" ط ع نَاتُ المَاضِي "
( ..... : " تِيْك تَاك تِيك تَاك "
عَقَار بُ السَاعَةِ تُوشِكُ أنْ ت نْهِي حَيَاتَهُ ... وَكَأنَهَا تَدُقُ أخِرَ نَبَضَاتِهِ ... دَقَائِقَ ع مُرِهِ تَتَلَاشَى خَلفَ القُضْبَان .. مَاذَا حَدَثَ؟ يَقَتَحِمُ صَوتُهُ الطُفُولِي المُرتَع شْ فَوضَى الأفْكَار : لا ... لا ... ( يَتَحَولُ الصَوتْ إلى صُرَاخ) لآ ... يَنْتَهِي ك لُ شَيء بِنَحِيبْ! تَوَقَفَ رَقَاصُ السَاعَة ... بَدَأ ك لُ عَقْرَبْ يَدُورُ عَكْسِيَاً ... عَادَ الز م نْ! سَنَة ... اثنَان ... ث لَاث ... وَأكثَر! : ... " تِيك تَاك تِيك تَاك "
وَ أخِيرَاً ... عَّمَ الهُدُوء وَ الصَمْتْ ... تَغَيَرَ الزَمَانُ وَ المَكَان ... لَا يَزَالُ ذَلِكَ الطِفْل يَبْكِي بِخَوف وَ أطرَافُهُ النَحِيَلَة تَرتَعِش ... رُعبَاً لَا بَردَاً ... فِي زَاوِيةِ س جِنٍ مُتَعَفِن يَلتَحِفُ الظَلاَم .. لَمْ يَكُن يَكْرَهُ العُتَمَة يَومَاً ... كَانَتْ سَكَنَاً لَهُ ... البَشَرُ مُخِيفُونَ أكْثَر مِنْ الظَلَامِ نَفْسِه .. !
تَقَدَمَ حَارِس ضَخَمُ الجُثَة نَحُو بَابِ السِجِن الحِدِيدِي الصَدِأ دُونَ أنْ يَنْطِقَ بِأي كَلِمَة فَتَحَهُ بِخُشُونَة ... رَمَى سَيدَة تَبْدُو فِي العَقْد الثَالِث مِنْ العُمْر كَانَ يَجُرُهَا بِيَدِه ... دَوَى صَوت اِصطِدَام جَسَدِهَا الهَزِيل بِالأرْض كَأنَهُ يَرمِي دُميَة بِلا رُوح ... !
تَجَرَدت مِنهُ القِيَم الإنسَانِيَة وَكُلْ مَعَانِي النُبْل بِثَوانٍ ... اِنسَلَخَت مِنْهُ العَوَاطِف كَمَا اِنسَلَخَت مِنْ سَيِدِهِ الأمَيِر قَبلَاً!
زَمجَرَ بِصَوتٍ خَشِن كَأنَهُ مُشمَئِز مِنْ هَذِهِ الأُمِ وَطِفلَهَا ذُو الأرْبَع سِنِين: اَنتُم أيُهَا الفَلَاحُونَ إنْ لَمْ تَدفَعُوا الضَرَائِب مَا الفَائِدَة مِنْ وُجُودِكُم فِي هَذِهِ الحَيَاةَ؟ إنَ هَرَبَ زَوجَكِ مِنْ هَذَا المَكَان لَنْ يَدفَعَ عَنكُم أيَ عِقَاب ... فَنَحنُ قَرَرنَا فِي هَذَا العَامِ أنْ نَحتَجِزَ النِسَاءَ وَ الأطفَاَلَ أيضَاً ... فَالتَتَعَفَنُوا بِصَمْت ..!
اِبتَعَدَ بِخُطَواتٍ واَسِعَة وَهُوَ يَهمِس: فُقَرَاء قَذِرُون!
وَصَلَت تِلكَ الجُمْلَة مِن صَوتِهِ الجَهَورِي الخَشِن إلَى مَسَامِع الطِفْلِ الصَغِير ... زَحَفَ إلى أُمِهِ المَرمِيَة أمَامَهُ ... مَدَ يَدَهُ المُرتَجِفَة ... كُلْ مَا يَملِكُهُ هو وَالِدَتُهُ ... فِكْرَة فُقْدَانِهَا تُسَبِب لَهُ الرُعْب دَائِمَاً هَمَسَ عَلَى شَعرِهَا وَهُو يَنْطِقُ أخِيرَاً: مَامَا ..؟
كَانَت هَذِهِ الكَلِمَة كَافِيَة حَتَى تَنْهَضَ تِلَكَ المِسْكِينَة مِنْ دَهَالِيز أفْكَارِهَا البَائِسَة إلَى أجْمَل مَا تَمْلِك فِيْ هَذِهِ الحَيَاة ... طِفلَهَا الوَحِيد ... عَلَى رَغْم ظُلمَة كُلْ شَيء إلَا أنْ اِبتِسَامَتَهُ البَرِيئَة تَجْعَل حَيَاتَهَا تُشرِق مُجَدَداً ... لَمْ يَكُن مَالَاً وْلَا سُلطَة ... مُجَرَد طِفْل يَكفِي حَتَى يُغنِيِهَا عَنْ كُلِ مَلَذَاتِ الدُنْيَا!
وَعَلَى الرَغَم مِنْ اَنَهُ طِفْلٌ هَش لَا يَقدِر عَلَى أنْ يَدفَعَ عَنهَا الظُلْم .. إلَا اَنَهُ يَبْقَى بَطَلَهَا الصَغِير ... هِي تَحيِى مِنْ اَجلِهِ .. كَانَت أُمَاَ مُخلِصَة حَتَى أخِرِ رَمَق
حَاوَلَت الاِعتِدَال بِوَهَن ... جَلَسَت عَلَى الأرْض ثُمَ اِبتَسَمَت بِحَنَان ... ضَمَهَا بِسُرعَه وَضَمَتهُ هِيْ الأُخرَى ... كِلَاهُمَا يَستَمِدَانِ القُوةَ وَ الأمَلَ مِنْ بَعضِهِمَا ... الحُبُ الِذي بَينَهُمَا كَانَ كَافِيَاً حَتَى يَروِيِهمَا وَلَو قَلِيلَاً.
تَكَلَمَ الطِفل مُجَدَدَاً: مَامَا ... هَلْ سَنَكُون بِخَير؟
هَذِهِ المَرَة صَوتُهُ كَانَ هَادِئَاً خَالِي مِنْ نَبرَةِ الخَوف الَتِي تَلَبَسَت فِيِه قَبَلَ وَهَلَة ... نَظَرَت إليِهِ ثُمَ أشرَقَ وَجهُهُا بِابتِسَامَه حَنُون: لَا تَخَف يَا وَلَدِي .. لَقَد قَالَ وَالِدُكَ اَنَهُ سَيَعُود مِنْ اَجلِنَا.
دَمْدَمَ الطِفُل مُجَدَدَاً: مَتَى ؟ لَقَدْ تَأخَر .. أنَا جَائِع!
اِبتَسَمَت لَهُ وَهِيَ تَنظُرُ إلَى مَلَامِحَهُ الَتِي اِكتَسَبَهَا مِنْ وَالِدِهِ بِسَوَادِ شَعرِهِ وَ عَيِنَاهُ الحَادَة عَلَى رَغُم صِغَرِ سِنِهِ ... مَعَ بَشَرَتِهِ البَيضَاء الصَافِيَة ... تَجَاهَلَت سُألهُ وَهِيْ تَرُد بِهُدُوء: لَقَد كَبِرتَ وَأصْبَحَتَ تُشْبِهُهُ كَثِيرَاً .. لَا تَخَفْ ... فَقَد اَخبَرَنِي أنْ هُنَاكَ ثَورَةً سَتَحدُث فِيْ المَمْلَكَة عَمَا قَرِيبْ ... سَيُسقِطُونَ الحُكْم وَ يُنْقِذُونَنَا جَمِيعَاً ...
( ..... : " لَقَد كَذَبْتِي يَا أُمِي ... تِيك تَاك تِيك تَاك ")
-
مَدْرَسَة يَامِي فَصْل 1- س \ 9 صَبَاحَاً
صَرَخَت نَانَا بِفَرَح: لَا اُصَدِق أنَا وَأنتِي بِفَصْل وَاحْد أكَادُ أطِيرُ فَرَحَاً...
تَنَهَدَتْ رِيسَا بِمَلَل وَهَيْ تَنْظُر إلَى صَدِيقَتِهَا الَتِي لَمْ تَزَلْ تُعِيدُ هَذِهِ الجُمْلَة مِرَارَاً وَتِكْرَارَاً عَلَى مَسَامِعَهَا .. كَانَت تَجْلِسُ عَلَى مَقْعَدِهَا القَرِيْب مِنْ الجِدَاَر فِيْ المُنْتَصَفْ ... قَدْ لَفَت كُرسِيَهَا حَتَى تُقَابِل نَانَا الَتِي اِخْتَارَت الجُلُوسَ خَلفَهَا ... عَلَى الرُغْم مِنْ أنَ كُلْ تَفكِيرَهَا كَانَ مُشَتَت ... تَخطِفُ عِينِاهَا لَمْحَهً كُلَ حِين إلَى زَاوِيةِ الفَصْل البَعِيدَة فِيْ الخَلفْ قُربَ النَافِذَة .. حَيثَ الشَخْصُ الجَالِسُ هُنَاكَ تَحدِيدَاً ... " يَامَامَاتُو فُوجِي" هِيَ حَتَى هَذِهِ اللَحْظَة لَمْ تُصَدِق أنَهُمَا اِجتَمَعَا فِيْ فَصْلٍ وَاحِد كُلْ شَيء فِيِه يُثِيُر إعَجَابِهَا عَلَى الرَغُم اَنَهُ يَبْدُو شَابَاً عَادِيَاً ... يَمِيلُ لِلِهُدُوء وَ لَا يَمْلِك الكَثِيرَ مِنْ الأصْدِقَاء ... يَنْظُر طَوِيلاَ مِنْ النَافِذَة وَيَبْدُو فِيْ اَغْلَب أوْقَاتِهِ شَارِدَ الذِهْن!
اتَسَعَت عَيِنَاهَا وَهَيْ تَرَى نَانَا الَتِي لَمْ تَشعُر بِذَهَابِهَا تَقِفُ خَلفَهُ ... يَبْدُو أنْ نَانَا لَاحَظَت نَظَرَاتِ رِيسَا وَانْزَعَجْت مِنْ تَجَاهُلِهَا لِهَذَا قَرَرَت الاِنْتِقَام مِنْهَا ... نَظَرَتْ نَانَا إلَى رِيَسا الَتِي تَغَيَرَت مَلَامِحُهَا إلَى تَسَاؤل مَمْزُوج بِالِارتِبَاك ... اِبتَسَمَت اِبتِسَامَة عَرِيضَة ... هُنِا اِبْتَلَعَت رِيسَا رِقَهَا ... هِيَ تَعلَمُ أنَ هَذِهِ الاِبْتِسَامَة دَائِمَاً تُوقِعُهَا بِالكَثِيرِ مِنْ المَشَاكِل ... رَفَعَتْ نَانَا يَدَهَا وَضَرَبَتْ كَتِفَ فُوجِي بِقُوَة حَتَى اَنَهُ انِحَنَى عَلَى مَقْعَدِهِ ...
صَرَخَت نَانَا بِصَوتٍ صَاخِب: آسِفَة إنَهَا ذُبَابَة!
وَضَعَت رِيسَا يِدَيِهَا عَلَى فَمِهَا وَهَيِ تَهْمِس: المَجْنُونُة!
التَفَتَ فُوجِي سَرِيعَاً نَحوهَا وَهُوَ يَنظُرُ إليِهَا بِعَيِنَيِنِ تَشِعُ غَضَبَاً وبَّدَ وَاضِحَاً اَنَهُ يِحَاوِلُ أنْ يَكْبِتَ غَضَبَهُ ... نَظَرَ إليِهَا بِحِدَه وَهُوَ يَقُول: كَيِفَ تَجْــ ...
بَتَرَ جُمْلَتَهُ ثُمَ اَخَذَ نَفَسَاً عَمِيقَاً يَبْدُو أنْ اِبتِسَامَه نَانَا العَرَيِضَةَ مَنَعَتْهُ مِنْ أنْ يَغْضَب .. سُرعَانَ مَا تَغَيَرَت مَلَامِحَهُ ثُمَ اِبتَسَمَ بِهُدُوء قَائِلَاً: آه لاَ بَأسْ أرْجُو أنْ تَكُونِي قَدْ أمسَكْتِي بِالذُبَابَة؟
رَدَت نَانَا بِعَدَمْ مُبَالاَة وَهِيَ تَعُودُ أدرَاجَهَا: لِلَأسَف لَقَد طَارَت ..
رَاقَبَت رِيسَا فُوجِي الَذِي بَدَأت مَلَامِحُهُ غَامِضَة ... وَعِنْدَمَا اِلَتَفَتَ عَائِدَاً لِوَضْعِهِ اِنْتَبَهَ لِرِيسَا ... أرسَلَ إلِيِهَا نَظَرَات بَارِدَة ثُمَ عَقَدَ حَاجِبِيِهِ وَعَادَ لِلِجُلُوس كَانَ وَاضِحَاً مِنْ طَرِيقَةِ جُلُوسِهِ اَنَهُ غَاضِب وَلَكِنَهُ يُحَاولُ أنْ لَا يُظهِرَ ذَلِكَ!
وَصَلَت نَانَا إلَى رِيسَا وَهِيَ تَقُولُ بِتَذَمُر: ألَا تَمِلِي مِنَ النَظَر إليِهِ ألَا تَخَجَلِيِ مِنْ نَفسِك؟
عَقَدَت رِيسَا حَاجِبَيِهَا وَهِيَ تَرُدُ بِغَضَب: وَلِمَاذَا أنَا مَنْ عَلِيهَا أنْ تَخجَلَ مِنْ نَفْسِهَا ... عَلَى الأقَل لَمْ اَذهَب إلَيهِ وَاَضرِبْهُ كَمَا فَعَلتِي؟!
رَفَعَت نَانَا يَدِيهَا بِاعْتِرَاض: مَاذَا ؟! لَقَد كَانَت مُزحَة وَحَسْب!
رَدَت رِيسَا بِغَضَب: مُزحَه؟!
أكَمَلَت نَانَا وَهِيَ تَجْلِسُ عَلَى مَقْعَدِهَا خَلْفَ رِيسَا مُمَثِلَهً دَورَ المُحَقِق: إنَهُ مُتَصَنِع سَرِيَعَ الغَضَبِ وَ أحْمَق مَاذَا أحْبَبْتِي فِيِهِ؟
صَرَخَت رِيسَا فِيْ وَجْهِهَا: كُلَ شِيء ...
اِنتَبَهَ بَعْضُ الطُلَابِ عَلَى صُرَاخِهَا مِنْ مَا جَعَلَهَا تَشْعُرُ بِالِإحرَاجِ وَتُلقِي بَعَضَ نَظَرَاتِ الاِنزِعَاجِ عَلَى نَانَا.
نَفَخَت نَانَا خُدُودِهَا كَطِفْلَة مُدَلَلَـه ... عَمَ الهُدُوءُ لِلَحَظَات ...
تَوَسَطَ اَحَد الطُلَابْ مُقَدِمَةَ الفَصِل ... وَاقِفَاَ أمَامَ اللَوحَةِ وَهُوَ يُصَفِقُ بِيَدِيِهِ ... الَتَفتَ الجَمِيع نَحوَهُ ... اِبْتَسَمَ اِبْتِسَامَه عَرِيضَة
ثُمَ قَاَلَ:أنَا هَارُوشِيمَا هِيكَارُو ... أرجُو مِنْكُم الَاِنْتِبَاهَ رَجَاءاً
طَالِب مُحِب لِلِعُلُوم وُ الخَيَال ... مُهْتَم هُوَ الأخَر بِقِصَة الطِفْلِ الشَبَح اِختَارَ أنْ يَكُونَ مُمَثِلاً لِفَصْلِهِ حَتَى يَتَأخَر فِي وَقْتِ العَودَة لِلمَنْزِل وَ يَبْقَى فِيْ بِنَايَةِ المَدْرَسَةِ عِنْدَمَا يَذْهَبُ مُعْظَم الطُلَابِ فَهُوَ يَظُنُ أنَ الأشْبَاحَ تَظْهَرُ عِنْدَمَا يَكُونُ الشَخْصُ وَحِيدَاً.
بُنِيَ الشَعْرِ – عَيْنَاهُ بُنْيِة غَامِقَة تَظْهَرُ مِنْ خَلْفِ نَظَارَةٍ طُبِيَه شَفَافَة .. لَهُ بَشَرَه تَشُوبُهَا بَعْضُ السُمْرَة.
فِيْ إحدَى زَوَايَا مَدْرَسَة يَامِي المُظْلِمَة ... وَرَاء بَابْ حَدِيدِي غَزَى الصَدَأ مُعْظَم جَوانِبِهِ ... يَهْبُ نَسِيم بَارِد .. يَحمِلُ مَعَهُ اصْوَاتَاً مُخْتَلَطَة .. بُكَاء وَشَهِيقْ مُنْخَفِض بِالكَادِ يُسمَعُ .. ثُمَ ضِحْكَهَ طُفُولِيَة ... وَاَخِيرَاً يَتَوَقْف الصَخْب القَادِمْ مِنْ خَلِف هَذَا البَاب ... يَعْم الهُدُوء المَكَان .. رُطُوبَة الأجْواء وَ الكَئابَه الَتِي بَسَطَت سَيطَرَتِهَا فِيْ كُلِ زَاوِيِة .. رَائِحَة العَفَن المُزْعِجَة تَعْبَقُ بِالجُدرَان ... يَقْطَعُ الهُدُوء مَرَةً أخْرَى صَوتُ طِفْلٍ مَبْحُوح يَأتِي مِنْ خَلْفِ البَاب: " تِيك تَاك تِيك تَاك " ...
يَعَمُ الصَمْتُ مُجَدَدَاً ... تُزَمْجر صَرْخَة مُدَويِة دَاخِلَ رَأسِهِ! ذِكْرَيَات لَنْ تُمْحَى ... تَحْيَى فِيْ كُلِ يَوم كَأشْبَاحٍ لَا تَمُوت .. يَبْقَى الظَلَامُ هُوَ المَلَاذ الأخِير .. : أُمِي!
مَطْعَمُ المَدْرَسَة \ 10:35 صَبَاحَاً
لَمْ تَكُن تَمْلِك أدْنَى فِكْرَة عَنْ الَذِي أتَى بِهَا إلَى هُنَا ... كُلُ مَا تَعْرِفُهُ هُوَ أنْ نَانَا جَرَتْهَا لِهَذِهِ الطَاوِلَة الَتِي يَجْلِسُ عَلِيهَا هِيكَارُو مُقَابِلَاً لِنَانَا وَهَيِ عَلَى الجَانِب كَانَت تَستَمِعُ لِحَدِيثِهِمَا بِصَمْت.
نَانَا بِحَمَاس وَهِيَ تُحَرِكُ يَدِيهَا أثْنَاء كَلَامِهَا: اِسمَع هِيكَارُو .. أنتَ تَعْلَمُ تَمَامَاً أنِي وَافَقْتُ أنْ أكُونَ مُسَاعِدَةَ مُمَثِلِ الشُعْبَة حَتَى نَقْدِر أنْ نَصْطَادَ الشَبْح ...
ضَرَبَت رِيسَا جَبْهَتَهَا بِحَنَق: مُجَدَدَاً خُرَافَاتُ الأشْبَاح؟!
لَمْ يَهْتَمَ لَهَا اَحَد مِنْ الجَالِسِيِن .. أكْمَلَت نَانَا: اليَوم سَنَقُوم بِجَولَة لِلِبَحْثِ عَنْ الشَبَح .. ألَيِسَ كَذَلِك؟
اِبْتَسَمَ هِيكَارُو وَهُوَ يَقُولُ بِتَفْكِيِر: هَذَا صَحِيْح ... إنَ أوَلُ أيَامِ الدِرَاسَةِ مُنَاسِبٌ تَمَامَاً لِهَذَه الرِحْلَة حَيثُ لَا ضُغُوطَ دِرَاسِيَة ... وَلا يَتَواجْدُ الكَثِيرُ مِنْ الطُلاَب ... فَاليَكُن مَوعِدُنَا بَعْدَ مُنْتَصْف اللَيِل.
رَفَعْت رِيسَا يَدِهَا بِمَلَل: أنَا لَا دَخْلَ لِي بِهَذَا !
اقْتَرَبَت نَانَا لِتَهْمِسَ بِأُذُنِهَا وَابْتِسَامَه مَاكِرَة تَعْلُوا وَجْهَهَا: وَلَكِنْ يَامَامَاتُو فَوجِي سَيَأتِي مَعَنَا أيْضَاً ... مَا إنْ سَمِعَ بِرِحْلَتِنَا حَتَى أصَرَ عَلَى الحُضُور.
نَظَرَتْ رِيسَا إلِيهَا بِصَدمَة: مَاذَا؟!
أمَاءتْ نَانَا بِرَأسِهَا وَ انْفَهَا يَرْتَفِعُ غُرُورَاً: بِالطَبْع فَفِكْرَتِي لاَ تُقَاوَم!
هِيكَارُو بِهُدُوء وَ رَزَانَة لَا تَكَادُ تُفَارِقُهُ: مَاذَا هُنَاكَ؟
اسْرَعَت رِيسَا تُوَجِهُ سُؤالَهَا نَحو هِيكَارُو: هَلْ حَقَاً يَامَامَاتُو سَيَأتِي؟
عَدَلَ هِيكَارُو نَظَارَتِهُ بِتَفْكِير " مَا الَذِي أتَى عَلَى ذِكْر ذَلِكَ الطَالِب فَجْاءَه! " : أظُنُ ذَلِكَ ... لَقَدْ سَمِعَنَا عِنْدَمَا كُنَا نَتَكَلَمُ أنَا وَ نَانَا عَنْ الرِحْلَة اللَيِلِيَة وَقَدْ أصَرَ بِشَكْلٍ مُفَاجِئٍ أنْ يَأتِي مَعَنَا ... ( ثُمَ حَولَ نَظَرَهُ نَحوَ نَانَا) كَمَا أنَ نُوهَارَا نَانَا قَدْ وَافَقَت عَلَى حُضُورِهِ مُبَاشَرَةً حَتَى ظَنَنْتُ أنَهَا عَلَى مَعْرِفَ مُسْبَقَه بِهِ!
وَضَعَت نَانَا يَدِيِهَا أمَامَهَا وَهِيَ تُحَرِكَهُمَا يَمِينَاً وَيَسَارَاً: لَا .. لَا .. أنَا لَا اَعْرِفهُ ... لَكِنَ رِيسَا تَعرِفَهُ...
اِحَمرَتْ وَجنَتَا رِيسَا وَهِيَ تَشْعُرُ أنَ حَرَارَةَ الجَو أصْبَحَت لَا تُحْتَمَل... سُرْعَانَ مَا تَدَارَكَت الوَضْع لِتَقُولَ بِابْتِسَامَه بَلْهَاء: عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ مَتَى تَعَرَفْتُمَا عَلَى بَعْضِكُمَا؟ لَمْ أكُنْ اَعْرِفُ أنَكُمَا صَدِيقَان!
ضَحِكَت نَانَا بِغُرُورٍ مُجَدَدَاً : بِينَمَا كُنتِ شَارِدَةَ الذِهنِ بِذَالِكَ الـ ( وَ قَبْلَ أْنْ تُكْمِلَ ضَرَبَتْهَا رِيسَا عَلَى رَأسِهَا بِسُرعَة ... وَضَعَت نَانَا يَدَهَا مَكَانَ الضَربَة ثُمَ صَرَخَت بِاسْتِنْكَار ) مَاذَا؟!... فَالتَمُوتِي أنَا لَنْ أخُبِرَكِ إذَاً لِمَاذَا تَضْرِبِينَنِي!
ضَحِكَ هِيكَارُو: أنْتُمَا تَتَشَاجَرَانِ طَواَلَ الوَقْتِ مَعْ ذَلِكَ لَا تَزَالَانِ صَدِيْقَتَان ... ( تَنَهَدَتَا بِنَفَسِ الوَقْتِ بِشَكْلٍ مُتَضَجِر وَ وَاضِح ... اِبْتَسَمَ هِيكَارُو وَهُوَ يَحْبِسُ ضِحْكَتَهُ مِنْ تَصَرُفِهِمَا الطُفُولِي) حَسَنَاً .. سَأُخْبِرَكِبَيِنَمَا كُنْتُ أتَكَلَمُ مَعَ مَجْمَوعَة مِنْ الطُلَابِ عَنْ إشَاعَةِ الشَبَح .. إذَا بِـ نَاَنا تَدْخُلُ مَعَنَا الحَدِيَث وَ لِشِدَةِ حَمَاسِنَا قَرَرَنَا أَنْ نَقُومَ بِرِحلَةِ البَحْثِ مَسَاءَا اليَوم!
صَرَخَت رِيسَا: مَاذَا بِهَذِهِ السُرَعَة تَعَرَفْتُمَا؟
اِبْتَسَم هِيكَارُو: هَذَا صَحِيْح فَنَحْنُ مُتَفِقَانِ عَلَى أنْ نُمْسِكَ بِهَذَا الشَبَح الَليِلَة .
اِتَسَعَتْ عَيِنَا رِيسَا وَهِيَ تَرَى هَذَا التَنَاغُمَ الوَاضِحَ بِيِنَ نَانَا وَهَيكَارُو" هَلْيُعْقَل أنَهُمَا قَدْ ... قَدْ ... ( زَادَتْ عِينِاهَا بِالاِتِسَاعِ وَهِيَ لَا تَزَالُ تَتَكَلَمُ مَعَ نَفْسِهَا) ... قَدْ ... قَدْ يَقَعَانِ بِالحُب !"
وَقَبْلَ أنْ تُنْهِيَ فِكْرَتَهَا .. إذَا بِالطَاوِلَة تَرْتَجُ بِسَبِبِ ضَرْبَة مُزْدَوجَة بِوَقْتٍ وَاحِد مِنْ نَانَا وَ هِيكَارُو ... وَكَأنَ لَهِيِب مِنْ الحَمَاس قَدْ انْفَجَرَ فَجْاءَه ... وَهُمَا يْرفَعَانِ يَدَهِمَا الأُخْرَى بِحَرَكَة مُتَطَابِقَة وَيَصْرُخَانِ بِحَمَاسٍ مُشْتَعِل مَعَ اِبْتِسَامَه غَبِيَة تُزَيِن مَلَامِحَهُمَا : سَانُمْسِكُبِه ... ( وَبِصَوت وَاحِد مُرْتَفِع) الشَبَح!
الِتَفَتَ كُلْ مِنْ فِيْ المَطْعَم نَحْوَهُمَا بِاسْتِغْرَاب ... وَضَعَت رِيسَا يَدِيِهَا عَلَى وَجْهِهِا بِإحْرَاج وَهِيَ تُدَمْدِم مَعَ نَفْسِهَا " لَقْد أخْطَأتُ أنَهُمَا فَقَط غَرِيِبَا الأطْواَر! "
بَعِيِدَاً عَنْ الصَخْب ... بَعِيدَاً عَنْ أيِ مَظَاهِر لِلِحَيَاة .. حَيِثُ لَا فَرح .. لَا اِبْتِسَامَات .. دَاخِلَ المَاضِي المَسْجُونِ فِيْ بَاطِنِ رَأسِهِ ... عِنْدَمَا قَتَل الظُلم بَرَاءتِهُ وَتَجَسَدَ بِعُنْفٍ يُعِيدُ نَفْسَهُ بِأسوأ كَوابِيسِه ... صَرَخَات مَجْنُونَة وَدُمُوع خَافِتَه .. تَلِيهَا ضَحِكَات هِسْتِيرِيَه ... أيُ مَاضٍ ذَلِكَ الَذِي فِيْ كُلِ مَرَة وَفِيْ نَفْسِ الغُرفَة الغَامِضَة .... المُعْتِمَة
يَقتُلُهُ مِرَارَاً وَتِكْرَارَاً ... تَوَقَفَ كُلُ شَيء حَولَهُ مُجَدَدَاً ... عَادَتْ الأحَدَاث تَسِيرُ ... تَنبِضُ فِيْ ذَلِكَ السِجْنِ البَأسِ وَ المُعْتِم ... كَيِفَ لَهُ أنْ يَنْسَى ذَلِكَ اليَومَ الذَيِ مَاتَ فِيِهِ قَبَلَ أنْ يَتَوَفَى جَسَدُهُ!
بِيِنَمَا كَانَ يَرقُدُ بِهُدُوء فِي حُضْنِهَا الدَافِئ يْستَمتِعُ بِهَمَسَاتِ يِدِهَا النَاعِمَة عَلَى شَعرِهِ القَصِيِر ... يَشْعُرُ بِوجُودِهَا تُزَيِنُ عَالَمَهُ كَمِصْبَاحٍ يَشُعُ نُورَاً فِيْ غَيَاهِبِ الظُلمَة .. دَخَلَ ذَلِكَ السَجَان المَقْيت كَمَا يَفْعَلُ دَائِمَاً ... لَكِنَ هَذِهِ المَرَةَ كَانَ مُخَتَلف بِشِدَة بَدَّ مُسرِعَاً يَتَصَبَبُ عَرَقَاً .. فَتَحَ بَابَ السِجِنِ الحَدِيدِي ثُمَ صَرَخَ عَالِيَاً لِيُفزِعَهُ مِنْ نَومِهِ وَيِرمِيِهِ بِقَسْوَةٍ إلَى وَاقِعِهِ مِنْ حُضْنِ أمِهِ إلَى أحْضَانِ الظَلَامِ الحَنُون: أنتِي أيَتُهَا المَرَأة الخَبِيِثَة ... أنْتِي هِيَ زَوجَةُ ذَلِكَ الثَورِي الَذِي يُحَاولِ قَلَبَ السُلطَةِ ... لَقْد صَدَرَ حُكمٌ بِقَتْلِكِ بَعَدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَة هَويِتِكِ ...
" تَشَوَشَت الذِكْرَيَات "
صُارَخ طُفُولِي .. بُكَاء وَ عَويِل ... رَجُل يَجُرُ تِلكَ الَوالِدَة الَتِي يَتَشَبَث بِهَا طِفْلَهَا .. يَركُلُ الطِفَلَ بَعِيدَاً ... تَتَرَجَى المَرَأة وَ الدُمُوعُ تَجْرِي مِنْ عِينَاهَا ... تَقَولُ شَيِئَاً عَنْ اِبْنِهَا الصَغَيِر ...!
شَيِئَاً عَنْ أنْ يَعْتَنِي بِنَفْسِهِ وَأخَر مَحَاهُ النِسِيَان ! .. يَصْرُخُ السَجَان بِعُنْف ... يَجُرُهَا مِنْ يَدِهَا وَيَخْرُجُ بِهَا مُغْلِقَاً البَابَ خَلْفَهُ بِقَسْوة .. يَبْكِي الطِفْل وَحِيدَاً ... يَتَقَطُعُ قَلبُهُ ألمَاً ... تَمْضِي الدَقَائِقْ بَطِيِئَة مُخِيِفَة ...
مَا الذِي حَدَثَ وَرَاء ذَلِكَ البَاب لِتِلَكَ المِسِكِيِنَة .. غَيِرَ أنَهَا
تَوقَفْت لِوَهْلَة اِسْتَنْشَقَتَ الأَلَمْ ثُمَ زَفَرَت رُوحَهَا بَعْدَهُ!
نَفْسُ الرَجُل ... وَنَفْسُ المَرأةَ الَتِي كَانَ يَجُرُهَا وَلَكِن تَبْدُو بِلَا حَرَكَة ... بِلَا رُوح ... يَرْمِيِهَا كَمَا يَرْمِي حَيِوَان قَذِر مِنْ يَدِهِ ... يِبْقَى الَطِفْل مُلتَحِفَاً الظَلَام فَيْ الزَاوِيَة .. لَا يَجْرِيِ لِأمِهِ كَمَا يَفعَلُ بِالعَادَة ... بُقْعَه مِنْ الدِماء تَبْدَأ بِالاِتِسَاع تَحْتَهَا ...
يَصْرُخُ السَجَانُ نَحوَ الطِفْل: لَا نَقْدِر أنْ نَقْتُلَكَ لِأنَكَ طِفِل ... وَلَكِن سَنَتْرُكُكَ مَعَ جُثَةِ أمِكَ حَتَى تَمُوتَ مِنْ تِلقَاءِ نَفْسِكَ.
يَضْحَكُ كَثِيِرَاً ... طَويِلَاً ... تَتَعَالَى الضَحِكَات أكْثَر ... وَأكْثَر يَزْدَادُ اِنْكِمَاشْ الطِفْل عَلَى نَفْسِهِ .. دُمُوعِهُ البَرِيِئةَ لَا تَتَوَقَف ... تَزْدَادُ تَلِكَ الضِحْكَات وَكَأنْهَا جَرَسٌ يَرُنُ بِجُنُونٍ فِيْ رَأسِهِ ... بِطَنِينِ مُزْعِج يِكَادُ يَنْفَجِرُ لَهُ دِمَاغَهُ ... يَتَوَقْف كُلُ شْيء ...
تَخْتَفِي الذِكْرَى فِيْ الظَلَامِ مُجَدَدَاً يَمُوتُ مَرَة أُخَرَى ... فِيْ كُلِ عَام مُنذُ مَوتِهَا كَانَ يَعِدُ أنْ يَقْتُلَ كُلَ مَنْ يَرَاهُ خَارِجَ السِجْن ... إلَا اَنَهُ يَتَخَاذَل فَي كُلِ سَنَة ... هُوَ يَبْقَى يَخَافُ البَشَرَ الغُرَبَاء فَقَطْ يُحِبُ أمَهُ ... كُلَ يَومٍ يَمُرُ عَلَى عِيِدِ مِيلَادِهَا يُؤجِلُ هَدِيِتَهَا لِلِسَنَة القَادِمَة .. !
لَكِنَهُ وَعَدَ نَفْسَهُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ السَنَةَ مُخْتَلِفَة ... لَا يَزَالُ يَعُدُ الوَقْتَ المُتَبَقِي حَتَى عِيِدِ مِيلاَدِ وَلِدَتِهِ ... فَقَد وَعَدَهَا بِهَدِيَة تَقُرُ لَهَا عَيِنَهَا ...
لَا تَزَالُ الجُمْلَةَ الوَحِيِدَة الَتِي يُمْكِن أنْ تُسْمَع مِنْ خَلفِ ذَلِكَ البَابِ الحَدِيدِي هِيَ كَلِمَات مُتَقَطِعَة ... " تِيك تَاك تِيك تَاك "
وَكَأنَهَا عَدَادٌ لِلِوَقِتِ تَعُدُ الثَوَانِي حَتَى يَأتِيَ ذَلِكَ اليَوم!
وَكَأنَ الذَاكِرةَ تَسْتَفِزُهُ .. وَ تَسْتَنْزِفَ صَبْرَهُ..!