أروع أبٍ في العالم
[3]
كان من الواضح أن الجوَّ قد اشتحنَ بعد تلك القنبلة التي رميتها في وجوههم قصْرا ، و لكنَّ المدهش أن والدي التزم الصمت بعدها فحسب و لم ينبسْ أحد ببنت شفة ، حتى عمّ جو من الاجدوى و العقم على المكان لمدة طويلة .
تناولنا العشاء ببطءٍ وسط صمت ثقيل على مسامعنا إلاَّ من صوت الملاعق و الكؤوس .
استأذنتهم بعدها للذهاب إلى غرفتي لبعض الوقت حتى أنظف أسناني و أرتب أفكاري المشوشة ، فأنا كنت أشعر أنني على وشك أن أنهار أمامهم و تتعرَّى روحي الضعيفة على مرأى من الجميع ...
و أنا من وعدت نفسي ألا أكون طفلة بعد الآن !
كم يمكن أن يكون الأمر صعبا ؟
هل تراني سأخفق بذلك ؟
- لا يا سمارا ، ستتخطّين الأمر فأنت قوية !
هتفت بثقة و أنا أنزل السلالم ببطء ، قبل أن يفاجأني ظهور إليزا في الردهة بلباسها الرمادي الرسمي المحتشم و كعكعتها المربوطة خلف رأسها بشكل محكم و أنيق.
وقفت عند نهاية السلم و هي تضم يديها بأريحية فوق بطنها و لبثت تحدق إليَّ بهدوء ريثما أصل إليها ، و فجأة وجدت ركبتاي ترتعشان بارتباك .
قالت بهدوء مع آخر خطوة تفصلني عنها :
- السيد جوش ينتظرك في غرفة البيانو .
ارتفع حاجباي دهشة لما سمعته و انقبض قلبي بشكل مؤلم .
لم أشك للحظة في أنه يود أن يتكلم عن موضوع السفر من جديد .
سيضع النقاط على الحروف الآن ، و لربما سأخسر النزال أيضا .
بلَّلت شفتيَّ بقلق و بلعت غصَّة مسننة في حلقي و أنا أشعر بموجات من الحرارة تمر عبر كامل جسدي ..
عليَّ فحسب أن أقنع أبي أن المكان يعجبني و أن أكذب و أقول أن لديَّ أصدقاء كثر بمدرستي لا أود الإفتراق عنهم .
اتجهتُ صوب الغرفة بخطوات متباطئة و متباعدة حتى شعرت كأنَّ الطريق لن ينتهي بحلول الغذ .
وكما كان متوقعا ، كان أبي يجلس على الأريكة وحيدا ، و هو يسند رأسه إلى سبابته و يبدو شارد الفكر ، و على وجهه تعابير عابسة و متعبة جعلت من قلبي يقفز من مكانه قلقا عليه .
جلست بجانبه و انطلقت أسأله بقلق شديد :
- أبي هل أنت بخير ؟ هل تشكو من الصداع ؟ هل أحضر لك شيئا لتشربه ؟!.
لاح شبح ابتسامة واهنة على ثغره ثم همس و هو يحدق في عينيَّ بشيء من الشرود :
- هل تتذكرين كوب الشوكولاطة الساخنة التي كنتي تحضرينها لي في أوقاتي التعيسة ؟..
صمت ليردف بنبرة أكثر بؤسا :
- أنا أحتاجها الآن كثيرا !
ارتفع حاجبيّ دهشة و أنا أقرأ الحزن الدفين في عينيه ، لم أصدق لوهلة أن من يجلس إلى جانبي الآن هو والدي ...
لقد مر وقت طويل جدا لم أرى فيه هاذا الحزن في عينيه ؟!
أم تراه أصبح خبيرا في إخفاء الأمر عنِّي كل تلك المدة ؟
ابتسمت بدفء لعلي أبعد هذه السحابة السوداء عن المكان و قلت سريعا :
- سأحضر لك كوباً و أعود .
سارع لإمساك ذراعي بإحكام حين هممت بالوقوف عن الأريكة ، و هز رأسه معترضا بابتسامة عذبة .
جلست من جديد ببطء و استسلمت للقلق حتى ينبش المتبقي من الثقة التي كنت أوهم نفسي أنني أمتلكها قبل قليل .
مرَّت لحظات ثقيلة من الصمت الكئيب ، قاطعه بغتة قائلا بحزم :
- ستسافرين معنا يا سمارا و أنا لن أقبل الرفض .
طأطأت رأسي المثقل للحظة و فكرت في خطة للهروب من هذا الموقف ، فنفسيتي قد تعبت كثيرا.
قلت بهمس و أنا أحاول أن أجعل صوتي متماسكا :
- أنا أشعر بالرَّاحة في هذا المكان يا أبي ، و أحبُّ الجَميع هنا ...
لذا لا تقلق علي سأكون بخير .
صمت قليلا لأبلع ريقي بتوتر و أضيف و عيناي تتابعان ملامحه العابسة بتركيز :
- و عمتي تحتاج شخصا ليعتني بها... لهذا أنا لن أتركها الآن و هي في أمس الحاجة إليَّ !
تطلع نحوي للحظات و كدت أجزم أنني رأيت عضلة وجهه تتصلب بتوتر لكنه همس بعدها بعتاب ذبلت ملامحي لأجله :
- لا تجعلينني أصدق أن أياَّ من هذه الأسباب هو السَّبب الحقيقيُّ ، فأنا لنْ أنخدع بذلك .
تنهدت بعمق و أنا أشعر بمخالب اليأس تنبش روحي بلا رحمة ، هل أستسلم فحسب ؟ .
هل سأكون حقا كتلك القرادة التي تلتصق فيه بدون كلل ؟
عند هذا الحد من التفكير شعرت بالغثيان و برغبة شديدة في الإستفراغ ، لكنني تحاملت على نفسي و نفضت رأسي و أنا أقول بثقة زائفة :
- أبي ، تعرف أنني قد أصبحت ناضجة بما يكفي لكي أتحمل مسؤوليتي و أهتم لنفسي ...
أضفت بعد ثوان من الصمت :
- و بما أن سيلفيا ستكون عروسا جديدة فهي تنتظر الرعاية و الإهتمام الكامل منك ، و أنا لن أزيد سوى الأمر صعوبة عليك . رمش والدي بعينيه البحريتان الصافيتان لثوان و كأنه يحاول إستيعاب الكلام الذي سمعه للتو ، ثم قال و نظرة قوية تخترق قشرتي الصلبة الخارجية التي أحمي نفسي بها ، نظرة قوية من اللوم و العتاب :
- هل أفهم من كلامك أنكِ لا تريدين أن أكون إلى جانبك بعد الآن ؟.
اهتز بدني لثانية لوقع تلك الجملة عليَّ ، و شعرت كأن ناراً مستعرةً تحرقُ كياني من الداخل ، و ازداد شعوري المقيت بالغثيان . قلت بهمسٍ يائسٍ :
- أنا أحتاجك دومًا لجانبي يا أبي و أنت تعلم ذلك .
رفعت عيناي المبللتان بالدموع نحو وجهه ووجدتني أستغيثه بصمت لحنانه الذي أفتقده منذ مدة طويلة .
و كأنه قرأ تفكيري بقدرةٍ أبويَّة خارقة ، إذْ سُرعان ما وضع يده الكبيرة على رأسي و راح يمسحُ شعري بابتسامة عذبة تعلو محياَّه البشوش و هو يهمس :
- و أنا أعدُك يا صغيرتي أنَّ لا شيء في هذا العالم سيبعدني عنكِ .
أحسستُ بالناَّر المشتعلة تنطفئ ، و بمخالب اليَّأس تُقطع إلى أشلاءٍ ، و غمرتني الطُّمأنينة من كل جانبٍ و أنا أرمي رأسي المثقل بالهموم في حضن والدي الدافئ .
لقد تأكدت منذ مدة أن لأبي طاقةً عجيبة في إخماد كلِّ شعور سيٍّء داخلي ، كالجنِّية السَّاحرة التي تحول اليقْطينة إلى عربةٍ فخمة بحركة يدٍ واحدة .
أبعدني عن حضنه بلطف و مسح دموعي التي وجدت طريقها على وجنتيَّ.
همس بحنوٍّ نحوي :
- ستكون كل الأمور بخيرٍ يا عزيزتي .
أومأت إيجاباً بابتسامة صغيرة ثم سألتُ بارتباك و أنا أشيح النَّظر بعيدًا عن عينيه :
- هل ستوافق على تركي هنا يا أبي ؟
أطلق آهة يائسة و قال و هو ينهض متَّجها نحو الناَّفذة التي يندلقُ منها شلالٌ من ضياء القمر الفضِّي غمره بأكمله حتى طال ظله في الإتِّجاه المعاكس له إلى باب القاعة المغلق .
- سأفكر في الأمر مليَّا يا صغيرتي .
لبثت مكاني أحدِّق إلى ظهره العريض بشرودٍ و عقلي لا يزال مضطربا و مشوشًا ، قبل أن يتوارى لمسامعنا صوت طرقات خفيفة على الباب .
هتف والدي من مكانه :
- أدخلْ !
فُتح البَّاب ببطء مخلفًًّّا زمجرة عالية ، قبل أن يطِّل رأس سيلفيا هامسةً بإحراج :
- هل جئت في وقت غير مناسب ؟ سأعود لاحقًا إن كان الأمر مهما لتناقشاه .
أطلق والدي آهة يائسة للمرة الثانية مما جعل رأسي يلتفت تلقائيا نحوه في الخلف .
كان واقفا بقامته الشامخة متأهبا كفرس جامح مشارك في سباق سريع ، تلفه هالة من الوقار و الغموض التي تجذب حتما الأنظار نحوه ، لكن شيئا ما كان يلمع بعينيه الصافيتان و يكاد يتجسد بصورته الحية أمامنا ..
شيء جعل قلبي يتقطع إلى أشلاء حزنا عليه ، هل ولَّت الأيام التي كان يعايش فيها والدي الحزن و الكآبة ؟!
هل يعقل .... أنَّ والدي يشعر ... بتأنيب الضَّمير ؟
قال بهدوء :
- لا بأس عزيزتي فلتدخلي .
- لقد تذكرت للتَّو أنَّني قد أحضرتُ هديَّة لسمارا .
التفت رأسي نحو سيلفيا كالطَّلقة ، و ارتفع حاجباي دهشة بعد أن قاطعت تسلسل أفكاري و أنا أراها تدخل متبخترةً على وقع صوت حذاءها ذو الكعب العالي و هي تحمل علبة كبيرة و مربعة الشكل بين يديها ، وضعتها بأقرب مكان صادفها فوق الأريكة المقابلة ، ثم أشارت لي أن أقترب بابتسامةٍ عريضة .
لن أكذب إنْ قلت أنَّني شعرتُ بالفضول لأنظر داخل العلبة ، فأنا دومًا ما كانت تستهويني الأشياء المغلقة و المغلَّفة . جلستُ إلى جانبها أبادلها الإبتسامة ذاتها ، بينما عاد والدي إلى مكانِه فوق الأريكة و جلسَ بتململ و هو يفرد يده فوق ذراع الأريكة بينما ذراعهُ الأخرى يمدُّها فوق ظهرها بأريحيَّة و يراقبنا بجمود .
فتحت سيلفيا العلبة ببطء جعل قلبي يرفرف متشوِّقا ، قبل أن يظهر ورق أبيض مطبوع ، ابتسمتْ بلطف و دفعت العلبة نحوي لتقول بالحاح :
-هيَّا افتحيها ...
التمعت عينيَّ بفضول و أنا أزيح الورقَ بهدوء حتى لا أبدو بمنظر متهورٍ و ملهوفٍ أمامها بالرَّغم من أنَّ عينيَّ تفضحانني الآن . فجأة...!
ظهر فستان رائع مطوي بشكل أنيق ، يغمر العلبة بلونه الأحمر القان ، و إلى جانبه حذاءٌ ذو كعبٍ عالي أسود لامع أستطيعُ رؤية إنعكاس وجهي عليه ، مزيَّن بربطة صغيرة حمراء من الخلف . رفعت الفستان أمام عينيَّ بفاه مفرغ بذهول ، لم أصدق بعد أن هذا الفستان و الحذاء هديَّتان لي .
هل كنت لأتصوَّر يوما أن أرتدي شيئا بهذا اللَّون الصَّارخ و الأناقة الشَّديدة ؟!
كان الفستان قصيرًا و يشبه زهور التوليب بتفصيلته .
ضيِّق من منطقة الصَّدر و منتفخ من الأسفل بطيَّات جميلة و كبيرة تضيف له انتفاخا محبَّبا .
انتبهت إلى علبة فضية أخرى كانت تختبئ تحت الفستان فارتفع حاجبيَّ دهشة .
امتدت يد سيلفيا البرونزية نحوها و حملتها لتفتحها أمام أنظاري و يظهر عقد ذهبيٌّ غايةٌ في الرَّوعة ، فالتمع اللَّون الذهبي داخل عينيَّ المتَّسعتان بذهول .
تعتعت بعد صمت طال و أنا لا أزال أفرد الفستان أمامي بينما رأسي متَّجه صوب سيلفيا التِّي تمد العلبة الفضية نحوي بابتسامة .
- هل ...... هاذا كلُّه ......لي ، حقَّا ؟!!!!
أطلقت سيلفيا ضحكة رنانة بينما كنت أرى والدي يبتسم من مكانه بهدوء ، يا إلاهي كم أشعر بالإحراج !
احمَّر وجهي خجلا و جلست في مكاني من جديد مطأطأة الرأس ، و أنا أحاول أن أجد العبارات الكافيَّة لأشكرها على كرمها معي . شعرت بإمتنان كبير نحوها فجأة و كنت أود لو أحتضنها شاكرة لها لطفها ..
- أشكرك جزيل الشكر على هديَّتك ، إنها رائعة جدا !
ارتفع وجهي نحوها و رسمت أجمل إبتسامة أعرفها ، و عينيَّ تلمعان بوهج مشع .
- لا شكر على واجب يا عزيزتي ، فمن الآن و صاعدا سنكون صديقتين مقرّبتين .
جفلت لحركتها حين مدَّ يداها نحوي و أحاطتني برقة في حضنها و كم شعرت حينها بالإحراج من عيني والدي المراقبتين بتركيز .. لكن َّيداي وجدت طريقها لتحيط بجسد سيلفيا و أبادلها العناق بابتسامة دافئة ، و شعور جيد من المودة و الراحة يكبر نحوها شيئا فشيئا .
💛💛
كان اليوم التالي يوما حافلا بالأحداث ، فبعد الإفطار بساعاتٍ قليلة وصل أوَّل وفدٍ من الضيوف ، هذا إن لم يكن أهمهم
- عائلة سيلفيا - .
استقبلناهم بحفاوة في باحة الفيلا و كنت أحاول جاهدةً أن أكون عفويَّة مثل عمتي ميراندا التِّي تعتبر الأفضل دوماً في هذا المجال .
كانت والدة سيلفيا المدعوة بفكتوريا سيدةً نحيفة و رشيقة على الرَّغم من آثار سنينها التِّي تركت تجاعيد عميقة في وجهها لم تفلح أدوات التَّجميل من إخفاءها كليَّا .
كانت تبدو سيِّدة مجتمع راقي بمشيتها الواثقة و حديثها اللبق ، لكنها لم تكن تجيد الإبتسام مثل إبنتها سيلفيا لهذا شعرت بالنفور قليلا منها ، خاصة أنَّها تبدو أكثر صرامة من عمتي .
أما عن زوجها المدعو جوزيف ، فكان عكسها تماما ، كان رجلا بشوش الوجه و مرحًا بجسد ممتلئ قليلا و بصلعة تشابه صلعة ألخاندرو ، مع شارب مرتب و كثيف .
نزل من السياَّرة الأخرى الرياَّضية و الزَّرقاء اللَّون ، سيِّدة عذبة الملامح بشعرٍ بنيٍّ قصير مع رجل طويل القامة و وسيم الملامح ، بشعرٍ و عينين سوداوتين ، و يحمل طفلاً صغيرا بين ذراعيه و هو يداعبه بين الفينة و الأخرى ..
تأكدت بعدها أنَّ الرجل كان أخ سيلفيا الأكبر أندرو ، و تلك زوجته الجميلة فيرلا ، أمَّا عن ذلك الطفل الظريف ذو الشعر البنيِّ و العينين الخضراوتين فهو إبنه ستيفانو .
ضجَّت الفيلا بضوضائهم و علت ضحكاتهم في قاعة الجلوس ، بينما راح ستيفانو يركض بخفَّة في الأرجاء كالفَراشة ...
كنت أحدِّق إليه طول الوقت بحبٍّ دون أن أهتم بحديثهم المتنقِّل تارَّة بين اللغة الإيطالية و تارة أخرى للإنجليزية .
لكنَّني كنت أتفقَّد أبي بين الحينة و الأخرى فأجده مشغول الفكر و عابس الوجْه ، حتى إن ضبط بذلك الشَّكل فهو يتصنَّع الإبتسام و يحاول أن يدرك مافاته .
تردد سؤال وحيد بتوجس في عقلي مرارا دون أن أجد جوابا عليه :
- هل يعقل أن أكون قد جرحته بكلامي أو برفضي الذَّهاب معه ؟!!!
💛💛
ابتدأ ألخَّاندرو العمل بعدها على تنسيق الحديقة مع فريق من المختصيِّن الذين قدموا في موعدهم المحدَّد مع شاحنتين محملتين بالمعدَّات الازمة ، فبدت الفيلا كخليَّة نحل مزدانة بالنَّشاط و الحركة .
اختفت سيلفيا في غرفتها مع مختصَّة التَّجميل خاصَّتها ، و كانت فيرلا تتفحصها بين الفينة والأخرى ، بينما أنا كنت أجلس رفقة ستيفانو في الحديقة و نحن نراقب العمَّال و نمرح سوية ، دون أن يشغلني شيء عن النَّظر أحيانا نحو أبي الجالس في ركن هادئ مع أندرو و جوزيف و هم يتحدثون بكسل و راحة .
💛💛
يوم الزفاف
الساعة 07:05 صباحا
فتحت عينيَّ على آخرهما و حدَّقت في السقف بتوجُّس لثوان .
كان قلبي يقرع بوجل و جسدي بأكمله متشنِّج بشدة ، رفعت جسدي عن السرير لأجلس بوهن كعجوز مقوسة الظهر و خصلات شعري تتساقط كحبال حريرية على وجهي .
لقد أتى اليوم الموعود و لا بد من المواجهة الآن !
أخذت نفسا عميقا و لبثت في مكاني أفكر في كل شيء ، و أسترجع كل الأحداث من وقوفي عند النافذة يوم قدوم والدي مع خطيبته إلى استيقاظي بفزع صبيحة يوم زفافه .
- أبي !
همست كأنني أجَّرب هذه الكلمة للمرَّة الأولى ، لكنني فجأة رميت نفسي سريعا من سريري لأتَّجه إلى الحمام و أنا أتذكر عينيه الواهيتين .
أبي ليس بخير تماما و علي أن أعرف ما به ، لم يتسنى لي البارحة الإنفراد به قليلا بسبب مشاغله الكثيرة لكن عليَّ أن أبذل جهدي اليوم .
و كما كان متوقعا لم يبدُ أنَّ أحدهم قد أخذ قسطًا من الرَّاحة بعد الحفلة الصغيرة التي أقيمت ليلة البارحة من غيري أنا ، فالجميع سعداء و متجهِّزين لحفل الزِّفاف الفاخر لهذا اليوم منذ الصَّباح الباكر ، حتى ستيفانو كان يبدو أنيقًا و وسيما في بذلة زرقاء مناسبة لحجمه الظريف .
كنت أجوب المكان بلا هدى و عيناي تبحث عن والدي بلهفة لكن لا أثر له في كل أرجاء الفيلا ، أين عساه يكون ؟!
وقفت عند باحة الفيلا ، و سجاد أحمر طويل مفرش على طول الطريق ينتهي عند أصَّين من الورود الرائعة المظهر .
التفت لأعود أدراجي بخيبة فتفاجأت من ظهور أندرو المباغت ، ضحك بمرح و قال بإنجليزية ماهرة مشوبة بلكنته الإيطالية المميزة :
- بونجورنو بيلو ! كيف حالك اليوم ؟!
توردت خداي بخجل و أنا أهمس بنعومة :
- صباح الخير ، بخير تماما و أنت ؟!
ضحك من جديد عاليا و قال بمرح :
- و تحمرين خجلا أيضا ؟! ... كم أنت لطيفة حقا ! لهذا ستيفانو معجب بك كثيرا !
ازداد احمرار وجهي حتى شعرت أنني سأنفجر بعد هنيهة ، لكن صورة والدي طرأت بعقلي فجأة فسألت بلهفة:
- سيد أندرو ، ألم ترى والدي في طريقك إلى هنا ؟!
أجابني سريعا بمرحه المعتاد :
- لا بد أن العريس يتجهَّز ليومه الكبير هو الآخر ، لكن على الأقل لم يحجز نفسه في غرفته مثل سيلفيا ...
صمت قليلا ليردف بجدية :
- هل تحتاجين مساعدة ما يا عزيزتي ؟!
نفضت رأسي بحرج :
- لا ليس تماما ، شكرا لك !
تخطيته و دلفت للداخل ، كان عدد الضُّيوف على وشك الإكتمال حتى لم يكد ركن واحد أن يفرغ منهم ، فالجميع كان يثرثر و يتحدث ، بعضهم فضَّل الوقوف حاملين كؤوسا كريستالية من النَّبيذ يوزعها عليهم خادم أنيق على صينية من فضة و آخر مثله يوزع المقبلات اللذيذة ، بينما الآخرون فضَّلوا الجلوس على الأرائك المبعثرة في الأرجاء على غرار عمَّتي ميراندا .
صعدت إلى غرفتي لأتجهَّز أنا الأخرى ، فموعد عقد القران لم يتبقى عليه سوى ساعات قليلة .
نظرت نحو المرآة لأتفقَّد منظري لآخر مرَّة فانذهلت لرؤية تلك الفتاة الجذَّابة التي كانت دوما تختفي خلف مظهرها الطُّفولي ، كان الفستان لائقاً عليَّ كثيرا و مع الحذاء ذو الكعب العالي ازداد جسدي رشاقةً .
حررت شعري من ربطته فانسدل كستارٍ من الحرير على ظهري، سرَّحته لثوان بمشطي ثم ارتديت بعدها العقد الذَّهبي الذي أضاف لبشرتي البيضاء وهجًا خاصاَّ و خرجت من الغرفة لأغلق الباب خلفي ببطء .
لمعت في عقلي فكرة مهمة و أنا أحدِّق لجناح سيلفيا القابع آخر الرِّواق فاتجهت نحوه على الفور . طرقت الباب عدة طرقات خفيفة فأتاني صوت فيرلا و هي تهتف :
- من هناك ؟!
و قبل أن أجيبها كانت قد فتحت الباب و أطلت عليَّ ، ابتسمت و قالت شيئا بالإيطاليَّة و هي تنظر نحوي بإعجاب جاعلة من وجنتاي تحمرَّان خجلا بالرغم من أنني لم أفهم ما قالته .
أمسكت ذراعي بلطف و سحبتي للداخل و أغلقت الباب خلفها فانتبهت لسيلفيا الجالسة كملكة رائعة الجمال فوق أريكة وردية بذراع واحدة معقوفة ، في فستانٍ منتفخٍ و برَّاق حبس أنفاسي .
كتمت شهقتي و رحت أحدِّق لها مليَّا ، كانت تبدو كحورية بحرٍ حسناء بشعرها الأشقر المسرَّح في تسريحةٍ جميلة ، و جسدها الرَّشيق المغطَّى بفستانٍ أبيض منتفخ ذو الياقة المفصَّلة على شكل قلب و المرصَّعة بالجواهر و التفاصيل الساحرة ، بينما طرحتها الطويلة تسقط على كتفيها النحيلين مضيفةً جمالاً إضافيا لها ، حتى أنني نسيت تماما ما جئت لأجله و هو أن أسئلها حول والدي . ابتسمت نحوي و قالت و نبرة إنبهار تعلو صوتها النَّاعم :
- تبدين جميلة جدَّا يا سمارا !
نفضت رأسي بخجل و سارعت بالقول :
- أنت الأجمل ! تبدين غاية في الروعة !
ابتسم الجميع بتألق و سارعت فيرلا لتفتح الباب للوافد القادم فظهرت عمتي ميراندا خلفه بابتسامة باهتة و وجه شاحب ، دلفت الغرفة بعد إلقاء التَّحية و حدَّقت إلى سيلفيا بعينين متفحِّصتين لتقول بعد صمت وجيز و الأعين كلها تترقب :
- أنا لم أرى في حياتي عروسا جميلة مثلك !
كدت أجزم أنَّ الجميع قد تنفس الصعداء لتوِّه بعد دخول عمتي ميراندا المهيب ، لكنها لم تكد تصمت حتى أضافت سريعا:
- جوش يود الحديث معك في أمر مهم يا سيلفيا ، قال إنه يحاول الإتصال بك منذ البارحة لكن هاتفك مغلق .
- أمر مهم ؟! همست سيلفيا بحيرة .
سألت أنا الأخرى بحيرة أكثر منها :
- هل والدي هنا ؟
أجابت ميراندا بهدوء :
- إنه في جناحه ، و يود التحدث مع سيلفيا على إنفراد .
نهضت الأخيرة من مكانها و هي ترفع فستانها الثقيل عن الأرض لكن فيرلا قالت بشيء من الإستهجان :
- ليس من الجيد أن يرى العريس عروسه قبل الزفاف ، أليس من الممكن أن يؤجل الأمر لبعد عقد القران ؟!
قالت عمتي باقتظاب :
- لا ، هو يريدها حالا !
غادرت سيلفيا الغرفة بملامح مضطربة ، بينما كنت أتبعها و أنا أشعر أن هناك شيئا سيئا سيحدث ..
أمسكت عمتي ذراعي بإحكام لتمنعني من تخطيها ، فلبثت أحدق إلى الباب و فكري مشغول بتأليف الكثير من القصص و السيناريوهات .
بعد ساعة من الإنتظار أمام الباب و الترقُّب الذي لازم الجميع لتأخر العريسين في الظهور .
كنت على وشك أن أسقط منهكة الجسد و الرُّوح و قلبي ينبض نبضاتٍ كبيرة و متعبة كأنه يحاول تخطِّي قفصه الصدرَّي .
سمعت صوت قفل الباب و هو يتحرَّك فالتفت بلهفة و حدقت بعينين متسعتين إليه و هو يُفتح بحركةٍ بطيئة كأحد مشاهد فيلم رعب . ظهر وجه سيلفيا المكتئب و المنخفض نحو يديها الغارقتان وسط تلابيب فستانها المنْتفخ ، لكنَّها سرعان ما رفعت وجهها نحوي حين انتبهت لوقوفي أمامها و رأيت آثار الكُحل السَّائل المتبقيَّة تحت عينيها .
غاص قلبي بين أضلعي بغتة و أنا أتأكد من الشَّيء الذي كنت أتوجس منه منذ قليل ، تطلعت لها أنا الأخرى بعينين مستفهمتَّين ، و بدا بعدها كأنَّ الزَّمن توقف فجأة .
فكلانا لم تتكلم أو تتحرك كأنَّ شللا عويصًا قد أصابنا ، لكنَّ فمها ارتجف ثم تلوى ببطء شديدٍ و أفرج عن ابتسامة و عينيها تلمع بالدُّموع .
كانت تريد الإبتسام لأجل أن تبتسم فحسب في خضم كل هذا ، فلربما سيموت كل ما بها إلا إبتسامتها ، و كأن الإبتسامة قد خلقت لوجهها ، و هي لغتها الوحيدة التي تتحدث بها في أوقات فرحها و تعاستها .
مرَّت إلى جانبي كشبحٍ صامت و تركتني هنا أقف كتمثال حجريٍّ ليس بمقدوره التَّكلم أو التَّحرك . لكنَّ شيئا ما سحبني من هذه الدوامة السوداء إلى شواطئ الإدراك لأتحرك نحو الغرفة باتآد .
كان والدي يتكأ على الأريكة و موليا ظهره للباب و يحدق بشرود إلى اللوحة المعلقة فوق المدفأة الحجرية ، لوحة لأمي و هي تحملني بين ذراعيها عندما كنت رضيعة و على وجهها أجمل إبتسامة .
- أبي !
همست بصوت باكي و أنا أقترب منه ، نظر نحوي بعينين محمرتين بالدموع و همس هو الآخر ببؤس :
- اقتربي عزيزتي ...
لف ذراعه حولي و راح يطبطب على ظهري بحنيَّة و أنا أبكي بحرقة كأنَّني لم أبكي في حياتي كلِّها .
- لقد انتهى كل شيء يا صغيرتي ، لن يكون هناك غيري و غيرك الآن !
رفعت راسي نحوه و أنا أقول بلوعة و تحشرج :
- و سيلفيا ؟!
مسح دموعي بأصابعه و همس :
- إنها إمرأة متفهمة و واعية و هي تفهَّمت سبب رفضي للزواج منها بكل سهولة ...
- هل فعلت ذلك لأجلي يا أبي ؟!
همست بصوت باكي و شعور من الذنب يقطِّع كياني ، لكنَّه هزَّ رأسه و قال ببساطة :
- بل من أجلنا ..
لقد أعطيتني درسا مهما سابقا ، لقد كنت تحاولين أن تضَّحي بسعادتك من أجلي دون أن تتركي أي إعتبار لنفسك ..
صمت ليردف :
- و أنا لم أكن سأسامح نفسي إن فضَّلت نفسي عليكِ ، فأنت أهمُّ الأشياء في حياتي كلِّها الآن يا صغيرتي .
قلت ببؤس و لوعة :
- لكنك تحب سيلفيا يا أبي ، و هي أيضا تحبك .
أخفض رأسه دقائق معدودة قبل أن يجيب بصوت مختنق كأن الأنفاس تنحبس عنه :
- أنا لم أستطع أن أنسى سيلين حتى هذا اليوم ، كنت اعتقد أنَّ الزَّواج من أخرى سينسيني ذكرياتها العالقة معي و أمضي قدمًا في حياتي من جديد معكما ، لكنَّ قلبي لم يشأ نسيانها و لم يشأ أن يؤرِّق صفو ذكرياتها بأخرى ...
أردف بعد ثوان من الصَّمت :
- يوم أن تحدثت إليك عن موضوع السَّفر و قلتي أنَّ سيلفيا ستتوقع مني إهتماما و رعاية كليَّة ، فكرت في الأمر مراراً و تكراراً و لأول مرًَّّة في حياتي لم أعرف ما عليَّ فعله .
لقد شعرت أنني أخون مبادئي و أخون سيلفيا ، فأنا لا أستيقظ و لا أنام إلاَّ على طيف سيلين ، و أنا أشعر بها دوما حولي ...
و لا يسعني أن أحبَّ إمرأة ..
غيرها ...!
💛💛
يومها ازداد إحترامي لوالدي أضعافًا و تمنَّيت سراً أن أرزق برجل شهم و عاشق مثله ..
و انتهى يومها الزِّفاف قبل أن يبدأ ، و لم يشأ أحدهم أن يفهم سبب الخلاف بين العريسين ...
حلَّقنا أنا و أبي بعدها نحو جزر المالديف في إجازة لشهر كامل حتى ننفض عناَّ التَّعاسة و الكآبة و نحيي سعادتنا المتوارية خلف ستائر الماضي .
كانت أفضل فترة أقضيها مع أبي في حياتي كلِّها بعد كل الرَّوع و الفراق و الوحدة الذين عانيتهم بين جنبات المزرعة الوارفة ...
و تذكرت الجنية الساحرة حين أتت تلك اللَّيلة لفراشي ، و سحبت الورقة من تحت وسادتي و وضعت مكانها قطعة حلوى ..
يومها فتحت عينيَّ بتثاقل لأرى والدي منحني الظهر نحوي و مبتسما بعذوبة ..
علمت وقتها أنَّ أبي هو الجنيَّة السَّاحرة التي كانت تحقق كل أمانيَّ و تضع قطع الحلوى مكانها ..
و أيقنت الآن أكثر من ذي قبل أنني أكثر من محظوظة لامتلاكي ....
أروع أب في العالم !
💛💛
تمت بحمد الله
أتمنى تعحبكم قصتي بما أنها أول قصة لي على الإطلاق
و لكل من مر من هنا
سلام على قبك ❤
أحبكم جميعا
تشااااااااو