حبييت -آماس مقتطف من خاطرة مطولة ربما تتحول يوما ما إلى جزء من رواية:
في تلك الغرفة التي خيم عليها ظلام دامس إثر إنقطاع الكهرباء,جلست وحيدا كعادتي إلى أن إنتابتني حالة الفصام من جديد.أمسكت قلمي الوهمي و هممت بالكتابة إلا أنني وجدت نفسي أعيش من جديد بنفس الحروف لأكتب نفس الفقرة,أكتب الكلمات و أعطيها لعميى البصيرة لعلهم يقرؤون, آلمتني يدي و رفضت مواصلة الكتابة إلا أن قلمي أخبرني أنه مازال لديه ما يقول فقد أقسم على عدم الراحة إلا حين يراني في قبري مدفون,أذعنت لمراده و أطلقت له العنان ليلوث الأوراق كما يشاء لعل حالتي تستقر و أنتهي من هذا الكابوس. أبحرت في أفكار قلمي الملعون فلم أرى سوى نفس السجائر الملفوفة يحملها أناس قلوبهم سوداء و وجوههم تشع بالنور ,وجوه ممحية كما لو كانت مرسومة بقلم رصاص,مخدرات و خمريات,سكر و إنحطاط, أناس بنفس التصرفات إلتفوا حول نفس الطموح. هلعت إلى الخارج لعل الصورة تتغير لكنني وجدت نفسي أعيش مجددا في نفس الحفرة الشنيعة مع تلك الوجوه اللعينة.توقف كل شئ في لحظة واحدة كما لو كان هنالك من ضغط على زر التوقف حينها عرفت المحطة التالية و لم يخيبني ظني فقد أتاني ذلك الصوت الجريح سريعا: ماذا جاء بك إلى هنا من جديد؟ , أجبته في تردد: لقد جئت لأخبرهم أن ما يفعلونه بأنفسهم يهدؤ أجساهم لكنه يقتل أرواحهم. قاطعني في تهكم صارخ: عقلك المفكر يتحدث مع عقول بالرذيلة ممحية. لعنته بيني و بين نفسي و إتهمته بصوت صاعق: أعوذ بالله تتحدث عن كلامي كما لو كان أحد السموم.
الصوت: من مليون سطر كتبته,سطر واحد قد فُهم
أنا: لكن من فهمه حين قرأ أسطر غيري قتله الندم
الصوت: لأنه علم أنه أمضى حياته كلها يقرأ الزلل
أنا: كلامي ليس بشعر و لا بالحروف مكتوب
الصوت: كلامك ثقب أسود ظلامه ينير درب المكفوف
أنا: إفتح مذكرتي إذا و أغمض عينيك فحينها فقط سترى من جديد
الصوت: السراب أصبح سطرا تقرؤه في كتاب عنوانه الخوف
أنا: ما أكتبه ليس بخواطر و لا روايات, كلامي ليس نوعا من أنواع الفنون
الصوت: كلامك مصل يوقظ المدفون
أنا: تعود له الحياة و أستقر أنا في قبره كالمقتول
الصوت: الإنس لم يفهموك أصبحت قريبا من أن تكتب لمعشر الجان
أنا: الألام تحطم الروح قبل أن تصل للجسد
الصوت: في كل مرة تُمرر إليك جرعة سم في الحقن
أنا: تصبح محطما أكثر من الوطن
الصوت: في كل مرة أطبق عليك إيدوتينسي تعيدك بعد أن ينتهي دفنك
أنا: أعود لأعيش في نفس دائرة الألم
الصوت: بلا مكان و لا زمان تتعذب وسط العدم
أنا: إلى أن تخرج عروقي و تذبل و تنضب من الدماء
الصوت: حتى ينساك العالم و أنت مرمي تحت الرماد
أنا: أتمنى لمن يقرأ كلامي أن يعيش بداخل عقلي يوما واحدا فقط
الصوت: حينها سيُخيل له أنه يتعذب في الجنة و يتنعم في النار
أنا: سيُكوى بالجليد و تجمده النار السوداء
الصوت: سيُدفن تحت الأرض و يشعر أنه طائر في السماء
أنا: إن لم يكن من المحرمات لأنهيت حياتي بالإنتحار
الصوت: حاول أن تتنفس و تخرج بأقل الأضرار
أنا: قلبي راكع في مسجد و عقلي متجه نحو الخراب
الصوت: مثل الأوطان بعد الحروب جسمك من الداخل دمار
أنا: قلبي يريد أن يسامح لكن عقلي يسعى للإنتقام
الصوت: أحيانا الحياة تُجبرك و لا تطرح عليك حق الإختيار
أنا: مريض عليل أريد نقودا فلن يشفيني أي دواء
الصوت: في بلادك فقط ما في جيبك يمنحك الإعتبار
أنا: نحيى بداخل رقعة شطرنج و تُهنا بين الأحجار
الصوت: الشعوب أصبحت بضاعة و الحكومة تجار
أنا: و نحن بقينا كأوراق الخريف نتدلى فوق الأشجار
الصوت: يوما ما سيصلني خبر عملية إرهابية مفادها أن عقلك سبب إنفجار
أنا: حتى قلمي يخونني حين أريد أن أترجم الأفكار
الصوت: تُهرب الكلمات كما لو كنت تتاجر في الآثار
أنا: و من كنب سطرا ظن أنه صاحب إختراع
الصوت: لستم مثل بعضكم البعض فهو الموت و أنت القبر
أنا: عقلي يحتاج زيارة كوبا أما عقله فيُنعشه مجرد خط
الصوت: هو يؤلمه ضوء الشمعة أما أنت فتقف فوق الجمر
أنا: سماءه زرقاء صافية أما سمائي تملؤها الغيوم التي تقطر دما حتى أدعو ربي العافية
الصوت: إبن السنتين يريد أن يلعب مع المافيا
أنا: سيمضي حياته كاملة في الكتابة و حين أعود سأحطمه بقافية
الصوت: بركانك هائج و في كل مرة تقف أمامك شمعة خائفة
أنا: سأترك أمري بيد الله فوحده يعلم الخافية
الصوت: لا تعاود طبيبك ثانية فدعاوي والدتك هي الشافية
أنا: لا تريحني القصور كما تريحني الأكتاف و الأيدي الدافئة
الصوت: الدنيا فانية إلا أن البشر تناسوا يوم الحساب
أنا: و تكالبوا على الدنيا أكثر حتى من الكلاب
الصوت: تعيشون في عصر فيه المادة تحدد قيمة البشر
أنا: لأنهم نسوا أن القصور الفارهة غدا في المقبرة ستتحول إلى حفر
الصوت: الفقر أصبح عيبا و المظاهر تحولت إلى مرض
أنا: الناس يتساقطون على قوائم أصدقائنا يحشرون أنفسهم
الصوت: مثل الكلاب ينقضون عليك يكشرون عن أنيابهم للعض
أنا: لهذا أصبحت حين أدخل في حرب مستحيل أن أدخل في الهدن
الصوت: عقلك ليس كقلبك فهو لا يعرف الرحمة
أنا: من الوريد إلى الوريد يذبح أصحاب القلوب المتفحمة
الصوت: إحذر من الذي يتصنع صداقتك و هو تحتك يزرع الألغام
أنا: جافاني النوم لن أهدأ إلا بعد الإنتقام
الصوت: تعلم أن تعيش بوجه واحد بين مآئة حرباء
أنا: إطمئن فحين أنظر للمرآة لا يبقى معي سوى الخيال
الصوت: حين تموت سيهب العالم بأجمعه لبيتك من أجل الجنازة
أنا: إلا أنني في محياي كلهم كانوا يتمنون لي الموت الزعاف
الصوت: مع نفس الوجوه مازلت في نفس الدوامة تدور
أنا: لم أعد أحتمل رؤيتهم ها قد أطفئت النور,حتى إن أعطيتني ذهب الدنيا و أسكنتني القصور, فالضوء الذي في قلبي إنطفئ و أصبح أظلم من القبور.كرهت البلاد و العباد و أصبحت للوضع رافض.
الصوت: عقلك قرأته و إخترقت طريقة تفكيرك,أنا أفهمك أكثر من الجميع,ها أنت تمشي نحو طريق الخلاص من هذه الحالة,واصل الحديث حتى و إن كان فيه إطالة.
أنا: أعرف لماذا هذا الخائن خلف ظهري يريد أن يلعب دور بابلو و لكن أمامي يطأطئ رأسه كالنعامة حين نتقابل. يحمل خلف ظهره سلاحا شحذه نفاقا عوض الرصاص,سيمضي حياته كلها فتى يرمي الكرة لللاعبين خلف خط التماس.
الصوت: الأسد حين يرى الضباع تأكل الجيف لا يلومهه فذلك هو أصلهه, ولكن حين يأتي تحت أنيابه فهو لا يرحمه.لا تصمت أخبرني بالمزيد فالفصام سيزول عن قريب.
أنا: كرهت كل شئ أريد أن أخرج و لكن الدوامة تحملني من جديد,دوامة يغرق فيها الرجال و يخرج منها المنافقون, لم أعد أتساءل حين أرى من يضع الكمامات ففي بلاد التفاهة الدولة توزع الحماقات,دولة تحولت فيها التحتية إلى ملابس و أختفت من البُنيَة, حتى من الفقير نسي خالقه و ذهب راكعا للأغنياء, بلاد تعلمنا فيها أن نبيع الآخرة لنشتري الحياة الدنيا.
الصوت: سأعينك لآخر مرة و أتكلم بدلا عنك, فاليوم بدلا من السكاكين أصبحت تجرح الألفاظ فأنتم تعيشون في مجتمع ميت دُفن تحت الأنقاض,اليوم طبيبك عوض أن يكشف عن الأعراض أصبح هو من يعديكم و ينقل لكم الأمراض.الحياة تغيرت و الناس لا يمكن إئتمانهم من جديد, لا تعش إلا بما هو حلال فالحرام لن يُغنيك.
أنا: ها أنا على قيد الحياة لا يهمني شئ فكلامهم لا يهمني,بالرغم أن لدي جروح كبيرة تؤلمني,أحيى بندب مستحيل أن يندمل, لأني عوضا عن الدماء أحيى بالنقاط, لا أعلم كيف سأحيى في هذه الدنيا من بعدك, أدوية العالم كله حتى و إن إجتمعت لن تخرجني من الإنعاش,يوجد كلام يُكتب و آخر يخاطب مباشرة الإحساس,سأموت حتما إن لامست يدك غيري في يوم من الأيام,إن كنا نحيى في وقت مستقطع سأتبرع لك بآخر أنفاسي,أهبك ما بقي من عمري إن كانت السنين من العمر تقتطع.أتتذكرين حين أخبرك أنني أتألم قبل أن يصيبك أي مرض؟ كنا نحيا بداخل نفس الحلم نعيش صغارا و قلوبنا بيضاء صافية.تعلمين علم اليقين أنني لا أنام الليل حين أبكيك,كنتي ترين الدنيا بعيناي و أراها في عينيك, قمنا بتربية أطفالنا قبل حتى أن يولدوا,لا نستحق الكلام فأعيننا لخصت الحديث, عشنا من دون حسابات سقطت بيننا الأقنعة, أحرقت الدنيا من أجلك لكي تعيشي مرفوعة الرأس,أتتذكرين كيف كنت أرضيك بأبسط الأشياء؟ أفرح حين تبتسمين و تخبرينني أنك نسيتي ما فات, إن كنتي تظنين أن ما عشناه ذكريات فما عشته معك مازال حيا و حتى بعد الممات, كنا كما لم يكن قبلنا أحد,كنا أكثر من أصدقاء و اليوم الذي لا أراك فيه يمضي كأقصى عقاب, حين تظلم الدنيا أمامي كنتي النجمة التي تمدني بالنور.
قاطعني الصوت في ذهول: توقف عقلك أوشك على الإنفجار,أنت تعود من جديد إلى حالة الفصام.الشيطان الذي بداخلك شارف إلى الإنطلاق, يكفي أرجوك فلن أردعه أبدا إن أطلقت له العنان.
أدمعت عيني دما قبل أن أخنق صاحب الصوت الذي لم يكن سوى إنعكاسي في المرآة, صحت في وجهي متذكرا الأحداث : أنتِ كنتي صبري على هذه الحياة الدوارة,منذ بدأ الخليقة معروف أن لكل وردة أشواكها, أغطيك بملئ قوتي و يدي تنزف بالدماء أحميك خوفا عليك من أقدامهم المارة, حين تقحط عليك السماء ماءها تعلمين أنني بعروقي أرويك و حين تأتي عاصفة قوية لتدمرك أموت و لكن أضمك إلى صدري و أحميك.أعلم أنك بينك و بين نفسك لا تريدينني أن أنساك, لم أشتق إليك أبدا لأنني في كل لحظة مازلت أراك, ما حفر في القلب لا يُنسى و لكن هذا ما كُتب لنا من مصير, خاصة و إن حٌفر في قلب لم يعرف طعم الكذب و لو لوهلة. أحتاج لمائة فيلسوف يتحدثون بمائة لسان لعلهم يفسرون لك كيف تصل لدرجة أن تتنفس إنسان, و ليمضي الدهر و ينتهي الزمان إسمك سيبقى محفورا في قلبي حتى و إن طالني الممات. وحدك تعرفين ما يقتلني و ما يمنحني الحياة,أعلم أنك تسمعين صمتي حين أخرس عن الكلام, بالرغم أن النسر لا يحلق من دون أجنحة و لا ريش إلا أنك مستحيل أن تسمعي منه من جديد كلمة توقفي أعدلي عن قرار الرحيل. لم يبقى لي سوى قلمي أناجيه أن يكتب آخر أسطر الحديث, و يعلن لكم يا معشر المنافقين أن وصيتي قد أصبحت سارية التنفيذ.
مات الحلم عاش الواقع و خاب الظن, أفاق الوحش و قال لكم أنتم ناديتموني و أنا قلت نعم. تهويدتي رددوها فهي آخر ما تبقى لكم من أمل , إنسنديا فاليحترق العالم قبل أن ينفجر القلم.