عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-24-2008, 08:44 AM
 
مَنْ يملك أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه

مَنْ يملك أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه؟ / د. يوسف القاسم


لوكانت الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا, لشعرنا بطعم السعادة على حقيقتها, ولحلّت البركة في أموالنا, ولَكُنَّا ملوكاً للدنيا, لا خُدَّاماً لها.
أماوقد كانت في قلوبنا, فقد ملكتنا ولم نملكها, وصرنا نخدمها, ولا تخدمنا, وأصبح للسعادة طعم آخر مزيّف, نتذوقه بألسنتنا, ونتطعمه بحلوقنا, ولكن لايتسلّل إلى نفوسنا وقلوبنا, ونُزعت البركة من أموالنا!!
لا تقولوا إنها ليست في قلوبنا...كلاّ...كلاّ...!!
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نحب في الدنيا ونعادي فيها, فنحب للمصلحة وفيها ومنأجلها, وما إن تزول إلاّ ويزول الحب, وما إن ترحل إلاّ ويرحل الوصلوالإخاء, ويحلّ محله القطيعة والهجران..., وربما مع أقرب قريب...!! حتىأصبحنا أرقّاء للمصلحة, عبيداً للدرهم والدينار, ونسينا أنه قد "تعس عبد الدينار والدرهم, وتعس عبد الخميصة والخميلة..."!
إنها في قلوبنا؛ لأننا نبحث عن المال بأي طريق, ولو بطريق الحرام..., ونسينا أن "كل جسد نبت من سحت, فالنار أولى به"!
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نتظاهر بالدين, ونغرُّ الناس بمظاهرنا وأشكالنا؛ لنأخذأموالهم باسم تشغيلها في مساهمة هنا أو هناك..., ثم نشغلها في تسويق هرمي, أو في سوق مالي, أو نختصر الطريق فنلتهم أموال الناس باسم فشلالمساهمة...أو تعثّرها.., ونسينا أو تناسينا أن هذا من أكل أموال الناسبالباطل (لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ).[النساء: من الآية 29].
إنها في قلوبنا؛ لأننا نأكل الربا جهاراً نهاراً.., ونعلنه في قوائمنا المالية..., ونسينا أن هذا جزء من إعلان الحرب على الله تعالى(اتَّقُواْاللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِنلَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ).[البقرة: من الآيتين278-279].
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نتحايل على الربا بأنواع المسميات, باسم الفائدة, أوباسم التورّق المنظم, أو باسم التورّق المقلوب..., ونسينا أو تناسينا أن"الحلال بيِّن, والحرام بيِّن..", وأن من صفات اليهود أنهم يستحلون محارم الله بأدنى الحيل!
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نمارس الغش في كل شيء, حتى أصبح الغش عندنا شطارة, بلثقافة!! فنغش في مجال المقاولات, والمناقصات, والمزايدات, والمبايعات..., نغش بإخفاء عيوب المنتجات, أو بتقليد الماركات, أو بتغيير المواصفات. فيالسيارات, أو في المأكولات, أو الملبوسات..., بل تفاقم الغش في سلوكنا حتىأصبحنا نغش بتزوير الشهادات, أو بشرائها من محلات الخردوات...!! ونسينا أنالله قد عذب قوم شعيب؛ لأسباب, منها أنهم كانوا يمارسون الغش, فيطفّفون فيالكيل والميزان, ويقولونيَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء).[هود:79]. فأرادوا أن تكون لهم الحرية الكاملة فيما يصنعون في أموالهم, فأهلكهم اللهتعالى بالصيحة, وحذّرنا نبينا من صنيعهم, وقال: "مَن غشنا فليس منا".
الدنيافي قلوبنا؛ لأننا نمارس في سوق الأسهم أنواع الكذب والتضليل والشائعات, ونغشّ فيه عبر أسلوب التكتلات, أو ما يُسمّى ب(القروبات)..., ونفتقدالشفافية والإفصاح على مستوى مجالس الإدارات..., وننسى أننا أمة الصدق(اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ).[التوبة: 119].
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نفضِّل الأبعدين على الأقربين, فنبيع منتجاتنا فيالخارج, وبلادنا تئن من قلة المعروض؛ لنحقق أرباحاً إضافية على حساب وطنناوشعبنا..., وننسى أن الشارع الحكيم قد أوصى بالقريب خيراً, وقال: (...وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ).[البقرة:180].
,
هذا فيما هو من باب الإحسان, فكيف إذا حُرم القريب من منتجات بلده, وهو سيشتريها بحُرّ ماله, من أجل أن تُباع خارج حدود وطنه؟!
الدنيافي قلوبنا؛ لأننا نستغل موجة الغلاء, وتهيّؤ الناس لزيادة الأسعار, فنرفعالأسعار, وندّعي كذباً وزوراً أن الغلاء مستورد من الخارج, والواقع أنالمنتج محلي 100%, أو ربما كان مستورداً, ولكنه في الحقيقة لم يتأثر بموجةالغلاء, ولكنّا نأبى إلاّ أن نركب هذه الموجة؛ لتهيُّؤ الناس لها..., ونحلف أيماناً مغلظة أن ارتفاع الأسعار جاء قسراً, لا اختياراً..., وننسىأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد توعّد بالعذاب الأليم "المنفق سلعته بالحلف الكاذب", وأن "البيِّعان إذا كتما وكذبا, مُحِقت بركة بيعهما".
إنها في قلوبنا؛ لأننا نسجل العقود, ونقبل بالشروط, ثم لا نفي بها, ويكون تسجيلنا لها آخر العهد بها..., وننسى أننا أمة (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ).[المائدة: من الآية1].
إنهافي قلوبنا؛ لأننا نتزوج النساء الموظفات, ونأخذهن من بيوت آبائهنمعزّزاتٍ مكرّماتٍ, فنتزوجهن لا لنكرمهن, ونحسن إليهن, ولكن لنبتزّهن, ونسطو على رواتبهن, وإذا لم يستجبن لمطالبنا, نساوم عليهن آباءهن, لنستردالمهر، وربما تكاليف الزيجات, فيخضعن ويستسلمن..., وننسى أن الشارع قدأوصانا بالنساء خيراً, ونهانا أن نساوم بهن, فقال: (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ).[النساء: من الآية19].
إنها في قلوبنا؛ لأننا نعلمّ وندرس لنقبض آخر الشهر, لا لنخرِّج الأشبال, ونربي الأجيال, وننسى أننا أمة التربية والتعليم, فتركنا الأول, وفرّطنافي الثاني.
إنها في قلوبنا؛ لأننا نبيع ضمائرنا, لنقبض المال, وما أرخصالضمائر في سوق النفاق! وما أقبح البيع والشراء حين يكون على حساب الدينأو الوطن!! وتزداد هذه المعاوضة قبحاً حين تغيب الصفقة، ويظهر أثرها باسمالوطنية أو الحرية أو الإنسانية...الخ, وأنّى لشريف وأبيّ أن يبيع ضميرهبثمن بخس دراهم معدودة!! وللأسف, فقد قلَّ الشرف, وانحسر الإباء, فرخصالضمير, نتيجة لكثرة العرض, وقلة الطلب!
فظهر فينا من يوظف قلمه ليهدمشعائر دينه, ويقوِّض أركان وطنه, ليبني على أنقاضه دولة علمانية غربية, بلباس عربي, وكوفية عربية, وقد يكون ذلك بمقابل حفنة من المال!
وظهر فينا من يوظف لسانه؛ للتقرب من فلان أو علاّن, ولو كان ذلك بالكذب والبهتان!
وظهر فينا من يتخذ من مركزه أو مقر عمله أداة للإضرار بشريحة من الناس؛ لإرضاء هذا أو ذاك, كل ذلك من أجل دنيا فانية..!
فهل بعد هذا كله, نقول: إنها في أيدينا, وليست في قلوبنا؟!! أين نحن مننبي الهدى والرحمة محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي أتته الدنيا وهيراغمة, فحكم الدولة الإسلامية, فما ملكت عليه قلبه, بل كان يكسب المعدوم, ويحمل الكلّ, ويقري الضيف, ويعين على نوائب الحق, وهكذا كان سلفنا الصالح, ومن سار على نهجهم إبّان القرون المتعاقبة..., يملكون الدنيا, وما تملكهم, ويأخذون منها ما أباح الله تعالى, ويتقلّبون في نعمه, ويشكرون ولايكفرون...
وفي عصرنا الحاضر نماذج حيّة, ضربت بسهم في كل هذه المعانيالأخلاقية, والآداب الإنسانية, فامتدّ حبل الحاضر, ليصل بحبل الماضي, وضربالمسلمون مثالاً للمثل العليا, والأخلاق الفاضلة, والتخفّف من الدنيا, والتزوّد للدار الآخرة.
فأين منا من يسير على هذه الخطا النبوية, فيمسك المال بيده؛ ليكسب المعدوم, ويحمل الكلّ, ويقري الضيف, ويعين على نوائب الحق؟أينمنا التاجر الذي يشمِّر عن ساعده, ويفتح دفتر شيكاته, ليسجل عشرة ملايينأو أقل أو أكثر؛ لصالح إخواننا المحاصرين في غزة؛ ليساعد على كسر الحصار, ويسهم في إبطال مفعول الجدار, من أجل أن يطعم الجوعى, ويعالج المرضى؟أينمنا الثريّ الذي يغيث الملهوف, ويطعم الجائع - في إفريقية وغيرها منالبقاع المنكوبة- من أجل أن يحيل جوعهم شبعاً, وعطشهم ريَّا؟لنستشعر جميعا بأوضاع مَن حولنا, ولنعش آلامهم وأوجاعهم, ولنفق قبل أن تدنو ساعة الأجل, ويباغتنا الموت, ونقول بحسرة وألم: (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ).[المنافقون:10]. فيكون الجواب الإلهي: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا)!![المنافقون: من الآية11]. ثم يعقب ذلك الندم, ولات ساعة مندم.
نسأل الله تعالى أن يحسن لنا جميعاً الختام.
آمين, آمين...
رد مع اقتباس