حاولت النظر لوجه، و بالفعل نظرت، لكنني منذ أن رأيت ملامح وجه جمدت في مكاني مصدومة، و الامر متشارك لكلينا، فهو الاخر أخذ يحدق فيني و هو فاغر فاهه بدهشة.
كان ظهري مقوساً حيث كنت أدنو لكي أضع المبلغ المالي في الوعاء الخشبي، لذا بقيت على هيئتي تلك أخذت أتبادل النظرات الطويلة لفترة غير طبيعية من الزمن، فأعطاني لوي ضربة خفيفة على ظهري و قال: ماذا هناك؟
إستعدت وعيي آنذاك، عدلت وضعية ظهري و أنا أنظر للرجل من الاسفل حيث كان جالساً على الارض متفادياً النظر لي، فسألني لوي عندها و هو ينظر للرجل بطرف عينه: هل تعرفينه؟
نظر للوي بقلة حيلة آنذاك، إزدرأت ريقي ثم دنوت من الرجل مرة اخرى، فسألته بشكل مباشر: أبي ؟
ظل فترة من الزمن ليست بقصيرة ينظر بعيداً عني، لكنه سرعان ما تنهد و نظر لي للأرى وجه، شعر أشقر قد تخللته شعيرات بيضاء بسبب التقدم في السن، و أعين زرقاء قد بدأت تفقد بريقها، نفس الوجه، نفس الملامح !إنه بلا شك وصمة العار التي قد قبعت في ذكرياتي !
أدخل لوي يديه لجيوبه ثم قال بهدوء: أبوك ؟ فهمت..
ثم سألني: ماذا سوف تفعلين؟
في تلك اللحظة مر شريط ذكرياتي أمام ناظري منذ بدايته، الرعب الذي كان يعتريني و أنا بحضن نيكولاس في ذلك الظلام الحالك، صورة هنري و هو عاجز على الارض، إبتسامة أمي و جروحها العميقة على جلدها الصافي، إهماله لنا، موت أمي ووقوفي أمام قبرها، وجه كل من نيكولاس و هنري، سؤال المدير لي آنذاك عن والدي، كل شئ بتفاصيله الصغيرة و الكبيرة!
شددت على قبضتي، ثم أخذت نفساً عميقاً، بعدها سألت لوي متمتمة: لو كنت مكاني ماذا كنت سوف تفعل؟
فجأة، إبتسم إبتسامة لم أعهدها منه ،غريبة نوعاً ما كانت تدل على قلة حيلته و أجابني: أعتقد بأن ليس لدي الحق في الكلام.
نظرت له لفترة من الزمن أتأمل معالم وجه النادرة تلك، لكنني سرعان ما نظرت للأبي، إنه بالفعل أبي بدون شك! أخذت نفساً عميقاً مرة اخرى لكي أجدد أفكاري، ثم مددت يدي له و قلت: تعال معي.
رجعنا أدراجنا لشقة لوي حيث قابلت شخصاً لم أكن أتوقع بأنني سوف ألمح ظلامه أو حتى نوره في حياتي مرة اخرى، لكن هذه المرة هو في حالة مختلفة بمئة درجة عن نفسه السابقة، طول الطريق لم ينطق بكلمة واحدة أو يكلمني، و عندما دخلنا الشقة جلس على أحد الارائك بصمت و هو منكس رأسه..
بينما أنا ذهبت للأغير ملابسي في الغرفة، فتحت الباب لكي أخرج للأرى لوي و هو ينتظرني في الخارج، فأدخلني مرة اخرى للغرفة و أغلق الباب، ثم وقف مكتفاُ يده و قال لي بحزم: ماذا تنوين فعله الآن؟
فسألته متظاهرة الغباء: ماذا تقصد؟
تنهد بضجر و قال لي: لا تلعبي دور "الحمقاء"، أنت تعلمين ما أقصده.
أنكست رأسي و نظرت للأرض، ثم قلت له: لا أعلم، الشئ الوحيد الذي أعرفه هو لو انني عاملت أبي كشخص لا أعرفه في تلك اللحظة، فأمي سوف تكون حزينة.
تنهد مرة اخرى ثم قال لي: لديك أخوين صحيح؟ هل تنوين إخبارهما؟
رفعت رأسي له و نظرة تعجب ممزوجة بضياع قد علت وجهي، ثم قلت له: لابد أنك تمزح، صحيح؟
أطلق ضحكة خفيفة ،فجلست على السرير و أنا أتنهد، عندها قال لي لوي: لماذا لا تتكلمين معه أولاً؟
قوست ظهري و شبكت أصابعي، و قلت بنوع من الغضب: لا أريد، لا أريد! لا أريد أن أرى وجهه، أو أسمع صوته! لا أريد أن أتذكر الماضي، لا أريده أن يسيء الفهم و يعتقد بأنني أشفق عليه.
فسألني عندها: إذن، لماذا احضرتيه لهنا؟
شددت على قبضتي و عضضت شفتي بغضب، و جاوبته و أنا مقضبة حاجبي: قلت لك، لو كانت أمي موجودة الآن لكانت فعلت هذا، كنت أريد أن أتحلى بشخصيتها و ابدأ صفحات جديدة مثلما كانت تفعل هي كل يوم لكن عبثاً، فقد كانت تأمل هي بأن أبي سوف يتغير بعد كل شئ، لكنني لم أستطيع.
أطلق زفرة عميقة، ثم قال متمتماً: لا أعلم إن كانوا يسمون هذا "سذاجة" أم "طيبة"..
ثم سألني و هو مكتف يديه: ما رأيك أنت؟ هل تعتقدين بأن تعلق أمك بخيط الامل المزيف هذا كان سذاجة؟
ظللت فترة أتحلى بالصمت، ثم جاوبته: الاثنان.
ظل ينظر لي لفترة طويلة من الزمن، لكنه سرعان ما إبتسم من طرف فمه و قال لي: على كل، إبقي أنت هنا إن كنت لا تريدين أن تري وجه ذلك الرجل لتنقي ذهنك ، أنا سوف أجلس معه قليلاً.
ثم أغلق الباب و إنصرف، إنتظرت قليلاً ثم فتحت الباب و خرجت من الغرفة، ثم جلست على الارض و أنا مسندة ظهري على الجدار بحيث أستطيع أن أسمع محادثتهما هذه، بعد فترة صارمة من الصمت ،سمعت صوت لوي و هو يقول: ألا تريد أن تأكل شيئاً؟
أجاب أبي بالنفي، عندها بعدما عم الصمت مرة اخرى سأل لوي: ما علاقتك بكاثرين؟
فقال له لوي: هل أنت مهتم بمعرفة هذا؟
إلتزم أبي الصمت، فأكمل لوي قائلة: كاثرين قالت بأنها مجرد نكرة بالنسبة لك، فلماذا أنت مهتم؟
فقلت في نفسي بدهشة: متى قلت هذا الكلام ؟! صحيح بأنني أعتقد هذا الشئ، لكنني لم أقل له هذا الكلام !
ليقطع لوي حبل أفكاري بعد هذا مكملاً كلامه: هل تريد أن ترى نيكولاس و هنري؟
ليلتزم أبي الصمت مرة اخرى، حسناً أنا لا ألومه، فهو جالس مع لوي بعد كل شئ، فجأة! سمعت صوت أبي و هو يقول: لو سألتني فأنا أريد أن أراهما، لكنهما لا يريدان هذا.
ثم أردف: كاثرين كانت طيبة القلب عندما فكرت في أن تنتشلني من التسول في الشوارع حقا.
عندها أطلق لوي ضحكة خفيفة و قال: لا تسئ الفهم، فهي لا تزال تكرهك، إنتشلتك من القمامة للأن امها كانت سوف تفعل الشئ نفسه.
كانت نفسي تضج صدى مدوي داخل صدري و أنا أستمع لمحادثتهما مثل زمجرة أسد ضائع، لقد بالغ لوي كثيراُ! و كانه يصف هواجسي على هيئة كلمات و أكثر ! كأنه يكسر ضلوع و عظام أبي التي هي شرفه و كبريائه بهدوء و برود بمجرد أسئلة بسيطة قد دنسها الزمان و دفنت في ذاكرتي ..!
قطع حبل أفكاري صوت لوي و هو يتابع كلامه قائلاً: قل لي، ماذا تتوقع أن تكون ردة فعل نيكولاس و هنري عندما يعلمون بأن كاثرين قد وضعتك في ملجأ، و هذا الملجأ ليس بإسمها بل بإسمي أنا، هل سمعت مرة في حياتك عن فتاة تنتشل رجلاً و هو والدها من الشارع؟
فجأة! تكلم أبي اخيراً بعد أن طفح كيله من كلام لوي الذي كان يمزقه إرباً إرباً ببرود: أعرف! أعرف جواب كل أسئلتك هذه! و أنا نادم الآن! لكن ماذا عساي أفعل؟! تخلت عني عائلتي و تشردت في الشوارع مثل القطط! ماذا تريدني أن أفعل؟!
عندها قال لوي بهدوء: قلت "تخلت عني عائلتي"، إذن؟
ثم أردف: من تخلى عن الآخر اولاً؟
سمعت عندها صوت أبي و هو يأخذ نفساً عميقاً مسموعاً بوضوح بعد شهقة مسموعة، بعدها عاد لنبرة صوته العادية و قال: حسناً، كلامك صحيح، يجب أن أكون ممتناً للأنهم لم ينتقموا مني، فأنا أكون عبارة عن قاتل والدتهم في نظرهم.
فقال له لوي: قال جورج برنارد شو "أحذر من الشخص الذي لا ينتقم منك ..فهو لم يسامحك.. و لم يسمح لك أن تسامح نفسك" .
ثم تابع كلامه قائلاً: لقد قرأت هذه العبارة في احدى الكتب عندما كنت صغيراً لكنني لم أفهمت سوى نصف معناها، الآن فهمت العبارة كلها و بوضوح .
بعد أن انهى لوي جملته، إجتاح صمت رهيب المكان، بينما أنا جالسة على الارض و مسندة ظهري على الجدار، تكلم لوي مرة اخرى و قال: جاوبني، ماذا تشعر حالياً بشأن كاثرين ؟
فأجابه: كاثرين، أعتقد بأنها تكره شكلها للأنها تشبهني، لكنني سعيد للأنها قد إنتشلتني من الشارع حتى لو لم يكن من أجلي، في السابق لم أعرف سوى إسمها مع انها كانت إبنتي ..
فقال له لوي: لقد سمعت هذا الكلام من قبل، أليس لديك المزيد لكي تقوله؟
جاوبه بالنفي، عندها قال له لوي مغيراً وجهة الموضوع مرة اخرى: ألا تفكر بأن تعتذر أو ماشابه لتجعل إبنتك تسامحك؟ ثم تعيش معها مرة اخرى و كأن شئ لم يحدث .
فأجابه: حتى لو سامحتني و بدأت معها حياة جديدة و طبيعية، و عدنا حيث نيكولاس و هنري-
قاطعه لوي قائلاً: و كأنني سوف أتركها مرة اخرى.
إنتصب ظهري في تلك اللحظة! "مرة اخرى" ..هل يقصد عندما إفترقت عنه عندما إختفى لمدة تقارب السنة تقريباً؟ هل كان الشئ بإرادته أم لا.. لا أعتقد بأن الموضوع كان خارج عن إرادته، فلوي لا يفعل أي شئ إلا بإرادته .. لكن إن فعل الشئ بإرادته لماذا إفترق عني و غاب من أمام ناظري إن كان لا يريد أن يتركني مرة اخرى .. حتى لو فكرت و سألته سوف أواجه باب مسدود لا أكثر.. لا أستطيع مجاراته في الحديث مهما فعلت !!
قطع حبل أفكاري صوت لوي و هو يقول: على كل، يمكنك الجلوس هنا و التحطم ببطئ .
بعدها خرج من غرفة المعيشة ليكون حيث كنت جالسة مسندة ظهري على الجدار في البهو، فتخصر و قال لي: عرفت بأنك سوف تكونين هنا.
فضممت ساقي لصدري و أدخلت رأسي بينهما، و قلت له: لماذا قلت هذا الكلام؟
لسبب ما، كانت صدري يتشقق و يتمزق من ألم لم أعلم سببه، شعرت بضيق في التنفس و كأن يد قريني تحاول أن تخنقني مثل حبل المشنقة، عبرات ساخنة غير مرئية قد لوثت قلبي و هواجس ثقيلة أخذت تنسكب في وعاء روحي ..
إلى أن قال لي لوي: يمكنك أن تقولي بأنني كنت أفرغ ما في جوفي من كلام لا أكثر.
نظرت له بنوع من الدهشة و الاستغراب، عندما أردت الكلام لم يسمح لي بهذا فقال لي: ألا تنوين حقاً إخبار أخويك؟
إلتزمت الصمت و أنا لا أزال جالسة على الارض معانقة ساقي بعلامة كلمة "نعم"، عندها سألني: متى آخر مرة رأيتي فيها أخويك؟
فنظرت للسقف و قلت له: متى؟ عندما أتيت لهذه المنطقة في سنتي الاولى في الثانوية.
فأدخل يده لجيبه و قال: ماذا تعتقدين بأنه قد يمنعهم من المجئ لهذه المنطقة في أي وقت؟
فجاوبته: قبل أن أدخل الثانوية، قلت لهما بأنني أريد أن أعتمد على نفسي، لذا أعتقد بأنهما لم يكونا يريدان أن يتدخلان في أموري، لكنني الآن قد أنهيت الثانوية و ..
بعدها إلتزمت صمتاً مفاجئاً، نظرت للوي فرأيته يبادلني النظرات الثاقبة تلك بأعينه الذهبية، فأعدت النظر للأرض، عندها قال لي فجأة: أنا أسئلك، ماذا سوف تفعلين لو زاروك هنا بشكل مفاجئ ووالدك هنا؟
فقلت له: ماذا تقصد؟ هل لديك إحساس بأنهما سوف يأتيان لهنا أم ماذا؟
سألته هذا السؤال للأنني أثق بحاسة لوي السادسة، لكنه فاجأني عندما أجابني: لا أملك إحساس مثل هذا، كنت فقط أريد أن ارى ماذا سوف تفعلين.
عندها أخذت نفساً عميقاً للأعبر عن إرتياحي، فجاوبته بعد هذا: ماذا سوف أفعل لو زاراني و أبي هنا؟ لا أعلم.
أريد أن أبدأ صفحة جديدة لو سألني أحدهم عما أريد أن أفعله، نعم أريد أن أبدأ حياة جديدة مع أبي، لكنني لا أستطيع، عقلي و قلبي و روحي لا يسمحان لي بفعل هذا، أتذكر جميع اللحظات المخيفة و أنا في حضن نيكولاس، و أنا أسمع أصوات أمي التي تشبه العويل و هي تتبعثر في أذني، لا أستطيع نسيان تلك العبرات التي قد إنهمرت من عيني في تلك الليلة التي كتب فيها بلعن قدري! لا أستطيع!
قطع حبل أفكاري لوي و هو يقول لي: إلى متى سوف تظلين جالسة على الارض؟
عندما إنتبهت لنفسي، إنتصبت على رجلي و نفضت الغبار من ملابسي، فأمسكني من يدي و قادني إلى غرفة النوم، بعدما أغلق الباب ذهبت و جلست على السرير، بينما هو ظل واقفاً و قال لي: لا شئ يرسخ في الذاكرة سوى الاشياء التي ترغب في نسيانها.
رفعت نظري له بدهشة، فأكمل كلامه قائلاً: هذا الشئ سائر على اللحظات السعيدة و الحزينة سواء، ألا توافقيني الرأي؟
هززت رأسي موافقة، عندما رفعت رأسي مرة اخرى، أغلق لوي المصابيح لكي يوضح ضوء الشمس اكثر من بين الزجاج و الستائر، توجه لوي للسرير الذي كنت أجلس عليه و إستلقى عليه بعد أن خلع سترته الرسمية، فإلتفت له و قلت مغيرة الموضوع: ألم تنم الليلة الماضية؟
فقال لي و قد أغمض عينه: يمكنك قول هذا، فالليلة الماضية كانت صاخبة بشكل لم أعتد عليه.
أتسائل إن كان معتاداً على هذا الهدوء عندما كان صغيراً؟ أقصد.. صحيح بأن كيفين و لويس أخوان له من نفس الام، لكن ألم يلعب معهما و لو مرة واحدة؟ حتى أنا التي لم تحظى بأي صديقات في المدرسة، حسناً لم أكن وحيدة، تعرفت على فتيات في نفس عمري لكنني لا أدعوهن صديقات، بل زميلات في الصف لا أكثر، صديقتي الوحيدة هي لورين و هي أول فتاة تعمقت في علاقتي معها .. لكن لوي.. لا أعلم.. نادراً ما تراه يغضب و أو يتكلم بصوت عال على عكس كارل الذي قال بأنه إبن خالته .. أتسائل إن كان قد لعب مع كارل في السابق.. لكن.. لحظة! هل والدي لوي على قيد الحياة أم لا ؟
إبتلعت ريقي بصعوبة ملحوظة، فنظر لي لوي و قال :ما الخطب؟
فسألته سؤال غير مباشر عندها بتردد: لم تكلمي عن والديك من قبل ..
كنت أتوقع أن يغير الموضوع أو ينقلب شخصاً آخر، لكنه نظر للسقف و قال بنبرة هادئة جداً: والدي ..حسناً، كليهما لا يعلمان عما أفعله الآن و أين أنا و مع من أنا.
هذا يعني بأنهما على قيد الحياة، أكانت حياته مشابهة لحياتي أم ماذا؟ لا.. لا أعتقد بأن الامر بهذه البساطة.. فجأة! إنتصب ظهر لوي ليجلس على السرير و ساقيه ممدودتان، فنظر لي مباشرة بأعينه الذهبية تلك بينما الضوء كان يختفي رويداً رويداً في الغرفة مع غروب الشمس و طرق القمر أبواب السماء، مما جعل لون عيناه تبرزان بشكل أوضح، ظللت أتأمل فيهما بعمق، أحسست في تلك اللحظة بشلل قد أصاب عمودي الفقري فجأة! لا أعلم السبب لكنني بمجرد أن نظرت لعينيه أحسست بهذا الشئ، هناك شئ غريب في الامر ..
فجأة! لف لوي ذراعيه حول عنقي ثم إستلقى مرة اخرى بحيث استلقي معه، ثم أخذ يدخل أطراف أصابعه بين خصلات شعري و قال متمتماً: يمكنك القول بأنني أحسدك للأنك قد عشت مع أمك.
عندما حاولت النظر له، إستلقى على جنبه فجأة بحيث يضمني لصدره، ثم قال: لكن هذا لا يهم، لقد نسيت عائلتي و كل شئ الآن، و للأكون صريحاً لا أريد أن أتذكر أي شخص منهم، فأنت كل ما أملك الآن.
ضمني أكثر و أكثر، بعدها قال: حتى لو فكرت أمي في رؤيتي، لن تراني و لن أستطيع أن أراها ، فكلينا لا يعلم أين موقع الآخر.
بعد أن أنهى جملته، إبتعدت عن حضنه، مما جعل ملامح الدهشة ترتسم على وجه، بينما أنا قلت له بحزم: لماذا تقول هذا الكلام؟ أنت تتكلم عن والدتك صحيح؟ إن كانت تريد أن تراها لماذا لا تذهب و تراها؟
أغمض عينيه و قال: قلت لك، لا أستطيع أن أراها، فهي لا تعلم أين أنا و أنا لا أعلم أين هي-
قاطعته و سألته بحزم: هل تريد أن تراها ؟
توسعت عينه بنوع من الدهشة، لكنه إختبأ تحت جناح الصمت و لم يجاوبني إجابة قاطعة، فوضعت يدي على رأسه و أخذت أمسح على شعره بينما هو لا يزال مستلقياً، و قلت له: إن كنت تريد أن تراها، فلماذا لا تذهب إليها؟ أنا سوف أساعدك !
إنتصب ظهره مرة اخرى و جلس على السرير، ما إن جلس حتى عانقني و هو يطوقني بذراعيه من خلف ظهري لكي لا أرى وجه، لكنه بعد مرور مدة أبعد ذراع واحدة، بعدها لم أسمع أي شئ منه و كأنه كان يفكر، لكنه سرعان ما أعاد تلك الذراع لمكانها و ألقى بثقل رأسه أكثر على كتفي و قال متمتماُ: لا أستطيع أن أريك هذا ..
فسألته بإستغراب: ماذا تريني؟
بعد أن إنتهى الحال بلوي نائماً، ظللت جالسة على الكرسي الذي في غرفة النوم لا أعلم ماذا أفعل، لكنني سرعان ما إتخذت قراري و إستنشقت الهواء الموجود حولي حتى أحسست بأنه سوف ينفذ! إنتصبت على رجلي و خرجت من الغرفة، توجهت مباشرة نحو غرفة المعيشة التي كان يجلس فيها والدي، وقفت بمحاذاة المدخل فإلتفت أبي لي، لكنه سرعان ما عاود النظر للأرض ..فتنهدت ثم توجهت و جلست على أريكة مقابلة له.. ثم قلت له: لماذا؟ لماذا كنت تتسول ؟
ظل مطأطأ رأسه بطريقة مثيرة للشفقة مما جعلتني أشعر بعدم الراحة، ثم جاوبني: لماذا؟ لقد إنتقلت من تلك المنطقة التي كنت أعيش فيها معكم في السابق لهنا من أجل العمل للأنني لم ألقى عملاُ هناك، لكن إنتهى الحال بطردي بسبب سوء أدائي، لكن من كان يعلم بأنك هنا ؟
لسبب ما شعرت بنزلة غضب عارمة قد تلبستني مثل الشبح عندما يتلبس أحدهم، حاولت إمساك أعصابي و بالفعل نجحت، عاودت التنفس بشكل طبيعي، لكن بعد كل شئ! لا أستطيع أن أنظر لهذا الرجل! لا أنكر بأنني أحاول الآن.. لكنني لا أستطيع.. لا أستطيع أن أسامحه.. ماذا يقصد.. "من كان يعلم بأنك هنا؟" ..كيف سوف أتجاوز هذه العقبة إن كان الاب لا يعلم عن حال إبنته أين كانت و ماذا تفعل.. بجانب! ماذا يقصد بأنه قد تم طرده بسبب سوء أدائه ؟ أراهن بأنه كان يذهب لهم مخموراً كل يوم!
لا أعرف ماذا دهاني فجأة؟! كلام سلبي يتدفق من كياني إلى صدري ليجعله يضيق أكثر فأكثر ! لطالما كنت أنظر للجوانب الايجابية في الموضوع، لكن هذه المرة مختلفة تماماً، و كأن قد تم إستبدال مقلتا عيني بأعين لا ترى سوى الجانب المظلم و لا تقترب من النور ابداً!
أخذت نفساً عميقاً مرة اخرى، ثم سألته: إذن، ماذا تنوي أن تفعل بعد هذا؟
قوس ظهره ووضع يده على رأسه بشكل يدل على المصيبة التي نزلت عليه، فأطلقت زفرة صامتة و أنا أذوي من الداخل، هناك جزء مني لا يسامح هذا الرجل على كل ما فعله بي، و الجزء الآخر يشعر بالشفقة نحوه على الحال التي آل لها الآن، مشاعر متخبطة ببعضها مثل شبكة العنكبوت لا أعلم إلى أين تقودني !
قطع حبل أفكاري عندما سألني بإبتسامة خفيفة تكاد أن ترى: لم تقولي لي، لماذا أنت في هذه المنطقة؟ ألم تكوني مع نيكولاس و هنري؟
فقلت له بوجه متجهم: لست ملزمة لكي أجاوبك.
كانت الابتسامة لا تفارق محياه، لكن بعد أن أنهيت جملتي طأطأ رأسه مرة اخرى بعد أن رفعه، فوضعت يدي على رأسي و قلت متمتمة: ما خطبي يا ترى ..؟!
عندها إنتصبت على رجلي و قلت له: على كل! تستطيع قضاء الليلة هنا!
فقال لي بصوت كان يخفت رويداً رويداً مع قصر الجملة: نعم.. شكراً لك..
في اليوم التالي، الساعة 9:00 صباحاً
إستيقظت على صوت لوي و هو يحاول إيقاظي، حيث كنت نائمة على الطاولة التي في المطبخ الليلة الماضية بسبب إنكبابي على الطعام بشراهة غير معتادة مني، على كل! عندما إستيقظت قال لي لوي: لماذا أنت نائمة هنا بحق ؟
فركت عيني بتثاقل لكنني سرعان ما مددت جسمي للأعلى لكي أستفيق بشكل تام، فقال لي لوي مغيراً الموضوع: على كل، والدك قد غادر قبل قليل، و قد أخذ رقم هاتفك معه.
فقلت له و أنا أغسل وجهي في مغسلة المطبخ: رقمي؟ لماذا؟
فقال لي بهدوء: من يعلم؟ ربما يريد أن يعلم أخبارك بشكل مستمر.
قطع حديثنا صوت هاتفي و هو يرن معلناً مكالمة لي، فتوجهت حيث هاتفي في غرفة النوم ووضعته على أذني و أنا أقول: مرحباً، من هناك؟
سمعت صوت أبي من الجهة الاخرى و هو يقول لي: مرحباً ، هذا أنا.
ثم أردف: أخرجي قليلاً خارج الشقة و أنظري للخارج.