-(2)-
ذات مساء أحضر طعامًا صينيًا للعشاء ، أفصحتُ عن فضولي أخيرًا : " سيد مارك ؟ " منحني انباههُ فتابعت : " كيف تعرف أبي و أخي ؟ "
قال بأبتسامةٍ بلهاء : " كُنتُ أحد طلابهُ في الجامعة ! أما سي دي فقد كان من أقربَ أصدقائي " " إذًا فأنت متخرج من الجامعة ؟ ماذا درست ؟ و ماذا تعملُ الآن ؟ " " أجل منذ ثلاث سنوات ! لقد تخصصتُ علم النفس ! "
صمت فأعدتُ سؤالي الذي غض الطرف عنه : " وماذا تعملُ حاليًا ؟ "
نظر لي مطولًا قبلَ أن يُجيب ! أنا أعيش معه الآن نوعًا ما ، ولكنهُ لا يُكلمني عن عمله مع أنهُ رجُلٍ كثير الكلام ! " أنا مُحلِلٌ نفسي . "
مُحللٌ نفسي ! هذا مدهش ، لكن كيف هو عملُ المحللُ النفسي هذا " إنهُ عملٌ تحليلي ! أقومُ بترجمة ردود الأفعالِ عبر الحركات فيزيائية لمن يقف أمامي ! هل فهمتِ قصدي "
لقد ترجم حركاتي كالعادة ! ليست أول مرة يفعلها ! نادرًا ما أجبر على الكلامِ فهو يتولى شرح كُلِ شيء بنفسه . " كيف تقوم بذلك " " كما قُلت أراقب ردود الأفعال أحللُها أترجمها ! " " هذا يُشبهُ الحاسوب ! "
لم أقصد قولها بتلك الطريقة الوقحة ! لكنهُ سُرعانَ ما أنفجر ضاحكًا على سذاجتي المفرطة ! حتى أنا أدركُ أني لن أفهم
لو شرح لي ذلكَ حتى الصباح ! في نهاية المطاف أنا فتاةٍ غبية بطبعي أقرُ بذلك لنفسي دائمًا !
حتى درجاتي لم تكُن تليقُ بابنة البروفسور ! " اسمعي ! مثلًا أنا أرى أنكِ الآن مللتِ من البقاء في البيت ! وتتمنين لو خرجتي في رحلة أو حتى حفلة مع من هم في سنك !
في نهاية الأمر أنتِ لاتزالين صغيرة ! هو أمرٌ طبيعي جدًا ، هل تَودينَ الذهاب لمكانٍ ما ؟ إذا كان في نفسك مكانٌ تتمنينَ
الذهاب إليهِ فقط قولي ليس عليكِ التردد ! "
يفهمُني كثيًرًا ! هذا يزيدُ احراجي أمامه ! فأنا كورقةٍ بيضاء مكشوفةً له ! أنا أدركُ أني لن أكون في أمان إذا تركتُ هذه الشقة أبدًا ،
ليتني استطيعُ ذلك ! لقد مللتُ من البقاء وحدي طول النهار ، لو لم يكُن ودلارس معي كُنتُ سأجنُ من الوحدة !
وخاصةً أني اجتماعيةٌ بطبعي .
نظرتُ له فكان يُحدقُ بي هو يتكيء على كفه مركزًا كوعهُ على الطاولة ! حينها شعرتُ بالحزن قليلًا لأني قررتُ
أن أرفض عرضهُ الذي تمنيتهُ حقًا لكني لم استطع البوح به . " سأذهبُ للنوم ، لا تسهري طويلًا ! "
في تلك الليلة لم أستطع النوم مطلقًا ! بقيتُ أفكرُ بعرضه المغري من جهة ، والقاتل الذي من المحتمل أنهُ يتبعني من جهةٍ أخرى !
إلى أن غلبني النعاسُ في الصباح ، فبقيتُ نائمة طول النهار وحتى المساء !
استيقظتُ كَسِلهَ رُغم نومي المُطول وأنا أرى السيد مارك يحزُمُ ثيابي في حقيبة ظهرٍ جميلة ! سألتُ وأنا أمسحُ عيناي : " مالذي تفعلهُ سيد ويذرسون ؟ "
التفت لي حين أدركَ بأني استيقظتُ بالفعلِ ، وكانت الابتسامة الواسعة تُزينُ ملامحهُ : " سنذهبُ إلى مكان سيعجبُك ! أنهُ مكانٌ هاديء بعيدٌ عن المدينة ! سيصدمك ! "
تحججتُ عبثًا : " لكنني !! "
نهض مقابلًا لي : " من دون لكن ! لدي أجازةٍ من العمل أريدُ أن أقضيها في مكانٍ مريحُ لنفسيتي ! " ثم تابع بتصنُع : " لا تقلقي هذا ليس من أجلكِ ! "
نهضتُ متجاهلةً له توجهتُ للحمام بصعوبة رُغم أني استيقظتُ للتو ! لازلتُ أشعُرُ بأرهاق ؛ أيُعقل أنهُ بسبب كثرة النوم
******
لاحِقًا كُنتُ جالسةُ في غرفتي أشغلُ نفسي بطلاء أظافري حين اقتحمها السيد مارك قائلًا بسعادة مفرطة : " لقد وجدتهُ !!! "
تركتُ الطلاء وأنا أنظرُ له بغباء : " ماذا وجدت " " انظري !!! " قال ذلك وهو يمد يديه نحوي مُمسكًا بحاسوبٍ محمول !
عُدتُ لطلي أظافري بعدم أهتمام ليقول بحزنٍ مُتصنع : " على الأقل مَثِلي أنكِ مُهتمة ! ألا تُريدينه سيملأ لكِ أوقات فراغك . " " وأخاطرُ بأظافري الجميلة ؟! شكرًا لك ! لكني لا أحتاجه ! " " أنتِ تتصرفين كالفتيات أكثر من المُحتمَل ! مثلي أنكِ مُمتَنةً لي لو كنتِ العكس ! "
قال ذلك بغيظ وتصرفهُ طفولي لايمتُ سِنهُ بِصلة ، أشهرتُ يدي نحوه : " أنت تصرف حسب عمرك أيُها العجوز ! "
قال بصدمة : " عجوز !!! أنا مازلتُ عشريني ! "
انتابتني صدمة أشدُ منه ! يبدو أكبر من ذلك قليلًا ! كيف يُعقلُ أن يكون في مثل هذه السن ! " هيه أنتِ ! انظري إلىّ يا صغيرة! "
نظرتُ لملامحهُ الجادة بالقربِ مني شعرتُ بالصدمة نهضتُ من مكاني فزعة : " ما بالك مع هذه الملامح ؟ ولمَ أنت قريب ؟ "
نهض من مكانه بسرعة ولم استطع رؤية ملامحهُ بسبب انعكاس الضوء على نظارته والاني ظهرهُ وغادر الغرفة .
لم أرَ السيد مارك ثلاثة أيامٍ متوالية كان يعودُ حين أغفو ويُغادر قبل استيقاظي ... لكن أثر عودتهٌ جلية من
ترتيب البقالة في المطبخ لقد كان ذلك بارزًا للعيان ! حتى فتاةٌ غبية مثلي ستُدركُ أنهُ يتجنبُها !
في نهاية الأمر أنا نقمةٌ دخلت حياتهُ عنوةً ! لماذا يفعل ذلك كان عليه أن يَطلُبَ مني المغادرة وحسب !
أساسًا هو من طلب مني البقاء هُنا منذ البداية !
خرجتُ من شقة السيد مارك أنا أحملُ حقيبتي التي جهزها لي قبل أيام لم تكُن لي وجهةً مُعينة جُل ما كان يهُمني
أن أريح السيد ويذرسون من الحمل الذي أثقلتهُ به في الأسابيع الماضية . كُنتُ أسيرُ في الشارع ببُطء أنا أمسكُ
بحبال الحقيبة بكلتا يداي وأنا أدنو من الحديقة سمعتُ نُباح ودلارس الذي تبعَني لم استطع إقناعه التخلُص منه أبدًا !
فقد كان مُصرًا على إتباعي .
مع نهاية النهار كُنتُ أجلسُ في حديقةٍ وآكُلُ شطيرة تاكو ساخنة و ودلارس جالسًا تحت قدمي ، توقفتُ عن الأكلِ حين
شعرتُ بالذنبِ لأني لم أترُك لهُ ملاحظة لدى خروجي ، فأعطيتُ ما تبقى لودلارس وبعد فترة تابعتُ السير نحو المجهول !
كان أبي يقول لي " ثمة أمانٍ في المجهول ! " عن أي أمان كان يتحدث ؟ وكيف للمجهولِ أن يكون آمِنَّ وأنا خائفةً منه ؟
نظرتُ لودلارس ، ألا يجبُ أن يستعيد كلبه ؟ بطريقةٍ ما وجود ودلارس يمنحُني الثقة ! منظرهُ يسيرُ بجواري يُرعبُ
الوحوش البشرية التي كانت ستفتكُ بي .
كالشرارة ، ظهر لاهثًا وهو ينظرُ لنا بسعادة ! كان يبحثُ عنا ؟ أقلقناه ؟ كيف سمحتُ لنفسي في أن أفكر بأنهُ لم يعُد يُريدني في حياته ؟
ظننتُ أني مُجرد وجع رأس و ناكرةُ الجميل في نظره ! حين أمعنتُ النظر له و هو يحتضنُ ودلارس ، شعرتُ بسعادة فائقة !
ولم أدركُ نفسي ألا وقد واليتهُ ظهري مُبتعدة ! لم أسمح لنفسي بسماعه يُناديني ! لكنني كُنتُ أكَذِبُ مسمعي ، كُنت أسمعهُ يُناديني !
بلكنهُ الفرنسية " سوزي " بقيتُ ابتعد و ابتعد لكنهُ لم يستسلم بقى يتبعُني مُناديًا برجاء .
لم يستسلم لكنني استسلمت وأدرتُ وجهي له قائلة بقسوة : " توقف عن إتباعي ! لا أريدُ أن تلحق بي بعد الآن ! "
ثم هرعتُ مُبتعدة عنه ، كُنتُ أعرفُ أني لن استطيع الكذب عليه أن سألني ! لا أريدُ أن أكون حملٍ ثقيل في حياته !
بالكاد ابتعدتُ حتى أمسك عضدي جاذبًا إياىّ نحوه بقوة ! نظر في عيني قائلًا بغضب : " أقولُ لكِ توقفي ! ! " ثم تابع بنبرةٍ أخف : " ألاتسمعينني ؟
إلى أين تظُنين نفسك ذاهبة في هذا الوقتُ المتأخر ؟ في البداية ظننتُكِ خرجتِ مع ودلارس للتنزه
لكن حين أخبرتني السيدة هاملتون أنها رأتكِ تخرُجين من البيتِ وحدك مع حقيبة كبيرة أصبتُ بالذعر !
كيف كُنتُ سأعيش إذا أصابكِ مكروه ؟ ألا تفكرين إلا بنفسك أيتها الحمقاء ؟ "
ختم كلامهُ بضمي بقوة ! لقد بدا قلقًا للغاية ! لم أتصور يومًا أن هذا ما سيكونُ عليه إذا ذهبتُ بدون إنذار !
لم أشعر بيداىّ إلا وهما تُحيطان به ! بقيتُ مُتشبثةً به وأنا أبكي بصمت ، كأنني وجدتُ ضالتي بين ذراعيه !
لأول مرة أشعرُ بأني نفيسةٌ بعيني شاب ! لطالما أشعرني الشبان من حولي بأني فتاة عادية !
لم يسبق لأحد أن كَنَزَني صِدقًا ! كما لو أن عالمي لم يعُد يسع أحدً غيره !
اعتذرتُ بصوتٍ أجش " أنا آسفة . "
كانت حبال صوتي لاتُسعفُني لقولِ أكثر من ذلك ! وأنا واثقة بأنه قد أدرك ذلك أيضًا ! " سو ! لنعود للبيت . "
مسحتُ دموعي بقوة حتى أن أثر المسح زاد أحمرار جفوني ... " هيا بنا .... "
أخذ حقيبتي فحاولتُ استعادتها عبثًا وهو يمازحُني " كي لا تفكري بالهروبِ فجأة ! "
وهكذا عدتُ لبيت السيد مارك مُجدّدًا .
انتهى بي المطافُ بالعودة لشقة السيد مارك لفترةٍ أطول ! في كُلِ مرةً أحاولُ شق طريقي للأعتماد على نفسي
ينتهي بي المطاف ساكنةً بين يديه ! حين أفكر بالأمر أصبح مارك الشخص الوحيد الباقي لي في الدنيا شرقًا غربًا !!
لقد يئستُ من محاولات مارك للأتصالِ بأخي كُل يوم لم يعُد لدىّ أمل أن يأتي يومٍ يرفع لسماعة وأسمع صوتهُ الحنون ...
بات موعد الأتصال اليومي بأخي مصدر اكتئاب لدىّ ! ربما لأني حقًا استسلمت !
كُنتُ جالسةً في غرفتي مع ودلارس حين دخل مارك الغرفة قائلًا : " سأتصلُ بسي دي الآن ! قد يُجيبُ هذه المرة ! "
استعدتُ إنتباهي منه قمتُ بأحتضان ودلارس : " اذهب أنت ! أنا لا أريدُ المجيء ! لأنهُ لن يُجيب أبدًا ! " " لكن !! " قال مُتحججا لأقاطعهُ : " دعني وشأني لو سمحت سيد مارك ! أخي لن يرفع تلك السماعة أبدًا ! أنت تُتعبُ نفسك وحسب . "
خرج رَدَمَ الباب بقوة ففزعت بدوري لقد غضب مني حقًا هذه المرة ! لكنني تعبتُ من الخيبة حقًا!
في وقتٍ متأخر من ذلك اليوم خرجتُ من غرفتي لأراه ، لقد كان غاضبًا مني لم استطع النوم بسببِ ذلك !
حين نظرتُ في أرجاء الشقة لم أجده توقعتُ أنهُ قد خلد للنومِ فلم أزعجه حين مررتُ بجانب غرفته وصولًا لغرفتي
فتح باب غرفتهُ فجأةً وكاد قلبي ينقلعُ رُعبًا ! نظرتُ لهُ بخوف فلم أتوقع أن يُفتح الباب أبدًا !
بدت نظراتهُ مُرعبة !
كانت تلك أول مرة أراه بلا نظارات ! بدا كما ولو أنهُ شخصًا من سواه ! خاطبني بفوقية ولكنتهُ الشديدة : " ماذا تفعلين هُنا في هذا الوقت ! " تراجعت بضعة خطوات ليُكملَ بنبرةٍ أشد " عودي لغرقتك . "
ارتطمتُ بالجدار ولم استطع الحركة ، لم أتخيل يومًا أن يرمقني مارك بمثلٍ هذه النظرات المرعبة ...
كُنتُ خائفةً منه حقًا لدرجة أني لم استطع الوقوف أكثر فانهرتُ جالسة بلا وعي مني ...
اقترب مني ومسح على رأسي و هو يقول : " لم أقصد أخافتك ، سامحيني ... "
أذكر تلك اللحظة جيدًا جدًا ، بدى متأسفًا حقًا ! ربما أنا التي كانت تُبالغُ بخوفها ..... ورُبَما لأني كُنتُ أجهل الكثير عَنه .
تلك النظرة الحادة وبلا نظارة ، بقت مُخَلًدَةً في أعمق زوايا ذاكرتي .
لَم أرهُ في الصباحِ التالي ! حينها خفتُ كثيرًا أن يُعاود تجاهُلي مجددًا ! بقيتُ في المطبخ أنظر لكوب القهوة الباردة !
تلك الكوب التي شَرَب نصفها ! بقيتُ شاردة الذهن طويلًا استعيد أتعس لحظاتِ إقامتي مع منظر هذا الكوب البارد !
وصوت تنقيط الصنبور يبعثُ الفوضى في أعماقِ قلبي ومَسمَعي !
×يُتبع×
# لنرتقي |
التعديل الأخير تم بواسطة Y a g i m a ; 05-18-2019 الساعة 04:26 AM |