في بعض الأحيان يشعر المرء بأنه يقف على حافة جرف سحيق , أو يقف حائراً أمام مفترق الطرق لا يدري أي الطريقين يسلك , شعور بالضياع يتشبث به ويستسلم لليأس والظلمة بأعماقه , لكن صوت خافت سيظنه ظهر من العدم ليدله على الطريق السليم , يأخذ بيده بعيداً عن ذلك الجرف المغلف باليأس , ويرشده للطريق الصحيح بمفترق الطرق ليبعد الضياع عن قلبه , فصاحب ذلك الصوت لم يكن ولن يكون سوى العناية الربانية بك , فالله دائماً من سيرسل لك شخصاً يمد يده ليخرجك من قاع اليأس والضياع لحياة مليئة بالأمل و الثقة بأن كل شيء ومهما صعب أو سبب الألم لن يكون إلا الأفضل لك !.
فتح عيناه العسليتان بإرهاق شديد, نظر حوله ليرمش عدة مرات بمحاولة منه لإستعادة تركيزه ومعرفة كيف إنتهى به المطاف هنا, وماذا يريد عامر منه حقاً ؟ فهو قطعاً لم يعده للماضي لإنه رغب بذلك فقط وإنما هنالك امر آخر يفكر به والسؤال الأهم هو كيف يعرف ذاك الرجل ماضيه وماضي أسرته فهو لم ينهي رحلة الذكريات تلك إلا عندما جعله يرى ردة فعل أسرته أيضاً , وكأنه علم تماماً بأن ردة فعلهم كانت سبباً رئيسياً لما حدث بحالته النفسية لاحقاً وليست فقط الصدمة من موت شقيقته الصغرى , تنفس بعمق ليعتدل بجلسته وهو لا يدرك أنه امضى ما يقارب اليوم والنصف نائماً , إلا أنه فزع وللغاية وقد شهق بخفة فهو ما إن نظر للأمام حتى رأى عامر يجلس بهدوء أمامه وابتسامة غامضة تعلو ثغره , تحدث هيثم بتوتر ملحوظ :" ماذا تفعل أنت هنا ؟ وما بال هذه الابتسامة البلهاء ؟"
ضحك محدثه بخفة وهو يجيبه:" أتريد ان ترى منظرك بالمرآة الآن ؟ أعني لماذا أنت خائف مني ؟"
تنفس بعمق شديد وقد أظهر القليل من البرود المصطنع وهو يجيبه :" لا شيء , ولكن أنا حقاً لا أظن أنك مجرد طبيب نفسي صحيح ؟"
ابتسم عامر بخفة وهو ينهض من مقعده ليجلس بالقرب من هيثم بالرغم من توتر الأخير الملحوظ وهو يتحدث :" لا , أعني لم أعد كذلك منذ زمن ( راقب عيناه اللتين ازدادتا حيرة ليكمل باستمتاع ) :" الحقيقة أنا فقط تخرجت من الجامعة بشهادة طبيب نفسي لكنني لم أعمل بها قط !"
إبتلع رمقه بتوتر ملحوظ :" وماذا تريد مني ؟ أعني أنت لماذا تعرف الماضي الخاص بي ؟ "
تنفس بعمق وهو يتحدث بإنزعاج :" لماذا على الجميع أن يخافوا مني بالنهاية ؟ ( وبصوته الهادئ ):" حسناً لا تقلق , الحقيقة أنني أريدك لتنضم لي بمهمة ما ولكن علي التأكد من أنك قادر على القيام بها وأنك تجاوزت أمر الماضي وتلك الحادثة تماماً "
نظر له وقد قطب حاجباه بتفكير فأي مهمة هي هذه التي سيرغب هذا الشخص بضمه لها ؟ الواقع هو أنه غير قادر على فعل أي شيء مطلقاً , وأيضاً عامر هذا لديه القصر في منطقة ذات شأن مرموق من الحكومة ولديه سفينة كانت تستخدم لتدريب الجيوش كملكية خاصة فماذا يريد من فتى مثله ؟ .
تحدث بإرتياب شديد :" أنت لا تقوم ببيع الممنوعات أو ما شابه ذلك صحيح ؟"
ضحك بكل ما يملك من قوة ليتحدث من بين ضحكه :" لا أبداً "
بالكاد نطق بتلك الكلمات ليعود للضحك بالرغم من الوسادة التي ألقاها هيثم عليه ليشيح بوجهه عنه مُحرجاً وما جعل الموقف أسوء هو دخول إيهاب للمكان ويتبعه هشام وقد علق الأول بكل ما يحمله من سخرية :" بيع الممنوعات ! أهذا فقط ما تمكن عقلك من استحضاره ؟"
أجابه بحده :" لا شأن لك , وأنت بالذات تبدوا كسفاح "
نظر إيهاب له بحده وقد أمسك به من عنقه بشيء من اللطف حتى لا يكسرها بين يديه القويتين :" ما رأيك لو كررت الأمر وستكون ضحيتي الأولى ومن بعدك هشام فوراً "
إعترض ذاك الأخير :" أنت لئيم للغاية ماذا فعلت أنا لك ؟ ومن ثم اترك هيثم وشأنه فهو ليس معتاداً على حماقاتك "
ألقى إيهاب هيثم وحرك كتفيه بقلة حيلة قبل أن ينظر لعامر الذي كان ينظر لهم وهو يرسم ابتسامة هادئة على شفتيه ليتحدث بذات سخريته :" وأنت توقف عن مراقبتنا هكذا كعجوزبلهاء ترى حفيدها يقف على المسرح للمرة الأولى في حياته ! "
رفع عامر حاجباه باستنكار لذاك الوصف وقد أبعد ابتسامته عن وجهه بينما ضحك هشام بخفة أما هيثم فقد وقف ليرى ردة فعل عامر على كلام إيهاب إلا أنه صدم عندما نهض عامر من مكانه واتجه لمغادرة الغرفة ولكن قبل ذلك إقترب من إيهاب وربت على كتفيه :" إذن يا حفيدي العزيز سيكون عليك تنظيف الفوضى بالأسفل وهذا لإن جدتك مرهقة من السهر على راحتكم "
ليغادر بعدها بسرعة أما إيهاب فقد صرخ بكل حنق وغيظ :" عد إلى هنا يا عامر وأقسم أنك ستموت , فعلا سأقوم بقتلك أتفهم ذلك ؟"
كتم كل من هيثم وهشام ضحكتهما بصعوبة إلا أن غادر إيهاب المكان وقد أغلق الباب بكل قوة خلفه لينفجر الإثنان بالضحك .
بصباح اليوم التالي جلس الجميع حول مائدة الطعام وقبل أن يكمل هشام وضع الطعام أمامهم بمساعدة عامر تحدث ذاك الأخير :" تناول الطعام مع الجماعة لطيف للغاية , واليوم أصبح لدينا عضو جديد "
تحدث هيثم بهدوء شديد :" لم تخبرني ماذا تريد مني ؟"
ابتسم وهو يجلس بالقرب منه :" أخبرني أترغب بالتوجه لمنزلك ؟"
قطب حاجباه بإنزعاج وهو يجيبه بشيء من قلة الصبر :" بالتأكيد ارغب بالعودة لمنزلي بدلاً من البقاء مع مجموعة من الغرباء المثيرين للريبة "
تحدث إيهاب بنقم شديد :" من هم المثيرين بالريبة أيها المدلل عديم الصبر "
بينما تنهد هشام بقليل من الحزن المصطنع :" بالتأكيد سيصفنا بذلك بما ان إيهاب وعامر معنا "
ضحك رامي والذي كان يجلس على ذلك الكرسي الطبي بهدوء كعادته بينما كاد إيهاب أن ينقض على هشام لولا تدخل عامر الذي تحدث بهدوء وجدية :" لنكتفي الآن من هذا المزاح , إن رغبت حقاً بمعرفة كل شيء عنا فسيكون عليك العودة لمنزلك ومن ثم ستعود إلى هنا بعد أن تخبر أسرتك بأنك ستسافر للدارسة والعمل هنا لهذه المدينة بمنحة ما , حينها فقط سيحق لك أن تعلم كل شيء عنا ! "
أنهى كلامه وبدأ بتناول الطعام مُعلناً أن النقاش قد انتهى وهذا الأمر تسبب في إغاظة هيثم الذي تحدث بنقم :" وإن لم أعد ستكون قد خسرت من وقتك الثمين لعلاجي من مشكلتي دون اي مقابل "
رفع رأسه لينظر له بقليل من الإستغراب قبل أن يبتسم بعذوبة وهو يجيبه :" سيكفيني معرفة أنك بخير وستمضي حياتك بعيداً عن تلك الحادثة والكوابيس "
أخفض رأسه بشيء من الإنزعاج وهو ينهض :" شكراً لك على إستضافتك لي وعلى علاجي , إلى اللقاء "
غادر المنزل ذاك بهدوء شديد ولكنه ما إن كاد يتعدى البوابة الرئيسية لمنزل عامر حتى توقف بعد سماعه لصوت هشام من خلفه والذي قال بتعب وهو يتحدث بعتاب :" أنا أناديك منذ فترة على الأقل توقف واستمع لي "
أعاد نظره له بعد أن كان نظره موجهاً نحو الشارع أمامهم وكل تلك البيوت بل القصور التي بنيت بهذه المدينة , شعر بأنه لا ينتمي حقاً لمكان كهذا فهو بالنهاية ليس سوى شخص مُعدم الحال وأغلب المنازل بمنطقته شبه مُهترئة تماماً , أخرجه من ذلك التفكير صوت هشام الذي تحدث مجدداً بعد أن يأس من استجابة رفيقه :" سأوصلك للمحطة التي سينطلق منها القطار لمدينتك موافق ؟"
أومأ برأسه إيجاباً فهو حقاً لا يعرف الطريق للمحطة أساساً , هو لم يكن يتحدث فقط حافظ على صمته طوال الطريق وقد إحترم هشام رغبته بالصمت لذا لم يتحدث هو الآخر بالرغم من ان هنالك الكثير والذي تمنى أن يتحدث به معه إلا أنه فضل الصمت إلى حين عودته فهو إن عاد سيصبح فرداً منهم , وإلا فإنه سيكون مجرد شخص قام عامر بإنقاذه كغيره .
لم يشعر هيثم حقاً بطول الطريق أثناء العوده لمدينته فهو كان شارد الذهن تماماً لم يحاول الإلتفات للمناظر من حوله بالرغم من أنه كان ينظر من خلال نافذة القطار , تفكيره بأكمله كان منصب على الأحداث الأخيرة , وفضوله يكاد يجعله يوقف القطار ويعود مشياً على الأقدام لمعرفة سبب إهتمام ذاك المدعو بعامر به , وأيضاً هو حتى لم يطمئن على إصابة رامي , ومن جهة أخرى لديه ذاك الفضول المحفوف بالخوف الكبير من معرفة إذا ما كان والداه وشقيقه قد اهتموا برحيله , هل أسعدهم ذلك ؟ أم جعلهم قلقين عليه ؟ هل بذهابه سينسى والداه ما حدث لشقيقته الصغرى ؟ لكن ألم ينسى الجميع ذلك الأمر بالفعل ؟ ألم تقم أسرته بإبعاد حتى الكرسي الخامس من مائدة الطعام من أجله هو فقط ؟ وبالرغم من ذلك فهم السبب في كل ما حدث له , لقد أفقدوه قدرته على الثقة بنفسه , هو أصبح يشعر بأنه مجرد عالة على هذه الأسرة وأنه شخص غير مرغوب فيه وكم ألمه ذلك الشعور !
وصل أخيراً لمنزله , توقف أمام ذلك المنزل المهترئ نوعاً ما ودقات قلبه أصبحت أعنف من المعتاد , هو خائف قطعاً من مواجهتم ! خائف من إكتشاف أن أسرته مرتاحة بغيابه , كاد أن يسير خطوة واحدة للأمام بعد أن جاهد نفسه لفعلها إلا انه سقط أرضاً بقوة شديدة وقد سقط شخص ما لم يتمكن من رؤيته حتى فقد دفعه من الخلف بكل قوة , لكنه لم يلبث أن صرخ بحنق شديد وصوت لم يخلوا منه القلق :" هيثم أيها المغفل أين كنت طوال هذه المدة ؟ كيف تجرأ على الرحيل بهذه الطريقة ؟ "
إلتف هيثم لشقيقه الأكبر بشيء من الصعوبة لينظر له بهدوء شديد وشيء من السعادة بدء يتسرب لداخله فإن كان لؤي قد قلق عليه إذن لابد أن والديه مثله أيضاً , نهض لؤي من جانب شقيقه وهو يمسك بيده بقوة مساعداً إياه على النهوض ومن ثم جره لداخل المنزل وهو يتحدث بصوت مرتفع نسبياً :" أمي , أبي لقد عاد هيثم "
تعجب هيثم بالبداية فلماذا سيكون والده بالمنزل وبمثل هذا الوقت ؟ ألا يفترض به ان يكون بالعمل , وأيضاً حتى لؤي يجدر به ذلك , تناسى هذه الأسئلة وهو يرى والدته تبكي بقوة وقد تقدمت منه لتضمه إليه وقد تحدثت بصوتها الباكي والذي أنب ضميره بقوة شديدة :" كيف تفعل هذا بي هيثم ؟ لماذا أقلقتني لهذه الدرجة ؟ أنا أعلم بأنني والدة سيئة وللغاية ولكن أرجوك لا أريد أن أفقد طفلي أيضاً"
تقدم والده ليكمل بهدوء :" لقد خشينا أن تفعل بنفسك أمر ما , فأنت لازلت طفلاً طائشاً , ونحن كنا السبب في تعاستك لذا آسف حقاً هيثم "
هو لم يعد يذكر متى بدأت دموعه بالإنهمار وبشدة , حقاً لقد علم وللمرة الأولى كم أخطأ هو الآخر بحق والداه , أجل ربما هما تسرعا بحكمهما ولكن هما والداه أليس من المفترض أن يطيعهما , أن لا يتشاجر معهما وأن لا يقبل لنفسه بأن تسيء لهما , تشبث بهما أكثر وقد أطلق هو الآخر العنان لدموعه غير آبه وللمرة الأولى بأسرته التي ستراها , تحدث بصوت غلفه الندم :" آسف , حقاً آسف فقط أنا ظننت أنكم لن تهتموا برحيلي "
تفاجئ بضربة متوسطة القوة على رأسه وصوت شقيقه المعاتب بشدة :" هل أنت مجنون هيثم ؟ أنت أخي الوحيد يا أبله ! أنت فرد من هذه الأسرة ومهما حدث بيننا أو تشاجرنا فبالتأكيد سنقلق عليك ونحبك , لذا أرجوك لا تفكر بأي أفكار غبية !"
أومأ هيثم إيجاباً بهدوء , وبعد فترة من الوقت جلس أفراد تلك الأسرة جميعهم على المقاعد - التي تكاد تتآكل من القدم وقد بهت لونها البُني -بسعادة للمرة الأولى منذ مدة ليست بقصيرة , تحدث كبير تلك الأسرة :" إذن هيثم أخبرني أين كنت يا بُني ؟"
نظر هيثم له وهو يفكر بإجابة موجزة لا تثير القلق بأنفسهم , لكنه لم يجد فهو بنفسه لا يعلم الكثير عما حدث له , ولكن وبطريقة عجيبة هو فقط وجد نفسه يبتسم عند تذكره لعامر والبقية وحتى إيهاب وكلامه الجارح وكأنه مُطمئن لهم بل وأصبحوا أشخاص يعتز بهم , نظر لأسرته ببتسامة واسعة ليتحدث :" لقد قابلت شخص ما , طبيب نفسي وهو قطعاً سيكون أكثر الأطباء النفسيين جنوناً في الكون ( صمت وهو يراقب الدهشة على وجوه أسرته ليكمل بابتسامة أوسع ) : إنه لا يعيش بهذه المنطقة بل من المناطق المالكة , وقد عرض علي أن أدرس هناك بمنحة ما , قال أنه يمكنه إعادة تأهيلي للتعامل مع الآخرين والتخلص من الإكتئاب والعزلة التي أحطت نفسي بها , وأيضاً يمكنني أن أكمل دراستي "
تحدثت والدته بنبرة مُزج بها السعادة وشيء من الشك :" ولكن صغيري لماذا ؟ ماذا سيستفيد هو من كل ذلك ؟"
ابتسم هيثم بصدق ليجيب بما شعر به :" لإنه شخص طيب , هو فقط يريد أن يساعد الآخرين بقدر ما يستطيع ! وأن يعلم من يساعدهم أن يفعلوا مثله "
قطب شقيقه حاجباه ليتحدث :" سعيد أنك بخير حقاً , لكن أخي ألا يعني هذ أنك ستبتعد عنا ؟! "
أخفض المعني رأسه للأسفل دون أن يجيب ليبتسم والدهم بهدوء :" سنتناقش بهذا الشأن لاحقاً أما الآن إسترح قليلاً هيثم لابد أنك مرهق "
أومأ لهم بهدوء ليصعد لغرفته ويستلقي على سريره بينما عيناه تجولان بالغرفة , ابتسم بهدوء شديد , ثم قطب حاجباه بتفكير ليتحدث لنفسه :" ألست أنا من وصف عامر ببائع المخدارت صباحاً بمنزله ؟! إذن ما كان كل ما قلته لأسرتي عنه ؟ عامر ورامي وهشام بل وحتى ذلك الضخم إيهاب لم أشعر بأي شعور سيء قربهم , أثق بهم بطريقة غريبة حقيقة !"
تنهد بتعب شديدوقد أغمض عيناه إلا أنه فتحهما بسرعة عندما شعر بيد تمسح على شعره , ضحك شقيقه بخفة وهو يتحدث بصوت هادئ يبعث على الطُمأنينة :" ثق بأنني سأكون معك بأي قرار تتخذه , إن كنت ستكون بخير يا أخي فأنا سأدعم أي قرار تريده , وبالتأكيد أنت لن تنقطع عنا صحيح ؟ سنتواصل دائماً "
ابتسامة سعيدة رُسمت على وجهه وهو يجيب :" ومنذ متى كنت أنت شقيقاً جيداً ولطيفاً ؟"
رفع أحد حاجباه باستنكار وهو يتحدث :" منذ الأزل ولكنك كنت أعمى لترى كم أنا رائع ! "
يتمالك نفسه من الضحك بينما عبس الآخر بشدة إلا أنه سرعان ما حول ذلك العبوس لابتسامة ماكرة وهو يتحدث :" أتسائل أخي العزيز هل يعلم ذاك الطبيب الكثير عن طفولتك ؟ أوه ربما علي مقابلته و التحدث معه عن طفولتك ربما أيامك الأولى بالمدرسة عندما رغبت ..."
قاطعته الوسادة التي ألقته أرضاً عن إكمال أي حرف سيخرج من فمه ليتحدث الأول بإحراج :" أغلق فمك ! لا شأن لك بطفولتي وأراهن أنك تمتلك طفولة مخجلة أيضاً "
نهض وهو يتمتم ببعض الشتائم قبل أن يتحدث بلئُم :" ليس وكأنني قمت بمحاولة رعاية بيضة عصفور عن طريق جلوسي عليها وكسرها ! "
ضربة أخرى أقوى من سابقتها نالها بينما حتى ألمه لم يمنعه من التوقف عن الضحك وهو يتحدث من بين ضحكه :" لا وبالنهاية كنت تبكي لإنك قتلتها , أنت حقاً كنت تظن أنه وبوزنك الثقيل آنذاك يمكنك الجلوس عليها بلا تحطيمها "
صرخ به الأصغر بشيء من الخجل :" أغلق فمك الآن وغادر غرفتي يا مزعج ! "
أكمل ضحكه بينما يحاول النهوض ليتحدث :" حسناً , حسناً لا تصرخ "
ما إن غادر الغرفة حتى أغلق هيثم الباب وأوصده بالمفتاح ليجلس على سريره وقد كان وجهه تقريباً باللون الأحمر بسبب شقيقه ليتحدث :" أقسم أني سأقتلك يوماً ما أبله ويظن نفسه مضحكاً "
لم يلبث كثيراً أن ضحك هو الآخر على نفسه بينما يردف :" لكن بصدق من قد يفعل ذلك سواي , لقد كنت أبلهاً حقاً "
ألقى بجسده لسريره وقد غط بالنوم سريعاً وكأنه لم ينم منذ سنوات وللمرة الأولى منذ تلك الحادثة هو لم يصرخ بنومه , لم يشاهد أي كابوس , بل كان نوماً مريحاً بالفعل .
بمساء ذلك اليوم إجتمعت الأسرة الصغيرة حول مائدة الطعام وهم يتناقشون بالعديد من الأمور وقد لفت إنتباه الأسرة تحسن تصرفات هيثم وابتسامته التي كانت ظاهرة , كم مضى من الوقت حقاً دون أن يسمح لهم برؤيتها , هم حقاً نادمين على تسرعهم بل نادمين بكل حال لإنهم حتى لو كان طفلهم قد عبث بتلك اللعبة ما كان يجدر بهم إتهامه بأي شيء فما حدث بذلك الوقت كان قضاء يجب حدوثه !
توقف هيثم عن تناول طعامه وكذلك فعل والده و شقيقه الأكبر عندما بدأت والدته بالبكاء , تحدث لؤي بصوت هادئ :" ما الأمر الآن أُمي ؟ "
شهقت بخفة قبل أن تتحدث بصوت مهزوز :" أنا آسفة لإنني أم فظيعة , لكن ولإنني والدة لم أستطع أيضاً نسيان طفلتي , أعلم أنه يجدر بي الصبر والإحتساب ولكن هذا يؤلمني للآن ! وبغباء تصرفاتي كدت أفقد طفلي الآخر , أنا حقاَ آسفة "
نهض هيثم من مكانه ليجلس على الأرضية أمامها وهو يتحدث بينما يحاول أن يمنع دموعه من الإنهمار :" تعلمين أمي أن الأمر كان مؤلماً للغاية , ففي النهاية المنزل أصبح موحشاً من دونها ! عندما يختفي أحد أفراد الأسرة يبدوا المنزل كأنه فقد جزء من روحه , لكن الألم كان أكبر علي أيضاً عندما استيقظت بالمشفى ولم أجدكما وأيضاً كنت خائفاً للغاية , أنا كنت وحيداً وبدأت بتذكر وجه ميسون وهي تموت ومن ثم شعرت بالألم مجدداً , وأيضاً ذلك الطبيب بدأ بالصراخ علي وأخبرني أنني السبب ! "
توقف عن الحديث عندما إمتلئ خده وفمه من دموعه التي عجز بالنهاية عن منعها من الإنهمار , بينما جسده بدء بالإرتجاف لينهض شقيقه ويحتضنه بخفة عله يبعد كل تلك الأفكار السلبية التي عادت لتتجمع بعقله , أما والدهما فقد نهض لزوجته ونظر لها بشيء من العتاب قبل أن يتحدث بصوت هادئ :" لقد إنتهى الأمر الآن , ميسون طفلة وهي لم ترتكب أي أثم لذا على الأقل نحن نمتلك طوق نجاة ينجينا بعد موتنا صحيح ؟"
بطريقة ما لم يرغب هيثم بإنهاء النقاش بل رغب حقاً بالإفصاح عن كل الألم الذي شعر به بذلك الوقت لذا أكمل حديثه السابق بصوت مرتجف كجسده الذي لم يهدأ بعد :" لكنه مؤلم أبي , وأيضاً أنا فقدت ثقتي بنفسي لقد شككت بأنني حقاً من أفسد تلك اللعبة و بدأت بلوم نفسي حتى أنني بدأت أحب شعوري بالألم , عندما أسقط وأتألم أو أجرح لم أكن أخبر أحدهم لإنني ظننت أنني بذلك سأكفر عن قتلي لها إن شعرت بالألم الذي شعرت هي به قبل موتها , لم أتمكن من تقبلكم بعد أن تخليتم عني لمدة من الزمن قبل أن يجبركم جدي من العودة لأجلي , تلك الليالي كانت مؤلمة للغاية ولكنني لم أستطع أن أمضي بعدها أنا توقف الزمن بالنسبة لي في ذلك الوقت ! لقد ماتت روحي ورغبتي بالحياة أيضاً "
شعر بجسد لؤي وهو يضمه بأقوى قبل أن يتحدث بصوت حاول جعله بعيداً عن بحة البكاء :" آسف هيثم , حقاً لإنني أيضاً لم أكن شقيقاً جيداً أبداً , لقد حاولت أن أتقرب منك لاحقاً لكنك كنت ترفض دائماً , بذلت كل جهدي حقاً يا أخي , لكن بعد فوات الأوان فقط "
إقترب والدهم منهم ليتحدث بصوت هادئ وحنون :" أخبرني هيثم كيف يمكنني تعويضك طفلي ؟ لقد كنا تحت تأثير الصدمة أجل , لكن لم يحق لنا أن نفعل هذا بك لقد أخطأنا بحقك لذا حقاً .."