*الفصل التاسع
استعد جيدا للتصويب وكاد يفلت سهمه ليشق طريقه نحو هارونا ويقتلها لولا أن أوقفه واحد منهم بصوت حانق
- "(هل جننت ؟ تعرف بأن الأوامر تنص على بقائها حية)"
وأسرع بإمساكِ القوسِ وَإلقائهِ بعيداً ولكنَ الرَجُلَ الأخرَ أجاب ببرودٍ حَمَل فى طياتهِ شيئاً مِن السخرية
- "(أعرف ولكنى أردت أن أجرب فحسب ، عسى أن يفلت السهم من أناملى فيصيبها)"
غضب الرجل الآخر كثيرا من كلماته اللامبالية هذه وأمسكه من قميصه وكان على وشك أن يلكمه
بينما لم يُبدى ذلك البارد أى ردة فعل تُذكر ، فقط وقف يتأملُ عينى أخيه البندقيتين الواسعتين...
وأوقفت هذا الجدال فتاة كانت تقف بعيدا عنهم
تنظر لهم بعينيها المصبوغتين بلون الدماء تغطيهما بضع خصلات من شعرها الأبيض الطويل
وقد زفرت بملل لتطير تلك الخصلات الثلجية وتتمايل برفق مع الهواء
ثم تقدمت نحوهما ببطء وثقة ، وابتسامة عريضة ارتسمت بخبث على محياها
ولكن نضبت تلك البشاشة من وجهها عندما سمعته يقول
- "(لما تتصرفان وكأنكما لم تكونا هناك؟..
لقد سمعتماه وأنا واثق بأنكما تشعران بالخوف من مجرد التفكير فيما سيفعله بنا إن عصيناه مجدداً")
فنظر الثلاثة إلى بعضهم فى شئ من القلق لم يتمكنوا من إخفائه واسترجعوا ما حدث حينها
تلك القلعة السوداء ذات الأسوار العالية والتى لا يسمع منها سوى دوىّ الصرخات المؤلمة
لا يمكن أن يسكنها أحد غير الوحوش...وهو...
من خلف أستار الظلام ينبعث صوته الهادئ الرخيم ليشق طريقه إلى آذانهم
مهددا بأن صبره قد نفذ .. وأن أى خطأ آخر منهم سيكون عقابه قاسيا
ذلك الوجه الخفى والذى لا يظهر منه سوى شعره الفضى الطويل لامعاً فى الظلام
قد تبدو ملامحه بريئة بعض الشئ إلا أنه خلف تلك الإبتسامة المطمئنة يختبئ وحش هائج عن الأنظار
حتى الآن مازال صدى كلماته يصدح فى أذانهم حين قال...
- "(يجب أن تعيش ، وألا تصاب بأذى فنحن مانزال فى حاجتها ، وقريبا جدا سيحين الوقت لأخذها)"
وفى الحاضر
وقف الثلاثة يفكرون فى معنى هذه الكلمات الغامضة التى قالها زعيمهم
فقد بدت كالطلاسم بالنسبة إلى عقولهم محدودة التفكير
ولما يحتاجون العقل على أية حال فهم لا يستعملونه؟!!!
كل ما يحتاجونه هو القوة لإصطياد فرائسهم واقتيادها إلى مثواها الأخير
لذلك رحلوا عن ذلك البيت مارينَ فوق جثث أصحابه.. يجرون ورائهم أذيال الخيبة
مُمَنينَ أنفسهم الساخطة بأنه يوماً ما....سيحين زمانهم
حين لا يضطرون لإتباع أحد...حين يضعون قوانينهم الخاصة ويتمردوا عليها ..
فقط ..عليهم التحلى بالصبر..
ومرت تلك الليلة بسلام على الجميع...تقريبا
الساعة ! إنها تدق معلنة انتصاف الليل.
بينما ذلك الطالب الكسول عائد من منزل صديقه حيث كانا يذاكران سوياً..
عجيب ، إنه يعود دائماً من هذا الطريق إلى بيته لكن هناك شئ مختلف اليوم..
لربما السبب أنه لم يشعر بمرور الوقت حين كان برفقة صديقه حتى انتهى به الحال سائراً وحيداً فى الأزقة المظلمة
قلبه ينبؤه بأن هناك شيئاً غريباً..هذا الصمت القاتل يخفى شيئاً ما..
فأحكم قبضته وقربها من قلبه القلق فى محاولة لتهدئته..تنفس الصعداء ثم تابع سيره بقناع الثقة..
- "(هناك أحد ما !!)".
كان هذا مانطق به همساً ليؤكد لنفسه أمر الخطوات المريبة التى بدأ يسمعها..
بدت وكأنها لشخص يسير خلفه...يقترب منه..
فتوقف لبرهة لتتوقف تلك الأقدام معه ، فهز رأسه بعنفٍ محاولاً نفض تلك الأفكار السخيفة التى وجدت منفذاً لعقله.
ثم تابع سيره وكأن شيئاً لم يكن..ولكن كيف ذلك وصدى خطوات ملاحقه يتردد فى أذنه..
لم يجد حلاً آخر سوى الاسراع بمشيته شيئاً فشيئاً ثم يركض بأقصى ما يستطيعه..
ولكن خطته باءت بالفشل عندما لمح شخصاً آخر أمامه..
لم يستكشف ملامحه بدقة ولكن أنيابه التى أظهرها ضوء القمر كانت كفيلة ليشعر بالنفور منه..
فدخل زقاقاً جانبياً واختبأ فيه حتى توقف وقع الخطوات ، فهدأت نفسه بعض الشئ..
- "(يبدو بأنك تفضل لعب الغميضة وحدك على الانضمام الى لعبتنا للصيد؟)".
كلمات صدرت بصوت غَزَتهُ البراءة دفعته للالتفات برعب الى صاحبة الصوت..
حدق بوجهها الطفولى للحظاتٍ وكأنما كان يسألها عن ما تفعله فى مكان كهذا..وفى هذا الوقت..
ولكنه لاحظ أنه صار محاصراً ، شابين ذى قامتين متوسطة من الخلف وتلك الفتاة من الأمام..
فانتصب على قدميه وهو ينظر اليهم ببرودٍ عكس ما اعتراه من رعب..
فنطق بصوته شبه المتردد ذى النبرات المتقطعة :
- "(ما الذى تريدونه منى ؟ ولما تلاحقوننى ؟)".
فأتته إجابة لم يكن يتوقعها مِن مَن بدى عليه أنه أكبرهم بينما يقترب منه ببطء ماداً يده اليه :
- "(لا تقلق ، نحن فقط نريد أن نريحك من كل شئ)".
وبينما كانت يده تقترب كان الطالب المسكين يبتعد بجسده للخلف بحركة لا ارادية..
- "(سنريحك من عذابك ، سنخلصك من والدتك المتسلطة ، سنبعد ذلك الألم الناجم عن حبك لـ أكانى)".
التفت الشاب الى الفتاة الصغيرة وكلامها وقد اتسعت حدقتا عينيه إثر ذلك قبل أن ينطق مستفهماً
- "(ولكن كيف تعرفون أكانى ؟ ووالدتى ؟)".
فى البداية لم يسمع رداً لسؤاله ، فقط لمح الابتسامة وقد غزت تقاسيم وجوههم ..
لكن بعد ذلك تفوه أحدهم فى نبرة ضاحكة مكشراً عن أنيابه
- "(نحن نعرف كل شئ عنك كوتارو ، عائلتك ، أصدقائك ، أحلامك ،......وكوابيسك أيضًا)".
ماذا سيفعل فى هذا الموقف العصيب وهم يقتربون منه أكثر فأكثر..
نبضات قلبه تتسارع بينما تسمرت أقدامه فى مكانها ، يريد أن يتحرك ، أن يهرب بعيدًا
ولكنه لا يستطيع !..
علت صرخاته لتصل عنان السماء لعلها تجد مُنقذًا لصاحبها..
لكنها سرعان ما أُخمدت كشعلة صغيرة حاولت مواجهة الإعصار..
لتخلف بعدها جثة أخرى تنضم الى تلك السلسلة من الضحايا ، ويالها من سلسلة كبيرة حقًا!
وبعد أسبوع من هذه الحادثة...
فتحت عيناها بتثاقل بسبب سماعها لصوت شئ ما لا تعرف ماهيته !
لتملأ عقلها المئات من علامات الاستفهام ...إنها فى المدرسة ، فى فصلها !
- "(أكنت نائمة هنا ؟ ولكن كيف الى جئت الى المدرسة ؟)".
أحست بنسمات ربيعية تداعب شعرها الطويل برفق فنظرت الى النافذة المفتوحة
وقد تسللت بعض براعم أزهار الكرز من خلالها لتطير بانسيابية داخل الفصل الدراسى
كان منظرًا خلابًا ولكن سرعان ما بدأت التساؤلات تتردد بلبها عن مدى غرابة الأمر
فكيف يمكن لأزهار الكرز أن تنبت بهذا الجمال فى فصل الشتاء !!...
ثم أعادت نظرها مجددا للنافذة وقد كانت الشمس على وشك المغيب.
- "(على أن أخرج من هنا )".
كان هذا ما قررته وبدأت بتنفيذه ولكنها حالما خرجت من الباب أحست بشئ غريب..
بدا لها وكأن شيئا ما قد مر للتو من خلفها ولكنها استدارت لتجد لاشئ..
تجاهلت الأمر وتابعت سيرها نحو المخرج ولكن سرعان ما تكرر الأمر..
دب شئ من الخوف فى قلبها ومع ذلك قررت ان لا تستدير للخلف..
وبدون أن تشعر أصبحت تجرى فى الرواق هاربة من ما بدأ خيالها بالتصوير لها..
أحست باقتراب تابعها بسرعة على الرغم من أنها كانت مسرعة فى ركضها بجنون..
فسبب الإرتباك لها إنثناءًا فى قدمها لتسقط على إثره وصوت صراخها يضج بالمكان..
.....
فتحت عيناها مجددًا ، ولكن هذه المرة كانت على أرض الواقع..
أنفاسها المتسارعة كما هو حال نبضاتها بالاضافة الى عيناها المندهشتين..
كل شئ مضطرب بداخلها قد هدأ بعد أن استوعبت الأمر ، إنه كابوس..
مدت أناملها بتكاسل نحو ساعتها الصغيرة الموجودة بجوار سريرها الزهرى لتوقفها عن الرنين..
لتجول بعدها ببصرها فى الغرفة وتطمئن بأن كل شئ على ما يرام..
ثم رفعت جسدها بكسل وتململ غير راغبة فى النهوض وعادت لتفكر مجددا فى أمر ذلك الكابوس
- "(إنه مجرد كابوس ، لكنه بدا واقعيا جدا.... صرت أعانى من الكوابيس الكثيرة مؤخرا)".
رفعت طرفها وتنهدت بارتياح مغمضة عينيها قبل أن تقوم للإستعداد لذهابها للمدرسة
وماهى إلا نصف ساعة حتى أتاها ذلك الصوت المألوف من المطبخ مناديا عليها للنزول
فاستجابت لرغبة والدها وأسرعت بالانتهاء من ترتيب كتبها المدرسية بالحقيبة
ونزلت بخفة ذلك الدرج الصغير المؤدى الى حيث انتظرها ذلك الأربعينى
- "(أنا أتضور جوعا منذ الصباح الباكر ، لما تأخرتى فى النوم ؟)".
نطق بتذمر ليرسم إبتسامة جميلة على ثغر ابنته الوحيدة
لينطلقا بعدها الى المطبخ بصمت ويبدئا فى تناول الطعام فى صمت على غير العادة
فقد كانا دائما يتكلمان ويتشاجران كل صباح ... ولكن هذا الصباح كان مختلفًا..
جلس الأب على الطاولة وبدأ بتصفح الجريدة أولاً بعد ان لفتت بعض الأخبار انتباهه
بينما تناولت الإبنة بضع لقيمات من الطعام الموضوع أمامها قبل أن تلتفت الى والدها
- "(جريمة جديدة !..)".
غمغمت الإبنة بهذه الكلمات التى تشكل العنوان الرئيسى لصحيفة ذلك اليوم
لم يكن صوتها عاليا جدا لكنه كان كافيا ليسمعه والدها فيقلب الصفحات الى الصفحة الأولى ويرد عليها
- "(أجل .. يقول الخبر بأن الشرطة قد وجدت ضحية جديدة فى مرفأ المدينة..
سيدة تبلغ من العمر سبعة وعشرين عاما ، وكما هو الحال مع الباقيين ..
لم يتم العثور الا على يدها اليمنى مقطوعة وموضوعة هناك بجوار بطاقتها الشخصية)".
- "(هذا فظيع حقا !..)".
نطقت الفتاة وقد ظهر عدم الارتياح لما تسمعه جليًا فى صوتها
بينما لم يكن باستطاعة والدها قول شئ فهى محقة تماما فتأملها بنظرات غير مفهومة..
الوصف الأدق لها أنها كانت نظرات والد خائف على ابنته من قسوة الأيام الحاضرة
مع لمحة صغيرة من الأسى تطغى على عينيه كلما التقت نظراتهما فى هذا اليوم تحديدا
عيناها الزمرديتان تشبهان عينا محبوبته الراحلة ، فكلما حدق بابنته عاد طيفها ليداعب خياله وذكرياته
- "(أرجوكِ كونى أكثر حذرًا يا صغيرتى..)".
قالها بصوتٍ متهدج أثناء نظره اليها قبل أن يعيد النظر الى الصحيفة مجددا ويكمل كلامه
- "(أصبح العالم كالغابة ، البقاء فيها للأقوى ، لا يمكن أن نضمن ما تحمله الأيام لنا يا صغيرتى...
لذا...أرجوكِ أن تعتنى بنفسك جيدا ، فأنا لا أريد أن أخسركِ)".
- "(لا تقلق ، ابنتك تستطيع حماية نفسها جيدا أيها العجوز)".
ثم اتبعت الشابة كلماتها بابتسامة صغيرة فى محاولة يائسة منها لطمئنة والدها
أو ربما كانت تحاول أن تطمئن نفسها بأن الغد سيكون افضل
وبعدها عادت للتفكير فى أمر تلك الجرائم الغريبة ، فخطر ببالها أنه ربما..ربما تكون الوحوش هى السبب..
كانت مجرد فكرة دارت بخلدها قبل عدة ايام وأصبحت بعد ذلك هاجسا يؤرقها..
وفى كل يوم يزداد اقتناعها بها ، ويزداد خوفها منها أيضًا
فكانت سرعان ما تهز طرفها بقوة لمحو تلك الأفكار والمخاوف من عقلها..
إنها ليس خائفة من مواجهة الوحوش بقدر خوفها من تبعات هكذا قرار على حياتها
على أى حال هذا ما كان ليحدث ، ومنذ أن وافقت على أن تصبح حارسة كان يجب عليها توقع ذلك
ربما أثر خوفها الشديد فى تلك اللحظة على افكارها فصارت غير عقلانية
أو ربما أرادت القضاء على تلك الوحوش قبل أن يضطر والدها الشرطى الى التعامل مع ما يفوق قدراته
وهاهو الأمر قد بدأ ، الوحوش تهاجم البشر والشرطة تلاحقهم ، لذا يجب منع لقاء هذين الطرفين
فهو فى النهاية لن يُسفر إلا عن المزيد من الجثث..
والفكرة التى تخيفها حقًا هى أن يكون والدها واحدا من أولئك القتلى ، فكرة تحاول جاهدة التملص منها..
على أى حال لم يعد بإمكانها الإنسحاب ، ولكنها ايضًا ترغب فى حياة طبيعية !
لم تملك فعل شئ فتنهدت علّ هذا يكون كافيًا لإزاحة ذلك الثقل الذى يجتاح قلبها..
ثم حملت حقيبتها وتوجهت نحو الباب لترحل لولا أن استوقفها صوت والدها قائلاً
- "(لا تتأخرى فى المدرسة اليوم , كيميكو !)".
- "(لا تقلق أبى ، أنا أتذكر ماهو اليوم لذا لن اتأخر .. حاول انت شراء الأشياء اللازمة فى غيابى)".
لم تستدر اليه لتواجهه أثناء كلامها بل اكتفت بالابتسام من طرف فمها ثم الرحيل عن المنزل
هاهى ذى تقف كما اعتادت أن تفعل أمام منزلها محدقة بساعتها متسائلة عن سبب تأخيره هذه المرة
رياح الشتاء الباردة تتسبب فى تطاير خصلاتها ونشر البرودة بجسدها
ثوبها المدرسى الرمادى ماكان دافئًا بما فيه الكفاية ، حتى وشاحها الأسود لم يفدها كثيرًا أمام هذا الجو
لم تمضى سوى لحظات قليلة حتى هدأت الرياح مجددًا ، ووصل ذلك الفتى مسرعًا وبدأ بالاعتذار
- "(آسف لقد استيقظت متاخرًا ، اعذرينى أرجوكِ)".
- "(أنت دائمًا تتأخر , أندو !)".
لم تزد على كلامها حرفًا واحدًا آخر بل تنهدت بيأس من محاولاتها لمحو عادة التأخير هذه من عنده..
وتوجها سويا الى المدرسة كما العادة
كان الطريق الذى يذهب منه أندو الى مدرسته يمر بمنزل هارونا..
لذا طلب منها أن تنتظره ليذهبا سويا ، ولكنه كل يوم يأتى متأخرا بعذر جديد ليكملا سويا الطريق فى صمت
ولكنه هذه المرة حاول أن يجاذبها أطراف الحديث على الرغم من خيانة الكلمات له..
جسدها المرتجف ، يداها المتصلبتان ، جفناها المرتخيان وأنفها الأحمر...
ظل يسترق النظر الي حالها من حين لأخر وقد بدا عليها الشعور بالبرد فأراد أن يعطيها معطفه
لكنهما كانا قد وصلا بالفعل الى المدرسة ، والأمر المحال بالنسبة له أن يفعل شيئا لطيفا لفتاة أمام الجميع..
*الرجاء عدم الرد