أرى انهيارهم يتقدّم بهوادة, القدرة على التّحمُّل ستتبخر و في سهوة السُّقوط على أحدِنا أن يصمد..
تسللت الانوار الضعيفة الى عينيها و قد فتحتهُما ببطء, التفتت تستلقي على ظهرها و تدفع جزءًا من اللحاف عنها بينما تُستغرق في التحديق بالسقف..تذّكرت الحلم الذي راودها لحظة بلحظة كانت بعُمر الأحد عشرة سنة وقتها و كريس كان في الرابعة عشرة, تلك كانت أول مرة تفرح فيها لأنها أقصر البنات في المُتوسطة بأسرها!
تذكّرت كيف رفعت يدها و هي تقفز كي تلفت انتباه مُعلمتها مُرددة " أنا أنا!..أريد أن أكون ترينكبيل! "
القرار السريع الذي اتخذته بمُجرّد أن تمّ اختيار كريس لدور بيتربان و لأنه وافق دون اعتراض بل و ابتسم راضيًا بينما يتقدم ليقف حيث رزمة المُمثلين الذي اختِيروا ليُؤدّوا المسرحية, ركضت لتقف الى جانبه و هي غير مُدركة لوجهها الذي رسم السعادة بأتمِّ معانيها!
تنهدت لوسي و تقلبت في فِراشها مُنكمشة على نفسها أكثر و لافَّة اللِّحاف حولها من جديد مُحاولة منع ماضيها من اختراق حاضرها! لكنها فشلت حين استرسلت ذكرياتُها مرّة أخرى..
بعد سنة..وقع الحادث و مات كريس, و بعد شهر منه كانت لوسي سائرة في رواق المدرسة على كتفيها تتعلّق حقيبة ظهرية, ذراعاها مُنسدلان و وجهها جامد, جلدُها شاحب كالضوء الأبيض و شعرُها قاتم شديد السّواد, غابت عن المدرسة لفترة شهر, صدمةُ الموت كانت شديدة عليها, مرضت و أصابها رُهاب السيارات و الطُّرق, طوال طريق مشيها من البيت الى باب المدرسة و الى غاية توغلّها فيها استمرت أُذنها تلتقط همسات مُنخفضة تزاحمت من حولها بينما تعبر بين الطُلاب, تجاهلتها كُلّيًا, لم تكن تسمع سوى طنين, و كأن رأسها مغمور في مياه ضحلة ضبّبت رؤيتها و سمعها.
اقتربت منها فتاة بنفس عُمرها لكنها كانت أطول منها ببضع سنتيمترات و سألتها بصوتٍ هادئ مُفعم بالوِّد
فنظرت إليها بعيون مُتعبة و أجابت بصوتٍ مُنخفضٍ و مبحوح بدا و كأنه بقي محبوسًا في حلقها لمدّة!
كانتا تقفان عند خزانة لوسي حين تطوعت الفتاة التي معها لتحمل عنها بعض كُتبها فلم تعترض لوسي و سارتا معا الى الصف مع استمرار الثرثرة المكتومة, سمعت منها
" إنّها تعالج عند طبيب نفسي "
" كانت تقول لهم أشياء غريبة مثل السيارة الزرقاء و بيتربان لا يموت!"
" و من أين عرفتِ أنتِ؟؟ "
" ذهبتْ أمي لزيارتهم قبل اسبوعين و أخبرتني بذلك, لوسي جُنّت تمامًا! "
" هاملتون لم يكن بيتربان على اية حال, و هذا أفضل لأن بيتر سيُفضِّل ويندي في النهاية.."
" ايملي ارجوك توقفي! تلك مُجرّد قصة..أخبرتُكِ أن المانجا اليابانية لها تأثير سيء!"
" عدا عن كون شخصياتها تُسبب جلطة بسبب وسامتهم فالمانجا رائعة!"
تحوّل الحديث عنها لكن ما سمعته كان كافيًا ليترك أثره فيها, ترينكبيل لم تكن يومًا لتبقى مع بيتربان..
ربما تغلبت الآن على خوفها من ركوب السيارة و لكنها لا تزال تعاني من رهاب الطرقات!, كذلك تمكنت من تجاوز الفكرة التي شلّت عقلها تلك الفترة عن كون بيتربان مرتبط بطريقة ما بكريس, نجحت بذلك عندما اقتنعت هي الاخرى أنها ليست ترينكبيل نتج ذلك عن نضجها الفكري ذلك الذي اخرجها من عالم الأحلام نهائيًا..فأصبحت تلك الذكرى مجرد سراب يطفو الى عقلها أحياناً إلى أن تمكنت من الرسوّ في الواقع أخيرًا!
كان لآنا و جيمي دور أكثر تأثيرًا من أي شخص آخر, عدّت مارتن أيضًا ممن ساعدوها على المضي رغم انها مُدركة أن نيته فاحت بنوع من الأنانية .
من خلال نافذتها المستطيلة نظرت الى السماء الّليلية التي غطتها سُحبٌ بدت بيضاء في الظلام مما منحها منظرًا يثير الرهبة فالليل يزحف على الشوارع و الطرقات الساكنة بينما السماء تُشع و كأن الشمس ستخترق جدار الغيوم الكثيفة تلك!
همست بها لنفسها و بذهول اتقدت له عيناها قفزت من سريرها باتجاه النافذة و حملقت في الآفاق, ثم فتحت النافذة على عجلة مع محاولة ألا تُصدر أي ضجة, اندفع التيار الهوائي باردًا نحو وجهها و كتفيها جاعلًا من جلدها يقشعر و شعرها يسبح خلفها كغزل من الحرير الاسود.
مدت ذراعها المكسوّة بأكمام قميصها القطنّي الدافئ وردي اللون و أبقتها خارج النافذة بينما تبسط كفّتها الصغيرة و على مُحياها ابتسامة أطفال:
استمتعت بالنسيم و ملأت رئتيها بأكبر قدر من الهواء الثلجي المُنعش, فكرت في صميمها أنها ستمرض لكنها لم تُبالي, رؤية الثلج كان من أسباب حنينها لكاوس, مهما رغبت في الابتعاد فإن ثلج هذه المدينة التي تحمل التناقض الذي يُشبهها بين صخبها و سكونها سيسحبُها مرارًا الى هنا..
بعد هُنيهة حطّت تلك الرقاقة الخفيفة على راحة يدها, تأملتها تنزل ببطء شديد مُتراقصة مع نغم الريح ثم تذوب تحت تأثير حرارة جلدها, تتالت بعدها نُدف الثلج و تأملت ساحة بيتهم تتدثر بالأبيض, زفرت نفسًا غائمًا و أسرعت لإقفال النافذة بعدما شعرت بالصقيع يتسلل لعظامها و عادت تزحف أسفل غطائها من جديد مُتوسّلة النوم..
كانت في مزاج جيّد هذا الصباح بالذات, كوب الشوكولاتة بالحليب بمثابة مُهدئ فعّال جدًا لعصبية مثلها, أحست بالشفقة حيال كريس و ضحكت مع نفسها عدة مرات بمُجرّد أن عادت الى ذاكرتها أحداث ليلة البارحة.
ليس من عادة جيمي أن يسأل بالرغم من كونه المسؤول عن الفرقة لكنه مؤمن بمقولة "شؤون خاصة" لأنه هو الاخر له شؤون كتلك و لن يرغب ان يستفسره فيها احد على طاولة الافطار كما يهم مارتن أن يفعل بآنا!
ــ إذن..أين كُنتِ البارحة؟ تجاوزت العاشرة و لم تعودي إلى الفندق
امتصت آخر قطرة من الكوب الكبير و لم تتوانى في لعق شفتها العلوية كما يفعل الأطفال الصغار و أجابته بردِّ متوقع جدًا:
حرّك سبابته على حواف فنجانه مُجيبًا:
ــ لا شيء شخصيّ, لكنني خِفتُ أن تكوني تسببتِ بقتل أحدهم, تعرفين تلك الحركات التي تقومين بها
و رفع يديه أمام وجهه مُقلدًا حركات الكونغ فو بطريقة رديئة جدًا, كانت قد أخذت قطعة كوكيز و قضمت منها ثم قالت:
ــ كسرتُ بابًا و حطّمتُ لوحة, رغم أنني لا أُلامُ فعليًا على اللوحة!
جعّدت شفتها بازدراء و هي تتذكر ما افتعله شقيق لوسي, في تلك اللحظة رفع جيمي عينيه القانيتين عن هاتفه و هو الذي كان جالسًا على الكرسي الطويل عند مشرب المطبخ و عند الجانب المُقابل للنافذة الكبيرة كالعادة, فذلك أصبح مكانه المُفضل, نظر إلى آنا قُبالته و هي تأكل البسكويت ثم إلى مارتن الذي كان الى جانبه و الذي رمش بآنا عدة مرات و فمه مفتوح بعدم استيعاب!
عاد يرمقها من خلف خُصلاته الحمراء المُتساقطة على جانبي رأسه:
صوته الحاد و الهادئ في نفس الوقت أضفى الى الغرفة سكونًا. فمن النادر أن يتحدث جيمي عدا فيما يخص الفرقة و إدارة أعمالها و حتى لو تحدث فهو يُحافظ على النبرة الخفيضة مما يُظهره كأحد نُبلاء العصور الوسطى, أو كمصاص دماء عاش في أوروبا منذ قرون عديدة!
أجابته بعفوية و هي تستند بمرفقها الى الرخام الأسود المُبرقش بومضات بيضاء:
ــ بلاسدارم الشارع الخامس.. زُرتُ صديقًا قديمًا و كالعادة تركتُ بصمتي بأن خرّبتُ بعض الأشياء.
ــ مع ذلك كان من الخطر أن تسيرِ في الليل بمُفردك
ــ هذا سبب مُقنع جدًا حتى يعترضكِ اللّصوص
بعدما كان ينقل عينيه بينهما مُكتفيًا بالمراقبة و الاستماع, أفلتت من مارتن ضحكة مُستخفة و قال مُشيرًا إليها:
ــ حتى لو حصل ذلك ستجعلهم يتوبون صدّقني!..فقط أنظر لوجهها..لا أحد سيجرأ على الاقتراب!
تجهالته كُليًا و هذا ما لم يتوقعه فقد كان يتوق لمُشاجرة أخرى, لسبب ما وجه آنا الغاضب يروقه, إنها ترسم تعابير مُدهشة حين تنفعل على حد ظنّه! لكنّها في مزاج جيّد هذا اليوم..
سألت الشقراء جيمي الذي عاد اهتمامه لينصّب على هاتفهه حين راح يُمرر إبهامه على شاشته:
قال دون أن يرفع نظره: ــ لا
صاح مارتن: ــ مهلًا لحظة! لماذا لم تُجيبيني عندما سألتُكِ أين كُنتِ؟!
ثم التفت الى جيمي مُضيّقًا عينيه و يتهمه بطريقة درامية:
ــ حتمًا استخدمت عليها إحدى حِيلك! سأكشف سرّك قريبًا..
عادت نفس الفكرة تتردد على عقل جيمي بحيرة " عن أي سرٍ يتحدثون؟؟ ". مرت ثوانٍ من السّكون حتى أضاء هاتف آنا الموضوع أمامها على المشرب الرخامي و في نفس اللحظة أزّ آخر داخل جيب مارتن فتفقّد كل منهُما الرسالة التي وصلته و التي كانت مُتماثلة, جدول به مُختلف المواعيد و اللقاءات التي يجب أن يخوضوها الشهر المُقبل, رفع مارتن عينيه السوداوين الى جيمي و أبدى ذهوله:
تمتمتْ آنا و عيناها مُثبّتتان على هاتفها: ــ دِعاية لدرّاجة نارية..هذا يُناسبني جدًا..
سارع مارتن هو الآخر لتفقُد ما ينتظره, ربما يقترحون عليه سيارة -بما أن آنا حضيت بالدرّاجة-..أو حتى عِطر رجاليّ, المشاهير دومًا يَقومون بدعايات مُماثلة, لكنّه تمنى ألّا يكون المشهد كلاسيكيًا فكُلما كان مُشتعلًا كُلما كان ذلك أمتع بالنسبة له, تذّكر تلقائيًا إعلانا لأحد العطور حيثُ المُؤدّي يسير بحركة مُتناسقة مُتباطئة بينما تنفجر ألسنة اللّهب من ورائه و كأنها ستلتهمه!
فارت دماؤه بمُجرّد تخيّل نفسه هُناك في تلك اللحظة كيف كان ليبدو ببشرته الناصعة و شعره الفاحم المُسرّح بطريقة فوضوية تُناسبه تمامًا!
حين كان خياله يُحلّق به التقطت عيناه الكلمة المنشودة "دِعاية.." لكن بقيّة الجملة جعلت ابتسامته تتراجع و بريق عينيه المُتحمّس يختفي..
فكّر داخليًا ( كيف سنفتعل تفجيرات من أجل شامبو!!)
تسلقت ضحكة شريرة حلق آنا ثم تصاعدت مُتحوّلة الى قهقهة بينما تُكرّر الكلمة "شامبو!", و هو ينظر إليها بعينين ضائقتين بغيض, ثم توقفت و أشارت بسبابتها الى شاشة هاتفها و هتفت:
ــ أوه! أنظر هُناك إعلان مُشترك بيننا!
تفقد مارتن الجدول مرة أخرى و تأكد من ذلك, لاحظ أنها لم تُعلّق و قد أدرك السبب بسُرعة حين وجد فُرصته ليضحك عليها:
ــ هههههههــ..جَلْ مُثبّتٌ للشعر!
كان ذلك ليكون كالفأس على الرأس فذلك إشارة لمظهرها الصبياني و وجودها مع مارتن في نفس الاعلان أشبه بهِجاء يُوّجه لها على أنها بعيدة كل البعد عن الجمال الأنثوي. لكن ليس لآنا و كعادتها وجدت كيف تقلب الوضع لصالحها مُجدّدًا:
ــ على الأقل انا لا يتعلّق كل شيء بشعري أما أنت فشامبو و مُثبت شعر..ههههههــ..
زّم شفتيه على كلامها ثم قال: ــ يُفترض أن يلفِت شَعرك الانتباه أكثر فمن النّادر أن نجد فتاة بقَصّة سبايكي! حتى جيمي شعره أطول من شعرك!
و وضع كفه على فمه يُحاول منع ضحكته القوية من الصدور بينما عيناه تحرسان ردّة فعل شبيه مصاصي الدّماء الذي يجلس بجانبه و الذي بقي ساكنًا و ضوء هاتفه ينعكس على وجهه الشاحب المشدود سوى عيناه القانيتان اللتان تتحركان بتناغم بينما يقرأ و يتصفح جهازه النّقال و تارة يرتفع مرفقه بطريقة آلية مُتصلّبة كي يوصل كوب القهوة المُرّكزة الى فمه. أحيانًا ينتاب مارتن شعور مُفزع حيال مُدير أعمالهم هذا! جيمي البالغ سبعة و عشرين عامًا و أكبرهم سنًا و الذي كان له الفضل في جمعهم معًا.
سأل مارتن عندما عاد الصمت ليكسو الجو:
ــ ألم تتصل لوسي بأي منكُما؟
هزّت آنا رأسها نفيًا و هي تلتهم قطعة كوكيز أخرى حينها خرج صوتُ جيمي مُجيبًا:
انصَبَّ اهتمام مارتن على زميله فاستدار ناحيته بكل جذعه و كل منهم يعلم جيدًا ما سيحصل فذلك السيناريو أصبح معروفًا لدى ثلاثتهم خاصة عندما يتعلّق الأمر بلوسي, مارتن يسأل و جيمي يجيب باختصار شديد جدًا على أمل أن يضجر هذا الأول و يتوقف عن الثرثرة لكن ليس مارتن فرغم أن جيمي يُتعبه جدًا بعدم خوضه في التفاصيل و يدفعه لطرح أسئلة مُتواصلة لكن ذلك لا يُثنيه على معرفة ما يريد.
ــ بعدما خرجت آنا, عصرًا.
لم تُبالي الشقراء و كأن اسمها لم يُذكر أبدًا, في حين تمتم مارتن لنفسه و هو يحدّق بآنا:
ــ كُنتُ في صالة الرياضة وقتها..ماذا قالت؟
ــ أرادت أن تتأكد أنني لازلتُ أُبقيكُما على قيد الحياة.
تصلّب مارتن مكانه و بلع ريقه أما آنا فقد انطلقت تضحك عاليًا و رأسها يتأرجح للخلف:
ــ تلك كانت رائعة منك جيمي!
هل يتوهم أم أن جيمي يبتسم حقًا؟!, تلك وجنته ترتفع بابتسامة جانبية و يظهر تقوّس خفيف على عينيه لا يكاد يُرى لسرعة اختفائه.
ثم قال بينما يقف: ــ اعذراني, لديّ عمل الآن العبا بهدوء.
همست بها آنا بينما تُكشّر كاشفة عن أسنانها و مُقوّسة أظفارها بوجه مارتن الذي لم يُبدِ ردّ الفعل الذي تمنته إذ أبقى وجهه جامدًا و نظراته حادّة فتجهّمت هي و ابتعدت مُتمتمة
انزلق مارتن بمرفقه على الرخام و وضع وجنته على ذراعه الممدودة مُتنهدًا:
عليه فقط أن ينتظر و يتناسى فكرة أنها لم تتصل به أبدًا مذ غابت منذ ثلاثة أيام, عليه فقط أن يُقاوم و ألا يتصل بها!
نفذت كل فُرصه و لو أراد أن يجد عملًا في هذه المدينة الكبيرة فليس له سوى دار كريس هاملتون للأيتام!
الميتم الذي أُسّسَ كواجهة أخرى لإعلان موته, التمويه الذي نجح و صمد مدة عشر سنوات كل من يعبر على الميتم من معارفهم يترحّم على الصبي الصغير الذي مات في حادث مشؤوم..
شعر بالضيق لأنه سيستغل معارفه ليحصل على وظيفة لكنّه في وضع حرج الآن, المال الذي أرسلته والدته يكاد ينفذ و قد يستهلكه كله مع نهاية الأسبوع. كلها أفكار اعترته بينما ينتظر على إحدى كراسي الاستقبال خارج مكتب رالف مولر مدير الميتم, تحت أنظار السكرتيرة التي استمرت بالتحديق إليه مرة على مرة من خلف شعرها الأشقر القصير المُتموّج
فكّرت به و بشكله يبدو شابًا بسيطًا رغم أن ثيابه من النوع الفاخر, معطف بُني يصل لأعلى ركبتيه بياقة طويلة من الجلد الداكن تشق صدره مُظهرة القميص الأخضر القاتم أسفله, قامته تُناسب عارضي الأزياء فقد كان طويلًا حقًا لاحظت ذلك من أول دخول له و انحنائه باتجاه مكتبها كي يطلب منها أن تُعلم رالف مولر أن جايك كولت يرغب في لقائه, ملامحه وديعة جدًا و صوته هادئ به لكنة غريبة لكنها راقية
بعد لحظات رنّ الهاتف الذي بجوارها و أيقظها من تكهناتها حوله, تحدثت للمتصل ثم قالت لكريس مُشيرة نحو الباب:
" تفضل السيد مولر في انتظارك"
هزّ رأسه شاكرًا ثم مضى نحو المدخل, طرق الباب بهدوء ثم فتحه, سبّق رأسه و أطل داخل الغرفة و بابتسامة مرحة صاح:
ذُعر عندما التصق على طرف الباب سهم مُدبب صغير مُزوّد بريش ملون أزرق و أسود أزاله عن الخشب و دخل مُقفلًا الباب وراءه
ــ آسف لذلك لم أقصد إخافتك
ــ لابأس, هل استبدلت سباقات الخيل بالرِّماية!
و صوَّبه باتجاه رُقعة دائرية عُلِّقت على الجدار بالقرب من المدخل حيثُ كان يجب أن يرميه رالف, و الذي أجاب بحماسة بينما يقف من على كرسيه و يدور حول مكتبه سائرًا باتجاه كريس:
ــ الرِّماية ممتعة لكن سباقات الخيل تبقى المُفضلة لديّ!, كيف حالكَ بُنَي؟
انفتح ذراعا رالف أمام كريس فاقترب منه و عانقه قائلًا:
اليأس في صوته كان واضحًا و رجل كرالف حتمًا سيُلاحظه فدعاه بودّ:
فأطاعه كريس و جلسا مُتقابلين على الأريكتين الجلديتين الى جوار المكتب, بقيا صامتين لفترة و تحدثا عن السطحيات, سباقات الخيل و الجو الذي عاد ليبرد رغم أن البارحة كان دافئًا و وصلت السكرتيرة بصينية القهوة و هُما على نفس الوتيرة فكريس لم يكن يجرئ على الابتدار و رالف لم يُحب ذلك فيه..
كان مُعجبًا جدًا بما أقدم عليه و كيف أنه اتّخذ الخُطوة الصحيحة أخيرًا, رالف كان صديقًا جيدًا لعائلة هاملتون و عمل عندهم لفترة طويلة, مُذ كان شعره كله أسود اللون بينما الآن اصبح رماديًا لكنه يرفض الميل للبياض, يتذّكر جيدًا مايكل هاملتون في شبابه و كيف عُرف بغطرسته و حُبّه للسيطرة, عودة كريس من لندن بمثابة تمّرد كان ينتظره بفارغ الصبر, على أحدهم تحطيم غرور هذا الشاب~ ذاك ما فكّر فيه عندما التقى مايكل - والد كريس الذي كان وقتها شابا في العشرين-. لكن بالنظر الى كريس فهو ابن مُطيع, أكثر من اللازم حتى!
لكنّه لا يدري حقيقة السبب و أن كريس كل يوم يقترب من الموت الذي لا عودة منه هذه المرّة..فقلبه قد يتوقف في أي لحظة لو قام بحركة في غير محلِّها..
سعل كريس بتوتر و أبقى نظراته مُنخفضة ثم وضع فنجان القهوة على الطاولة أمامه و شبك أصابعه مُستجمعًا شجاعته و ظهر الامتنان على عينين الرجل الكهل بجانبه حين شعر أنه سيتكلّم أخيرًا
قال كريس برتابة: ــ عم رالف, لابد و أنّك تعرف وضعي جيدًا..في الحقيقة أتمنى لو مازال عرضُك السابق قائمًا..
ارتفع شارب رالف الرمادي و تزاحمت التجاعيد حول مُحيط عينيه و هو يُكشّر بضحكة:
ــ أنتَ مُرّحبٌ بكَ في كُل وقت.
وقف و اتجه الى مكتبه, ضغط زر الاتصال و نادى على سكرتيرته فكانت عنده بعد ثوانٍ, قال رالف:
ــ ليندا اجمعي أغراضك من المكتب لو سمحتِ
رمشت بذهول و تسمرّت مكانها بسُترتها الكلاسيكية البيضاء و تنورتها الجلدية الضيقة و حذائها الذي زادها خمس سنتمترات طول رغم أنها لم تكن قصيرة حقًا!
" تقصد أنني مطرودة!..و لكن..أنا.."
عجزت تماما عن إكمال جُملتها, شعرت بالحيرة إضافة الى الحرج, ألم يجد رئيسُها أي وقت آخر ليفصلها إلا بحضور هذا الفتى القابع على طرف الأريكة؟؟ و التي لم تفهم لِمَ يبدو وجهه مصدومًا و مُرتعبًا في ذات الآن!
أجاب رالف و هو يُشير إلى كريس: ــ آسف ليندا لكن هذا الشاب يمرُّ بوقتٍ عصيبٍ جدًا لذلك أعطيته وظيفتك
تدّفق الدم الى رأس ليندا مما جعل وجنيتها تحمران ليس خجلًا وحسب إنما حنقًا و غضبًا أيضا, أما كريس فقد ابتلع ما وجد بِريقه بينما ترمقه الشقراء بنظرات حاقدة بدت أنها تُحاول إخفائها لكنها لم تُفلح. لم يكن ليترك الوضع يستمر هكذا فهو لم يدرِ ما كان رالف ينوي فعله و لا حتى طبيعة العمل الذي قد يجده عنده, كل ما في الامر أنه عندما التجأ إليه قبل خمسة أشهر حين تشاجر مع والده و وعده رالف بمُساعدته و إيجاد وظيفة مؤقتة له, رفض العرض بأدب يومها لكنه وجد نفسه مُضطرًا الآن, فرأى أنه لابأس ببعض الوساطة في ظل هذه الظروف لكن أن يَسلُب رزق شخص آخر بالمُقابل فهذا ما لن يقبل به أبدًا
ــ لحظة عم رالف لستُ موافقًا على هذا..يُمكن لسكرتيرتك أن تحتفظ بوظيفتها جد لي عملًا آخر و إذا لم تستطع فسأبحث في غير مكان..
صمتٌ ساد لفترة قبل أن يدُّس الكهل يده في جيب بنطاله الكلاسيكي و يعقف طرف شاربه بحركة مُتكررة ثم يقول:
ــ حسنًا..ليندا عودي الى مكتبك الآن
تنفست ليندا بنوع من الارتياح لكن لم يخفى انزعاجها, استأذنت و خرجت موصدة الباب ورائها و استمر كريس في مُحاولة لشرح موقفه:
ــ أنا آسف عم رالف و لكن لا أستطيع العمل مكانها و أخذ وظيفتها بهذه البساطة لابد انها أُجهدت حتى حصلت عليها..
رالف بنبرة هادئة و مُقتنعة: ــ أنتَ لا تُشبه والدك أبدًا و هذا ما يُعجبني فيك! عملك كسكرتير هنا ليس بالفكرة الجيدة على كل حال, الميتم مُسجّل باسمك لا تنسى, كما أنّني أتلقى زيارات كثيرة من أشخاص قد يتعرّفون عليك لذلك سنجد لك عملًا آخر..قُل لي هل تُحب الأطفال؟
ارتفع حاجبا كريس تلقائيًا و هو ينظر إلى رالف مولر بعينين مُنفتحتين بترقُّب لِما هو سيء..!
لم تُحاول أن تتنكر, ارتدت ثيابًا عادية و ربما أكثر تحضّرًا مما اعتادت ان ترتديه منذ سنيتين اي منذ انطلقت الفرقة بشكل رسمي و معه انطلقت نحو حُرّيتها, لكن لو تدري أن حُرّيتها تخضع للمُراقبة..!
ثوبٌ أزرق يصل لأسفل رُكبتيها و معطف من الفرو الأبيض و على كتفها علّقت محفظة زرقاء اللون أما شعرها فأبقته مُنسدلًا كالعادة يُغطي رقبتها و كتفيها و جبينها بينما خلا وجهُها من مساحيق التجميل فبدت عيناها زرقاوين مع انعكاس لون الحقيبة عليهما.
رافقها على جانبها رجل كهل يبدو في عمر والدها و يرتدي بذلة رسمية, لويس السائق الخاص بأسرة روبنسون, و سارا في المركز التجاري وسط العيون التي تمكنّت من التعرف عليها و امتلك بعضهم الاندفاع اللازم كي يقترب منها و يطلب توقيعًا أو صورة و كانت في كل مرة تُرحب بذلك فاليوم الأحد و الجميع مشغولون فلم يكن المكان مُزدحمًا و تلبية رغبات بضعة أشخاص لن يضر, رغم اعتراضات لويس فرغم كونه مُدربًا لكنه أصبح كبيرًا بما يكفي ليتعثر بسهولة تامة لو طارد مُختطفين, لكن أي من ذلك لم يكن ليحصل فأعينٌ روسية تُراقب و مُستعدة للتدخل لو تحول هذا الجو الودّي و السّاكن الى مُطاردة هوليوودية!
كان ذلك ثالث متجر ألعاب يدخُلانه و السابع لو تمّ احتساب مَحلّات الألبسة, ما شدّها في هذا كان بيت الدُمى الكبير ذاك, تمعنته ببريق في عينيها ثم التفتت الى لويس و شعرها ينتفض خلفها:
ــ عم لويس سنأخذ هذا أيضًا!
ثم نادى على صاحب المحل: ــ لو سمحت نريد بيت الدمى هذا
ثم عاد الى لوسي التي ابتعدت باتجاه رفٍ لكُتب الأطفال و القصص المُصوّرة حيث راحت تُقلّب الكتب و تختار منها ما رأته مُناسبًا و ما قد يُعجب الأطفال, شعرت باقتراب لويس منها فسألته و هي تُريه كتاب "365 قصة كل ليلة"
ــ هل تظن أنهم سيحبون هذه القصص؟
فكّر الرجل لبُرهة قبل أن يُجيب: ــ هممم.. أطفال اليوم مُختلفون, لا يُحبّون دزني مثلما كنا نفعل, مثلًا ابنة أختي تريد أن تكون ساحرة و أخوها يُقلّد iron man!
ــ حسنًا! سنأخذ بعض كُتب التلوين لابد أن يحبوها! و أيضًا قصص مُصوّرة! لا بأس بدزني أيضًا!
كانت تتحدّث بسرعة و لا تأخذ نفسًا بين الجملة و الأخرى و قد لاحظ لويس حماستها المُفرطة و لم يستطع منع نفسه أكثر من الاستفسار حول الأمر الذي شغل باله مذ بدأت رحلة تسوّقهما المُفاجئة هذا الصباح
ــ أحم..أميرتي, كنتُ أتساءل..لمَ هذه الزيارة المُفاجئة لدار هاملتون للأيتام؟
ركّز في كلامه حتى لا يلفظ اسم كريس و اكتفى بذكر كُنيته و تمنى ألا تكون قد لاحظت ذلك, هي لم تكن دقيقة المُلاحظة بطبيعة الحال. أجابته بابتسامة هادئة بينما تُقلّب الكتاب الذي بين يديها دونما أي اهتمام فعليّ بمُحتواه:
تمكّن السائق المُهندم من الحفاظ على وجه خالٍ من التعابير و حسر صوته في داخله مُفسحًا لها مجالًا حتى تستمر في الحديث:
ــ بيتربان كان يرعى الأولاد الأصغر منه..و عندما لا يتواجد بيتر تهتم ترينكبيل بهم..!
ندمت لأنها أشارت لموقفها بذكر بيتربان و كأنه كريس فاسترسلت مُحاولة أن تبدو نيّتُها طبيعية:
ــ أردتُ زيارة الأطفال..مضت مُدّة لم أزُرهم ,هم أيتام في النّهاية و دومًا ما يفرحون بالهدايا التي أجلبها لهم رغم أن السيد رالف ينزعج لأنه يظنني أشك في مصداقيته و تفانيه في عمله...رغبتُ بذلك و حسبْ..قالت لي آنّا يومًا أن هُناك أمورًا نقوم بها فقط لأننا نريد القيام بها, أمور لا تحتاجُ تفكيرًا بل تحصل بعفوية!..
صمتتْ فجأة لأنها شعرت أن ما قالته كثير!..ليس من عادتها أن تتحدّث كثيرًا, لا تُحاول بذل أي جُهدٍ للتعبير عن أفكارها و اعتقاداتها, خمّنت أن لويس قد فزع منها حتمًا حين بقي على نفس الوجه الجامد بتجاعيده التي خطّت جبينه الأسمر, حتى ابتسم لها و ربّت على رأسها قائلًا:
ــ يجب أن تفعلي ما يُسعدُك دومًا..لأنّني أحب رؤية أميرتي سعيدة!
تلك الحركة و ذلك التعبير الودود الذي أظهره لها لويس جعل نبضها يتسارع و وجنتاها تحمرّان, و كلماته أشعرتها بالأمان الأبويّ الذي افتقدته طوال حياتها و لا تزال تفتقده للآن..
خرجا بعدما اشتريا الكثير من الهدايا و غلّفاهم بورق مُلوّن. أكثر ما شغل لويس هو كيف سيُرتبها كلها في السيارة, انتهى الوضع بأن ملأ الصندوق الخلفي كله و حشا البعض في الكُرسي الأمامي الذي بجانبه بينما احتفظت لوسي بدُبين محشوين و دمية من الكتان بالقرب منها في المقعد الخلفي, صبرت مُنتظرة أن يُنهي لويس الواقف في الخارج عند مُقدمة السيارة سيجارته ثم رأته يسحب آخر مجّة و يسحق ماتبقى منها بحذائه الكلاسيكي اللامع ثم دخل السيارة و استعد للانطلاق
قالتها و قد غضّنت أنفها بسبب الرائحة التي كانت قد علقت بثياب لويس و اندفعت نحوها و التي لم يتمكن الهواء البارد الذي دخل ايضا من إخفائها
ــ حاولتُ مع السيجارة الالكترونية لكنني لم أتحمّلها لاشيء يُضاهي النيكوتين الطبيعي..
ليس هذا ما توقعته لوسي..لم يُحاول حتى الدّفاع عن نفسه لكن للويس تفكيره الخاص, يتحدث عن النيكوتين و كأنه شهد النحل و استمر قائلًا:
ــ جرّبتُ ذات مرة الغليون, إنّه جيد!
ضحكت: ــ مثل شارلوك هولمز!
هزّ السائق رأسه مُوافقًا و قد بانت الابتسامة على عينيه الداكنتين
حلّقت الطائرة الورقية بطريقة مثالية لقُرابة المترين قبل أن تصطدم بوجه ذلك الشّاب -الذي كان يجلس مُتربّعًا على الأرض وسط غرفة لعب الأطفال- و تلكزه بطرفها المُدبّب بين عينيه! فتحرّك كرّد فعل طبيعي رافعًا كفّه صوب وجهه و تأوه ليس بفعل الألم الذي شعره بالقرب من محجر عينه فقط إنّما أيضًا بسبب الطفلة التي تتسلق ظهره و تشّد خُصلة من شعره البُنيّ الفاتح بكُل قوة و تربطُها بشريط مطّاطي!
في ذات اللحظة لمح طفلا آخر يرتدي معطفه: ــ هييي أنتْ! انزع المعطف سوف تتعثر به!
فات الأوان فالصبي الذي كان يرتدي مِعطفه البُني الطويل و بالكاد يظهر من تحته لكبر المعطف على صغير الحجم مثله, وقع على أنفه و ما انفك صُراخه يعلو..!
اندفع كريس نحوه بسرعة مما أوقع البنت التي كانت تُصفّف شعره و فغرت فمها هي الأخرى تنوح بصوتٍ عالٍ! ارتبك كريس فإلى أين يجدر به أن يتجه؟! و عاد يُحاول اسكات الفتاة ثم حملها معه باتجاه الصبي الذي لا يزال مدفونًا أسفل المعطف الثقيل, حمد الله أن الفتى لم يُصب و لا وجود لدماء فهو لم يقع فعليًا على الأرضية فقد حماه الرّداء.
ــ لابأس يا فتى ستكون بخير الرجال لا يبكون آوه حسنًا هم يفعلون لا أدري أين قرأتُ ذلك لكن لا يجدُر بك أن تبكي!دعنا ننزع عنك السيد معطف الشرير! و أنتِ يا صغيرة لا لا تبكي أنا آسف لم أقصد خُذي يُمكِنُكِ اللعب بشعري لكن لا تنتفيه كُلّه أرجوكِ!
تراجع صوت البكاء و جفّت دموع الأطفال على خدودهم بينما يرمقونه بشيء من الصدمة و الاندهاش ثم فجأة وقف الفتى و صاح بينما يدوس المعطف بقدميه الصغيرتين:
" فلنقتل السيد معطف الشرير!! "
و سرعان ما انضم له البعض و عمّ الجنون و الصخب القاعة مرة أخرى, رأى كريس معطفه الغالي يتحوّل لقطعة من الخُردة تحت أحذية الأطفال و تحسّر على حاله لكن ما ينتظره أسوء حين أحاطته ثلاث فتيات و أثارت ريبته ابتسامتهن البريئة, بيد احداهن مشط و الأخرى تحمل دبابيس الزينة أما الثالثة فقد طقّ صوت المقص بين أصابعها!
تراجع للخلف زاحفًا: ــ لا لا لم نتفق على هذا!!..أمهلنني لحظة!
أضافها حين رنّ هاتفه و مدّ ساقه كي يسحبه من جيب سرواله, فتح الخط و رفع الهاتف الى أذنه و عيناه مُثبتتان على البنات اللواتي يعتزمن التنكيل بشعره!
أتاه الصّوت قبل أن يقول أي شيء: ــ ستكون عندك في ظرف دقيقة..
ــ لوسي, انها قادمة باتجاهك نحو غرفة الأطفال..
ــ مهلًا لوسي قادمة!..هي في الميتم الآن؟! و لكن كيف..؟..لحظة..هل يتم التجسس عليّ؟؟
ــ لابد لي أن أفعل إذا كُنتَ تعتزم رؤيتها كثيرًا فسأُبقيك تحت المُراقبة أنتَ أيضًا..
تجمّد الاسم على لسانه كما تجمّدت عيناهُ البُنّيتان على المدخل ذي البابين المُنفتحين على الدّوام, على الشّابة التي تنتصبُ هُناك و تُحدّق به بغير تصديق تمامًا كما كان يفعل!