كان عندي ذاك الإحساس الغريب -الذي ظل يتنامى يوم بعد يوم- أنّ قلبي وصل لدرجة التخمة
أنّه لن يتحمل المزيد من اختبارات هذا العالم، لكنه دوما ما فاجأني بقدرته على التحمل
بصلابته.. كان شديدا، قوي العود أكثر من أي شيء أخر أملكه، فلا شخصيتي تضاهيه ولا بقية
أعضائي، وجسدي ليس بذاك الصحي التام، إن قلبي في النهاية كان أعظم ما فيّ.
لكني وصلت في هذه الأيام الأخيرة ليقين أنه لن يتحمل المزيد، أن صدمة واحدة فقط ستهشمه
لقطع من الكريستالات، مجرد ضربة خفيفة للغاية ستجعل ما افتخر به يتحطم، وينكسر كأنما هو مجرد
زجاج رقيق.. هذه الفكرة وبالرغم من بؤسها تحتوي جانبا كبيرا من الفكاهة.. إنّه مضحك حقا
أن تسمع عن تهشم قلب شخص وبدنه لا يزال سليما معافا، فماذا يجعله هذا؟ أليس ميتا حيا؟
لكن الغرابة لا تكمن هنا.. الأمر وما فيه أنّ هذه الفكرة مريحة، بلا قلب لن تكون هناك أفكار عديدة
ولا تطلعات، ولا حتى حسابات ولا ندم! كل شيء سيصبح ساكنا. إنّها من أفضل الأفكار الغريبة
التي تشغلني عادة.. ألا أملك تطلعات عالية، أن أكون مجرد نكرة، ولما لا يمكنني أن أصير نكرة؟
بما أختلف عن أولئك النكرات السعداء؟ الأمر كان واضحا منذ زمن.. إلا أنني تجاهلته كما أفعل عادة
لقد غطيته بطبقة دبقة من الحبر ورميته إلى أعمق فص في عقلي.. حيث لم يكن يجب أن أعود إليه.
ولكنني عدت، حين اعتقدت أنّ قلبي قد اكتفى من العالم، وأنّه استسلم، ويستعد لدخول ذلك العالم
الدخاني اللذيذ، حينما يعبر عير فجوة الثقب الأسود، كنت أحسبني سأدخل في حالة من الهيستيريا
المثيرة، انتحب، أحطم، أنذب حظ، ولن يعلم أحد.. لأنه لا وجود لشيء او كائن من كان في العدم.
لكني وكالعادة كنت مخطئة، فلم أجدني أرثى لحالي، ولم أجد العالم الأسود المليء بالظلال الذي
نشدته. كان الضياء يعميني.. أولم أكن أهوي نحو الأعلى إلى الفضاء صوب الثقب الأسود، فلما أنا بين السحب؟
لكن لم أجد من يجيب تساؤلي.. فأنا وحدي هنا محاطة بمساحات لا نهائية من البياض، وبذل الاكتئاب
اجتاحني التفاؤل، كان مخيفا ومرعبا.. فحتى الأمل إذا تخطى حدود المنطق يصبح فتاكا.
والمنطق يقول أنني فشلت وبجدارة، إلا أنّ تفاؤلي كان شاذا عن العادة.. كنت متفائلة على نحو رهيب
لدرجة أنني حطمت نفسي بنفسي، وما كنت أعتبره تفاهات بديهية، من يومها غدوت أحسب لها
آلاف الحسابات.
ثم وعندما قررت الاختلاء بنفسي، داخل غرفتي ذات الجدران الرمادية، أمسك بين يدي رواية بوليسية
لأجاثا وأخرى لدوستويفسكي وأشرد بخيالي بعيدا عن هذا العالم، كنت أجدني وللأسف -بالرغم من
امتناني الصادق لهم- محاطة بأفراد عائلتي الذي يرفضون مثل هذا التصرف ويحاولون بكل الطرق
جعل قوقعتي تنكسر، حتى وان عنى ذلك أن يرموني للشارع بين أحضان صديقاتي.
هذا الأمر بحد ذاته مزعج للغاية، فالبشر بحاجة للعزلة، بعيدا عن أسرهم، عن أصدقائهم، بعيدا عن
العالم أجمع، وأنا أحتاج عزلتي، أحتاج متنفسي بعيدا عن هذا الواقع الرتيب نحو ذلك العالم الاجرامي
المثيرة، أو أغوص داخل بحور الفلسفة. قبل أن أغرق في عالمي الذي شكلته من مجموعة عوالم
راقت لي.. العزلة شيء مثير!! إنها بمثابة ادرينالين حياتي، فبدل أن تجعل عزيمتي تثبط أو تملأ نفسي
بالكآبة والحزن أجدني في عزلتي أسعد حالا. فلا وجود لمن ينغص عليّ يومي، أنتقي ما يعجبني
وأرمي مالا يعجبني إلى حين.. كان الأمر كالخيال حقا.. أن تعيش بعيدا عن الناس منطويا عن العالم
غير دار عن الحروب والكوارث التي تصيب البشر، متجاهلا كل ما من شانه أن يثبت لك مدى ضعفك
وعدم قيمتك.
كان الأمر نعمة، لكنه يصير نقمة والهواجس تملأه، فذاك التفاؤل اللعين عاد من جديد إلى الواجهة
وبالرغم من وجود صراع شديد -هذه المرة- بين عقلي الذي يحاول اضعاف موقفي المتفائل وبين قلبي المرمم
إلا أنني أجدني متوترة أكثر من العادة، هيستيرية بدرجة لا توصف.. هو فقط كأنما حصني المنيع
قد تدمر على يدي.. فلم أجد من بدٍ إلا أن أحور تفاؤلي، أن أبعده قليلا عما سيجرحني من جديد.
ببساطة أصبح الأمر يشبه كذبة بيضاء أكذبها على نفسي!!
*فضفضة وهواجس فيوليتية*