وضاعت لفافة اللحم !!
استيقظ من نومه لصلاة الفجر.. توضأ وأيقظ أم الأولاد لتعد إفطاره وكوب الشاي المضبوط ولقيمات يقمن أوده أثناء النهار خلال مناوبته الصباحية في مصنع الحديد والصلب.. لا تعرف الشكوى طريقا لقلبه بالرغم من ضيق الحال، فهو في المنطقة الوسطى بين الستر والفقر.. أربعة أبناء هم نور حياته وزهرة عمره.. يكفيه النظر إليهم ليشبع.. والاستماع إلى ضحكاتهم تملأ البيت الصغير ليرتوي.. زوجته من النساء اللائي يصدق عليهن الحديث الشريف "إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه".. سيدة من أسرة طيبة اكتفت من التعليم بفك الخط.. نظيفة حتى بأقل القليل مما تملكه من ملابس.. بيتها تفوح منه رائحة الصابون العطرة والأكلات الطيبة.. لا يعرف اللحم طريقه إلى بيتهم إلا مرة ليلة كل خميس بينما تتفنن الأم طوال أيام الأسبوع في إعداد الوجبات البديلة الرخيصة والشهية في آن واحد.. الأب في المصنع أمام الفرن الكبير يصهر الحديد وينصهر معه يوما بعد يوم.. يعمل طوال مناوبته بجد وإخلاص ولا يستريح إلا للصلاة.. لم يغب عن عمله يوما واحدا فهو دائما حاضر، لا يدعي المرض ولا التعب المفاجئ..
يغتسل بعد انتهاء العمل ويرتدي ملابسه النظيفة التي تعدها زوجته بمهارتها وعنايتها الفائقة به وبمظهره رغم رقة حالهما.. لا يستدين من أحد ولكنه دائما يهب لنجدة معارفه وأصدقائه وجيرانه من جنيهاته القليلة المعدودة.. محبوب من الجميع.. هادئ الطباع.. خجول.. يعرف معنى الحفاظ على العهد وحرمة لقمة العيش.. يعود إلى بيته كالطائر الملهوف ويستقبله أبناؤه بالصياح والعناق والقبلات..
اليوم ليلة الخميس.. سيعود إليهم محملا بلفائف اللحم ليتناولوا عشاءهم الأسبوعي ويخططون معا لنزهة يوم الجمعة.. أعد له العامل الشواء وحمل لفائفه سعيدا فرحا.. تخيل ابنته الصغرى ذات الأعوام الخمسة وهي تحتضن ساقيه بينما إخوتها يهرعون إليه يحملون أكياس ولفائف الطعام ويسارعون بإعداد المائدة بفرحة غامرة.. أراد اختصار الطريق فقرر المرور بشارع جانبي مظلم دائما لا يعرف النور له سبيلا صيفا أو شتاء.. سار بضع خطوات وتوقف مرتعشا من شبح ينبش في الظلام بصندوق القمامة.. دقق النظر فوجدها عجوزا متهالكة تبحث عما تسد به جوعها بين المخلفات.. رق قلبه لمظهرها البائس.. طرد من مخيلته صورة أبنائه الذين ينتظرون عودته بفارغ الصبر ودون تفكير مد يده بلفة الطعام ووضعها بين يديها.. سار في طريقه.. ظل الشارع مظلما على حاله إلا من عينيها اللتين أشرقتا بالدموع، وقلبه الذي فاض بالرحمة.
وصل إلى بيته متوجسا من خيبة أمل الصغار.. فتحوا الباب وهم يتصايحون بسعادة.. جذبته ابنته الصغرى لمائدة الطعام.. وجد مائدة عامرة بكل أنواع اللحوم والطيور.. نظر إلى زوجته مندهشا.. بادرته قائله: "ياخويا.. ده رزق ربنا بعتهولنا.. أم محمود عملت ليلة لله علشان ابنها نجح في الثانوية العامة.. عقبال أولادنا.. قادر يا كريم".