القاهرة 17 مايو 2012 الساعة 02:31 م


بقلم/ ميرفت عياد


بدأ للحظة كحلبة مصارعة .. الكل يهرول يمينا ويساراً .. يغدون ذهابا وايابا .. يلهثون من السرعة والعجلة .. يسابقون الزمن .. يتكفون فى أرجلهم من الأعياء .. تتحشرج أنفاسهم فى الصدور المملؤة بعوادم السيارات .. يتثائبون .. يلعنون الحظ العاثر .. وفى خضم هذه المعاناة تعبر فتاة الطريق بخفة ورشاقة .. تحتضن حقيبتها المدرسية .. تفرغ فيها شحنتها العاطفية .. فبدت كفراشة تراقص فارس أحلامها .. وهكذا مادت الأرض تحت أقدام لاهية .. وأقدام واهية .. منهكة من كثرة البحث عن الرزق .. وها هى محلات تفتح أبوابها .. ومقاهى تغسل أكوابها فى انتظار روادها .. والكل فى دوامة الحياة منهمك .. منهم من يقع تحت رحاها .. ومنهم من يحلق فى سماها .

وهكذا مع إشراقة الشمس دبت الحياة فى ميدان العتبة .. ذلك الميدان الذى أعتاد منذ سنين على وطأة أقدام عم " سامى " آلاف المرات .. وهو يوزيع الخطابات التى يخرج محملا بها من مصلحة البريد .. فقد أعتاد " سامى " منذ تسلمه العمل فى مصلحة البريد على الجلوس على أحد المقاهى ليرتشف كوبا من الشاى فى عجلة من أمره .. ويخرج بعدها مسرعا إلى رحلته الطويلة متعرجا بين طيات الشوارع ليفرغ ما فى جعبته من خطابات .. ثم يعود إلى مصلحته خالى الوفاض .

ها هو اليوم يجلس على المقهى لأول مرة حراً طليقا خالى البال بعد أن أحيل على المعاش .. فلا يوجد عمل يجب أن ينجزه .. ولا مسئولية يجب أن يتحملها .. فبدى الميدان الذى اعتاد عليه بشكل مختلف .. اختلفت فيه أشكال البنايات .. زهوت فيه ألوان المحلات .. بدأ يرى أشياء لم يكن يراها .. وفيما هو جالس على كرسيه أخذ يلاحظ ما لم يكن يلاحظه من قبل ذلك من فرط السرعة والانهاك .

فجأة لفت انتباهه مظهر صبى واقف يتسول على الرصيف المقابل للمقهى .. أخذ عم " سامى " ينظر اليه متأملا ريشة الفقر والجهل التى تفننت فى رسم خطوط الشجن والحرمان والقذارة على وجهه الشاحب .. فبات كل شئ فيه يتسم بالاتساخ من بداية رأسه وحتى أخمص قدميه .. وقف الصبى متسولاً راجيا أصحاب القلوب الرحيمة أن يهبوه مما وهبهم الله .. فكانوا يردون كفه الصغير بعنف مشمئذين من قذارته ومعنفين إياه بأبشع معانى الكلمات ..

ظل ذلك الصبى واقفا فترة طويلة يتصبب عرقا من شدة حر الصيف الذى أحرق براءته وكوى فؤاده الغض باليأس .. فعصفت به رياح الحرمان .. وأسقطت حلمه بالعطف كأوراق الخريف .. وأدرك أن تلك القلوب التى ظن أنها تنبض بالرحمة ما هى إلا كهوف حجرية أظلمت بداخلها شمس الإنسانية .. ورحلت عنها بعيداً تاركة إياها تتخبط فى ظلام الأنانية وعدم الأحساس بالآخر .. وقبل أن يمد عم سامى يده إلى محفظته ليخرج منها نقود لذلك الصبى البائس .. سحق الفقر والجوع بأنيابه المتوحشة عظام الصبى فتحولت اليد المتسولة الراجية المتوسلة إلى يد سارقة خطفت حقيبة أحدى السيدات وهى تحاسب سائق التاكسى ..وحينما أطلق الصبى ساقيه للريح عابراً الطريق أقترب من "عم سامى " الذى أمسك بالسارق الصغير .. فلم يجد منه غير ملامح جافة .. وعيون متحجرة فاقدة لبريق الأحساس والأمل .. ولم يعد بها غير نظرات اليأس والسخط على مجتمع شرير ينفر منه ويرفض وجوده .

شكرت السيدة " عم سامى " الذى أعاد لها الحقيبة .. وطلبت منه أن يأتى معها إلى قسم الشرطة لتسليم هذا اللص الصغير حتى لا يصبح مجرم خطير عندما يكبر .. فأرتسمت على وجه الطفل علامات الذعر.. وحجب حاجبيه .. و أخذ يلعن ويسخط .. ورغم كلماته المتبجحة حاول " عم سامى " أن يلين قلب تلك السيدة حتى لا تسلمه إلى قسم الشرطة .. وأخذ يرتب على كتفه ليهدئ من روعه .. وأخرج من جيبه ورقة من فئة العشرون جنيهاً ودسها فى يده .. وربت على كتفه قائلا لها : ( هذا ليس بجانى بل مجنى عليه ) ..

رق قلب السيدة من عطف " عم سامى " على الصبى وتركته ورحلت .. هدأ الصبى ولانت قسمات وجهه المقتضب .. ورفع عينيه إلى "عم سامى " وأنهمرت دموعه فى ذهول غير مصدق .. فقد كانت هذه أول لحظة عطف عليه فى هذه الحياة .. بل أول يد تربت على كتفه الصغير .. بل أول ابتسامة ترتسم له .

http://www.misrelmahrosa.gov.eg/NewsD.aspx?id=12196

مشكووووووووووووووووووووووووووور