فسحبت أذن هانتر و قلت له بغضب: إنتبه لكلماتك!
بينما ذلك الرجل العجوز قد قال لجاك بصوت ضعيف: و كيف لي بأن أخرج من هذه الحديقة؟ لا أستطيع أن أخرج منها ابداً، على الاقل إلى حين عودتك ايها السيد الصغير.
فجأة، سمعنا أصوات أناس آخرين، عندما وجهنا نظرنا لمصدر الصوت رأينا مجموعة من الناس، على ما يبدو بأنهم المزارعين هنا كذلك، ما إن لمحت أبصارهم وجه جاك، حتى بدأ كل فرد منهم بالغناء و التهليل فرحاً مع أن الضوء الوحيد الموجود كان من أعمدة النور و القمر فقط! ثم أخذوا يتجمعون عليه واحد تلو الآخر حتى كنا نحن الثلاثة خارج الصورة تماما!
فقال هانتر بنوع من الدهشة: مذهل! يبدو بأن الخدم يعشقون صديقكم.
أطلقت قهقهة مزيفة عندها، ثم نظرت للوي للأراه يحدق في جاك بنظرات غريبة، لم تكن غضباً أو فرحاً أو حتى حزناً، كانت نظرات رغبة و غبطة، و كأنه يريد ان يكون مكانه أو ماشابه !
عندها أمسكت ذراعه و ظللت أهزه يميناً و شمالاً، إلى أن أفاق و قال لي مباشرة: ماذا؟
فقلت له بغير رضى: لا تقل لي "ماذا"، إلى أين شرد ذهنك للتو؟
فنظر للأسفل و قال: لا.. لا تهتمي.
بعد هذا، خرج جاك من حشد المزارعين ذاك، كم عدد المزارعين هنا على أي حال؟ أليس كثيرا؟ لا يهم! على كل حال، خرج جاك من الحشد و أعطانا وجه بحيث يقابل باب الخروج، فأخذته و جعلته يعطيني ظهره مرة أخرى و أخذت أدفعه لكي يتقدم و يدخل القصر و أنا أسأله: لماذا تراجعت الآن؟
فقال لي بغضب: لم أكن موافقاً من الاساس عن هذا، بجانب أن أحد الخدم قال بأن أبي يريد رؤيتي، لهذا..
عندها دفعته أكثر و أكثر، بينما لوي و هانتر ظلا يتبعاني، إلى أن وصلنا لبوابة القصر الامامية، فأبعدت يدي على ظهره ووضعتهما على خصري، و قلت لجاك: تقدم أنت اولاً.
إبتلع ريقه عندما رأى إصراري، لكنه سرعان ما تنهد و تقدم للباب، أمسك مقبض الباب و ظل هكذا لفترة طويلة من الزمن، فأخذ نفساً عميقاً ثم فتح الباب، ما إن فتحه و دخلنا معه إلى داخل القصر، حتى جمد جميع الخدم الذين كانوا يعملون هناك في مكانهم مصدومين، دخلنا بعده و أغلقنا الباب، و بدون أي كلمة من أي أحد منا أو من الخدم، فجأة! تعالت صرخاتهم البريئة في أرجاء القصر حتى اننا سمعنا صداها و هم يهتفون بإسم "جاك"، أما كبار السن من الخدم قد فاضت أعينهم من عبرات حارة تحمل في طياتها شوقاً عميق !
بعد أن هدأ الوضع، تقدم جاك للأحد الخدم و سأله: أين أمي؟
أنكس رأسه و أجابه: السيدة هيلين أصيبت بحادث..
عندها فتح جاك فمه لكي يتكلم، لكن الخادم لم يسمح له و قال له بنبرة قاطعة: لكنها بخير لذا لا تقلق!
فتنفس جاك الصعداء بإرتياح، فجاوبه الخادم و هو لا يزال ينظر للأسفل: إنها في غرفتها الآن.
فصعد جاك الدرج الذي قد فرش بتلك السجادة الحمراء ذات الاطار المذهب، فتبعناه نحن، إلى أن وصلنا للطابق الثاني، ظللنا نتبع جاك الذي كان يشق طريقه إلى غرفة والدته، بينما هانتر كان يجوب بنظره في المكان الفخم بدهشة، و نحن نمشي توقف هانتر أمام لوحة ذات إطار مذهب باهت، فتوقفت أنا و لوي لكي ننظر للوحة، رأينا إمرأة جميلة، ذات شعر كستنائي طويل منسدل على كتفيها، جسم رشيق و ممشوق، كانت جالسة على كرسي مطلي باللون البني و مزخرف عند الظهر، و ترتدي ذلك الفستان الاحمر الطويل المرصع بالاحجار الكريمة و الكريستال، لكن مالفت إنتباهي و شد مخيلتي أكثر هو أعينها الواسعة ذات اللون البني، و ما جعلها تصبح أكثر جمالاً و رقياً هي تلك الاهداب الطويلة.
وقفت أمام الصورة و أنا أتذكر، إنها السيدة هيلين والدة جاك! لقد رأيتها في مرات قليلة عندما كنا نأتي لمنزل جاك في أيام الثانوية، لكن يبدو بأن هذه الصورة قد رسمت عندما كانت السيدة يافعة لذا لم أعرفها.
قطع حبل أفكارنا لوي و هو يقول لي أنا و هانتر: لقد ذهب جاك.
عندها رجعت للمشي مرة اخرى بعدما أطلقت ضحكة خفيفة للأن عقلي قد شرد و أنا أحدق في الصورة، بدأت أمشي بمحاذاة لوي ،أمام هانتر و خلف جاك الذي كان يسرع أكثر فأكثر.
إلى أن توقف جاك أمام أحد الابواب اخيراً، أمسك مقبض الباب و ظل هكذا لفترة طويلة من الزمن، فقال له هانتر بضجر: ماذا تفعل؟ إفتح الباب بسرعة.
عندها نظرت لوجه جاك، كان ينظر للأسفل و يده ترتجف بشكل غير ملحوظ، فقلت له مواسية: لا تقلق، لقد قال الخادم بأن والدتك بخير، أليس كذلك؟ لذا وجودك حولها الآن سوف يسعدها أكثر!
فجأة تكلم لوي قائلاً: لا تعقد آمالاً كثيرة، جاك.
فإلتفتنا له جميعاً، ثم أكمل كلامه قائلاً: ملامح ذلك الخادم لا توحي لي بأن كل شئ بخير، لذا لا تصدم إذا تغيرت والدتك قليلاً.
لم يتكلم جاك ولو بكلمة واحدة، كان جسده المرتعش هو الذي يتحدث، و كأنه كان يذوي بصمت، لكنه سرعان ما تنفس بعمق و فتح الباب، فدخلنا ورائه مباشرة و اغلقنا الباب، كانت غرفة واسعة مثلما توقعت، مغطاة بورق جدران مزخرف ذا لون كستنائي قاتم، الاثاث على طراز العصر الفكتوري في بريطانيا، و يوجد نافذة بحجم أكبر من باب الغرفة تؤدي إلى شرفة تجعلك ترا الحديقة بأكملها.
لم أسمع أي صوت منذ أن دخلت، ما سمعته هو صوت تلك المرأة و هي تقول: من هنا؟
وجهت نظري لمصدر الصوت، كان هناك جسد إمرأة جالس على ذلك السرير، يملك نفس الشعر الكستنائي الذي رأيناه منذ قليل في تلك الرسمة المتقنة، لكن ما أردت رؤيته حقاً كان مخفي خلف تلك الضمادة البيضاء، نعم، كانت عيناها مخفيتان خلف ضمادة بيضاء طبية، هل تعلمون ما معنى هذا؟
بينما أنا أحدق في تلك المرأة التي هي والدة جاك، تقدم هو الآخر لها ووقف أمام السرير، فأخذت المرأة تقترب منه أكثر و أكثر، و قد كانت تصدر أصوات تدل على انها تستعمل انفها لتفحص رائحته أو ماشابه، فجأة قالت بصوت يبدو بأنه قد تم إنعاشه من جديد: هذه الرائحة، جاك ..
لم يسعني أن أكمل النظر لهما، تتالت الاحداث بسرعة في تلك اللحظة، فقد وضع هانتر يده على كتفي بدون أي كلمة، عندما نظرت له رأيته يشير بإصبعه السبابة على مكان ما بدون أي كلمة، فوجهت نظري إلى ذلك المكان، فرأيت صبي يافع، مقعد على كرسي متحرك، شعره محاك بخيوط الشمس الذهبية ذاتها، عيناه واسعتان بشكل جميل، ممتلئتان بحبر أخضر براق يسحر أي ناظر لهما، بشرته بيضاء مثل طفل حديث الولادة، لحظة!
حدقت به و بتمعن هذه المرة جيداً، فجأة مرت على بالي صورة تلك المرأة مرة اخرى، الشخص الذي يشبهها تماماً على حد قولها، لا، بل أجمل منها! فقلت متمتمة و بصدمة: ك-كارولينا ..؟
جئت لكي أتقدم له، على ما أذكر بأن كارولينا قالت بأن أخوها الاصغر قد تم إختطافه عندما كان عمرها خمسة عشر سنة، و هي لم تراه منذ ذلك الحين، بجانب أن هذا الصبي الذي أمامي متبنى على حد كلام جاك، إن كانت توقعاتي صحيحة فهو أخ كارولينا الاصغر..
فجأة أمسكني لوي من يدي لكي يمنعني من التقدم للفتى، ثم جعلني ألاصق جسمه تماماً مما جعلني أشعر بالخجل، و قال لي هامساً في أذني: إنتظري، لا تتسرعي..
فسألته بنوع من الغضب: لماذا؟
فأجابني بهدوء: أعلم ما تفكرين به، لكن ليس هناك دليل قاطع بأن هذا الصبي شقيق كارولينا، بجانب انه متبنى و هو يحمل اسم هذه العائلة الآن، هل تعرفين معنى هذا؟ بالاضافة بأن كارولينا الآن في السجن.
فقلت له :لكن يجب أن نعلم إن كان هو أخ كارولينا أم لا، صحيح بأننا لم نستطيع فعل شئ مادام يحمل إسمها، لكن على الاقل يجب أن أخبر كارولينا بأن أخاها بخير!
إنضم هانتر للمحادثة وقال هامساً هو الآخر: لكن كيف نتأكد بأنه هو؟
فأجابه لوي: كارولينا قالت بأن اسم أخيها هو ماثيو، لذا سوف أسأل هذا الفتى عن اسمه، لا أعتقد بأنهم قد غيروه ايضاً.
قطع حديثنا جاك و هو يقول بنبرة غريبة: لماذا تتهامسون ؟!
فقلت له بإبتسامة مصطنعة: لاشئ !
عندما تكلمت، تحركت السيدة هيلين قليلاً من مكانها، و قالت: هذا الصوت.. كاثرين..
شعرت بالفرحة نوعاً ما، مع انني لم آتي لمنزل جاك كثيراً عندما كنت في الثانوية، إلا انها تتذكر صوتي..
إبتسمت و الضمادة تغطي عينها مما جعل المنظر غريباً قليلاً، و قالت :فهمت، أصدقائك لا يزالون بجانبك، جاك.
إختفت الابتسامة من وجهها، أو للأكون أدق فعضلات فمها قد رجعت إلى حالتها الطبيعية، لم تبتسم أو تعبس، مثل الوعاء الفارغ، حتى لم كانت حزينة بالفعل لم نكن لنعرف، لم أعرف إن كانت سعيدة أم حزينة، من المستحيل تحديد ما يفكر به الشخص إن كان يفتقر للعين، فجأة تكلم لوي و قال :أنا متأكد بأن لورين سوف تسعد للأنك تذكرتيها، لذا لا داعي للإحباط.
إلتزمت السيدة هيلين الصمت، فإبتسم لوي هو الآخر و قال: كما توقعت، يبدو بأنني ضيف غير مرغوب فيه هنا.
فجأة أعطانا ظهره و سار حيث الباب لكي يخرج، لكن فجأة و في نفس الوقت دخل رجل بالغ، عريض المنكبين و طويل القامة، شعره أسود مائل للرمادي و أعينه فارغة مثل بقعة حبر صماء، مثل جاك تماماً، السيد ستيفين، والد جاك!
وقف هناك حيث مدخل الغرفة، كان ينظر للوي الذي كان على وشك أن يخرج بنظرات إستعلاء و إستحقار، أم كانت نظرات حقد و كراهية، لا أعلم، بينما لوي كان يحتفظ بهدوئه و رزانته كالعادة حتى لو كان أمام ملك دولة ما! أو للأكون أكثر صدقاً في وصف الموضوع، ربما كان لوي هو من ينظر لوالد جاك بإستصغار، لكن ما أثار دهشتي أكثر هو بأن السيد ستيفين لم يكلف نفسه للنظر لجاك حتى !
فجأة تكلم السيد ستيفين و قال لنا: لا داعي للعجلة، بما أنكم هنا لماذا لا تجلسوا معنا.
ثم نادا أحد الخدم و قال له: خذهم إلى الحديقة الخلفية.
إبتسم لوي بثقة بدون أن يتكلم و لو كلمة واحدة للسيد ستيفين، ثم مشا مع الخادم الذي كان يقوده لتلك الحديقة المنشودة، عندها قال لي هانتر: ألا يجب أن نذهب معه؟
أخذت نفساً عميقاً و قلت له: معك حق.
كنت سوف أكلم جاك، لكنني رأيته يتبادل النظرات مع ذلك الفتى المقعد بهدوء شرس، فكسرت حاجز الصمت و تقدمت لذلك الفتى و قلت له: مارأيك بأن تأتي معنا، ايها الفتى؟
ظل ينظر لي بدهشة، لكنه سرعان ما قال بهدوء: اسمي إيان.
إبتسمت و قلت :إيان، ياله من اسم جميل، من سماك ؟
فأجابني بهدوء أكثر: السيدة هيلين.
فقال هانتر بدهشة: السيدة هيلين ؟ لحظة إذن-
قاطعته و قلت لإيان: سوف تأتي معنا على كل حال، إيان.
ثم توجهت حيث المقابض التي تدفع الكرسي المتحرك، و أخذت أدفعه لاحقة بلوي ووالد جاك، عندها تبعني جاك و هانتر، على كل، و نحن نمشي، قال هانتر لجاك و قد وضع يديه خلف رأسه: ليس من اللائق أن تجعل فتاة تدفع كرسياً متحركاً و أنت هنا، جاك.
فقال له جاك: أليس الامر ينطبق عليك ايضاً، ايها القصير؟
فإبتسم هانتر بثقة وقال لجاك بمكر: حسناً، الامر مختلف بالنسبة لي قليلاً.
فجأة تلقى هانتر ضربة على رأسه من جاك، فقطعت حديثهما ذاك و قلت لجاك: أين تلك الحديقة على كل حال؟
فأجابني: حسناً، إنها ليست حديقة كما تعلمين ..
قادنا جاك حيث مصعد يؤدي إلى ذاك المكان المنشود، عندما وصلنا اخيراً، كان المكان اشبه ببركة مياه واسعة جداً و عميقاً نوعاً ما، كراسي للجلوس و طاولة بالقرب من البركة ،و قد كانت مساحة البركة مفتوحة على الحديقة الخلفية، و هناك كان هناك ايضاً كراسي و طاولات للجلوس في الهواء العليل و بين تلك الاشجار التي تبعث الراحة في النفس، لكن ما سحرني، هو إنعاكس ضوء من الماء على وجه كل من يقترب من تلك البركة، و الاضواء الصفراء التي كانت في الخارج قد أنارت الحديقة بشكل جميل بين عرصات الظلمة.
هناك بعد أن خرجنا من المصعد، رأينا لوي ووالد جاك، كانا هادئان بشكل غريب و مريب ينظران لبركة المياه، عندما حاولت الاقتراب منهما، أوقفني هانتر و قال: توقفي، يبدو بأن الامر مثير لاهتمام.
إبتعلت ريقي و ظللت أنظر لهما عن كثب، للأن المصعد لم يكن مفتوحاً على ذاك المكان تماماً، بل يجب أن تعبر بهو يقودك للمكان، لذا وقفنا هناك ننظر لهما بهدوء.
فجأة بدأ السيد ستيفين الحديث و قال للوي بإبتسامة قد كساها الزيف: لماذا أنت صامت هكذا ؟قل شيئاً.
فتنهد لوي بضجر، ثم قال له: سوف أسألك سؤالاً، سيد ستيفين، هل تتحدث للحشرات؟
جمدنا مكاننا، بينما السيد ستيفين قد إعترته الدهشة! فأكمل لوي كلامه قائلاً: للأكون واضحاً أكثر، البشر لا يتكلمون للحشرات.
إحمرت عينا السيد ستيفين آنذاك غضباً، و قال بجموح: من تعتقد نفسك لكي تكلمي بهذه الطريقة؟! أنت السبب! لو لم تكن موجوداً، لما إختفى جاك من أمام ناظري، لما كانت هيلين لتفقد بصرها.
إبتسم لوي قليلاً، و قال له: أتقول بأنني السبب في فقدان السيدة هيلين لبصرها؟
فأجابه بجموح أكثر من ذي قبل: نعم، قبل شهر تقريباً، عندما يأسنا من رجوع جاك، خرجت هيلين بمفردها للبحث عن جاك، لكن إنتهى بها الامر بحادث مروري أودى ببصرها.
عندها أطلق لوي ضحكة قد إرتد صداها في المكان إلى مسامعنا، و مما جعل أبداننا ترتعش بشكل غريب، بعدها قال: لم أتوقع أن تكون عقليتك صغيرة لهذه الدرجة، سيد ستيفين.
ثم أردف برزانة: اولاً إنها غلطة جاك للأنه كان يتطلع أن يكون في القمة دائماً، حتى الملوك القدماء و العظماء و قادة الجيوش المشاهير قد تم إسقاطهم، لذا لا يجب أن تتوقع بأنك سوف تظل في منصبك هذا إلى الابد، أما بشأن السيدة هيلين، حسناً، هي بإرادتها من فعلت بنفسها هكذا، لابد بأنها كانت تعلم بأن الخروج هكذا في مدينة، بجانب انها لم تعتد على الخروج لمدينة العامة بدون سيارة أو حرس، لذا هي كانت مستعدة للأي شئ على الارجح في سبيل إيجاد ابنها، على عكسك أنت الذي لم تكلف نفسك حتى بالنظر له.
بعدها كتف يديه و قال لوالد جاك بحدة: بجانب، لا تدخلني في مشاكل قد حدثت بينك و بين والدي.
فجأة صرخ والد جاك صرخة قوية هو الاخر و قال: اخرس!
فجأة، حرك السيد ستيفين ذراعيه لكي يدفع لوي ليقع في بركة المياه، و بالفعل وقع فيها لنسمع جميعاً صوت سقوطه العنيف في الماء، ظللنا للحظات طويلة ننتظر، لكن الجواب كان هدوئاً قاتلاً، ولوي لم يخرج لحد الآن من الماء!
إبتلع جاك ريقه و قال بنوع من الخوف: إنه لم يخرج من الماء ..
فركضت نحو البركة بسرعة و غطست فيها أنا الاخرى، و بالفعل كانت عميقة نوعاُ ما مثلما توقعت، هناك كان لوي يترنح في الماء محاولاً السباحة لكنه لم يستطع، حسناً لا أقول لكم بأنني محترفة في السباحة و الغوص لكنني مقبولة في هذا المجال نوعاً ما، على كل! توجهت نحو لوي الذي كان قد فقد وعيه مؤخراً، أمسكت ذراعه و حاولت الارتفاع به للسطح بدون فائدة، فهو أثقل و أطول مني..
للحظات إعتقدت بأنها نهايتي، رؤيتي أصبحت شبه منعدمة بسبب الماء و أنفاسي بدأت تنفذ رويداً رويداً، مع هذا كنت لا أزال ممسكة بلوي و بصعوبة شديدة، عندما نفذت آخر أنفاسي، تركت ذراع لوي بحيث أمسك صدره، و بالفعل نجحت، طوقت ذراعي حول صدره و شددت عليه و أنا أحتضنه!
إلى أن رأيت هانتر و جاك ،ثم لم أعي ما كان يحدث حولي..
فتحت عيني للأرى نفسي في نفس المكان الذي كنت فيه منذ قليل، حيث الحديقة الخلفية، كان أول وجه قد رأيته هو وجه جاك، في تلك اللحظة، لم أعرف إذا كان ما تساقط علي من وجه هو ما علق فيه من ماء البركة، أم دموع، إختلط علي الامر و لم أستطع حتى أن أدرك المكان الذي أتواجد فيه و حتى الزمان! إلى أن أفقت اخيراً!!
عدلت جلستي بعد أن كنت مضطجعة، نظرت حولي فرأيت هانتر و ذلك الصبي المقعد المدعو إيان بالاضافة لجاك طبعاً، نظرت حولي أكثر فلم أرى ما كنت أبحث عنه، فسألتهم بعجلة: أين لوي؟!
فقال هانتر و قد رفع أحد حواجبه: لماذا الصراخ؟
إحمر وجهي عندها خجلاً، فأطلق هانتر قهقهة قد دوى صداها في المكان و اجابني: لقد تم نقله للأحد غرف هذا القصر ..
ثم اردف: نحن يجب أن نبيت هنا الليلة، فقد تأخر الوقت، بجانب أنك أنت و لوي مبللان بالماء لذا لا تستطيعان الخروج.
تمت قيادتي للغرفة التي سوف أنام فيها هذه الليلة، بالنسبة للوي فغرفته بجانبي، أما هانتر بجانب لوي، على كل! ما إن دخلت الغرفة حتى ذهلت عيناي مما رأيت، غرفة واسعة المساحة، مغطاة بورق جدران مزخرف بزخرفة نباتية فاتنة، أثاث مرتب و متقن الصنع، و قد كان هناك مصباح متدلي من السقف يبعث في المكان ضياء مائل للذهبي.
كنت أضع على رأسي منشفة بيضاء، ما إن دخلت حتى رميتها على الارض و أنا أحدق بالمكان، فقطعت تلك الخادمة التي قد وصل بها الزمن مواصيله حبل أفكاري و هي تقول: يمكنك إستخدام الحمام هنا، و أنا سوف أحضر لك الملابس.
كانت خادمة كبيرة في السن، وجهها قد غزته تجاعيد و علامات تقدم السن بها، لكن عينها كانت تزال زرقاء لامعة، أما شعرها فقد كان أبيضاً ممزوجاً بشعر أشقر قد بدأ يختفي رويداً رويداً وراء ذلك اللون الابيض.
شكرتها ثم إنصرفت لجلب الملابس المزعومة، فخلعت ملابسي و دخلت الحمام، كان مثل المتوقع راقي يليق بالغرفة نفسها، على كل! ملأت حوض الاستحمام بماء ساخن، ثم دخلت داخله و مددت أطرافي بأكملها للأنه كان واسعاً، ثم أدخلت رأسي و جسمي بأكمله داخل الماء لكي أبحر قليلاً لعالم العدم، أريد أخذ فترة نقاه و لو كانت قصيرة بسبب اجترار هذه الاحداث الغامضة..
حديث لوي ووالد جاك، السيد ستيفين، هذا ما كان يشغل بالي و أنا غارقة في حوض الاستحمام هذا، حسناً، لا أعتقد بأنني قد فهمت شيئاً، لكن لوي و على عكس عادته قد قلل من قدر الذي أمامه هذه المرة، و أنا أعني ما أقوله، هو عادة ما يحب إحراج الناس و إسكاتهم و إفحامهم في المناقشات الجادة لكنه لا يقلل من قدرهم، لكن هذه المرة مختلفة، لقد سأله "هل الانسان يكلم الحشرات".. أليس هذا يعني بأنه يعتبره مجرد حشرة؟ لكن لماذا؟ هل بسبب الشجار الذي كان يتكلم عنه بين والد جاك ووالده..؟
أشعر بأن رأسي يدور بمجرد التفكير في هذه الامور المعقدة!
بدأت الاسترخاء بدون شغل ذهني بأي شئ ،بعد أن مضى الوقت و شعرت بأن جلدي قد بدأ يتجعد من الماء، إنتصبت على رجلي و لففت منشفة طويلة بيضاء حول جسمي، ثم خرجت، للأرى ملابس موضوعة على السرير، توجهت نحوها و أخذت أنظر لها، كان عبارة عن رداء أحمر بدون كم يصل للركبة، محدد بخطوط مذهبة عند أسفل الصدر ..
أمسكته لكي ألبسه، لكنني توقفت قليلاً و أخذت أتحسس القماش جيداً، إنه مصنوع من الحرير، الحرير الطبيعي!
وقفت مكاني أفكر و أنا مندهشة، حتى لو كنت ضيفة ألا يوجد أي رداء من حرير صناعي أو قطن؟ أم هذا شئ طبيعي بالنسبة للناس الاغنياء يا ترى؟ أليس الحرير الطبيعي غالي الثمن لكي يعطونه لضيف لكي يترديه؟ أم أنا بدأت أفقد حاسة اللمس يا ترى؟!
عندما أدركت بأن لا طائل من التفكير، إرتديته بصمت، ثم ذهبت للمرآة أنظر لنفسي، فجأة! فتح الباب لتظهر تلك الخادمة العجوز مرة اخرى، فقالت لي بإبتسامة: هل أعجبك الرداء؟
شعرت بالخجل و قلت لها بتلعثم: ن-نعم، شكراً.
فجأة تلاشت الابتسامة و لم ينطق وجهها بأي ملامح، ثم تقدمت لي و قالت لي بأن أجلس لكي تمشط شعري بنفسها، حاولت الرفض لكنها أصرت، عندما جلست، أخذت شعري الاشقر بين يديها ثم أخذت تمسح عليه و هي تبتسم، بينما أنا صامتة، قالت لي: تملكين شعراً جميلاً، إنه يلائم مع الرداء الاحمر.
تصنعت الابتسامة و قلت لها: ح-حقاً؟ شكراً.
ثم سألتها محاولة فتح موضوع ما: هل تقدمون للضيوف هذه النوع من الملابس دائماً؟
فأجابتني بعد أن تغيرت نبرة صوتها: لا، في الحقيقة السيد جاك هو من أمرني بأن أعطيك هذه الملابس.
إلتزمت الصمت لفترة، ثم قلت لها بإبتسامة مصطنعة: إذن، هل هذه الملابس كانت ملك أحدهم؟
أنكست رأسها للأسفل و قالت لي: كان من المفترض أن تكون هدية خطيبته.