عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-14-2018, 04:30 AM
 
ألماسي ملاحظات عن الظلام..!!






كان العجوز لايزال يتحرك .. رأت هي كيف إنحنى الرجل الشاب مرة أخرى وضربه بقوّة .. جَمُدَ العجوز الآن .. هو فاقد الوعي أو ميت .. إعتدلت قامة الرجل الشاب .. كان الفزع قد سيطر عليها إلا أنها رأت كيف سحب الشاب ساقه إلى الوراء ورفس العجوز المتمدد .. كانت الرفسات تضيع في الجسم المضروب في الشارع .. صارت ممصوصة، والجسد تمدد مرة أخرى على الرصيف كالسابق .. ربما هو ميت .. لم يتحرك ولم يشعر بالضربات وعددها .. كان جسده متمدداً في الشارع .. ترك الرجل الشاب الآخر الملقى وإختفى هناك عند ركن الشارع الجانبي .. إستغربت من أنه لم يركض بل مضى بخطوات سريعة كأن شيئاً لم يكن .. لا أحد .. ولاحتى هي .. ببساطة حدث ذلك صدفة وإنتهى صدفة.
إنتبهت الآن إلى أضواء السيارات والتي تنبعث من أسفل الشارع، وأن الملقى مسّه الوضوح فجأة .. لا أثر للدماء .. والسائق غيّر أضواء سيارته مرات عدة، فقد إنتبه إلى أن شيئا ما قد حدث، وتوقف أمام المتمدد ثم خرج من السيارة .. إنحنى على العجوز .. بدا عاجزاً حين جال ببصره حواليه .. في الشارع كان الناس مسرعين وبعدها بقليل كان هناك حشد حول المتمدد .. لقد فارق الحياة .. بقيت هي في النافذة تشاهد الأحداث في الشارع .. وفي كل مرة حين حجب أحدهم العجوزعن بصرها كانت تشعر بموجة من ألم أصّم تجتاحها .. كما لو أنها كانت مهجورة ولم يسمحوا لها بأن تموت .. لكنه مات.

بعد قليل ظهر البوليس وسيارة الإسعاف، وعاد الهدوء تدريجياً ولأن الموت هو عاقبة العنف .. وعندما أخذت سيارة الإسعاف العجوز جاء ذلك السائق مع بضعة رجال من البوليس إلى الرصيف .. إنحنوا له مودعين .. وبعدها ببضع دقائق عبر المكان أناس جدد تماماً .. مجرد عابرين بالصدفة . أرادت أن تفتح النافذة وتصرخ بهم، تسألهم إلى أين هم مسرعون .. وما عذبها أنهم لم يتوقفوا .. وقفت هناك للحظات ونظرت إلى العابرين الذين يجتازون المكان الذي كان ملقى فيه العجوز، وبعدها أرتدت معطفها وهرعت إلى الشارع .. كانت مرغمة على أن تطرد الفراغ هناك وأن على أحدهم الوقوف هنا من جديد .. بحثت عن آثار .. لكنها لم تعثر على أي شيء .. ولا على بقع دم .. كل شيء أخذ ينمحي .. إقتربت بضع سيارات حين كانت واقفة على الرصيف .. نظرت إلى السيارات التي أخذت تبتعد إلى أن إختفت.

والآن لم يبق شيء آخر غير ذكرياتها التي أخذت ترتسم كما لو أنها تبحث عن مكان فيها .. غمرها شعور باطني، ولم تعرف كنهه، بأن شيئاً قد حدث، شيئاً خطيراً، وعليها أن تتذكره، شيئاً حاسماً عليها أن تعود إليه في يوم ما وإذا كان عليها أن تواصل الحياة من دون أن تخون نفسها .. وقفت هناك قليلاً وعبرت بضع سيارات، ومرّ أمامها عابر ما ثم عادت إلى البيت .. لم تستطع الهرب من منظر تلك الهيئة المتمددة التي ليست الآن هناك .. كانت الصورة الباقية ناقصة .. الحركات التي كانت قد جمدت، صارت تنتشر متأرجحة فوق جسد العجوز .. كانت تمسكه وتضغطه إلى الأرض .. كانت موقنة بأنه أراد أن يقول شيئاً، أن يوضح لها الموقف كله فيما لو كانت قادرة على طرد تلك الحركات إلا أنها فضلت أن لا تسمع أيّ شيْ .. لم ترد أن تفهم ما حدث .. فهذا شأن كف عن أن يثير إهتمامها.

هكذا كانت الحال دائماً .. فحياتها تألفت من سلسلة غير مقطوعة من الأوضاع التي تطالبها بأن تعترف بها، بأن تصنعها بكيانها وجسدها، بأن تخلقها للآخرين، وأرادت هذه أن تقبل تجسّدها الجديد أو أن تحيط الجميع بالموقف، بشيء شبيه بحلقة سحرية، بذلك الخط الطباشيري الذي رسمه الصبي من تلك الحكاية حول نفسه ولم تقدر الأرواح الشريرة على أن تجتازه .. بالرغم من ذلك لم تخلق هي موقفاً أبداً، لم تجرؤ على أن تقطع مجرى الأحداث، أن توقفه، أن تغيّر إتجاهه .. لقد إبتلعت هي تماماً مثلما إمتص ذلك الجسد الميت الرفسات .. كانت هي تتورط دائماً في وضع وتختفي حين يحملها هو .. لقد نمّى هذا الأمر فيها قابلية للفهم غير إعتيادية .. عرفت بأنها تنتمي إلى أولئك المتوقعين الذين يفهمون الأشياء قبل أن يلمسونها بوقت طويل .. وفي لحظات الحساب أسمت نفسها بالمتفرج، المتفرج المعّلق والفاهم الذي هو مرغم لهذا السبب على أن يقوم بدور شاهد يقدّم التأريخ ويوضح الأحداث.

والآن قضت هي بضعة أيام للإيضاح .. لماذا راح العجوز ضحية عنف الرجل الشاب .. وغارت أكثر فأكثر في حاضرها .. خيّل لها أن العجوز قد أبعدها عن نفسها .. أما هو فوقف أمامها كعاقبة فارغة بصورة غير مسّرة، ميتة ويحول بينها والمضي إلى الأمام .. لم يسمح لها بتجاوز نفسها، لم يسمح لها بأن يعينها أيّ شيء، كي تحيط بالوضع، لقد أراد أن يرغمها على أن تتدخل في الوقت المناسب، أن تمنع أمراً سبق له أن حدث .. إلا أنها لم تقدر، عانت شعرت بأن شيئاً غريباً وغير متوقع يسحقها .. وبمعزل عن درجة فهمها كانت تفتقد دائماً جزيئة ما تكمل الموقف، وحينها بدأت تعي بأنه كان يفتقد المحيط .. كلا بالأحرى يفتقد قبولها لدور مفسّر الأحداث، لدور المشاهد الغامض والذي ليس هو أبداً المشارك أوالمسبّب .. لقد كانت معروفة ومحبوبة .. لكن لا أحد كان يعلم بأنها شاهدت مجرى ما حصل كله.

لقد رأت كل شيء من النافذة .. وكان بإمكانها أن تتخيل ما سيحصل .. لقد عذبها شيء آخر أيضاً .. منذ اللحظة التي وقف فيها الإثنان كانت تعرف أيّ شيء سيحدث .. وبعدها بوقت قصير حدث ما حدث .. أكيد أن كل ذلك كان من الممكن أن لا يحدث، خاصة أن لا أحد كان يعرف بحضورها، ولم يكن على كل ذلك أن يحدث تحت بصرها .. قد يكون حلماً مثلاً .. أحد الأحلام التي تتذكرها من فترة شبابها وحين أنقذت أحدهم من عسف معيب . في تلك الأحلام كان الإنسان يسيطر بسهولة على الموقف ويوجّه العالم صوب السكك القديمة، أما هو فقد كان يتمتع بكامل الثقة، كان مقبولاً لدى الجميع، مدهشاً ومحبوباً .. وكان إحترام النفس والأفعال قد حرر في المحيط الشعور بالأمن والحب المتبادل.
سعلت ووقفت أمام النافذة ونظرت إلى الشارع .. شعرت بفظاعة البرد إلا أنه كان برداً داخلياً .. وكان له مفعوله البطيء .. إقتربت تلك اللحظة نفسها التي أنطرح فيها في الصباح السابق ميتاً .. نظرت إلى ذلك المكان في الشارع وكانت تفقده في كل مرة حين يعبر أحدهم هناك .. والضوء الشتائي الرمادي أشاع، بكسل، التعب في الشارع، وفي الأعلى قليلاً، في اليسار، على السطوح كانت النغمات الأكثر وضوحاً قد إمتزجت بالبريق الأخير لمصابيح النيون .. خيل لها أن الشمس في الشتاء تتحول إلى إنعكاس ضوئي للأعلانات النيونية، وترغم النهار كي ينهض ويعثر تدريجياً سنة بعد سنة، على نفسه في شمس الشتاء الذهبية الرمادية المليئة بظلمة مبكرة لليل والوهن .. إشتاقت إلى الضوء والدفء.

حلمت وأطلقت سعلة قصيرة، لم تقدرعلى تجنب حالات رجوع الأفكار التي كانت تتيه عاجزة في مكان ما من الماضي .. لم يكن جسم العجوز ملقى على الأرض الآن ويضيئه قليلاً مصباح الشارع .. والرجل الشاب لم يرفع يديه كي يضرب، لم يحرّك إلى الوراء ساقه اليسرى كي يرفس .. لقد أبحرت إلى الشاطيء سوية مع الرجل الذي عشقته .. كان رجلاً في مطلع الشباب بل مازال طفلاً مع العلامات الأولى للشعر فوق الشفة العليا وفي الوجنتين .. لقد نضج .. إقترب بقاربه منها .. وكانت جالسة تنتظر بيد ممدودة هي على إستعداد كي تعينه في الخروج من القارب .. ووصلاً إلى مياه ضحلة وفاترة .. نهضت ووقفت على الرمل .. وكان هو ينتظر على مبعدة ومعه أبوه .. أخذ الأب أمتعتها وإنتظروا الآن سوية .. كانوا جائعين .. رجل ما حجب عن عينيها المشهد، والصورة أصبحت ذات شفافية أقل فأقل، الشارع إنحشر في العين، والرجل رافقها للحظة واحدة، وبعدها أفترقا.

إستدارت كي تهز رأسها موّدعة إلا أنه إختفى .. كانت تعلم بأنه لم يهز رأسه ولم يتابعها بنظراته كي يعيش الوداع مرة أخرى .. عادت إلى البيت .. جاءت من دون أن تكترث للمكان الذي كان العجوز ممدداً فيه .. هذا شيء قد ولى .. تحررت هي ولا أحد رأى وداعهما .. وكانت وحيدة ثانية، وفهمت ذلك لكنها كانت خائفة .. أحدهم عرف كم كانت هي وحيدة .. ولا أحد رأى كيف حصل ذلك .. كان الجميع يتحدثون عن العجوز .. رأت متى حصل ذلك .. سمحت بحدوثه .. ولما كان لا أحد يتصورذلك، لم يكن هناك أيّ أحد .. إذن بالرغم من أن النيات كانت الأطيب لم تستطع هي قبولها .. عرفت بذلك وملأ الخوف نفسها .. ولكانت الشكوك تتسرب إلى نفوسهم لو عرفوا كل شيء .. والحلم لا يمكن أن ينتهي، وهي لن تفيق منه .. وهم لم يعثروا عليها .. لا أحد قد رأى الحادث.


للكاتبة الدنماركية: اولا ريوم
__________________


شكرا لكِ يُونا . على الطقم الأكثر من رائع
رد مع اقتباس