعة كما تزعمين.
أم أن مفردة النضال شعارك تزمجرين به في الرخاء، ولا تفقهين معناه في الشدة وحين البأس؟!
كوني نزيهة كما أنا... ولا تتجهي بسربك الذي يُعد بالأصابع نحو الانقياد والعبودية. وانطلقت مسرعة قبل أن تسمع هديل الحمامة، تاركة إياها في قهر واحتقار. الحمامة واليمامة (6)
وذات مرة اعتدى النسر على الواديين وافترس حمامتين واحدة يائية وأخرى حائية؛ وأرادت كل منهما أن تخرج مسيرة احتجاجية ضد النسر لتسمع صوت استنكارها مجلس الطيور الأعلى.
واقترحت الحمامة على اليمامة أن نخرج معا لنكون سربا ذا هديل مدوٍ وهيبة؛ لكن اليمامة رفضت وقالت في عصبية بدوية:
لك مظاهرتك ولي مظاهرتي.
فخرجت كل منهما وفراخها منفصلتين، ما أضحك أعضاء مجلس الطيور. وبدل أن تبحث الحمامة أو اليمامة عن سبيل يؤدي إلى اتحادهما، بدآ بالطعن ضد بعضهما وبالتآمر، حتى وصل الصراع بينهما ذروته، وبلغت العداوة إلى منتهاها حيث أنستهما الطيور الجارحة وما ترتكب من جرائم ضدهما. وبينما الحرب كانت مشتعلة بين الحاء والياء، كانت النسور متفقة على أن لا فرق بين هذين الحرفين بتاتا. فطفقت تسرق الهديل وتفقص البيض وتفترس الفراخ لتسيطر وبعد فترة وجيزة على المنطقتين كلاهما سيطرة كاملة؛ بل وتجرأت أن تنتهك أجواء الحمام الزاجل والأزرق أيضا، وذلك بسبب الخلاف الذي نشب بينها ففرقها.
واتسعت سيطرة النسور لتعيد تأسيس إمبراطوريتها التي تدعي أنها فقدتها قبل قرون.
ولم ينفع الحمامَ بعد الخسارة الفادحة تلك والاحتلال لوطنه لوم ولا ندامة.
سعيد مقدم أبو شروق - الأهواز
|