-آماس
الفصل الثاني : مشاكِل جديدة للجميع !
إن قالَت الصَهباء بأنها أرادَت حُكم بابِل فهىّ كاذِبة ، هىّ لم تَرَ نَفسها أبدًا كأميرة ذلك البلد ، ولا حتى مرةً واحِدة !
حَبيسة غُرفتها منذ دخلت القَصر ، ترفُض الطعام والشراب ، مُكوَمةٌ على نفسِها فَوق السَرير بأحد أركانه ، الحائِط مؤنِسُها الوحيد تُحَدِقُ فيهِ كما لو كانَ شَخصًا ، تشكو إليهِ فى صمتٍ وكأنهُ يستَمِعُ إلى رَوحِها بطريقةٍ ما تنعو فقيدُ قَلبِها ، عَيناها مُحمرتان بِشدة و خدّاها شاحِبا اللون .
لم تكن تسمح لأحد الخدم بأن يراها فى تلك الحالة ، لطالما كانت "كيفونا" شخصية قوية لا تَنكَسِر بِسهولة ، كما أنها الآن مَلِكة وعليها أن تُحافِظ على صورَتَها .
كانَ "أطيف" الشخص الوحيد الذى يدخُل غُرفَتها ، يُطعمها عُنوةً ما يَتيسر له أن يفعل ، ظَنَها تحتاجُ إلى هذا ، التعبير عن حُزنها ، لَكِنها أطالَت !
الأمر لم يعُد عاديًا ، يُحاوِل إخراجها من تلك الغُرفة عَبَثًا ، أحيانًا يمسح على رأسها بِحنان لكنها تنظُر إليهِ بِعيونٍ ميتة ما تَلبث أن تتجاهله وكأنَهُ غَير موجود !
فَكَرَ مليًا ولم يَجِد حَلًا سِوى عَودَة "مالِك" فانطلق إلى مدينتهم الأم باحِثًا لكنه لم يَجِده فى كُل الأماكن التى اعتادوا التَرَدُد عليها ، أينَ يُمكِن أن يَكون "مالِك" ؟!
*
لَم تَكُن مقابِرًا فِعليًا ، كانَ قَبرٌ وحيد فى مُنتَصَف اللا مكان جالِسٌ إلى جِوارِه شابٌ تُرابي الشَعر بُني العينَين ، لم يَبد واعيًا جِدًا اثناء ثَرثرَته لصديقه الميت وزُجاجة الخمر تِلك تتأرجَح بيدُه اليُمني يمينًا وشِمالًا ، نَظَرَ لِلقبر سائِلًا : أتُصَدِق "كيفونا" ؟!
لم يَكُن يَدر إلى أينَ يذهَب غير هذا المكان ! ، "قاسِم" لم يَكُن مُجَرَد صَديق أو حتى شَقيق ، كان فِعليًا أباه !!
كانَ "مالِك" صغيرًا جِدًا لا يزيد عمره عن العشر سنين حينَ التقطَهُ "قاسِم" المُراهِق مِن أحد الشوارِع ليُربيه ، مازالَ يتَذَكَر ذَلِكَ اليومَ وكإنهُ الأمس !
سَقَطَ ذَلِكَ الطِفل على مؤخِرَتَه عندما دَفَعُه مالِك أحد المَحِلات الصغيرة ولم يَكتَفِ برفض توظيفه فقط ، كانَ رَث الهيئة ضعيف البَدَن لا يبدو قادِرًا على شيء.
أتاهُ صوتٌ لِشابٍ يَقِفُ مُستَنِدًا على أحد الجُدران قريبًا منه : أينَ أباكَ ؟!
ظَنَهُ يسخَر مِنه فنهض سريعًا عن الأرض لينفُض الغُبار عن ملابسه : لا شأنَ لَكَ يا هَذا !!
ظَلَ "قاسِم" يتبع الطِفل طولَ اليومَ ويُراقِبه يُرفَض المرة بعد الأُخرى ، لا أحَد يرضى بتوظيفه لِصغر سِنه ، كان "مالِك" يلحظه خلفه لكن لا يفهم ماذا يريد ذلك الشخص الغريب !
-أتَعرِفُ من أنا ؟!
سَخِر "مالِك" : من عَساكَ قد تكون ؟ شخصٌ لديه الكثير مِن وقتِ الفراغ ليسير خلفَ شَخصٍ مِثلي لِمُجرد السُخرية !
رَدَ الأصهب : أنا الأمير "قاسِم" !!
تَجمَد الطِفل لثانية من الصدمة ثم نظر إلى الشَعر الأحمر لِمُحدثه ، شعر أحمر ؟ نادِر جِدًا !
هل هوَ فِعلًا كما يُشاع ؟!
تَنَحنَح قبل أن يَنطِق : حتى وإن كُنت ذلك المدعو "قاسِم" فلا تَدع نَفسَكَ أميرًا ، الجميع يعلم بأن الملك لم يعترف بابنه الأصهب !
أدارَ الشاب عينيه بملل : فقط اجِبني عن سؤالي ! لن تَخسَرَ شيئًا إن أجبت!
نَظَرَ الطِفل بعيدًا خَجِلًا : لقد هَجَرَنا أبي ..
سألَ "قاسِم" : وأمك ؟
-ماتَت بالأمس.
-لديّ وظيفةٌ لك ، ما رأيك ؟!
*
كانَ "أطيف" يسيرُ مُتَجِهًا إلى قَبرِ رفيقَهُ الأصهب ، ذلك هوَ المكان الأخير المُحتَمَل تواجُد "مالِك" فيه ، الصحراء تَكونُ بارِدة ليلًا لذلك تخرُج الأفاعي والعقارِب مِن مخابِئها ، سَمِعَ فَحيحَ أفعى لينظر إلى جِوار قدمه ، لم يفزَع أو حتى يَطرَف لَهُ جِفنٌ بل عادَت ذاكرته للوراءِ سِنينًا.
"أطيف" الطِفل لم يَعرِف أبواهُ قط ، وعى نَفسَهُ وحيدًا ، منبوذ فى أطفال قريَته ، بسبب عيناه الذهبيتان الناعستين ، لم يكُن لَهُ القُدرة على الضَحِك أو البُكاء ، لكن هذا لم يكُن سبب خَوف الجميع منهُ بل الحيات التى تَزحَفُ خلفه جيئةً وذهابًا حاميةً إياه مِن الجميع وهوَ مُجرَد طِفل فى السادِسة .
ظَنوهُ شيطانًا !
لَقد كانَ دومًا منبوذًا لاختلافه ، ذَلِكَ حتى "قاسِم" !
لم يرَ "قاسم" كأب أو أخ أو صديق ، كانَ مُنقِذًا حقيقيًا ! ، أول ضَحِكاته كانَت على مُزحة ألقاها "قاسِم" ، وبُكاءُه لم يكُن إلا على مَوت نفس الشَخص!
*
لم يُبد "مالِك" أي إشارة تدُل على إنه قد سَمِع خطوات "أطيف" المُقتَرِبة ، رُبما هذا أمرٌ عادي كون خطوات عازِف الناي صامِتة !
تَنَحنَح القادِم ليُخرِج "مالِك" مِن شِروده ، نَظَرَ إليهِ بِعيونٍ ميتة دون أن يَنطِق مالَبِث أن حَوَلَ نَظَرُه عنهُ ، حاوَل "أطيف" كَسر الصَمت لكن ماذا يقول ؟!
زَفَر : نحتاجَك .
أعادَ "مالِك" نظره إليه ليرفع يده فى الهواء ، حَرَكة فَهِمها مُحدِثُه ليقتَرِب ويُمسِك يده جاذِبًا إياه حتى وَقَف على قدميه ، بدءا بالسيرِ عائدين ، هكذا بِدونِ كَلِمة واحِدة !
*
كانَ هُناكَ شيءٌ غريب ، لم تَكُن "روما" أبدًا بِذَلِكَ الهِدوء ، سارَت "آلانيس" مُتعَجِبة مِن الأمر وإلى جِوارِها أُختها الصُغرى التى تَمَسَكَت بيَدَها مُتمتمة : لدىّ شِعورٌ سيء ..
مَرَا بعدها جِوار "مشانِق" المُجرمين ، ليسَت المرة الأولى لهم فى رؤية شيء كهذا ، المُجرِمون فى كُل مَكان ومن لديهم السُلطة لِمُعاقبَتِهم أيضًا موجودين ، لكن ما أثار استِغراب الشقراء العشرينية هوَ كون جميع المُعَلَقين مِن أعناقِهم نِساء ؟
لَم أعلَم إنّ للإجرامِ جِنسٌ دونَ الأخَر !
تابَعا السير حتى وصلا إلى قريتهما ، لكنها كانَت رمادًا ، لم تبد نفس القرية من الأساس ، لا أحَدَ هُنا .
شَعَرَت بيدٍ تَحُط على كَتِفَها لتلتفت سريعًا وَقَد أرعَبَها هَذا ، إنها مُجرَد سيدة عجوز ، جارَتهم .
زَفَرَت باطمئنان : إنَهُ أنتِ !
ضَمَتها سريعًا : لن تُصَدِقي ما حَدَثَ معي !
رَدَت الأُخرى : هذا ليس وقت الثرثرة عن أشياءٍ حدَثَت وانتهت ، لدينا مَشاكِلٌ أكثَر !!
توسَعَت عينا "آلانيس" : ما الأمر ؟ لِماذا القرية .. بِهذا الشَكل ؟!
-إنّهم يسعون خَلف الساحِرات ! يشنِقوهُن ، يَحرِقوهُن ، ما كانَ عليكِ العودة !! أنتِ على قائِمَتُهم !!
دَلَتها العجوز على طريق تخرُج مِنهُ إلى قريةٍ أُخرى لم تَصِلها أوامِر المَلِك الجَديدة بعد !
*
كانَ على جانبي الطريق شَجرٌ غَير ذَلِك فهو مقطوعٌ تمامًا ، ظَهرَ جُنودٌ مِن اللا مكان ليُمسكوا بها من ذِراعيها ، لم تكُن لِتُقاوم لولا شقيقتها ، لا تستطيع تركها لهم !
لكن كيفَ عَرفوا بوجودها هُنا ؟! أيُعقَل أنّ العجوز مَن دَلَتهُم عليها ؟!
*
مَرَ يومان وهما محبوستان بذلك المكان المُظلِم ، لا تأكُلانِ ما يُشبِع لكن لحُسن الحظِ تَشربان ، كانَ معهم الكثير من الأُخريات ، دَخَل أحد الجنود ليجذب فتاةً من ذِراعِها لكنها بدأت بالصُراخ وجذب نفسها للجهة الأُخرى ثم تحول صراخها ومُقاومتها إلى بُكاء يائِس وَولولة !
سألَت "آلانيس" بنبرة هادِئة مُحاولة ألا توقِظ أختها النائمة بِحُضنها : لِمَ كانت كُل تلك المُقاومة ؟ أي شيء أفضل من مكوثنا هُنا !!
جاءَ صوتٌ من بعيد ردًا عليها : لا أظُن قِتال النِمور والأسود أفضل مِن مكوثنا هُنا !!
قِتال النمور والأسود ؟!!
*
كانَت "ليمالا" تَقِف أمامَ مِرآةٍ طويلَة مُثَبَتة بالحائِط ، تَنظُر إلى ساعِدَيها وَعَضَلاتِها بِإعجاب ، أو لِنَقُل عضلات "هينالي" الذى أتَخَذَت شكله ، لم تَعلم أن الفرق بين الرجُل والمرأة بتلك الضخامة ، لم تختبر فى حياتِها الشِعور بِهكذا قوة أبدًا !
دَخَلَ أحَد الحراس دون أن يطرُقَ الباب لِتُخفي صَدرها المكشوف بيديها بِسُرعة بطريقة كوميدية مما جعله ينظُر إليها وكأنها قد جُنَت ! هوَ يراها "هينالي" !!
أنزَلَت يديها بِبطء لتتنحنح قبل أن تنطِق : يُجدر أن يكونَ لديكَ ما يستدعي دخولك المُفاجيء هذا !!
تحوَل وجهه من الدهشة إلى الهلَع فى ثوانٍ بعدما تذكر ما جاء من أجله ! ، كانَت جبهته تلتمع بالعرق ! ، يبدو أن أيًا كان ما جاءَ بِهِ فهوَ أمر طارِئ قد جعله يركض !!
-إنّ الهكسوس على الحِدود !
توسَعَت عينيها : بِحَقِ رَع !
بدأت بالدوران حول نفسها : وكأنهم عَلِموا بِسفر الملك والملكة ! هل كانوا ينتظرون شيء كهذا ؟! لديهم جاسوسٌ هُنا بِلا شك !!
*
على سَطح سفينة تكاثَرَت الضوضاء ، بَحارَة قد لفحتهم الشمس لِتُغَير ألوانهم للأسمر ، كانَت عضلات ذِراع أحدهم تلتمع وهوَ يَحمِلُ برميلًا إثر العَرَق .
وفى ركُنٍ جَلَسَ أحدهم مُسنِدًا ظهره للحائِط وقد إتَشَحَ بالسواد مِن رأسه لأخمص قدمه مخفيًا تمامًا عن عيون الأخرين ، لا شيء واضِح مِنهُ سِوى كَونَهُ شابًا فبُنيانُه لا يصلُح كَبُنيانِ فتاة.
ارتطمت موجة بالسفينة لترتج رجة هائِلة طارَ الشاب بسببها إلى الناحية الأُخرى ، جيد إنَهُ لم يسقُط فى البحر !
أنزَلَ القلنسوة السوداء التى كانت تُغطي رأسه لينظُر لتلك العاصِفة القادِمة فى الأُفُق ، السماء أيضًا مُلَبَدَة بِغيومٍ مُظلِمة .
نَطَقَ صاحِب الشعر الأسود والبشرة البيضاء الذى لم يكُن سِوى "هينالي" : هذا لا يُبَشِر بالخَيرِ أبدًا !
*
كانَت سيدة عجوز تسير على رِمالٍ باهِتة اللون جوار البحر وهىّ تحمل فى يدها سَلة بِها بعض الخِضراوات التى اشترتها مِن السوق أو حتى اقتطفتها بنفسها.
تأمَلَت حال البحر وفوقه السماء لتغمغم مُحَدِثة نفسها : لا يبدو الوضعُ جيدًا !
لم تلبث أن شَهِقت بعد أن لاحَظَت جُثة ما قُرب قدمها ، كانَ شابًا ، سَعل بِشدة مرتان متتاليتين ليخرج من جوفه الماء المالح.
جلست جِواره لِتُبعِد خُصلات شعره السوداء عن عينيه المُحمرة بسبب الماء .
سألت مُستفسرة عن حاله : هل أنتَ بخير ؟!
أومأ مُجيبًا ، لاحَظَ بعدها شَعرها الرمادي الذى جذبته لتربطه فى رأسها بربطة بيضاء وعيناها الحنونتان ، تبدو كشخصٍ جيد كِفاية !
سأل وهوَ يعتدل ليُصبِحَ جالِسًا : أين أنا ؟!
أمالَت رأسها قبل أن تُجيب : فى فينيقيا .
تردد قبل أن يسأل السؤال التالى لكن لا مَفر مِن السؤال : .. مَن أكون تحديدًا ؟!
لاحَظَت الدماء التى تسيل من جانِب رأسه ، يبدو أنه تلقي صدمة أثرَت على ذكرياته ، لكن الدم على جبهته لم يكُن الشيء الوحيد الذى لاحظته بل لاحظَت أيضًا بنيته القوية ، شخص كهذا يُمكن أن يَكونَ مُفيدًا جِدًا !
-أنتَ ابني !
*
تَذَمَرَت ذات الشَعر الغُرابي وهىّ تسير خلف الزُمرُدي ضامةً نَفسَها : هل تَعلَمَ حتى إلى أينَ أنتَ ذاهِب ؟!
رَدَ بتململ : لا ولكن أعلم إننا إن بقينا واقفين سنتَجمَدُ حتى المَوت !
زَفَر : كان على "هينالي" أعطاءنا ملابسٌ مُناسِبة لهذا المناخ على الأقل !
سَخِرَت : ألا تظُن إنَهُ خَدَعَنا ؟! رُبما يكون قد أرسلنا هُنا لِنُلاقي حَتفَنا !
قَضَبَ حاجِبيه بِحيرَة ، قد تكون مُحِقة !
تابَعَت بعد ثانية : هوَ خائِن وأنتَ لا تختلف كثيرًا عنهُ !
هىّ تقرأ قلبه الآن ، تعلم كُل شيء عن إنكاره لها ، عن عدم رغبته فى المجيء لمساعدتها فى الحرب ، عن مُحاولة "مالِك" لرده لرشده ، هىّ تعلم كل شيء الآن !
زَفَرَت : ليسَ وكأني ألومَك ، أنتَ مُجرَد طِفل ! لا تَعلم بِما تشعُر مِن الأساس ! وأنا ..
توقفت عن الحديث مُستدركة : فقط لِنَقُل أنّ الموتَ غَيَرَني !!
تَوقَفَ عن السَير لترتطم بِظهرُه ، تَلَمَسَت أنفَها مُتأوِهة ، كادَت تزجره لكنه سبقها ناطِقًا : انظُري ! كهف !
*
كانا كِلاهما يجلسُ أرضًا ، "جوسِف" مُسنِدًا ظهره لحائِط الكهف و"آماليا" مُسنِدة رأسها على كَتِفُه ، لم يكُن لديها الطاقة الكافية لِكبرياء زائِف !
مَرَ يومان على دخولهما لذلك الكهف ، العاصفة الثلجية فى الخارِج لم تهدأ بعد لكن تلك ليسَت مشكلتهما حاليًا بل الجوع !!
يومان بدون طعام ! ، أما الشراب فَثَلجٌ !
نَطَقَت بيأس : أتَظُن أننا سنموت هُنا ؟!
رَدَ بنفس نبرتها : أفهم لِمَ لم نُحضِر ملابِسًا أكثر لم نكُن لنتوقع هذا المكان أبدًا نحنُ سُكان الصحراء لكن ألا نُحضِر طعامًا ؟ لقد تسرعنا !!
وضَعَت كفها على فمه فجأة لِتُخرِسه ، أشارَت بعينيها على فوهة الكهف ، شخصٌ ما قادِم !!
أو .. شيءٌ ما ..
ذَلِكَ الظِل .. أهوَ دُبٌ ما ؟!
***