تلك كانت الافكار التي تجوب في عقلي بعد وفاة والدتي، لذا إتخذت قراري بأنني سوف أعتمد على نفسي من اليوم فصاعداً!
و بالفعل، بعد أن خلفت أمي لا شئ سوى رائحتها و طيفها الوهمي الذي يمسح على رؤوسنا كل يوم، يبقى بجانبنا طول الوقت لكننا لا نشعر به، لكنها تشعر بنا و تعلم بأننا بأمان، أخذت أعمل أكثر و أكثر على دراستي! كنت أريد أن لا أكون عائقاً على اخوي، أنا ممتنة لهما للأنهما عاملاني بلطف منذ نعومة أناملي، لكنني لا أحب أن أكون عبئاً على احدهم! أو بالاحرى أفضل بأن يكون الناس عبئاً علي.. هذا أفضل بالنسبة لي..
إلى أن مرت أربع سنوات منذ وفاة أمي، في هذه السنوات لم نلمح ظل أبي، أو بالاحرى لم نتعب نفسنا لنبحث عنه حتى، حالياً لا أعرف ماذا يفعل ذلك الرجل و لا أهتم ماذا يحدث له حتى، المهم بأنني الآن بعمر الخامسة عشر سنة، نجحت بنسبة عالية للأكون بالمرتبة الاولى على مدرستي المتوسطة..
نيكولاس بعمر واحد و عشرون سنة، أكمل دراسته الثانوية و هو الآن خلال دراسته الجامعية، متقلب المزاج كعادته و لا يرضيه شئ، متهور، لكنه بعد كل شئ ، كنت ارى طفلاً في جوفه..
هنري بعمر ستة عشرون سنة، كان أخي نيكولاس يقنعه بأن يتزوج، لكنه كا يرفض، كان يقول "أنا الاكبر هنا، لذا لا يمكنني ترككما إلا أن تصلان لبر الأمان انتما ايضاً"، و كأننا كنا بمثابة جرحين في كيانه لا يستطيع أن يشفيهما، لكنه في نفس الوقت كان يهتم بهما جيداً، جاد لكنه مع هذا يحب أن يستفز نيكولاس..
و بما انني الآن بعمر الخامسة عشر، مما يعني بأنني في أول سنواتي أمام أبواب الثانوية، كان من المفترض أن أدخل مدرسة في المدينة التي أعيش فيها أنا و أخوتي، لكن لا تجري الرياح بما تشتهي السفن دائماً، لذا حدث شئ غير متوقع لي في ذلك اليوم و قد كان بمثابة نقطة تحول غير متوقعة في حياتي!
في ذلك اليوم، كنت أرتدي لباس فضفاض ذو لون أسود طويل، يتوسطه خط عريض مذهب، الاكمام واسعة و لديها هامش مذهب ايضاً، و قبعة سوداء جالسة فوق رأسي بإحكام تتدلى منها شريطة ذهبية، هل عرفتم هذا اللباس؟ انه لباس التخرج، لباس تخرجي من المدرسة المتوسطة و أنا أحمل لقب "الاولى" ..كانت لحظة سعيدة، لكنها في نفس الوقت قد أرجعتني إلى الحنين و عرصات لم أكن أريد أن أعود لها ابداً..
تذكرت أمي، أمي التي لطالما كانت تريد أن تراني بهذا اللباس، لكن الزمن أبى أن يحقق أمنيتها البسيطة..
في ذلك اليوم، كان كل خريج في نفس دفعتي محاط بعائلته، كانت القاعة زاخرة بالامهات و الاباء، و هذان الشيئان اللذان لطالما تمنيتهما لكنني لم أحصل عليهما ابداً، عائلتي كانت نيكولاس و هنري فحسب و لا شئ غيرهما، مع هذا، كنت راضية بهذا الشئ!
قطع حبل أفكاري نيكولاس في تلك اللحظة و قد وضع ذراعه على كتفي وقال بإبتسامة كبيرة: مبارك!
قابلته بإبتسامة أنا الاخرى، فجأة إختلجت ملامحه و قال متمتماً :أنا لم أصل لمستواك هذا، مذهل!
فقال له هنري بإبتسامة: هل تعترف بأنك تفتقر للذكاء؟
فقال له بغضب: إخرس! أنا كذلك نجحت في المرحلة المتوسطة..
ثم أردف مغمغماً: لكنني لم أكن من أول عشرة على المدرسة.
قابله هنري بإبتسامة ساخرة، بينما قال نيكولاس بغضب طفولي: المهم هو أنني نجحت!
فأطلق هنري قهقهة خفيفة، ثم نظر لي و قال بإبتسامة: مبارك.
كادت الدموع تسقط من عيني في تلك اللحظة، لكن صوت مدير المدرسة قد منعها و هو ينادي اسمي ، ثم قال لي بأن آتي لغرفته.
دخلت لغرفته وحدي، بينما نيكولاس و هنري كانا خارج الغرفة ينتظران..
كنت جالسة أنتظر أن ينتهي المدير من مكالمته الهاتفية تلك ،كان يقول و قد وضع السماعة على اذنه و إبتسامة قد غزت وجه:نعم.. نعم.. سوف أسألها الآن.. لا! لا! لا أعتقد بأنها سوف تعارض.. حسناً.. إلى اللقاء.
ثم أغلق الخط وشبك أصابعه و ظل يحدق فيني بإبتسامة طيبة، بينما أنا كنت جالسة على أحد الكراسي القريبة من مكتبه منتظرة كلامه، قال لي: مبارك عليك النجاح!
فأجبته بحياء: ش-شكراً لك.
ثم سألته: المعذرة، لكن لماذا.. لماذا أنا هنا؟
إبتسم أكثر و قال لي و هو يعبث بأحد أقلامه: في الحقيقة ،جائني خبر من صديقي، و هو مدير مدرسة ايضاً هنا في لوس انجلوس، لكن ليس في نفس المدينة، بل هي بعيدة قليلاً..
ثم اردف: هو مدير مدرسة ثانوية داخلية لا يدخلها سوى الاغنياء و الاوائل على مدارسهم مثلك، لذا جائني خبر منه بأن كان لدي طالب أو طالبة يسمح له بأن يلتحق بتلك المدرسة، لذا..
ثم قال مباشرة: هل تريدين الذهاب؟
حسناً، سوف أكذب عليكم لو قلت لكم بأنني كنت أعرف سبب العاصفة التي هاجت في جوفي تلك اللحظة، شعور لم أستطع أن أحدده بالضبط، غريب بشكل لا أستطيع وصفه.. فرح أم حزن لا أعلم!
عندما رأني المدير صامتة لهذا الحد، قال لي: ناهيك بأن فرصتك في الحصول على منحة دراسية أكبر إذا وافقتي، بجانب أن مستواك في الدراسة عال جداً و يمكنك عبورها.
فقلت له بإبتسامة حزينة: أنا سعيدة للأنك إخترتني، حضرة المدير، لكن ليس هذه المشكلة..
إختفت إبتسامته و قال لي بهدوء: هل أنت قلقة من ناحية الاصدقاء؟
فقلت له بحزن: لا، ليس لدي أصدقاء هنا في المقام الاول لذا ليس هذا الشئ الذي يقلقني..
ثم اردفت: أنا خائفة من فراق أخوي، هذا كل شئ.
صمت للحظة، ثم قال لي بنبرة حنونة: إسمعيني يا كاثرين، أنت بمثابة إبنتي و كل طلاب هذه المدرسة هم نفس الحالة، لذا أنا أريد أن تخرجي من ظل حماية اخويك و تعتمد على نفسك، هذه هي وظيفة المدرسة! لم تخرجي من شرنقتك إن ظللتي تحلقين في سماء ضيقة هكذا، ألا ترغبين في التحليق في سماء أوسع؟
لذت بالصمت، بينما اردف قائلاً: أعتقد بأن أخويك يريدان نفس الشئ، و هما الآن يستمعان إلى محادثتنا هذه و هما في الخارج ينتظران خروجك من الشرنقة.
عندها تذكرت الوعد الذي قطعته على نفسي و نسيته، و هو بأنني سوف أعتمد على نفسي، أمامي فرصة لا تعوض لتحقيق هذا الوعد و إهدائه الكمال، لماذا أتردد بهذا الشكل الاحمق و غير الحكيم ،أنا متأكدة بأن أمي كذلك تريد نفس الشئ.
في تلك اللحظة فتحت فاهي للأنطق كلمتان قد غيرتا مجرى حياتي قائلة: أنا موافقة.
إبتسم المدير برضى، ثم قال لي و هو يقلب مجموعة من الاوراق على مكتبه: إذن، ما نحتاجه الآن هو موافقة ولي الامر فقط.
ثم سألني: أين أمك و أباك؟ لماذا أخويك هما الموجودان هنا فقط؟
إختبأت تحت جناح الصمت كالعادة ، أرفض إعطاء جواب لذلك السؤال ،فقال المدير: هل هما في العمل؟ لذا لم يستطيعا المجئ هنا، إذن سوف أخذ موافقتهما لاحقا-
قاطعته و قلت له و أنا أنظر للأسف: لا!
رفعت رأسي و قلت للمدير: أمي متوفاة منذ أربع سنوات.
فقال لي بأسف: المعذرة، إذن والدك؟
فقلت له و قد تجهم وجهي: ذلك الرجل لا يعلم عن ما أفعله الآن و لا يهتم بي اصلاً، أمن الضروري أخذ موافقته؟
مرت العطلة الصيفية بسرعة خيالية لم أتوقعها، فتحت المدرسة أبوابها، بينما أنا كنت أقف أمام باب القطار الذي سوف يقلني لتلك المدرسة المنشودة، كنت أجر حقيبتي ورائي بخطوات متثاقلة، و كأنني كنت أرفض الرحيل مع انني أريده..
عندما إقتربت من القطار، توقفت و قابلت نيكولاس و هنري، فقال لي نيكولاس بإبتسامة كبيرة: إبتهجي!
ثم قال مغمغماً: لو كنت مكانك، لذهبت إلى هناك ركضاً على الاقدام من الفرح.
سحب هنري اذنه و قال لي: لا تهتمي لكلامه.
ثم إبتسم و قال: إعتني بنفسك جيداً، يمكنك الاتصال إلينا في أي وقت يحلو لك.
ثم تقدم هنري لي و جعلني أقابل بوابة القطار، ثم دفعني بشكل قوي لكي أدخل للداخل، ما إن دخلت حتى إنغلقت البوابة من تلقاء نفسها، ظللت أنظر لهنري و نيكولاس من خلال الزجاج، كان هنري يلوح بيده لي بأعين مطمأنة، لطالما كان هنري يملك حدساً جيداً مما بعث الراحة في قلبي و روحي، و كأنه يقول لي بتلك الاعين "سوف تجدين بصيص أمل هناك"
أما نيكولاس، كان ينظر للجانب الآخر بحيث لا أرى قسمات وجه، فجأة أخذه هنري و جعل رأسه يقابلني، فرأيت ملامح طفل تائه باكي قد رسمت على لوحة وجه!
لم أستطع وصف مشهد الوداع لكم، للأن يتوجب علي أن أكون أفضل شاعرة في العالمة لكي أصفه لكم لدرجة أن تصلكم الهواجس التي وصلتي أنا ايضاً.. و الاكثر أهمية الآن..
الاكثر أهمية هو أنني أقف الآن أمام فصل كامل يحدقون نحوي، و هناك! في ذلك الفصل! جمعنا القدر أنا و لوي للأقابله أول مرة في حياتي ! ليس لوي فقط.. لورين و جاك كذلك..!
بعد أن أنهيت قصتي، قالت ليليان بدهشة: هل قلت بأنك قابلت لوي و أنت في الثانوية؟!
هززت رأسي بخفة، فقال لي مغمغة بصدمة: كنت أعتقد بأنكما تعرفان بعضكما منذ الطفولة.
فقال لي هانتر بنوع من غير الرضى: لماذا توقفتي عن القصة؟! أكمليها!
إلتزمت الصمت، بعد هذا إضطجع مرة اخرى و قال: لا تقولي لي بأنك لا تعرفين شئ عن ماضي لوي.
تحليت بالصمت أكثر، بينما ليليان قالت له: و لماذا تريد أن تعلم عن ماضي ذاك الرجل؟
فقال و هو ينظر للسقف: لا شئ مهم، لكنه شدني إليه بمجرد أن رأيت عينه تلك للأول، هو شخص مثير للاهتمام بالنسبة لي .
تنهدت ليليان ،ثم قالت لي بإبتسامة: لكنك بالفعل قوية، كاثرين.
نظرت لها بدهشة ،فأكملت كلامها بإبتسامة حزينة: أنت اقوى مني، عشت طفولتك تحت سقف خلت منه الابوة مع انني كنت امتلكها، فقدت أمك في عمر صغير و بالتالي لم تحظي بكثير من الذكريات معها، و الآن منفصلة عن أخويك اللذان هما عائلتك.
إبتسمت و قلت لها: لكنني الآن وجدت سعادتي.
أصدر كل من هانتر و ليليان صوت عندها، فأكملت كلامي قائلة: أنا كما تعلمين شخصيتي غير حاسمة، أهتم للناس أكثر من نفسي حتى، لهذا، عندما أكون "سعادة" بالنسبة للإنسان الذي بجانبي، هذه هي سعادتي.
فجأة ضربتني ليليان بطرف إصبعها على جبهتي و قالت لي بغير رضى: ما تفعليه خطأ..
ثم أردفت: يجب أن تبحثي عن سعادك الخاصة، لا سعادة غيرك.
شعرت بخجل و حياء في تلك اللحظة، إبتسمت ليليان بطيبة و قالت مغيرة الموضوع: لكن حقاً، ما هو الشئ الذي جعل لوي يخرج مسرعاً هكذا؟
عندها ظل هانتر ينظر لي بنظرات غبية، فقلت له بحزم: لا تنظر إلي هكذا، فأنا لا أعلم ماذا دهاه فجأة.
أسند رأسه على يديه و قال بإنزعاج: أشعر بالملل!
فجأة قفز من مكانه و قال بشغف: دعونا نذهب ورائه! وراء لوي!
فقالت له ليليان و هي ترفع أحد حواجبها بإستغراب: لكن من المحتمل انه الآن قد إبتعد عن هذا المكان.
إضطجع مرة اخرى و قد ألقى ثقله بأكمله هذه المرة على الاريكة و أصدر صوتاً يدل على الضجر و نفاذ الصبر، فإبتسمت و قلت له مغمغمة: ما رأيك أن تخلد للنوم إلى حين موعد الغداء؟
ظل صامتاً، فقالت لي ليليان بإنزعاج: اتركيه و شأنه.
للتفكير بالموضوع، أشعر بالملل حقاً، فإنتصبت على رجلي و مددت ذراعي للأعلى و قلت لليليان: دعينا نذهب للسوق.
نظرت لي بدهشة قد سلت الاستغراب فيني، و قالت: ا-السوق؟
عندها قلت لها:نعم، إن كنت ترتدين نظارة شمسية و قبعة تخفي هويتك فكل شئ بخير.
فقالت لي بإبتسامة مصطنعة: لقد صبغت شعري بعد أن هربت من السجن، لذا ليست هذه القضية..
ثم أردفت و هي تحك وجهها بخجل: هذه أول مرة تقول لي فتاة بأن أخرج معها للسوق.
فقلت متمتمة: و كأنك لست فتاة.
بعدها إبتسمت و أخذت أفكر، كايلي و السيدة إيزابيلا و ليليان، حتى هانتر و السيدة كارولينا، من الصعب التصديق بأنهم مجرمين، أو بالاحرى من الممكن أن يكونوا مظلومين، مثل كايلي، غامضين مثل السيدة إيزابيلا، لم تعرف كيف تختار طريقها مثل ليليان و السيدة كارولينا و هانتر.. لكن مع هذا! أشعر برابطة تشدني لهم جميعهم.
إنتصبت ليليان على رجلها و قد إلتزمت الصمت، فخرجنا أنا و هي بعد أن أقفلنا الباب على هانتر النائم، إنه لشئ عجيب هذا الشاب، أليس كذلك؟ يعيش على غرائزه فقط!!
على كل، ظللنا نمشي أنا و ليليان إلى السوق حيث سوف أشتري بعض المكونات لوجبة الغداء بما أن هانتر و ليليان معي، و نحن نمشي، مررنا بمحاذاة تلك الشركة التي خرج منها لويس في ذلك اليوم، فإستوقفت ليليان، و أخرجت لها ورقة قد كتبتها سابقاً بها الاشياء التي أريد أن اشتريها و قلت لها بعجلة: هل يمكنك أن تشتري هذه الاشياء و ترجعي للشقة، سوف آتي أنا هناك فور إنتهائي!
فقالت لي بدهشة: لحظة إهدأي !ماذا لديك من أعمال؟!
فقلت لها بعجلة أكثر من ذي قبل:لا يمكنني الشرح الآن!
ثم جعلت ظهرها يقابلني و دفعتها قليلاً و أنا أقول لها بإبتسامة: أعتمد عليك!
إنتظرتها إلى أن ذهبت، فدخلت الشركة ليستقلني الحراس بترحيب غير سار، أخبراني عن اسمي و لماذا أنا هنا! فقلت لهما بعجلة: اتركاني! يجب أن أتحدث مع لويس!
فقاطعنا ذلك الصوت و هو يقول بدهشة: أنت..! ماذا تفعلين هنا؟!
بعد أن هدأت عن الترنح في ايدي الحراس، قلت متمتمة: أنت.. خادم لويس.. ماذا كان إسمه يا ترى؟
فقال لي بنوع من الغضب: ويليام!
ثم خاطب الحراس بجدية و قال لهم: اتركاها!
فتركاني بالفعل، ثم تقدم لي و قال: إذن، ماذا تريدين؟
فقلت له و أنا أعدل ملابسي: أريد أن أتحدث مع لويس.
نظر لي للبرهة الاولى بإستغراب، ثم تنهد و قال لي: بما أنت تحصلين على معاملة خاصة من السيد، لذا ليس لدي خيار.
ظل يمشي حينها و أنا ورائه، إلى أن وصلنا لغرفة في الطابق الاعلى من تلك العمارة ووقفنا أمام الباب، طرق ويليام الباب، فأذن له صوت لويس من الداخل بالدخول، فتح الباب ثم دخل فدخلت ورائه مباشرة، لا أعلم من أين جائتني تلك الفكرة بأن اسأل لويس خاصاً؟! كنت أستطيع أن اسأل كيفين حيث أنني أشعر بالراحة حوله أكثر من لويس.. لكن الآن ليس هناك مجال للتراجع.. حيث قد خطر الامر على بالي و طبقته مباشرة! لذا لا أستطيع أن أهرب الآن..
عندما دخلت، كان لويس ممسكاً بأوراق بين يديه تخص العمل، ما إن رأني حتى ألقاهم على مكتبه الضخم و الفخم و قد بانت على وجه ملامح دهشة و إستغراب، حسناً هذا شئ بديهي! لكنه سرعان ما اخفى ملامحه تلك التي لا تليق برجل أعمال ثري و إبتسم ثم قال لخادمه ويليام: يمكنك الخروج.
انحنى ويليام قليلاً ثم إنصرف و أغلق الباب ورائه، فقال لي لويس و هو يشير على الكراسي التي كانت قرب مكتبه: تفضلي بالجلوس.
فتوجهت نحو أحد الكراسي و جلست، بينما لويس قد شبك أصابعه و قال لي بإبتسامة كبيرة: ماذا تريدين أن تشربين؟
فقلت له مغمغمة: لا أريد شيئاً، شكراً.
فسألني عندها مغيراً الموضوع: إذن، هل تريدين شيئاً؟ لم أتوقع منك أنت أن تأتي إلى هنا.
إزدرأت ريقي قبل أن أقول ما في جوفي من أسئلة قد جعلتني أدور في دهاليز اليأس لا غير، أنا أعلم بأن ما افعله سيكون اشبه بوضع يدي في النار، لكن وصلت لدرجة بأنني قد إكتفيت من كوني جاهلة!
فقلت له و أنا أنظر للأسفل: إن الامر عن لوي ..
سمعت في ذلك الوقت صوت ولاعة، فرفعت رأسي للأرى لويس و قد أخرج سيجارة ووضعها في فمه، ثم قال لي و قد وضع يده ليغطي شعلة الولاعة لكي يشعل سيجارته بها :مع انني أكره بأن أعترف بهذا لكنني لا أعرف التفاصيل الكثيرة عنه، حتى لو كان أخي فهو شخص غامض كما تعلمين.
ثم اردف و قد نفذ الدخان من فمه بإستنكار: ماذا تريدين أن تسألي عنه في المقام الاول؟ كنت اظنك بأنك أقرب إنسان له.
لذت بجناح الصمت، فتنهد لويس و قال لي: إن كان لا يريد أن يفتح لك ذاكرته ،و أنا لا أعتقد بأنه قد فتحها للإنسان قط، لماذا أنت متعلقة به هكذا؟
تجاهلت سؤاله الاخير، و رفعت رأسي ثم قلت له :على الاقل، أريد أن أعرف أشياء صغيرة، مثل والديه على سبيل المثال.
أطلق لويس آنذاك قهقهة خفيفة، ثم قال لي: الحديث عن والديه ليس بشئ بسيط، لكن إن كنت تريدين أن تعلمي، سوف أخبرك..
فجأة إرتسمت ملامح الجدية على وجه، و قال لي: صحيح بأنني أنا و كيفين و لوي أخوة، لكن ليس من نفس الام..
ثم أردف: أمي مختلفة، حتى كيفين و لوي، كل منا امه مختلفة، لكن لوي كان حالة شاذة قليلاً مما صقل شخصيته لتكون حزينة و بائسة ووحيدة، أنا لم ألتقيه منذ زمن لذا لا أعلم إن تغير.
إنتصب عمودي الفقري، و قلت له: إنه ليس بائساً..
فسألني بإبتسامة حسستني بأنه يكلم طفل أو ماشابه: إذن كيف شخصيته الآن؟
فقلت له: قليل الكلام مع الناس إلا أنا، كلامه اغلبه مقتبس من حكم و أقوال لمشاهير سابقين، و في بعض الاحيان..
ثم لذت بالصمت، كنت أريد أن أقول بأنني لا أعرفه احياناً، و قد عشت هذه اللحظة مرتان، المرة الاولى بعد أن رجع بعد غيابه الذي دام سنة تقريباً، و المرة الثانية عندما كنا مع كيفين حيث امرني بالخروج، و كأنه في تلك اللحظات كان ممسوساً من قرين الشر الخاص به، و قد كنت أريد إضافة الاجابة التي جاوبتها للسيدة كارولينا، لكنني تراجعت بما انني لا أرتاح للويس.
قطع حبل أفكاري لويس و قد أسند ظهره على الكرسي بالكامل، ثم قال لي: لكن يجب أن تكوني حذرة من لوي دائماً..
سألته عن السبب، فتنهد و قال لي: للأنه –
فجأة! سمعت صوت إصطدام الباب بالجدار بقوة، و كأن زوبعة قد قصفته و رمبته جانباً، فتوجه نظري أنا و لويس نحو مصدر الصوت حيث الباب، فرأيت ..رأيت.. رأيت لوي، كان لا يزال ممسكاً بمقبض الباب و خصلات شعره تغطي عينيه الذهبيتان ..
إمتقعت شفتاي حينها، و أحسست بجوفي و هو يتصدع بسبب ما شعرت به في تلك اللحظة، شعور عظيم لا أستطيع وصفه، من خوف و دهشة ! حاولت الانتصاب على رجلي لكنني لم أستطع، ربما أنا سعيدة للأنني جالسة، للأنني لو كنت واقفة لكنت قد سقطت على الارض..!
قطع هالة الدهشة ويليام و قد جاء للوي من الخلف و قال له بحزم: أنت! لا يمكنك الدخول هكذا فجأة-
قطع كلامه عندما قال له :من أنت لكي تملي علي ما أفعله؟