الفصل الثالث : ما هوَ الحل ؟!
كانَت "آلانيس" تسير بخطواتٍ مُثقلة بسبب القيود الحديدية التى تربط قدميها ويديها وتتدلي بينهما مُصدِرة صوتًا عند ارتطامها بالأرض!
دفعها حارِسٌ ، كادَت تسقُط لكنها لم تفعل بل ونظرت لهُ نظرة غضب لم تستطع كبحها !
خرجت أخيرًا مِن الممر شبيه الأنبوبة إلى نور الشمس ، كانت الأرض تحت قدميها صفراء مُغبَرة صلبة ، وجَدَت نفسها فى مسرح دائري الشكل مُحَوَط بالبشر من كل الجِهات على شكلِ جمهورٍ صاخِب ، تلفتت حولها فى عدم فهم لثانية ليأتِ إلى مسمعيها صوت زَئير !
دَفَعت كَتِف شقيقتها الصُغرى التى كانت واقِفة جِوارها بِذهول : اجري "إيلينا" اجري !!
*
النيران فى كُل مكان ، تلتهم كل شيء ! الأقليم الأصغر يتحول إلى رَماد ، كانَ الناسُ يركُضونَ هُنا وهُناك بِهلَع وهُم يَصرُخون !
وَقَفَت جُثة "هينالي" أمام "ليمالا" ناطِقًا للأُمراء : إنها مُجرد وصيفة !
أومأ رئيسهم ليتركونها واقِعة على الأرضِ مغشي عليها فى مكانِها !
ارتَفَعَ صدرها مع شهقتها لِتجذِب نَفسَها مِن السَرير ، ذلك الحُلم ؟ الذِكري !!
-هل أنقَذَني "هينالي" مِن الموت المُحتم فِعلًا ؟!
ذلك الشِعور بالذنب الذى استحوذ عليها فى المنام ، مازالَت تذكُرُه ، "هينالي" لم يكذِب قط !
كانَ بالفِعلِ مُضطرًا لفعل هذا رُغمًا عنهُ !
*
لديهِ بنية جيدة ، سارَ فى وسط حقلٍ أخضر حامِلًا أكثر من سلتين تحويان الخِضراوات الطازِجة كما يفعل دومًا حسب كلام "أمه"
ولم ينس تغطية رأسه حتى لا تؤذيه الشمس كما تفعل عادةً ، لكنه لسببٍ ما يشعُر وكأنّ هُنالكَ شيئًا ناقِص ، فقط ما هوَ ؟!
*
كانَ "مالِك" مازالَ مُحتَفِظًا بِكدمة وردية على جانِب فمه مِن صُنع "كيفونا" التى ما أن رأتهُ حتى أعطته الصولجان ومَشت مُبتَعِدة دونَ أن تَنطِق ، كما عادة "أطيف" ذو الحِضور الشبحي لا تَعلَم بوجوده إلا حينَ يتحدَث !
-تعلمين إنهُ يُفترض بكِ إعطاء اعتذارٍ أكثر صِدقًا ، صحيح ؟!
*
نجَحت "آلانيس" فى تشتيت الأسد الجائِع عن أُختها لكن ماذا عساها تفعل الآن ؟! بالطبعِ لن تركُض إلى الأبد !
وهاقد بدأت قواها بالفعلِ تخور ، عليها الانتهاء منهُ سريعًا وإلا انتهي هوَ منها !
الحائِط ! سترتطم به ! إلا إذا تشقلبت الآن ... هذا يجعلها على ظهره !
وبتفكير مُحارِب فَذ قامت بخنقه بالسلسلة الحديدية التى تربط يديها ، حاولَت تقليص الآلم قدر الإمكان ! قَلبُها مازالَ بِهِ ذلك الحنان الغريب رغم كُل شيء !
سادَ صمتٌ لثوانٍ مالَبِثَ الجمهور أن هَلَل لتهبط عن جُثة الأسد تلتقط أنفاسها وَتُلوِح بأحد يديها المُقيدتان عِند الرسغين !
*
كانَ "جوسِف" و"آماليا" يختَلِسان النَظر لبعضهما فى صمتٍ خوفًا من ثالثهما والذى لم يكُن إلا أحد صيادي "الإسكيمو" !
لم يحتك بهم بأي طريقة لكن له تلك الهيبة التى أخافتهم ، قد أشعَلَ نيرانٌ فى منتصف الكهف وجلَسَ يشوي سمكةٌ ضخمة نوعًا ما .
غمغمت "آماليا" لرفيقها : رُبما يتحدث لُغتنا ؟!
هَزَ رأسَهُ : لا أظُن !
تابَعَت : فَقط حاوِل !
تَنَحنَحَ الزمردي ليفاجئه الرجل المُغطي بفروٍ بُني اللون : كيفَ جِئتُما إلى هُنا ؟! أنتُما مِن الجنة صحيح ؟!
ارتَفَعَ حاجِبا "جوسِف" البُنيين : لا ، نحنُ مِن مِصر ..!
لم يُغير الرجُل كلامه عند هذا ولم يهتم "جوسِف" فِعلًا فَمِصرُ جنة إن قورِنَت بذلك الجحيم المُتجمد !
أخرَجَ شِبه خريطة من حقيبة ظهره وفتحها لتفترش الأرض أمامهم ، أشارَ على القُطب الشمالي : أنتُما هُنا الآن !
شَهِقت "آماليا" : أصبحنا فى النصف الثاني من الأرض ! كيف سنعود ؟!
سأل الرجُل : لِمَ أتيتما مِن الأساس ؟!
شَرَحَ لهُ "جوسِف" الموقف وكيفَ إنهما يحتاجان لساحِرٍ قوي كفاية ليفُك رِباطَهُما !
-يُقال إنكَ إذا عَبَرتَ البحر الضبابي فإنّ خلفه معشر الجوزاء ، أقوي السحرة على وجه الأرض ! لكننا طبعًا لا نعلم إن كانَ هذا حقيقيًا أم مُجرد خُرافة فأحدًا لم يعبُر ذَلِكَ البحر !
سألَت "آماليا" قبل أن تُفَكِر : لِمَ ؟!
تَغَيَرَت ملامحه إلى واحِدة اتضَحَ الخَوفُ فيها : بِسبب الحورية !
كانَ "جوسِف" الأسرع فى إبداء عدم فهمه تلك المرة : وما الحورية ؟!
-إنها نِصف سمكة نِصف امرأة ، لها صوتٌ عذب ما أن تسمعها تُغني حتى تآسِرَك وتسقُط تحتَ تعويذتها ، ستجذبك إلى أعماق المُحيط وتلتهمك بأسنانها الحادة !
ارتَجَفَ "جوسِف" لِهذا التخيُل !
*
أمسَكَ حارِسانٌ بذراعي "آلانيس" ليجذبانَها إلى مكانٍ وسط صُراخِها واعتراضِها : لقد فُزت اترُكوني !!
فَكا قيودها أخيرًا لِتَحُك رسغيها المُحمَران ، كانَ أحدهم يعطيها ظهره ينظُر مِن شُرفة أمامه مُسندًا كوعيهِ على السور ، يبدو شابًا ، شعرُه أشقرٌ داكِن مائِلٌ للبُني .
-لا تمزَح معي ! أنتَ الملِك "جوليانوس" ؟!
الشائِعات تَقول أنّ أحدًا لم يَرَه قط ! فكرت فى أن تستدير وتولي هارِبة ! لكن لا بُدّ من وجودِ حُراسٍ فى الخارِج !
نَظَرَت لشقيقتها بحيرة ، تُري ما الذى قد يريده منهما ؟!
هَزَت "إيلينا" كتفيها بلا أدري !!
فتنحنحت "آلانيس" ليستدير الشاب أخيرًا وعلى وجهه ابتسامة كشفت عن لؤلؤٍ مُخبأ بداخل فمه ، تماشي مع عيناه الزرقاء وبشرته المتوردة من الشمس .
هوَ وسيمٌ ، ومن يُنكِر كاذِب !
نَطَقَ أخيرًا لكن ليسَ بالكثير : هل تُصبحينَ زوجتي ؟!
هَل جُنَ ؟!
مالَت برأسها فى جهة مُفَكِرَة : آآه .. لا ! شُكرًا !
تَبَدَلَت ملامح وجهه للغضب بسرعة ، نظَرَ إلى حارسين ليتجها بسُرعة إلى "إيلينا" !
فَهِمت "آلانيس" ما يحدُث فَصَرَخَت مُقاطِعة : أنا موافِقة ! بِشَرط أن تَتحرر أُختي !!
*
سارا مُتجاورين وقد أرتديا فروًا قد أعطاهُ لهما ذلك الشخص ، بيدِ "آماليا" تلك الخريطة تقلبها المرة بعد الأُخرى .
-نحنُ تائِهان بِلا شَكٍ !
قبلَ أن ينطِق تَكَسَر الجليد تحت قدميه ليسقط فى المياه البارِدة !
شَعَرَت "آماليا" بالبَردِ يَضرِبُ أوصالَها بسبب الوشم على رَقبتها فهىّ تشعُر بما يشعُر بِهِ "جوسِف" !
مَدَت لَهُ يدها لِتسحَبهُ خارِج الماء ، لم تستطع السيطرة على ذُعرها لتمنع نفسها مِن ضمُه !
رَدِة فِعل قوية من شابة لا تُحِبُه فِعلًا !
قَبلَ أن يَنطِق صَدَرَ صوتٌ مِن جِهة اليمين : أهلًا !
كاَنت شابة تجلس على صَخرةً ثلجية ، كانَ شكلها غريبٌ ، شَعرُها بالكامِلِ أبيض اللون حتى حاجِبيها ورموشها ، وجهها منثورٌ عليه النَمش بعشوائية.
لكن هذا كله لم يكُن ما أثار انباههما بل الذيل الأزرق مكان ساقيها ما فعل !
-أتُريدان المُساعدة فى عبور البحر الضبابي ؟!
دَفَعَت "آماليا" بجوسِف خلفها وهىّ تتذكر كلام الصياد عن كَون الرجال وحدهم غير مُحصنين مِن سِحرِها ، نطقت بحمية : لا ! شُكرًا لكِ !
هَزَت الحورية كتفيها لتقفز فى الماء وخلفها ذيلها بعد أن قالَت : كما تشاءين !
*
ظَلا جالِسانٍ على الأرض المُتجَمِدة بيأس أمام البحر ، لا سبيل لعِبوره ! ولا أشجارَ هُنا ليصنعوا مِنها مَركِبًا ما !
فقط يوجد ذلك القارب البعيد عنهم !
أصدَرَت المياهُ صوتًا عِندما أخرَجَت الحورية رأسها مرةً أُخرى وأسندَت ذرعيها على الجليد الصَلب متململة : فقط اترُكاني أُساعدكما !
تجاهلتها "آماليا" لِتخرُج المُتحدثة وتجلس على صخرتها لكن تلك المرة كانَ لديها أقدامٌ !
أقدامٌ غَطاها فُستانٌ أزرَقَ اللون يصل إلى رُكبتيها .
سألَت المصرية ولم تعُد قادرة على كبحِ فِضولها : فقط .. ماذا تَكونين !
ابتسمت المهقاء : اسمي "آثينا" وأنا مِن أطلانتِس !!
تَعَجَب "جوسِف" : الإمبراطورية التى اختفت فجأة ؟!
لطالما حكي لهُ والِدَهُ عن تلك الإمبراطورية المُجاوِرة ، على ذِكر كَونها مُجاوِرة ..
-كَيفَ انتهى بِكِ الأمرَ هُنا ؟!
أشارَت على القارِب : سأُحضِر هذا ، ستركبانَهُ معي وسأحكي لكم !
أحضَرَتهُ ليُصبِح أمامهما ، صَعَد "جوسِف" أولًا ليهتَز القارب قليلًا عِند صِعود "آماليا" وبعدها "آثينا" التى أمسَكَت بِعصا طويلة بدأت بالتجديفِ بِها دونَ أن تَجلِسَ مِثلَهُما .
بدأت تروي قصتها : كانَت أطلانتِس عظيمة ، وقد كانَ لها أعداء ، قاموا بِلَعنِها !! فهاجَ وماجَ البحرُ الذى حوطها كجزيرة ليُغرقها ويجرفها إلى النِصف الثان من الأرض ! البعض يقول أن ما حدَث ليسَ لعنة بل غضب "كاليبسو" آلِهة البحر لكن لا أحد يعلم ما حدَثَ فِعلًا فهوَ قد حَدَث منذُ مِئة عام ! لو أنّ أحدًا يعلم فهو بالتأكيدِ ليسَ مِن جيلي ..!
صمتت قليلًا : قيلَ لي أني لو أصبحتُ مُرشِدة البَحر ودللتُ التائِهينَ لِمئة عامٍ فإن اللعنة ستنكسر وسأخرج إلى الأرض !
قضبت "آماليا" حاجبيها : مِئة عام ؟!
تابَعَت "آثينا" : بالطبع لم يستطع أحد إكمال مِئة عامٍ فى خدمة البحر ! ، أنا ولِدتُ فى الماء .. لم أشهد أطلانتِس أبدًا ، ولِدتُ ملعونة !
أخَذَت شهيقًا : لكني أحصُل على أقدامٍ بشرية فى الليل كما ترون ، الأمر ليسَ بذلك السوء ! عدا إنه .. لم يعُد هُناكَ رِجالٌ من نوعي ، فقط النِساء .. يبدو إننا سننقرض كما لو لم نكُن مِن الأساسِ قريبًا !
سألَ "جوسِف" بِحيرة : لِماذا ؟ أين ذهب الرجال ؟!
-البعض يتوحشون والبعض تأكلهم القِروش ، تحت الماء .. كُن وحشًا أو سيلتهِمَك واحِدٌ ! ذلك قانونُ البحر ! أما من عاشوا مِثلي فنحنُ قد أتخذنا من الهَرَبِ سبيلٌ لنا !
وصلوا إلى الأرض أخيرًا .