حياة الخلفاء الزاهدة ، وامتناعهم عن استخلاف فرد من أسرتهم :
العلامة الداعية الكبير
أبى ألحسن الندوي
ولا أدل على إخلاص هؤلاء الخلفاء الأربعة واتصالهم بالله ، وعلى عظمتهم وتفردهم بهذه الخصائص ، أنهم لم يرضوا بالتمتع بذلك الثراء العظيم الهائل ، والقناطر والمقنطرة التي كانت ثمرة قرون ، وبدأت تتدفق كالسيل من الروم وفارس في أيامهم ، ولم يعيشوا بالرغم من ذلك عيشه رفاهية ، فضلاً عن التنعيم والبَذْخ ، بل إنهم اقتفوا آثار الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وآثروا حياة الزهد والإيثار على كل متعة ورخاء ، بل الواقع أنهم كانوا أرفه حالاً وأهنأ بالاً قبل أن يتولوا الخلافة .
يقول جبون (Gibbon) :
((لقد تمت تربية أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أحوال القلق والحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت بُشرى الجنة قد أغنتهم عن جميع اللذات والأخطار ، ولكنهم تسلموا زمام الحكم في سن متقدمة ، وكان الدين والعدل قد حلا في أعينهم محلا أكثر أهمية من الحكومة ، وقد كانت حياتهم الساذجة أصبحت عادة لهم ، وكانت تنشر الدهشة والاعتبار في نفوس ملوك العالم الذين كانت شعارهم الأبهة والشوكة)) .
كما أن واحداً منهم لم يستخلف ابنه أن أقرب فرد من أسرته ، على ما كان يتمتع به من سلطة وكانة ، بل بالعكس من ذلك فإنهم أوصوا أبناءهم وأقاربهم بالابتعاد عن الخلافة وأوصوا المسلمين كذلك بأن لا يختاروهم لمنصب الخلافة أبداً ، الأمر الذي لا تستمبط منه إلا نتيجة واحدة – في ضوء تجارب الفطرة والدوافع الإنسانية ، وتقاليد الحكام والحكومات التي تمتد على قرون بل على آلاف السنين- وهي أنهم كانوا مخلصين بكامل معنى الإخلاص ، متصلين بالله تمام الاتصال ، بعيدين عن كل غرض ظاهر ، وباطن ، لم يتولوا مسؤولية الخلافة إلا لابتغاء وجه الله ونشر دينه ودعمه ، ولسد أبواب الفتن والأخطار ، وإلا – كما تزعم بعض مدارس الفكر- فإن صح أن هؤلاء الخلفاء كانوا قد تولوا الخلافة لأغراضهم الشخصية ، وطلباً للجاه والحصول على المنافع المادية ، فلا معن لخسران الآخرة والتعرض لسخط الله من غير انتفاع بالدنيا ، إنه الإثم الخالص الذي ليست وراءه لذة ، وذلك ما لا يرضى به عاقل ، لأنه يرادف المثل الذي يقول : ((تمخض الجبل فولد فاراً)) .