حمل قميصًا صوفيا مُخططا بالأبيض و الأخضر المائي ,سروال جينز, ثم قلّب في جهة معاطفه و اختار جاكيت من الجلد الأسود و كوفية..
ثياب بسيطة لوجهة مجهولة على الساعة السادسة مساءا!..
"حفلٌ للمواهب" ليست كافية لمعرفة طبيعة المناسبة لكن البساطة هي جوهر الأشياء في نظره..
مشكلته ليست المال مثلما يعتقد البعض ممن تعرّف إليهم لفترات قصيرة, لو يعلمون ما يخفيه من أموال طائلة ينام عليها!
كان ليعيش كالأمراء لو أراد, لكنه لم يرضى بالكسب السَّهل ,والده يعتبره عِنادًا ,أما هو فيراه تحدّيا و اعتمادا على الذات !
حك رأسه مُتسائلا:
ــ أين وضعتُ جواربي؟
و إذ به يلمح القطة تلعب بهما كونه طواهما بشكل كرة و كم تحب الهرر اللعب بالكرات !
ــ شقية ! جواربي ليست كرة صوف
و انتزعهما منها, كان بأحدهما ثقب بارز تمكن من إدخال إصبعه فيه ! , تنهد متذمرا:
ــ آه نسيت أن أخيطه
هنا رن جرس الباب فسارع لارتداء جواربه و المضي لفتح الباب للضيف الذي ينتظره ,ماتي.
متأنق ! سترة كلاسيكية رمادية داكنة ,بلوزة بيضاء زادته وسامة و أضاءت لون عيونه البحرية
حدق به كريس متمعنا ثم رفع حاجبه مستفسرا بحيرة:
ــ إلى أين نحن ذاهبان بحق السماء؟!
تنحى كريس ليفتح الطريق لماتي الذي دخل و توقف أمام المرآة عند الرواق و التي كانت متصلة بخزانة قصيرة للأحذية, و راح يرتب شعره القمحي الذهبي :
ــ مُجرّد حفلٍ للمواهب
ــ و لِمَ كل هذه الرسمية ؟؟
ــ سأصطحب فيكتوريا للعشاء بعدها
ــ قطتي تشعر بالغيرة !
قالها كريس لما رأى القطة السوداء و هي تحوم عند قدمي ماتي و تتمسح به , أضاف بينما يرتدي سترته:
ــ ما قصة حفلة المواهب هذه؟
لم يحصل على إجابة فقد كان ماتي حاملا القطة بيديه و يحدق بها :
ــ أتظنها واقعة في غرامي حقا؟!
هنا ماءت القطة فصاح بفرح :
ــ أهاا إنها تحبني
ضرب كريس جبينه و قال بنفاذ صبر:
ــ ماتي ,لقد تأخرنا!
نظر ماتي إلى ساعة يده و كانا حقا متأخرين ,انتفض من مكانه مذعورا ساحبا كريس وراءه:
ــ أسرع ستقتلني فيكتوريا إذا لم نصل في الوقت !
ركبا سيارة ماتي الفخمة من النوع الرياضي,ضغط هذا الأخير على الدواسات بقوة فانطلقت السيارة الرمادية بسرعة جنونية, تعالت من حولهما أبواق السيارات الأخرى و كلما ترنحت المركبة إلى جهة إلا و كريس يترنح معها, كان صوته مرتفعًا لكنه بدا مُختنقًا بعض الشيء:
ــ خفف السرعة, لستُ مستعجلا لأموت !!
أدار ماتي المقود بحدة و هو ينعطف بسرعة سالكا طريقا مختصرة و صاح:
ــ إذا تأخرنا, أنا من سيكون في عداد الموتى !
و أخيرا وصلا إلى الصالة التي يقام فيها الحفل قبل الموعد بربع ساعة ,فتمكن ماتي من تهدئة نفسه و اطمأن كريس على حياته !
تساءل تُرابيّ النَّظرات و هو يتمعَّن بالمكان:
ــ هل سنجد فيكتوريا هنا؟
تفطن ماتي انه لم يخبر صديقه عما يتمحور الحفل و عن وجود فيكتوريا هنا :
ــ آه نسيت أن أخبرك, إنها مُشارِكة
رد بتفاجئ و نوع من الاستخفاف يلوح في نبرته :
ــ حقاً ! و ما الموهبة؟ لا تقل لي أنها ستقوم بعرض أزياء؟!!
عقد ماتي حاجبيه الباهتين بانزعاج و راح يدافع عن المدعوة فيكتوريا:
ــ لا أبدا ما هذا الكلام ,فيكتوريا فتاة موهوبة حقا ,ما ذنبها لو كانت رائعة الجمال و تملك ذلك القوام..يفترض بالحفل أن يكون لجمع التبرعات لكنها سمعت أن المخرج "جورج ميل" سيكون هنا لينتقي بعض الوجوه الجديدة لأعماله القادمة , فقررت هي و فرقتها المسرحية أن يشاركوا, من يدري قد يبتسم لها الحظ و تتوسع في عالم الفن و التمثيل
مرت أغلب تلك الثرثرة كالفراغ على كريس فلم يكن يستمع إليه حتى, فهو يعرف هوسه و عشقه لفيكتوريا لو رآها تقتل أُمه أمام عينيه لكذَّبهُما و قال بأنها بريئة !!
لكنه التقط آخر عبارة فردَّ بِنيّة استفزازه و الخروج من موضوع فيكتوريا هذه:
ــ و كأنك تفهم بأمور المشاهير و عالم الفن و مصائبه
تبجّح ماتي مُعدّلا ياقته:
ــ أختي الصغيرة تقود أشهر فرقة موسيقية بالعالم أسره "لوسي روبنسون" !
و ذكر الاسم بطريقة دراماتيكية إعلانية .
فدفعه كريس إلى الأمام :
ــ هيا هيا لندخل بدأ الحضور بالتوافد
و اتخذا مكانين لهُما بالقاعة الفسيحة ذاتِ المسرح الخشبي تقليديّ البناء,جلسا بالصف الثالث فكان مناسب لهما من بين بقية الصفوف الطويلة و التي تلتف بشكل شبه بيضوي متناسبا مع شكل القاعة
و سُرعان ما افتُتِحَ العرض.
كان هناك الكثير من المشاركين من مختلف المقاطعات و مختلف الأعمار و الميول ,منهم من قدم موهبته في الرسم و اخرر ردد شعرا ,بعده مجموعة قدمت رقصة فولوكلورية تقليدية
لكن جميعهم, ليس فعل الخير ما أتى بهم إنما فرصة العمر, لم يكن المخرج الوحيد الحاضر بل رافقته شخصيات بارزة أتت تصطاد قلوبا و ملامح يافعة.
“ # „
خلف الستار الكبير المنسدل تقف صهباء بادٍ عليها التوتر و هي تحك يديها ببعض و تتلاعب بأصابعها ,تتلو صلواتها الأخيرة, هي ممثلة بارعة حقا و لكن سيكون صعبا إقناع "جورج ميل" المخرج الشهير,سمعت انه متعصب تجاه دخول الصغيرات إلى عالم السينما!
لكنه يحب الصهباوات ,خاصة ذوات الجمال اليوناني !
طابقت صورتها و ما يفضل فوجدت نفسها تجسد إلهة يونانية في نظره! ,صهباء بشعر محمر بشرة بيضاء و عيون عسلية داكنة ,كانت تلك أول مرة تمتن لجذورها المطلة على المتوسط ,تناست حتى أيام الشقاء في البلدة ,قفز قلبها من مكانه لما سمعت اسمها يذاع لكنها تماسكت و سارت مرددة
" أنا صهباء يونانية " ...!
“ # „
صاح ماتي فور سماعه اسمها:
ــ آاه حان دور فيكي ,هيا عزيزتي أرهم كم أنت بارعة
~ستقتله لو سمعته يناديها "فيكي"
“ # „
يتراجع عددٌ من الممثلين..
يُسلَّط الضوء على إحدى زوايا المسرح و تظهر شابة يافعة ترتدي أثوابا بالية, تحمل بيد سلة بها قماش و معدات للخياطة و بالأخرى تمسك صبيا صغيرا كئيب الوجه
تتقدَّم إلى مُنتصف المسرح - و بقعة الضوء المستديرة تلاحقها – و تباشر بالخياطة
أنين طفلها يتصاعد حتى يعلو باكيا بحدة مرددا انه جائع جدا فتسعى جاهدة لتهدئته و إسكاته لكن دون جدوى
هنا يتقدم نحوها رجل ببذلة رسمية يعكس مظهره و نبرته و حركاته بالرفاه ,انه المالك, فيصرخ بها:
"أخرسيه و إلا فسأهتم بذلك على طريقتي, عودي إلى العمل, سأخصم 5 سنتات من راتبك بسبب إهمالك, هيا عودي للعمل بسرعة !! "
يبتعد الرجل الجائر بينما تحتضن هي صغيرها و تبكي ثم ترفع ناظريها إلى السماء راجية:
" إلى متى ؟..إلى متى سأعيش على الخبز و الماء؟!..إلى متى ستتورم أصابعي من كثرة العمل بالإبرة و المقص؟ , إلى متى سأنتظر شروق شمس السعادة على قلبي؟!.. إلى متى! "
تُسدل برأسها على ولدِها و تنطفئ الأضواء
“ # „
تعالى صياح المتفرجين و تصفيقهم ,بينما لمح ماتي المخرج "ميل" يبتسم فدنا من كريس هامسا:
ــ يبدو أن المخرج قد أُعجب بعرض فيكتوريا ,انظر إليه كم يبدو سعيدا
تمتم كريس :
ــ حظها أن تكون يونانية صهباء!
و نطقت دواخله بما هو اكبر بينما يلتفتُ جانبا يختلس النظر إلى المخرج
طرح أفكاره بقذارتها التي غلفتها و قام و هو يمدد جسده فالمسرحية كانت آخر العروض ,و ماتي خلفه ملتهٍ بهاتفه إلى أن جذبهم صوت المذيعة و هي تعتذر لهم , و مُخبرة أن لديهم عرض أخير لم يكن متوقعا أبدا
"...رجاءا رحبوا معي و بحرارة بـ «Dark Angels » "
بمجرد لفظها للاسم حتى عم الصُّراخ القاعة ! و تزاحم الحضور عند المسرح !
أما كريس فقد كان مصعوقا تمامًا مُحاولًا إنكار ما سمعه مُحافظًا على هُدوئه و ثباته
اصطدم رأس ماتي بظهر كريس جراء توقف هذا الأخير المُفاجئ ,رفع ماتي عينيه عن هاتفه إلى المسرح باستغراب منتبها أخيرا لما سمعه:
ــ أقالتْ Dark Angels ؟!
جاراه كريس في تساؤله و هو يلتفتُ اليه من فوق كتفه:
ــ و..و من يكونون؟
صاح بغير تصديق: ــ إنها فرقة لوسي !
دفعه إلى الأمام و هو يهز برأسه مُنكرًا :
ــ لا لا حتما هناك خطأ ما !, دعنا نذهب فيكتوريا تنتظرنا في الكواليس
حمل كريس نفسه على السير خطوة واحدة و حسب, لأن عيناه بقيتا مثبتتين على المسرح الميت ! حتى الأشباح لا تجوبه ! و لكن لمن يهتف كل هؤلاء, يستحيل أن ينتظروا من اجل لا شيء!
رفضُه للسير رغم تنبيه ماتي الثاني الذي يطلب منه التقدم يشككه في توازنه العقلي!
كاد يستسلم, إلى أن...
انتشرَ الدُّخان على المسرح و ارتفع جزء منه يحمل عُدّة الطبل, سُمِع نقر عِصيِّ الدّفِ ببعضهما مع العد التنازلي 1,2,3 ..
تحركتْ أصابع شبابية على أوتار القيتار الالكتروني ليزأر بقوة و يهز قلوب الحضور, تلاهُ عزف منتظم على الأورغن من الشاب شبحي المظهر!
تجانست الأنغام و ارتفع الصوت لتظهر تلك الشابة من عتمة الضباب بعدما سُلّطت الأضواء عليها و على بقية الفرقة.
تقف خلف المايكروفون و بيدها قيتار الكتروني اسود مزين بخطوط حمراء تناسبت مع الخصلات الاصطناعية الحمراء المعترضة لشعرها الغُرابي .
على يمينها عازف غيتار ثانوي كل ثيابه سوداء إلا ربطة عُنق بيضاء تعلقت على رقبته بفوضوية ختمت شخصيته المُتمردة!
و على يسارها عازف الأورغن بشعره الأحمر و عيونه الحادة يضغط بأصابعه النحيلة على مفاتيح آلته و هو شبه غائب عن العالم, مسحوب تمامًا إلى دُنيا من الألحان!..
وخلفها عازفة الطبل, آنا كريستين.. بشعرها الأصفر الباهت ساعد مُثبّت الشعر على رفع غُرّتها من على جبينها ما منحها مظهرًا صبيانيًا محضًا, تلك التي ما أن تجلس قبالة آلتها حتى تقود المجموعة بعزف سريع فهي سيدة الإيقاع!
انتقلت القيادة للمُغنية الرئيسية في المُقدمة حين مرّرت أصابعها على أوتار القيتار المربوط بحزام مُتدلٍ من على كتفها , و اشتعل الحماس عندما غنت !
حلّت النهاية و ماتَ الشُّعور..
أدركتُ أنها كانت مُجرّد كذبة..
تطاولتْ الأوهام لتختلط و الواقع..
فجرَّتْني نحو هاوية التَّلفيق..
لكنني لن أنكر انني أشتاق اليك..
أشتاق إليكْ..
فتنطلق ألحاني تُغني لذِكراكْ!..
عيونها المُزدانة برموش كثيفة تومض وسط الظلام بشعاع فضي آسر للُّب ,و شعرها الطويل يتنافر على كتفيها متحررا مع حركاتها التي تغربل غرتها كلما هزت برأسها ...!
يستحوذ الشاب الفاتن إلى يمينها على المسرح بعزف منفرد على القيتار فيُلهب حناجر المُتفرجين و يحرك أرواحهم سالبا إياها !
يتراجع الصوت المُدويّ...و تنخفض حدّة الصخب,تُمسك لوسي بالمايكروفون الذي أمامها بكلتا يديها و تحرر مكبوتاتها بلحنٍ عذبٍ صافٍ:
~
شوقي ترويه أنغامي..
و حبي تفضحه عيناي!
حبي للراحل الذي لن يعود!..
تغنيّ يا ذكرياتي..تغنيّ!
~
يُشاركها الحضور الغناء, كلهم يحفظون الكلمات, يحسون بالنغم, يعيشون الإيقاع و الألم..!
ــ حبي للراحل الذي لن يعود!..تغنيّ يا ذكرياتي..!
رمقه كريس بطرف عينه و هو يسمع كلمات الأغنية تخرج بصوت خافت و بطريقة آلية من فم ماتي,و الذي بدا متأثرا بها !
عاد يلتفتُ إلى المسرح بعد الضجة التي تلت ختام الأغنية من صراخ و هتاف عالٍ
تجاوز ماتي كريس متجها نحو الكواليس داعيا إياه ليلحق به:
ــ هيا تعال
هنا انصاع كريس, لكن بتردد !
“ # „
ــ لوسي !!
صاح ماتي بحماس فاستدارت نحو الصوت المألوف مُتفاجئة:
ــ ماتي؟! ما الذي تفعله هنا؟!
عانقها ضامًا إياها إليه فارتفعت قدماها عن الأرض لقصر قامتها بالنسبة له
ــ أنا من يفترض أن أسالك هذا السؤال !
أجابت و هي تنزل عنه:
ــ أتيتُ للزيارة, أردتها أن تكون مفاجأة, يبدو أنها فشلت
أضافت كلماتها الأخيرة بخيبة
تلاعب ماتي بالخصلات الصناعية الحمراء المركبة مع شعرها :
ــ أصبحتِ تُضيفين الريش إلى رأسك !
ضربت يده و نهرته:
ــ توقف عن إزعاجي من اليوم الأول
الشعور بأنها مُراقبة دفعها للنظر إلى تلك الناحية,ربما كان مجرد قدر الاهي !, أو أنها مجرد حركة عفوية, حتى هي لا تعلم!
جُلُّ ما أدركته أن لقاء النظرات ذاك, - و إن اقتصر على ثانيتين- ولّد شرارة تأججت في صدرها, لسبب ما احتضرت في رأسها صورة كريس !
لا, إنها تلك الأوهام مرة أخرى !!
هل بلغت بها الهلوسة درجة من التجسيد ثُلاثي الأبعاد!, كانت تتخيله دومًا أمامها..تشعُر و كأنه لم يمت يومًا..تراه صبيًا يفوقها بثلاث سنوات, يضحك لها, أو يُمازح شقيقها
كانت كلما نظرت الى ماتي, تتخيل كريس ذو الخمسة عشرة عامًا يقف الى جانبه, يُوازي جنبه, يُسندُه!
و حيثُ الابتسامة المُتكسّرة ترتسم على وجه أخيها, تكون ابتسامة كريس مُحافظة على إشعاعًا.
ذلك الوجه البشوش كان السبيل الذي ساعدها للخروج من عُقدتها
لكن..كلها كانت صور يصنعها دماغُها, أما الآن فهي واثقة...شاب يقف هناك يُحدِّق بها ! بعيون تحمل آمالا و آلامًا كثيرة, أحلام و كوابيس, ماضٍ و مستقبل !
بحركة فطرية التفت ماتي يتفقد كريس الذي تركه سائرا وراءه فوجده يقف غير بعيد عنهما, ناداه مُلوِّحا بيده:
ــ هااي جايك ,اقترب أريد أن أعرِّفك بأُختي
خاب ظنها للحظة!
"جايك" !!
فكذَّبت كل ما شعرت به منذ قليل من سحر غريب سلَّطتهُ عليها تلك العيون
خطا كريس برتابة نحوهما و ألقى التحية:
ــ مرحبا ,أُدعى جايك... لاشك من أنكِ لوسي
بسط يده إليها, فمدت يدها و صافحته مبتسمة:
ــ تشرفنا, نعم أنا هي
كم كانت يدُه دافئة و كبيرة بما يكفي لتحتضن كفّها الضئيلة بكُل بساطة..أما هو فلم يرغب في إفلاتها,لكنه لن يُرغمها.. ستهابه من اليوم الأول لو أبدى لها أي فعل غريب!, استعادت يدها طابعة ابتسامة خفيفة أخفت بها اضطرابها الذي لم تفهم سببه..
داعب ماتي ذراعها و استأذن:
ــ سأذهبُ لأبحث عن فيكي, ابقيا هنا و لا تتحركا , سأعود فورًا
هزّت لوسي رأسها بهدوء أما صاحب العينين التُرابيتين فكان كمن لم يسمع شيئًا فقد كان ينظر إليها و هي على هذه المسافة القريبة جدًا!
عشرُ سنوات..لم يكن يراها الا في التلفاز و على صفحات المجلات!..تغيرت نوعًا ما ,فمظهرها بعيدٌ كل البُعد عن الكلاسيكية التي تحكُم عائلة "روبنسون"
سروال جينز سماوي و قميص خفيف أبيض يُناسب الأيام الحارة لا شتاء يناير, لكن الجو في الداخل كان دافئًا فتجاهل قلقله من أن تتجمد بردًا في هذه الثياب!
لا تزال قصيرة!, تلك هي الفكرة التي لكزت عقله و هو يضغط على شفتيه كي يمنع ابتسامته.
كانت تقف باستقامة جامعة ساقيها و بدا واضحًا أنها تُحاولُ جاهدة ألا تعبثَ بأصابعها حتى لا تبدُ مرتبكة, لأنها حقًا لا تشعُر بالارتياح لهذا الصمت!!
فكر كريس:
(ما بها ؟ لماذا تنظر حولها هكذا؟ ..أتحاول غض نظرها عني!)
فقرر لفت انتباهها و إجبارها على النظر إليه حين كسر الصمت :
ــ أحم بالمناسبة, كان العرض متألقا هناك
صوت في داخله صاح مستنكرا (متألق! ألا توجد كلمة أكثر بساطة؟)
التفتت تنظر إلي عينيه مباشرة و كأنها تغتنم فرصة جذبه لها و تحاول قراءتهما و ابتسمت له:
ــ شكرا, سعيدة لأنك استمتعت
مرة أخرى ! التفاجئ الذي يفلح في كتمه مثل كل مرة – و هذا من حسن حظه-, عيناها!
كانتا فضيتين منذ قليل , هاهما تصطبغان بزرقة سماوية صافية
في تلك اللحظة تمكنت من ملاحظة بعض ملامحه فاستطردت في نفسها:
ــ ( عيناه تشبهان عينيه, اللون البني الغامق, شعره داكن, كان افتح بقليل, انه طويل! أطول من ماتي ...انه يشبهه !)
دون أن تُدرك وجدت نفسها تُقارن بين صورة كريس المحفورة في ذاكرتها و صورة هذا الشاب, لم يسبق لها أن فعلت هذا !
ربما لأنه يتسكع مع شقيقها؟, أو لأنه لا يكف عن رمقها بنظرات محتشمة خفية !
تساؤلات كثيرة لم تستطع صدها!..هذا كثير نوعًا كأول يومٍ لها في كاوس!
شعرتْ أن ما ينتظرُها أكبر, كانت مُدركة تمامًا أنها ستمُرُّ ببعض الأيام العصيبة و الذكريات النائمة عميقًا في داخلها ستطفوا للسطح تدريجيًا, آلمها ذلك نوعًا ما..!
نداء كريستين أتى في وقته حين صدح من خلفها:
ــ لوسي ,هيا يجب أن نذهب
رأت كل الفرقة يتحركون صوب المخرج الخلفي فلوحت لها : ــ قادمة
عادت تنظر ناحية كريس اعتذرت منه, بينما توصيه :
ــ يجب أن اذهب الآن, أرجوك أخبر أخي ألا يقول شيئا لوالدي, انه ثرثار لا أريد أن يفسد مفاجأتي..قل له بأنني سأراه غدا.. عمت مساءا
ابتسمت كخِتامٍ لهذا اللقاء القصير ثم سارت نحو آنا التي تستعجلها و بقية أعضاء الفرقة
راقبها تبتعد و شعرُها الأسود الحريري يتراقص خلفها
عكس الاتجاه الذي سلكته لوسي ظهر ماتي و معه فيكتوريا , سارعت هذه الأخيرة إلى ذراع كريس و تشبثت بها:
ــ جايك ! سعيدة لأنك أتيت, كيف كان أدائي؟
أثنى عليها مبتسمًا باصطناع:
ــ كنتِ جيدة جدا, أبهرتني!
انتبه ماتي لغياب شقيقته :
ــ هيي أين لوسي؟؟
ــ ذهبت مع الفرقة, قالت ستأتي إلى المنزل غدا و طلبت مني أن أنبهك على لسانك الطويل, لا تريدك أن تخبر والديك بقدومها, إنها تفكر في مفاجأتهما فلا تفسد فرحتها, اتفقنا؟
أجاب بعيون منسدلة باكتئاب: ــ اتفقنا
شد الفضول فيكتوريا فحملقت بهما بالتناوب متسائلة:
ــ و من لوسي؟
ــ إنها أختي التي حدثتك عنها ,تلك التي كانت تغني الآن
انفتح فمها بآهة خفيفة مُتفهمة: ــ آهاا رايتها
و شردت للحظة تستذكر شعورها المتفرد الذي لم يسبق أن انتابها.. "الغيرة" !
صوت الهتاف و الصياح الذي تلقته لوسي كفيل بحرق قلبها بمرض قاتل اسمه الغيرة, عادت تلعن حظها المنحوس الذي لا يكف ينغص عيشها و يحرمها من العيش براحة و سعادة..
في غمرة الغيض و الحنق الذي تحس به اقبل على ثلاثتهم رجل ببذلة أنيقة و حدّث فيكتوريا:
ــ عفوا يا آنسة, السيد ميل يرغب في التحدث إليك
و كأنه الفرج! الصباح المنتظر !
اتسعت عيناها و شقت ابتسامة عريضة شفتيها بسرعة و ذهبت وسط تشجيع ماتي:
ــ هيا اذهبي
سارت مع الرجل حيث يقف المخرج مع بعض رفاقه , تأملها الشابان من مكانهما
امسك السيد جورج بيدها و قبل ظهر كفها
عالمين متناقضين تماما
المخرج جورج بقبعة روسية و معطف طويل من الفرو الفاخر يُظهره أكثر امتلاءا, يبرز بعض من شعره الناصع من تحت القبعة , شاحب اللون يكاد يغادره قطار الدنيا ..
فيكتوريا بثوب قصير عادي و معطف خفيف بهت لونه , لكنها رغم بساطتها كانت تشع شبابا.. نظراتها, شعرها ,قوامها,لون بشرتها كانت زهرة في ربيع عمرها
قال لها شيئا جعلها تضع أصابعها على فمها و تضحك بخفة ثم شد على يدها الأخرى و التي لم يتركها أبدا, دس يده في جيبه الداخلي و اخذ بطاقته و قدمها لها, عاد ليقبل كفها و ودَّعها
سارت نحوهما بخطوات تتقافز فرحا و سرورا ملأ قلبها ,ارتمت على ماتي و أحاطت رقبته :
ــ أنا لا أصدِّق !
شد على خصرها قائلا:
ــ ماذا قال لك؟
ابتعدت عنه تقول:
ــ طلب مني أن اتصل به هذا السبت, يريد أن يجد لي مكان لأعمل معه!
عاود عناقها و هو سعيد لأجلها:
ــ هذا رائع و أخيرا ستتحقق كل أحلامك
التفت إليهما كريس الذي كان مشيحا بنظره منذ قليل و سأل باستفسار:
ــ أي نوع من العمل؟ أيود إعطاءك دورا ما ؟
ردت و هي تنظر ناحيته:
ــ لا فكرة لدي, لم اسأله ..لم أفكر في سؤاله!.. أنا لم اصدق أنني أقف أمامه و اكلمه ! ارتبكت حقا!!
مرّ المخرج ميل بجانبهم و ألقى تحية الوداع
ــ عُمتم مساءا,سأنتظر قدومك آنسة فيكتوريا
ارتبكت جدا و قالت:
ــ عُمت مساءا سيد ميل, سآتي طبعا !
و غادر مع من كانوا معه إلى أن قال ماتي:
ــ يجب أن نذهب نحن أيضا , هيا جايك ستأتي معنا
فرفض كريس ممتنا:
ــ لا شكرا سأعود بمفردي لا أريد تخريب سهرتكما
ساروا إلى المخرج أين انفصل عنهما كريس و لوَّح لهُما مُغادرا:
ــ استمتعا
رفع كوفيته دافنا ذقنه فيها و حشا يديه في جيوب سُترته الجلدية ثم سار الى محطة الحافلات وسط زخات الثلج الخفيفة التي تتساقط في هذه الأمسية الباردة..
حاول ألا يُفكّر..لكنه لم يستطع..لقد كانت هُناك, تحدثت اليه, صافحته, و لم تتعرف عليه..!
عشرُ سنوات ليست بالوقت القصير!..هو تغير كثيرًا لكن لسبب ما لم يجد أنها تغيرت..عدا أن السعادة جفَّت من عينيها..!
تِلكُما العينين القمريتين في وهجهما الحالكتين برُموشهما, تغلفتا بالكمد! تنهد زافرًا نفسًا سبح من بين شفتيه كغمامة بيضاء لشدة البرد و تمتم و هو يرمق السماء و الثلج يهطل بهدوء من حوله: ــ إقترب لِقاؤنا..اقترب كثيرًا..!
تم و الحمد لله~
آرائكم, انتقاداتكم, توقعاتكم
سأنتظرها بشوق
في أمان الله