المال الحلال
المفكر الاسلامي الكبير اللواء الركن : محمد شيت خطاب يرحمه الله
نشأ في بيت مضمخ بالتقوى ، فكان من صغره حمامة من حمائم المسجد ، يسعى للصلاة فيه ، ويحاسب نفسه على تخلفه عن صلاة الجماعة ، ويحرص أن يكون في أوقات الصلاة متفرغاً لها ، لا يشغله شاغل عنها . ومنذ كان في السابعة من عمره حتى يومه هذا ، لم تفتهِ صلاة واحدة في حله وترحاله ، فإذا سمع صوت المؤذن للصلاة ، بادر إلى أداء الفريضة المكتوبة فرحا مستبشراً ، كأنه مقبل على موعد سعيد ، فإذا لم تسمح له ظروفه الحياتية أن يؤدي الصلاة بعد سماع الأذان للصلاة مباشرة ، ظل يتململ قلقاً حزيناً ، كأنه يحمل جبلاً على صدره ، ولا يرتاح إلا إذا أدى صلاته باطمئنان وسكينة ، فإذا قضيت الصلاة ، عادت الابتسامة إلى وجهه ، واشرق وجهه بالنور ، وحمد الله كثيراً ، وشكره على فضله واحسانه عليه في ذكره وشكره وحسن عبادته .
تدرج في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، فلما أنهى هذه الدراسة انتسب إلى كلية التربية ، فتخرج فيها مدرسا في إعدادية الموصل للبنين . فكان يلقن طلابه فيها العلم والدين في آن واحد ، ويرعى الطلاب المتدينين رعاية خاصة . ولم يكن في حياته مسرفا ولا مقترا ، بل كان يبتغي بين ذلك سبيلاً ، فكان يقتصد من مرتبه الشهري ويودع ما اقتصده في المصرف في حقل : الحساب الجاري ، بلا ربح ولا فائدة ، ولكن لحماية ماله من السرقة أو الضياع . ونقلت وظيفته الرسمية إلى مدينة بغداد فنقل حسابه الجاري إلى أحد مصارف العاصمة واصبح حسابه يتزايد مع الأيام . وكان يقضي أيام الدراسة في بغداد ، ويقضي أيام العطلة الصيفية كل عام بين أهله في مدينة الموصل الحدباء . وفي يوم من أيام العطلة الصيفية من سنة 1406 ه ، قرر أن يشتري له داراً صغيرة في مدينته الموصل ، فاتفق مع مالك تلك الدار على ثمنها ، ودفع له جزءاً من ثمنها ضماناً لصاحب الدار وله ، ودليلاً على الاتفاق على البيع والشراء بدون تردد ولا نكول . وسافر من الموصل إلى بغداد ، ليسحب من المصرف ما اقتصده فيه من مال خلال عشرين سنة من سنيّ حياته في الوظيفة التعليمية ، بالإضافة إلى ما ورثه عن أبيه من مال ، فأصبح يملك مبلغاً من المال ، صغيراً في مقداره ، كبيراً في قدره ، لأنه مال حلال لا شائبة فيه من مال حرام . وللحلال قدره عند الله والناس . وقصد المصرف الذي فيه حسابه الجاري ، وسحب جميع رصيده ، ووضع نقوده في حقيبته اليدوية التي تضم هويته الشخصية وأوراقه الخاصة به ، ثم يمّم شطر باب المصرف ، ليغادره إلى الفندق الذي يأوى إليه . ولم يكن يدري ، أن أحد اللصوص ، كان يراقبه عن كثب ، وينوي الاعتداء على ماله الذي تسلمه من المصرف ، فلما وصل صاحبنا باب المصرف ، وانطلق إلى الشارع ، هاجمه اللص الذي كان يترصد خطواته ، وبادر إلى اختطاف حقيبته بما فيها من مال ووثائق ، ثم امتطى دراجة بخارية كانت قريبة منة بانتظاره ، وكان شريك اللص سائق تلك الدراجة البخارية قد أعدها سلفا لانطلاق فورا ، فانطلقت الدراجة البخارية سريعاً باللص الخاطف وبصاحبه سائقها ، تجري في شارع الرشيد المزدحم بالسيارات ومختلف وسائط النقل الأخرى ، وجرت الدراجة حلزونياً بسرعة خاطفة ، حتى غابت عن الأنظار خلال لحظات معدودات . وأصيب صاحب الحقيبة المخطوفة ، بعد خطف حقيبته ، بدون توقع خطفها ، بمباغته مفاجئة كاملة شلت تفكيره لبضع ثوان ، فلما عاد إليه رشده ، استنجد بمن حوله من الشرطة والناس ، ولكن اللص الذي اختطف الحقيبة ، كان قد اختفى عن الأنظار ، وفات الوقت المناسب للحاق به والقبض عليه . لم يكن لدى صاحبنا شهود على نهب حقيبته ، ولم يكن قد عرف الذي نهب الحقيبة شكلا أو اسما ، لأن العملية كلها جرت بسرعة خاطفة وبدون توقع ، فلم ينتبه هو ولا غيره إلى شكل الخاطف أو سمته على الاقل ، فلما قصد الشرطة مخبرا بالحادث ، سجلت دعواه ضد شخص مجهول الهوية ، فكان الأمل في العثور على اللص الخاطف والحقيبة المخطوفة ضعيفا جداً . وآوى الرجل إلى فندقه ، وقد خسر ما ادخره وورثه في سني حياته ، وخسر الدار التي تعاقد على شرائها ، واصبح حائرا لا يدري ما يصنع ، ولا يدري كيف يتصرف ، ولم يبق أمامه غير اللجوء إلى الله عز وجل يدعو ويتضرع ، والصبر على ما أصابه من ضرّ . أما اللص الخاطف ، وصاحبه وشريكه سائق الدراجة البخارية ، فمضيا على عجل حتى قطعا شارع الرشيد ، ثم سلكا شارع أبي نؤاس إلى آخره ، واتجها إلى الكرادة حتى الجسر المعلق ، ثم سلكا الطريق السريع باتجاه الدورة ، وكان انطلاق الدراجة البخارية سريعا للغاية ، وكان السائق ماهرا جداً في سياقته وفي خبرته بالطرق ومسالكها ، وقبل عبور الجسر إلى الدورة ، اصطدما بسيارة قادمة من الجهة المعاكسة ، وكان وراء الدراجة البخاري سيارة أخرى مسرعة أيضا ، فلم يستطع سائقها السيطرة عليها ، لتحاشي الاصطدام بالدراجة البخارية المدهوسة ومن عليها ، فدهس الدراجة البخارية ودهس الخاطف وصاحبه معها ، وكانا قد دهسا أول مرة بالسيارة الأولى ، وبذلك دهسا مرتين خلال ثانيتين أو أقل ، ففارقا الحياة ، واصبحا كهشيم مسحوق . وترجل صاحبا السيارتين ، وترجل أصحاب السيارات العابرة ، وتجمع الناس ول الجثتين ، وحضرت الشرطة ، وعثروا على الحقيبة السوداء . وحملت الشرطة القتيلين إلى المستشفى ، واجرت التحقيقات مع سائقي السيارتين اللتين دهستا القتيلين ، وأودعوا الحقيبة في مكان أمين من أمكنة مقر الشرطة ، بعد جرد ما فيها من نقود ووثائق . وكان في الحقيبة المال كاملا ، وكان فيها أوراق وهوية صاحبها الأصلي التي نهبت منه ، فظن محققو الشرطة ، أن الهوية تعود للقتيل ، فاستدلوا بها على شخصيته ، إذ لم يكونوا على علم بأن الحقيبة منهوبة ، وأن الذي وجدت عنده هو ناهبها لا صاحبها ، وقد كان وجهه مشوها بشدة ، لأنه كان مسحوقاً سحقا كاملا ، فلم تستطع الشرطة مقارنة تصوير الهوية بوجه الشخص المدهوس ، لأن ذلك كان مستحيلا . وأرسلت الشرطة الحقيبة برفقة الشخص المدهوس ، إلى الموصل ، على عنوان صاحب الحقيبة بدلالة الهوية الشخصية ، لا على عنوان الشخص المدهوس ، لأنه لم يكن يحمل هوية شخصية في حينه تدل عليه ، ولعله كان قد تخلى عنها في مكان ما ، قبل أن يقدم على فعلته ، حتى لا تنم عليه . وصعق أهل المعلم الذي قصد بغداد لسحب رصيده من المصرف لموته ، فقد تسلم أهله جثته عظاما مسحوقة ولحما مشوها ، فأجروا مراسيم الدفن ، وتقبلوا التعازي في وفاته . وبعد سبعة أيام من انقضاء أيام العزاء ، عاد صاحبنا من بغداد إلى الموصل ، وكان قد مكث في فندقه ببغداد عشرة أيام يراجع الشرطة كل يوم ، فيقال له : لا جديد . وطرق باب دار أهله ، فبهت الذي فتح الباب ، حين رأي الذي حسبه قد مات منذ عشرة أيام قد عاد إلى الحياة من جديد ، فنادى بأعلى صوته ، كأنه فقد عقله ، فلان عاد من القبر ، فلان بعثه الله حياً . وتجمع أهله من حوله فرحين ، ولكن الدهشة عقدت ألسنتهم . فقال لهم صاحبنا : ما الخبر ! ولما أخبروه بأن الشرطة ، جاءوا بجثته وحقيبته وهويته الشخصية وأوراقه الخاصة ، فدفنوا الجثة . وتقبلوا التعازي فيه ، قال لهم : إنكم دفنتهم جثمان رجل آخر هو الذي نهب حقيبتي بما فيها من نقود وأوراق ، وهرب ، فسحقه الله ، وأعاد الأمانة إلى صاحبها . وجاء الأهل بالحقيبة وبما فيها ، وهويته الشخصية التي استدلت بها الشرطة على عنوانه ، فحمد الله وشكره ، وقال : ( هذه بضاعتنا رُدت إلينا ) . لقد كان الله سبحانه وتعالى للذي نهب الحقيبة والمال بالمرصاد ، فسحقه سحقا مرتين هو وصاحبه ودراجته البخارية ، وأعاد المال إلى صاحبه بلا عناء ولا تشبث : ( إن ربّك لبالمرصاد ) ، صدق الله العظيم . وعاد المال الحلال إلى صاحبه ، ولو كان مال حراماً لما عاد أبدا ، لأن المال الحلال يبقى ويبقي صاحبه ، والمال الحرام لا يبقى ولا يبقي صاحبه ، لأنه ليس صاحبه ، ولا حق له ببقائه عنده في شرع الله ، والله كفيل برد الحقوق إلى أصحاب الحقوق ، لو بعد حين . وويل للذين يقتنون المال الحرام ويحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم .