[mark=#beeb6c]الفَصْلْ الأَوَلْ:شَارْلُوتْ لُونْلَايْتْ![/mark]
ضربت أصابع العازف المتقرحة بخفة أوتار غيثارته، وانسابت الأغاني بهمجية وبلا إيقاع، غير متوافق من فمه
وفي خضم موجة التصفيق الهازئة، والهتافات الساخرة، وقف فوق كرسيه الخشبي ليزيد من طوله بضعة انشات
محاولا نيل عدد أكبر من المتفرجين. وفي زاوية الحانة، جلست بصمت تراقب باستغراب المهرج قصير القامة عديم
الموهبة في الغناء، تفكر والأسى يملأها بأنّ وجوده بحد ذاته خطيئة.. وكأنه استشعر مراقبتها، التفت بسرعة
وعلى وجهه الطويل ابتسامة واسعة أظهرت سنيه الكبيرين الشبيهين بأسنان الأرانب.. وها هو يقترب منها
بعد بضعة قفزات قصيره حذرة، كي لا يدوسه أحد هؤلاء الرجال الأشداء الذين يقاربون المترين.
طمست زرقاء العينين تفاجأها خلف قناع من البرود وعدم الاكتراث، وكم هي بارعة في ذلك. وحدقت بعظمة
في القزم الواقف بجانب مقعدها والذي يتلاعب بأصابعه من شدة توتره.
ضحكته الشبيهة بالبحة، قد جعلتها ترفع حاجبها الرفيع تساؤلا. شتت المهرج عينيه البنيتين في المكان، ثم رفع
يديه المكورتين الصغيرتين ونزع قبعته الخضراء.
رنين الأجراس الثلاثة المعلقة في نهايتها طن في اذنيها، فعقدت حاجبيها بانزعاج، ثم أشارت بغيض له
أن يقول ما يريد.
توترت معالم المهرج، فقبض بشدة على قبعته، وبتصلب رفع عينيه بحشمة إلى الفاتنة الجالسة أمامه بسكون.
-هل لدى الآنسة الشقراء مانع أن... تشاركني هذه الرقصة.
اظلمت معالمها، وبقوة ضربت كأس النبيذ الذي ارتشفت منه بضع قطرات فقط على الطاولة الخشبية ثم وقفت.
ومن خلف القزم الذي يرتعش رعبا، تعالت همسات المرتزقة، يقدمون تعازيهم الحارة لتعيس الحظ هذا الذي فشل في
اختيار شريكة ليلته.
-هل لديك أيه فكرة عمن تتجرأ على الحديث معها؟
تلاشى صوته، وعجز عن إجابتها، كانت عينيها الحادتين تشلان حركته، كأفاعي شعر ميدوسا، رويدا رويدا
وقد التفت حوله جاعلة إياه حجرا أصم. فجأة، ومع ارتعاش أطرافه وجد نفسه يقول
-مغفرتك سيدتي، ارجو منك مسامحتي على خطئي الفادح، أؤكد لك أني لن اقترب منك مرة أخرى.
ضربت عصا رمحها الحديدية بحامية ساقها الفضية، وكأنما رنين المعدنيين أعلن نهاية المحكمة.
ازدرد المهرج ريقه بصعوبة وقد شحب لونه فيما حدقت فيه الشابة العشرينية بجمود وثبات، حتى كادت سماويتيها
تخترقانه، محاصرتين اياه في قوقعة جليد صماء.
اخترقت برودة النصل بشرته، مقتلعة إياه من عالم الهذيان المسكر، لترميه إلى أمام وحش الجليد هذا.
ضربت بالرمح ضربات خفيفة على كتفه، ثم قالت بهمس جامد: ولا نظرة، ان رأيتك تنظر إليّ فهي نهايتك.
التفتت بعدها إلى صياد الدببة ذو اللحية البنية الجالس بجانبها، وبسرعة تكلما معا، لتختتم حديثهما ببعض الأوامر له
قبل أن يبتلعها ظلام الليل خارج الحانة.
عم السكون المكان لثوان، لتنفجر بعدها الأحاديث من كل فاه موجود في الداخل. ارتدى المهرج قبعته بأيد
مرتعشة و كر قدميه إلى طاولة بزاوية الحانة مبتعدا عن حلقة البغيضين الذين سيجعلونه أضحية الليلة.
آه كم كانت ثقته عظيمة، و يا لى سذاجته لما اعتقد أن الحظ ابتسم له أخيرا بعد أربعين سنة من العذاب.
ها هو يذل من جديد، ويزحف إلى الزوايا كالجرذان. توقف لثوان، والتفت خلفه يتأكد.. ليتنهد بعدها براحة
على الأقل لم ينبت له ذيل ليجره بخيبة.
جلس بجانب عجوز سمين شبيه بربان سفينة صيد، وتجرع بأسى من الكأس الخشبية العملاقة. ضحك العجوز عليه
وضرب ظهره بقوة، فارتج جسد القزم بشدة، رفع رأسه بتثاقل إلى أشيب الشعر الذي ابتسم بحنان ابتسامة
افقدتها أسنانه الصفراء المنخورة رونقها: يوهوهو لا تقلق أيها الصغير، لست أول من يقع فريسة للأميرة التنين.
-الأميرة التنين؟
-صحيح.. صحيح انت وهذا الشاب. التف مشيرا إليه ليجذب انتباهه، بعدما كان تفكيره غارقا في قرمزي الكأس
أمامه:قد انضممتما اليوم لهذا لا تعلمان شيئا عن قائدة هذا الفيلق المتكون من مجموعة
مرتزقة، دُفِعَت لهم أموال خيالية.. ستقولان جنون! لكنها الحقيقة، فهم يبيعون حياتهم مقابل المال، يوافقون
على كل كلمة مبهرجة من تلك المدللة الصغيرة الملعونة، التي تخطط لاجتياح الغابة الكسيحة في حركة انتحارية
لا محالة.
تمايل جسد الشاب الهزيل المنزوي داخل عباءته الرمادية جيئة وذهابا بسبب ضربة البحار صاحب لحية
وضحكة بابا نويل. رفع غولم رأسه بتحسر، فأي بطلة خطيرة علق معها، بل هل سيتمكن حتى من انهاء مهمته
و الرجوع إلى منزله ومتنفسه المعزول عن العالم.. كانت هذه أحلام بعيدة المنال في هذه اللحظة.
أخفى وجهه بقلنسوة الرداء، ورمى بثقله على ظهر الكرسي، يراقب بموضوعية حديث البشريين امامه
-الأميرة التنين، هي الأميرة السابعة وأصغر الامراء العشرة لمملكة الغيوم لُونْ، الأميرة شارلوت لونلايت.
-اوه يا الهي. صفر بحماس، متناسيا غباءه قبل لحظات: أليست الدولة التي تم لعنها بالليل الأبدي؟ تقول الأسطورة
أنّه في حقبة قديمة أمراء الممالك الستة قد تم منحهم ثلاث أمنيات من قبل المشعوذ العظيم راغنار مقابل أن
يقوموا بحماية ست قطع أثرية.
إلا أنه وقبل خمس وعشرين سنة، في يوم ولادة الأميرة السابعة، تنين الدمار ترافيس هاجم المملكة وسرق كنزها
قطعة راغنار الأثرية.. راغناروك. ومن يومها سقطت المملكة في الليل الابدي الذي يحرسه القمر الفضي العملاق.
-الامر هكذا، لهذا سميت بأميرة التنين، رمز اللعنة الأبدية. وضحك بتثاقل، ثم قال بعدما وقف: من الأفضل ألا تتورطا
انفرجت عيناه، وارتعشت حدقتيه بجنون، قبل أن يصيح وهو يضحك: ستحل على كل من يقربها اللعنة، اللعنة الأبدية!
رفع غولم حاجبيه باندهاش، ثم انساب برشاقة بين المرتزقة الذين يملؤون أرجاء الحانة الصغيرة، دفع بخفة الباب
وهرب إلى الليل يستنشق الهواء العليل. زحف نحو الغابة تحت جنح الظلام، ثم انغمس مع الظلال إلى أن وصل
عمقها الادجن الذي لا يقربه بشري. حك شعره بتعب وتثائب، فجلس على فرع شجرة محطم محملقا في السواد.
-ما الذي تفعله؟
التفت ببطء وهدوء إلى الخلف، مقابلا لتجسيد ماجي الروحي، ليقول بعدما أغمض عينيه: أيجب علي حقا إتمام المهمة؟
-هل تكره هؤلاء البشر؟ سأله وهو يتلاعب بورقة شجر في الهواء. فكر غولم لبعض الوقت بتعجب حول ماهية السؤال
ليقول بعدها وهو يرفع كتفيه: ليس كذلك، فأنا لا أكره ولا أحب، تكفيني مراقبة الأشياء وليس المشاركة فيها.
-يا الهي! غولم أنظر لنفسك، انت تكاد تموت من الجوع!
-لن نموت بسبب افتقارنا لطاقات البشر المحاربين.
-بل نفعل! ألا تنظر إلى نفسك؟
-ليس فعلا.
-تبا لك ولراحة بالك، انظر لهذه الهالات السوداء تحت عينيه، وبشرتك الشاحبة، لو لم أكن أتقاسم معك
وجباتي لكنت انتهيت منذ دهر.
-أجل شكرا لك.
-تبا لك! إذن ماذا تنوي أن تفعل؟ هل ستقدم نفسك لها فورا؟
-ليس فعلا، أتعتقد أن بشريا نال الويل بسبب لعب واحد منا سيفرح بهذا اللقاء.
-لديك وجهة نظر معقولة لأول مرة منذ عشرين سنة.
-وأنا الذي اعتقدت أن مهمتي الأولى بعد خمسة عقود ستكون سهلة.
ورغم أنّ معالم وجهيهما وأصواتهما لم تتغير طوال الحديث، إلا أن ماجي قد أثارته أخر جملة
فالتمعت عيناه بالإثارة، ترك ورقة الشجر لحال سبيلها وقفز نحو غولم مقتربا منه بشدة: ماذا، ماذا هل أصبحت
تكره راغنار الآن، لطالما كان مبهرجا بشدة، ذلك اللعين الذي تحصل على مرتبة الشرف.
أبعد غولم وجه ماجي عنه وأجاب: ليس فعلا.. هناك العديد ممن يحبون اللعب بمصدر طعامهم، هو ليس الوحيد الذي
يرى البشر كحيوانات عاشبة نهايتها الذبح.
تصلب جسد ماجي، وانسل إلى الزاوية متكورا على نفسه، يرسم حلقات عشوائية وسط الظلمة على الأرض الترابية
-يا لك من بغيض غولم.
-لست كذلك فعلا.
-اللعنة اخرس! صرخ بذلك ثم اختفى متناثرا على شاكلة ذرات خضراء، تاركا غولم مندهشا من انفعاله. فليس من الغريب أن يزوره، فهو المسؤول عن مراقبته والاثنين الأخرين طوال مدة المهمة، لكن أن يكون سريع الانفعال فهذا جديد عليه، ورغم ذلك لم يطل التفكير في الأمر وأرجعه إلى أن ماجي يواجه مشاكل مع بلايك وشيكي. في الجانب الأخر، في بداية الغابة قرب النهر الصغير، كانت جالسة على صخرة محدبة، تحدق بصمت في القمر وتتذكر.. عندما اقتحم شقيقها الثالث غرفتها تلك الصبيحة الهادئة بابتسامة لم يسبق له أن أظهرها لها. ابتلاء عظيم آت من وراءه.. وقد كان افتراضها في محله، فقد آتى لها لينقل لها -مستهزئا- خبر خطوبتها لأمير المملكة المجاورة، أمير أبله، بلا قوة، لا سلطة، لا عقل والأدهى كان قد توعدها بالويل عندما رفضت ان تنجر خلفه إلى غرفته في أخر زيارة له.. لم يكن أمامها خيارين، خيار واحد لا غير وهو القبول بهذه الزيجة. فمملكتهم لم تعد قادرة على العطاء، وهي شاكرة لتحملها مدة خمس وعشرين سنة في الظلام. لم تكن جدتها التي تشتكي لها موجودة بعد الآن، ولا أحد من اخوتها سيسارع إلى مساعدتها.. كل من بقي هو الأمير الأول، الذي و رغم كل شيء يشهد على مقدراتها كفارسة. اتجهت له.. على أمل ان تجد حلا، نورا ضئيلا وان كان نقطة في بحر الظلام هذا، لكنه صفعها بقوة برفضه.. ماذا كانت تنتظر؟ المساعدة؟ ممن؟ لم يكن هناك أحد. فجأة، ومن حيث لا تدري وجدت نفسها أمام الخيار الثاني.. الخيار المجنون الذي تعرف سخافته.. كان كل واحد منهما يبتسم، الأمير الثاني الذي مد لها خمسة أكياس من القطع الذهبية والثالث الذي ضرب بخفة كتفها و مد لها رمحها. كانت ترى وجوههما قبيحة لدرجة الغثيان -رغم أن جميع أفراد عائلتها يتميزون بجمال ساحر- حتى أنها عجزت عن اظهار ابتسامة رسمية كما تفعل عادة، فقط التفتت عنهما مودعة قلعتها الصغيرة، ثم المملكة بأسرها وبدأت بجمع المرتزقة مع العدد القليل من الخدم الذين أتوا معها حاملين المؤونة. تنهدت و وقفت عائدة ادراجها، لتصطدم به خارجا من الغابة، محاطا بشرنقة من الصمت الكئيب. تراجعت خطوة للخلف وهي تحدق به بشك صامت، بينما تابع هو سيره وكأنها شبح أمامه. و رغم بدايتهما الغريبة معا، أحست أنّها ستلتقي بهزيل الجسد هذا غالبا، كنوع من القدر، شعرت بأنهما قد كبلا معا، مقدرة أبقتها خفية عن الكل، أنها بالفعل ملعونة، شخص بإمكانه مشاهدة خيوط القدر اللا مرئية التي تجمع الأشخاص، قبضت يدها وهي تسير إلى خيمتها متمنية من كل قلبها ألا يكون قدرهما هذا ملعونا هو الأخر..
هاي مينا سان، كيفكم؟
ان شاء الله طيبين وما تشتكون من شيء
بعد عديد الشهور عدت أخيرا مع الفصل الأول
ورغم أنّ معظم الفصول مكتوبة منذ زمن إلا أنّني أتكاسل عن انزالها
بشكل غريب.
***
شكرا لكل من قرأ صغيرتي هذه
وشكر خاص لمن كتب ردا عليها
فقد أثلجتم صدري بكلماتكم حقا
دمتم بود