السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة
من يسمع شكواها ؟!
لقيتها على غير ميعاد، فقلت: يرحمك الله، إنَّا إلى خبرك بالأشواق؛فبالله عليك حدثينا عن نفسك، وكيف حالك الآن؟ فقالت: لقد كبرت سني، ووهن عظمي،ولولا أنك سألتني بالله ما حدثتك. لقد أعلى الإسلام شأني، وعظّم مكاني، ورفععنواني، وجعل المحافظة على وصالي آيةً على الصلاح والاستقامة، وبراءة من الضلالةوالغواية.
وقد عرف سلفُ هذه الأمة مكاني، وصانوا جنابي، ولم ينقطعوا عن وصالي، بلقدموه على شهواتهم وحاجاتهم؛ فلم يصرفهم عن القيام بحقي صارف، ولم يشغلهم عنملازمتي الأصحابُ والمعارف. ثم إنه خلف من بعدهم خلوف خفَّ عندهم ميزاني، وهان فينفوسهم مكاني.
فقلت: يرحمك الله! حدثينا عن سلف هذه الأمة وأحوالهم معك؛ فلعل هِممَناتتحرك لسماعها، وعزائمنا تتقوى لعظاتها.
قالت: لقد أحسن صحبتي أناس كثيرون،وتعاقب على وصلي رجال مَرْضِيُّون، لا يملون مجاورتي، ولا يفترون عن ملازمتي، وإنْأنسَ فلن أنسى الإمام سليمانَ بن مهران الأعمش الذي ظل سبعين عاماً لم يفارق سوادُهسوادي، لقد أرغم الشيطانَ، فلم يقدر عليه سبعينعاماً.
فقلت: الله أكبر، ما أطولَ صبرهم على الطاعة، وأعظم جلدهم في العبادة! ومَنْ غيرُ الأعمش؟ قالت: وأبو محمد، قلت: ومن أبو محمد؟ قالت: ثكلتك أمك! أما تعرفإمامَ أهل المدينة (سعيد بن المسيب) الذي لم ينقطع عن ملازمتي أربعين عاماً؟ رحمكالله يا سعيد! فحينما وقعت الحرَّةُ، ولزم الناسُ بيوتهم، أبيتَ الانقطاع عني،ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مسلم بن عقبة بأنك مجنونلقتلك! رحمة الله عليك، وحينما أشار عليك بعض أصحابك بالخروج إلى البادية أبيتَ منأجل ألا تنقطع عني؛ ولم يزل ـ رحمه الله ـ قائماً بحقي رغم ما أصابه من الفتن، حتىلحق بربه، فحزنت لفقده حزناً كبيراً، وكان مما زاد في حزني وضاعف في مصيبتي أنه فيالسنة نفسها ـ سنة الفقهاء ـ فقدتُ عابد الكوفة الإمام (إبراهيم بن يزيد التيمي) الذي لم يزل ملازماً لي، حتى قيَّده الحجاج بن يوسف بالحديد، فقتل فيها أو مات، لقدقال هذا الإمام كلمة ما أُحب أن لي بها الدنيا. قلت: وماذا قال؟ قالت: ويحك ألمتسمع قوله: إذا رأيــتَ الــرجــل يتهـاون بهـا ـ يعنيني ـ فاغسل يديك منه؟ قلت: قدَّس الله روحه، أرأيت لو أدرك زماننا هذا كم من الناس يبقى لم يغسل يديه منه؟! قلت: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قلت: فلو حصل أن تخلف أحد منهم عن وصلك كيفيصنع؟
قالت: لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لمرض مفسد، أو سفر مبعد، أو عذر مقعد،ومع ذلك يبادر أحدهم إلى التوبة ويندم، ويستكثر من الطاعات ويغنم؛ فهذا قاضي بغدادالعلاَّمة (محمد ابن سَمَاعَة) مكثتُ أربعين سنة لم ينقطع عن مصاحبتي إلا يوم ماتتأمه؛ فكرر زيارتي خمساً وعشرين مرةً، عوضاً عمَّافاته.
قلت:
لا تعرضن بذكرنا معْ ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشىكالمقعدِ
ثم قلت لها: حدثينا عن أهل زماننا هذا!
قالت: لقد طلبتني عسيراً، وأقحمتنيكبيراً؛ فعن أي شيء من شأنهم تستخبر؟
قلت: عن أحوالهم معك؟
قالت: لقد جفاني أكثر أهل زمانكم هذا،ولم يعبؤوا بحالي، ويعرفوا مكاني، ويحزنني أن ترى الرجل يُحسَبُ من أهل العلموالديانة، ومع ذلك تصرفه عني الصوارف، وتلفته اللوافت، وأشنع من ذلك أن ترى الرجلقد بلغ الستين ـ وقد أعذر الله إلى أمرئ حتى بلَّغه ستين سنة ـ ثم تراه يبيعنيبدرهمين أو ثلاثة، يُقبِل على دنياه حتى إذا أردتُ الرحيل أقبل يسعى كالصبيان ثم لايلقاني؛ فإلى الله أشكو غربتي، وهواني على الناس. ثم حوَّلت وجهها وجعلت تبكي،
وإذا هي (تكبيرة الإحرام)...
نقلا هم منتدى رياضالصالحين