إيطاليا – روما – مطار ليوناردو دافنشي الدولي :
" سيد بوهافن .. سيد تشارلز بوهافن ! "
الصوت الرقيق ذو النبرة الحادة أعاد تشارلز لوعيه ، قد انتبه أخيرا لوجود ممشوقة القوام أمامه ،
إحدى موظفات حُجوزات الطيران ، حدق بها بعينيه الزرقاوين مطولاً مُستفسراً عن علامات الامتعاض
البادية على وجهها .. لم يفهم سر عبوسِها حتى أجابت تساؤلاته : " تفضل ها هو جواز سفرك .. يمكنك الذهاب الآن
طائرتك على وشك الإقلاع ..وتمنياتي لك برحلة آمنه إلى
الولايات المُتحدة ."
تناول الجواز من يدها وشكرها على مساعدتها له ثم أدارظهره لها مُغادِراً ، شعر بوخزات الذنب لأنه خيب
توقعاتها من نظرات عينيها المُحبطتين نحوه .. ولكنه فهم مغزاها ..
لم يكن الوقت في صالحه لتبادل الأرقام وعقد صداقةٍ بينهما ، ولا عقله اليوم في كامل نشاطه
وتركيزه المعتاد .. ولكن بفضل صنيعها بات بإمكانه الجلوس في مقاعد الدرجة الأولى ذات الحجز
الاحتياطي .
" فقط لو علمت بذلك الخبر الصاعق في وقتٍ أبكر ! .. لو أخبرني أخي المبجل بتلك الحقائق
عندما زارني قبل شهرين ! .. و كم كانت ملامحه ومشاعرة باردة و جامدة كالصقيع آنذاك ،
و لا عجب في سيطرته على نفسه كونه قد درس علم النفس "
.. غاص عقله كالعادة في جزءٍ من أحداثها ..
على سطح عمارةٍ بخمس طوابق وفي مدخل الطابق الخامس من جهة اليسار على أول شقة بابها
أحمر كلاسيكي ، بداخلها عبر غُرفِها الأربعة حيث شرفة صالة الجلوس المفتوحة ، هناك على حافتها ، اِستندت عليها هيئه أنثى بشعرٍ شقراويٍ
طويل مموج ، تلاعبت بخُصيلاته الذهبية نسمات الرياح الباردة ، حملت في كف يديّها الصغيرتين المُرتجفتين إزاء الموقف ،
سلاحٍ أسود خطير ، بينما انهمرت دموعها الثمينة من عينيها البُنيتين بغزارة مطرٍ حانق ، مُلعنة أن الأسوأ قادمٍ لا محالة ، و من
بين شفتيها المبللتين بفعل لسانها في محاولة لترطيبه ، خرج صوتها الرقيق مشوب بشوائب التوتر يُخاطب
منْ خانها قلبها لأجله :
" أمياس ؟ أنت تكرهني وتبغضني .. أليس كذلك ؟ "
بنبرة جافه مُجردة من المشاعر أجابها : " ربما .. فلا تنطلي خُدعكِ على جميع الرجال سواء ! "
و بنبرةٍ مُقتضبه ردت : " إذن فلتكن سعيداً .. سيأتي يوما ما سأختفي فيه عن الأنظار وعنك للأبد !"
" سأكون سعيداً حينها .."
" ذلك الوقت واليوم " عدلّت وضعية سلاحها الصغير لتجعله في حالة تأهب ثم بصوتٍ جهوري
صاخب أردفت : "هو الآن يا أميـــاس ! "
انتصب أمياس واقفا على قدميه فجأة كردة فعلٍ لا شعوريه بسبب الكابوس المزعج و بفعلته هذه
تراجعت لويز للخلف بسرعة كبيرة من أثر الصدمة فسقطت على الأرض وأحدثت جلبة ألفتت انتباهه ، هرع
إليها ليساعدها لتنهض و بنبرة مُتعجبة سألها : " لويز! ماذا بك ؟ .. بحق الله من أين أتيتي ؟ من السماء ؟! "
رمقته لويز بنظرة غاضبة وطحنت أسنانها من شدة الألم إذ لم تعد تشعر بمؤخرتها من أثر السقوط ! بينما
هو يتواقح أمامها ، ردت تجيبه بذات النبرة المُتعجبة : " وأي رجلٍ هذا تكون ردة فعله كالتي شاهدتها للتو .. أيفيق البشر من
نومهم هكذا ؟! "
" آسف ، قد راودني ذلك الحلم للمرة الرابعة .."
قاطعته تصحح جملته :" الكابوس ..ذلك الكابوس ! .. أما زلت تعاني منه حتى الآن ؟ "
" للأسف .. ولا يبدوا لي أنني سأتخلص منه !.. على كلٍ أخبريني هل اعترف القاتل ؟ "
" آه ، لا ! ، إنه من النوع العنيد ، جربنا كل وسائل العنف ضده لنجبره على الاعتراف
وكل محاولاتنا باءت بالفشل ! "
" نوعه هذا لا تنفع معه السُبل العادية " توقف عن الحديث لانتباهه لسجل بيانات كانت تحمله في
يدها فأشار بأصبعه إليه : " هل هذا السجل يخصه ؟"
" أجل ، كنا نحاول معرفة دافعه للجريمة ! "
" إلي به ! "
ناولته السجل وهتفت بنبرة عالية مُتضايقة :" ألن تسألنا عما توصلنا إليه ؟ "
رد ببرود دون أن ينظر إليها مشغولاً بسجل المجرم :" كنت على وشك فعل ذلك ..
حتى سبقتني لعادتك المُتهورة وغير الصبورة ! "
" أتنتقد شخصيتي الآن يا هذا ! "
" حسنا " تجاهل ثورة غضبها واكمل حديثه مُركزا على المكتوب في السجل : " همم ! ما لدي من معلومات
هنا لم تفدني كثيرا .. اسمه كارلوس وهو رجل في الثلاثينات ومن عائلة غنية ولها مكانتها وسمعتها المعروفة هنا في لاس فيغاس ..
مُدير فندق و كازينو ماردي غراس ، كان يعيش مع عائلته في مدينة هندرسون ولكنه انتقل فجأة للعيش بمفرده في شمال
لاس فيغاس في فيلا للعطل الصيفية باسم ( وينرز ) " . اغلق السجل و التفت للويز التي كانت تتكأ على حائطٍ خلفها
مُكْتفة ذراعيها أمام صدرها و زامة شفتيها .. جعلت أمياس يتبسم رغماً عنه لفعلها فطرح سؤالها المحبب : " إلام توصلتم ؟ "
" وأخيراً ! " . اندفعت تجاهه بسرعة خارقه ثم جلست على كرسي تقابله وبنبرة حماسيه أردفت : " أنا ورفاقي لم نجد
لكارلوس دافعاُ ليقدم على قتل شقيقته سوى .. أن قتله لها كان حادثاً عرضياً فحسب ! .. أعني هو أخيها بعد كل شيء ،
ولم تكن هنالك خلافات بينهم ، وكل المعلومات لدينا عنه تثبت أنه معافاً من الأمراض العقلية والنفسية وليس لديه مشاكل
اجتماعيه حتى .. لذا .. "
" أداة الجريمة التي استخدمها كانت سكينة تستخدم في المطبخ .. ألهذا ظننتم أنه كان حادثاً
عرضياً ؟ "
" للأسباب التي ذكرتها سابقاً "
" لنفترض أنه كان مجرد حادث عرضي .. لما أستخدم السكين أو كيف انتقلت ليده ؟ وكيف
أنتهى الأمر بطعنه لأخته ؟ ". سكت ليتناول سجل المجرم ويفتح صفحةٍ ما و يضعها أمامها .: " انظري هنا " أشار بأصبعه على
الموضع ثم واصل كلامه :" بحسب أقوال الشاهد الوحيد مالك تلك الفيلا .. أن آخر شخصين كانا مع كارلوس في الفيلا قد
سافرا قبل يومٍ لأغراضٍ تخصهم أي أنه كان بمفرده هناك ، حتى الشاهد نفسه قد خرج في عملٍ طارئ وغاب لساعة فقط
وعندما عاد كان ذلك المشهد الدموي أمامه .. امرأة طريحة الأرض تتوسط معدتها طعنة عميقة ، والدماء حولها كادت أن تشكل
بُحيرة ، والغريب في الأمر أن المُتهم الذي تدعين ببراءته كان مُستلقياً على أحد الأرائك وكأنه لم يفعل شيئاً ..
أليس الفعل الطبيعي طلب الإسعاف ما دام حادثاً عرضياً ؟ "
عضت لويز شفتها السفلى مُستاءة ، كيف غفلت عن هذه الجوانب ولم تفكر بها مثله ؟ ، رفعت رأسها لتطرح سؤالٍ آخر
فأجابها بسرعه :" أعلم .. ما كان دافعه لارتكاب الجريمة ؟ ..ذلك سأعرفه عندما اذهب لمسرح
الجريمة غداً "
" ستذهب غداً ؟ .. لما لا تفعل ذلك الآن ؟ "
" لدي صُداع ينخر رأسي الآن ! .. لذا سأرتاح في باقي اليوم "
" إذن لا تنسى أن تصطحبني معك عندما تذهب "
" لا ، لا أريدك معي ! ، فأنتِ مثيرة للصخب بالفطرة ! أفضل الذهاب وحدي للتفكير بهدوء ! "
" تباً .. لما عليك أن تكون سليط اللسان هكذا ! " تهاوت على كرسيها الجلدي الأسود شاعرة
بالإحباط ، ولكنها سرعان ما عادت لتفتح فمها من جديد " على كلٍ اتصل بي إن رغبت بمساعده "
منحها ابتسامة ساخرة ملتوية ثم مضى في طريقه .. وعند عتبة الباب اردف : " إن احتجت مُساعدتك
وذلك من سابع المستحيلات ! .. وداعاً .. نلتقي غداً "
***