عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-26-2008, 09:47 PM
 
خطبة الحرمين ليوم الجمعة 21/ 8/ 1429ﻫ

خطبة المسجد النبوي بتاريخ 21/ 8/ 1429ﻫ
الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي



ما يعين على كيد الشيطان
الحمد لله رب العالمين، القوي المتين، له الخَلْق والأمر، قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت، نفذت مشيئته وحكمته، فلله الحجَّةُ البالغة، فلو شاء لهدى الناس أجمعين.

أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحق واليقين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون سرًا وعلانية، وارجوا اليوم الآخر، ولا تتبعوا سبيل المفسدين،واعلموا معشر العباد، أن لكل شيء بداية، ولكل بداية نهاية، ولكل سباقٍ غاية، ألا وإنكم في دار ابتلاء واختبار، وإن الغاية الجنة أو النار.

وقد جعل الله للجنة طريقا واحدا وهو الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وجعل لهذا الدين أعمالاً صالحةً مُنْجِيَةً من الهلكات، دافعةً للشرور والموبقات.

وجعل للجنة - دار النعيم - أهلاً يعملون لها الصالحات، ودعاةً يدعون إليها وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأَتْبَاعُهم وهم الذين أنعم الله عليهم، وأَحَلَّهُم أفضل الدرجات، ووفقهم لاستباق الخيرات، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70].

حسنت سيرتهم وطهرت سريرتهم وزَكَت أعمالهم، وسعدوا في عاجل أمرهم وآجله، وفازوا بجنة الخُلْد.

كما أنه سبحانه جعل للنار أهلاً، وبعمل أهل النار يعملون، وبَيَّنَ الطرقُ التي توجب الخلود في العذاب الأليم، وحذَّر تبارك وتعالى من الشرور والمحرمات التي توجب غضب الجبَّار، وتقود إلى الهوان ودخول النار؛ فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وهذه الدارُ التي خلق اللهُ فيها أنواع العذاب الأبدي - لها دعاةٌ في هذه الحياة الدنيا؛ كما قال تعالى عن أهل النار: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41 - 42].

ودعاةُ جهنَّم يزينون المعصية ويدعون إلى الإثم الذي يُوبِقُ صاحبه، وأشدُ الخلقِ دعوةً إلى جهنم، وأعظم الخلق عداوة لله تعالى، وشر النفوس وأخبثها - إبليس لعنه الله بلعنته التامة، وأعاذنا والمسلمين منه ومن ذريته؛ فقد ابتَلَى الله به ليعلم الضائع من العاصي علمَ واقعٍ وظهور، يترتب عليه العقاب والثواب.
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 20 - 21]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].

هذا المخلوق الشرِّير الذي يدعو إلى كل فاحشةٍ وإثمٍ وشرٍّ - قد جعل الله له قدرةً لا يتجاوزها، وآتى المؤمن سلاحًا لدفع شرِّه، ومعونةً على دَحْرِه، فقد أَقْدَرَ اللهُ إبليسُ على الوَسْوَسةِ والقذف بالهواجس الرديئة إلى القلب، ونَفْث سموم الخواطر الباطلة إلى النفس، وترديد ذلك؛ لينبعث الهَمُّ بالمعصية ثم الإرادة ثم الفعل؛ لأن أول كل فعل هو أن يتحدَّث القلب بذلك الفعل.

كما أعطى الله إبليس اللعين القدرة على تزيين المعصية؛ قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]. ولكن الله تعالى لم يُقْدِرْ إبليس اللعين على خَلْقِ الحُبِّ للشيء، فَخَلْقُ الحُبِّ للشيء يَقْدِرُ عليه الربُّ وحده - عزَّ وجلَّ.

قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].

كما أعطى الله هذا المخلوق الشرير القدرة على تأييد الكفار وإثارتهم على المعاصي؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 83 - 84].

كما أقدر الله إبليس وشياطينه - لعنه الله - على النَّفْث والدفع إلى الغضب، وأقدر الله هذا العدو المبين على الهمس، وهو دفع الوساوس والإغواء إلى القلب، وأَقْدَرَهُ على النَّفْثِ والنفخ.

وجميع ما أخبر الله به من كيد الشيطان فهو كيدٌ ضعيف، يُقتل ويضمحل ويتلاشى عمل الشيطان بالإيمان والاعتصام بالله تعالى؛ قال الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].

وقال تعالى عن هذا العدو: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]؛ ليس له حجة وليس له قدرة على المؤمنين المتوكلين على الله.

وهذا العدو المبين نؤمن بوجوده، ونعرف أثره، ونلمس نتائج شروره؛ أعاذنا الله والمسلمين منه.

وهذا العدو قد قعد في كل طريق خير؛ يَصُدُّ عنه ويدعو إلى ضدِّه؛ كما قال - عزَّ وجلَّ -: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17].

ولن ندفع شر إبليس لعنه الله، ولن نبطل مكائده، ولن ننجوَ من غوايته وفساده - إلا بالاعتصام بالله تعالى؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]؛ فالنجاةُ من الشيطان بالعمل بالكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى ذلك.

أيها المسلمون:
إن الله تعالى بيَّن لنا أن هذا العدو يقود الإنسان ويُورِدُه المهالك، ثم يتخلَّى عنه ويسخر منه؛ قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63].

إنه زيَّن لقوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وأصحاب مَدْين - الشِّرْك والكفر بالله والمعاصي.

إنه زيَّن لقوم لوط الفاحشة، وزيَّن للقرون الخالية المتمردة أنواع الذنوب والمعاصي، فلما نزل بهم بأس الله لم ينفعهم الندم، ولم يُغْنِ عنهم شيئًا: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 16 - 17].

وأمَّا في الآخرةِ؛ فإنَّ هذا الشيطان يقف على كثيبٍ من نارٍ مرتفعٍ، ويخطب في أتباعه، ويتبرأ منهم، ويدعهم فيما هم فيه من العذاب، لا ينفعهم ولا ينفع نفسه؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].

فلا يبقى إلا الزفير والشهيق والندم والبكاء والصراخ؛ فيقول الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].

ومما يدفع الله به عن المسلم كيدَ هذا العدو المبين: الاستعاذةُ بالله؛ فالاستعاذة معناها اللجوء لله والاعتصام واللِّياذُ به؛ قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98].

والرسول - صلَّى الله عليه وسَلَّم - لما استبَّ عنده رجلان، فاحْمَرَّ وجه أحدهما وانتفخت أوداجُه - قال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذُ بالله من الشيطان الرَّجيم)).

ومما يدفع كيد الشيطان وشرَّه: المحافظةُ على الصلاة في جماعة؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].

وفي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((من صلَّى الفجر في جماعةٍ؛ فهو في ذمة الله إلى أن يمسي، فلا يَطْلُبَنَّكُم الله بشيء من ذمته)).

ومما يدفع شرَّ الشيطان: قراءة آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمُعَوَّذَتَيْنِ، وأول غافر دُبُرَ كلِّ صلاة.

وإذا دخل المسلم المسجد فقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم، وبوجه الكريم، وسلطانه القديم - من الشيطان الرجيم"؛ قال الشيطان: حُفِظَ منِّي سائر اليوم.

ومما يدفع الله به شرَّ الشيطان: الإكثار من قراءة القرآن الكريم؛ فله خاصيَّةٌ في طرده، وكلما أكثر العبد من التلاوة حصَّن نفسهُ من الشيطان الرجيم.

ومما يدفع الله به شرَّ الشيطان: الزكاة والصَّدَقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإنفاق في سبل الخير؛ قال - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((والصدقة تُطفِئُ الخطيئة كما يُطفِئُ الماء النار)). وإذا وُقيَ المسلمُ الخطيئةً؛ نجا من شرٍّ عظيم، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.

ومما يدفع كيد الشيطان: مداومة ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - قال: ((إذا قال المؤمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في أول يومه كان ذلك حرزًا له من الشيطان في يومه، وكانت كعتق عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة)).

ومما يدفع الله به شرَّ الشيطان: الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وجهاد النفس جهاد عظيم.

ومما يدفع الله به شرَّ الشيطان: شهود مجالس الخير والعلم، والبعد عن مجالس اللهو واللعب والباطل والغفلة، فإن مجالس اللهو والباطل يحضرها الشيطان، ويوقع فيها العداوة والبغضاء والشقاء، وقد يتعدَّى الشرُّ إلى العدوان على النفس وشرب الخمر وكبائر الإثم.

ومما يُنْجِي أولاً وآخرًا من شرِّ الشيطان: هو التوحيد والتوكل على الله - تبارك وتعالى - والانقطاع إليه، وإخلاص العبادة كلها لله وحده؛ قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا خطرات الشيطان وغفلاته وخطواته ومكائده وشهواته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208 - 209].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزُّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلُّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله سواه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسَلَّم تسليمًا كبيرًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومَنِ اتَّبع هداه.

أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حقَّ التقوى، واعلموا أن إبليس يدعو ابن آدم إلى كل شرٍّ، ويقف له بكل طريق خير، ولا يَحْقِرُ أحدًا، وأوَّل شيءٍ يدعو ابنَ آدمَ إليه الكفر بالله - تبارك وتعالى - فإن استجاب له فقد أعطاه زمامه، وقاده إلى كل شرٍّ وهَلَكَةٍ في الدنيا والآخرة.

فإن لم يستجبْ له في الكفر؛ دعاه إلى البدعة في الدين؛ لأن البدعة لا يتوبُ منها صاحبها غالبًا؛ لأنه يراها دينًا فيفرح الشيطان. فإِنْ لم يقدر دعاه إلى كبائر الذنوب، ثم إلى الإصرار على الصغائر إن لم يقدر على دعوته إلى الكبائر.

فإن لم يقدر على ذلك دعاه إلى أن يشتغل بالمباحات عن المستحبَّات، وأن يشتغل بما لا يعنيه.

إن الشيطان يُشامُّ النفس وينظر رغباتها؛ فيأتيها من مَيْلِها ومن جهة محابِّها، فيفتح لها أبوابًا من الشرور من جهة رغباتها وإراداتها، والنفس أَمَّارةٌ بالسوء؛ إلا مَنْ رحم الله.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5 - 6].

إن الشيطان يَقْنَعُ ويرضى بما يحقرُ العبد من المعاصي، وما يستهينُ به من الذنوب. فاحذروا عباد الله مداخله عليكم؛ قال - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إن الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبَدَ بجزيرةِ العرب، ولكنْ رضي بالتحريش بينكم)).

عباد الله:
إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه؛ فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فصَلُّوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنَّك حميدٌ مجيد. اللهمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنَّك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا.

اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخْذُل الكفر والكافرين يا رب العالمين.

اللهمَّ اقضِ الدَّيْن عن المدينين من المسلمين، اللهمَّ واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.

اللهمَّ فرِّج هم المهمومين من المسلمين، وفكَّ أسرهم يا ربَّ العالمين، إنك على كل شيء قدير.

اللهمَّ واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمَّ إنا نسألك أن تغفر لنا يا أرحم الراحمين.

اللهمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأَجِرْنَا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهمَّ أغثنا يا أرحم الراحمين غياثًا عاجلاً؛ إنك ربُّ العالمين لا إله إلا أنت، لا يكشف البلوى والكرب غيرك يا رب العالمين.

اللهمَّ أَعِذْنا من إبليس وذريَّته، اللهمَّ أعذنا وذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وجنوده وشياطينه، اللهمَّ أَعِذِ المسلمين من إبليس وذريَّته وشياطينه وجنوده يا رب العالمين.

اللهمَّ وفق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، اللهمَّ وفق إمامنا ووليّ أمرنا لما تحب وترضى، اللهمَّ وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهمَّ وأصلح بطانته وأَعِنُهُ على أمور الدنيا والدين، اللهمَّ وفق نائبه لما تحب وترضى يا رب العالمين.

{رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

عباد الله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90 - 91].

واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولَذِكْرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
رد مع اقتباس