الذِّكرى الثّامنة ~ مقهى ضوء القَمرْ . الذّكرى الثّامنة ~ مَقهى ضَوء القَمرْ أنا مُسافرٌ عبرَ الزّمان، أحملُ في طيّاتي روحي حِكاية. هل توّدينَ سماعها؟ سألته و هو يركن السيارة بالقرب من مقهى "ضوء القمر" لكنه لم يُجبها بل فتح الباب و خرج ففعلت المثل بسرعة و هي تسأل مرة أخرى بانفعالْ: ــ لن تُخبرَ عمي صحيح لأنه آخر شخص أريده أن يعلم بمخططاتي المستقبلية! استدار باتجاهها بتعابيره الرزينة: ــ فيكتوريا أعلم أنكما لستما على قدر من التفاهم لكن هذا لا يعني أن تُخفي عنه أمرًا كهذا تسمرت مكانها و قد ازداد صوتها ازعاجًا: ــ هذا لن يُغيّر شيئًا! لا أريد سماعَ عِضاته التي لا يُلقيها على سواي.. ثم تحشرج مُختنقًا بدموعها التي تدفقت دون وعي منها مُضيفة: ــ أكرهُ أن يُملي عليّ أوامره أو يعترض على رغباتي.. فرك ماتي ذراعها بيده وهو يقول: ــ لكنّكِ لا تستمعين له بكل الأحوالْ، مادُمتِ قرّرتِ القيام بشيء فإنكِ لاتتراجعين عنه، أنتِ تتجاهلينه و هذا كفيل بإزعاجه فكّرت في الأمر قليلًا ثم ضحكت من وسط دموعها ناظرة إليه: ــ من أين تأتيكَ كل هذه الحكمة ابتسم قائلًا: ــ في الواقع تعلمتُ هذا المنطق من صديق قديم، لكن لا تستهيني بقدراتي ضحكت: ــ طبعًا حضرة المُحامي مسّد فكّه بيده و قد راقه الرّد: ــ قضيتِ عليّ كان ماتي مُحاميًا مُتربّصا منذ فترة لا بأس بها و قد عمل بجد آخر سنة حتى بقي لا يفصله عن نيل المهنة رسميًا سوى شهران فقط, و كم كان يروقه أن يُنادى بالمحامي هكذا و إن كان لا يزالُ مُبكرًا على ذلك أمسكَ بيدها و سارا معًا باتجاه المقهى. في العادة هناك طاولاتٌ و كراسٍ إضافية تشغل المساحة الخارجية لكن مع الجو البارد شتاءً فالجزء الداخلي هو الوحيد العامر بالزبائن في الفترة المسائية أما صباحا فيكاد يكون خاليا سوى من شخصين أحدهما يطالع الجريدة و الآخر يعمل على حاسوبه المحمول. ألقى ماتي التحية بالطريقة التي اعتادها حين نادى على آدم الذي كان بالقرب من صندوق الدفع كالعادة: ــ كم مرة قلتُ لك ألا تناديني بالعم لستُ سوى في الأربعين من عمري صحّحت زوجته و التي كانت بالقرب من ماكينة القهوة فأصدر غمغمة عبّر بها عن استيائه. عاد إلى ماتي و فيكتوريا اللذان يقفان عنده الآن: ــ ما الأمرُ يا أولاد؟ و أنتِ ألم يكن من المُفترض أن تكوني هُنا منذ السابعة أينَ كُنتِ؟ ــ لقد أخبرتُكَ البارحة أنني لن آتي اليوم، فلا تلُمني على سوء إنصاتك أجابته بجرأة و تعجب ماتي للتناقض بين حالتها قبل قليل و الآن..ربما تشعر بالضعف في داخلها لكن يستحيل أن تَظهره أبدًا, بعد التفكير في ذلك كانت تلك أول مرة يراها تبكي..إنها امرأة قوية و هذا ما جذبه فيها. لطّف الجو بعدما لاحظ تحديق الاثنان ببعضهما قائلًا: ــ في الواقع يا عم لقد وقعت فيكتوريا اليوم عقدًا للمُشاركة في عمل سنيمائي صاح به: ــ توقّف عن مناداتي بالعم! مهلًا، ماذا؟ التفتت زوجة عمها و سألت و اللهفة واضحة عليها و هي تلتف سائرة نحوها: رسمت الصهباء ابتسامة صغيرة و أومأت برأسها, لتعانقها زوجة عمها: ــ تهانيّ عزيزتي لقد عملتِ بجد حقًا أتمنى أن تُوّفقي في الدرب الذي اخترته آدم لم يُعلّق و قد لاحظ ماتي ذلك, قد يبدو عليه أنه لا يهتم بمحيطه أو يأخذ منه الأساسيات و حسب لكنه عكس ذلك تمامًا, كما أنه لا يحب استباق الأحداث فحتى لو كان لديه ظنٌ ما فسيصبر. و هذا ما غذى شخصية المُحامي فيه. وسط الصمت الذي انبسط بينهم تولى كعادته إعادة سير الحديث حين أخذ بيد رفيقته قائلًا : ــ بعد إذنك عم آدم لكن فيكتوريا ستأخذ اليوم عُطلة, سنجلسُ هنا ونشربُ شيئًا ترك ابتسامة خلفه قبل أن يمضي بفكتوريا إلى إحدى الأرائك المريحة عند واجهة المقهى المُطلة على حديقة غُطيت كلها بالبياض، النافورة المُستقرة في قلبها جفت من المياه ولكن هذا لم يمنع الناس من التجول فيها و الاستمتاع بالثلج. تركها هُناك تتأمل المنظر خارجًا و عاد هو إلى السيد و السيدة بعد لحظات وُضع أمامها فنجان شاي دافئ مع صوت رفيقها القائل: تقدمت إلى الطاولة قائلة بابتسامة: ــ شُكرًا, على عمي أن يفكر بجدية في إضافة نُدلٍ رجال إلى المقهى. اقترحتُ عليه ذلك بالفعل في اليوم الذي كسرنا فيه "قانونه الخاص" و قدّم لكَ جايك القهوة.. وضع فنجانه عن فمه قائلًا بنوع من الصدمة: ــ مهلًا ألم يكن جايك نادلًا هُنا؟ بدأت أمارات الضحك تعلوه: ــ مستحيل.. أجابت ببعض التردد: ــ بلى ــ يا إلهي يا له من سر! سأحرص على استغلاله كما يجبْ!
و قهقه عاليًا بينما يردد "غاسل صحون", أما هي فقد استرجعت تلك الذكريات و أيامها الأولى مع كريس, الشاب الذي أتى يطلب العمل كنادل رغم أن هيئته لم تكن توحي بأنه يحتاجُ لوظيفة كهذه. و رغم أنه رُفض كنادل فعمها لا يُوظّف إلا الشابات في هذا المجال فهو استمر على إلحاحه حتى وضعه آدم في المطبخ الخلفي ليغسل الفناجين و الأواني بعدما صارت زوجته تتذمر منها كونها كانت من تتكفل بها فكان توظيفه ذا معونة.
قُبيّل ظهور كريس كان قد ظهر ماتي في حياتها و قد أبدى إعجابه بها من البداية, كانت تلك زيارته الأولى للمقهى وكانت أول من أخذ طلبه و الواضح أنه وضعها في باله حتى أصبح الحال لما هو عليه الآن.. رشفت من الشاي الدافئ و هو تفكر أنه: حسنا في الواقع كانت هُناك بضع مُنعرجات, أهمها تخلي ماتي عنها فجأة و كأنه سئم من رفضها المستمر له و اعترافها غير المتوقع لكريس.. تتذكر كلماته جيدًا ليلتها~ كان قد خرج من الباب الخلفي للمقهى للتخلص من القمامة, آخر أيام شهر أكتوبر الخريفي, كان الظلام قد حل بالفعل مع قِصر النهار لكنه لم يُمانع أن يعمل لهذا الوقت فلم يكن لديه ما يفعله لو عاد إلى البيت مُبكّرًا. عبر من خلال المطبخ إلى المقهى أين كانت فيكتوريا تُقابله بظهرها لا تزال ترتدي زي النادلات خاصّتها، التنورة السوداء و البلوزة البيضاء تماما مثله عدا انه يرتدي مئزر المطبخ الداكن تقف وسط الإضاءة الخافتة للمصباح فوقها بينما أطفأت بقية المصابيح. قالت دون أن تلتفت:ــ لقد ذهبوا.. كان قد قطع المسافة إليها عندما استدارت نحوه حاملة قطعة كاب كيك عليها شمعة لتقول: تلك كانت مُفاجأة لم يتوقعها فسألها بغبطة: ــ كيفَ عرفتِ؟ أجابت بفخر: ــ سجلاتُ الموظفين.. أعلم أنها لم تبلغ منتصف الليل بعد لذلك فعليا عيد ميلادك غدًا لكنني أردتُ أن أكون أول من يهنئك.. ــ شُكرًا لكِ سعدتُ بذلك حقًا و داعب أعلى رأسها بكفه, تلك الحركة جمّدتها رغم أن قلبها كان يصرخ بين أضلاعها بتوتر لكنها و بطبيعتها استجمعت نفسها لتقول و هي ترفع الكب كيك بين يديها الاثنتين: و تماما كما طلبت تمنى في صميمه أكثر شيء يريده في تلك الآونة ثم أطفأ الشمعة, ابتسمت مُتمعنة فيه و بنبرة هادئة ردّدت: سمعها جيدًا و كالمتعامل به عادة اكتفى بالصمت و عندما وجدت نفسها في ذلك الموقف حيث لم يُبدِ أي رد فعل استمرت قائلة: ــ اسمع لا أعلم كيفْ لكنني أشعر بشيء حيالك، شخصيتك تروقني..كثيرًا, و.. أظن أن اليوم كان فرصتي لأخبرك.. إنها أول مرة يوضع في موقفٍ مُماثل.. لم يسبق له أن حصل على اعتراف! لم يكن يؤثر في الانجليزيات لتلك الدرجة و أيضًا لطالما كان مُنزويًا عن النساء عامة. صديقه الطبيب روبن هو من كان ذا خبرة لذلك فكّر بسرعة كيف كان روبن يتصرّف في هكذا موقف قال بعد هُنهية صمتٍ و استجماع للأفكار: ــ فيكتوريا..أنا حقًا أقدّر مشاعرك هذه..لكنني لستُ أفكر حتى في بدأ أي شيء على الأقل في الوقت الراهن.. ــ و كأنني أفعل! كان من الأفضل أن أتخلص من كل الضغط الذي سببته لي! و زفرت كأنما ألقت بحمل ثقيل من على كتفيها و وضعت قطعة الكيك على الطاولة ليُجدّد اعتذاره لها بشكل أوضح: رفعت كفيها أمامها محاولة أن تبدو غير مُتأثرة بينما ردود فعلها تشي العكس: ــ لا لا ل اداعي جايك لا تبني هذا الجدار بيننا أرجوك فلنبق كما كُنا لا أريدك أن تشعر بالأسى تجاهي لأنني حينها لن أكون بخير ابتسم مُطبّقا طلبها:ــ فيكتوريا و الاكتفاء أصدرت ضحكة عفوية موافقة: ــ تماما ذاك ما يميزني إضافة إلى المزاج المتقلب رغم أن تلك الحادثة مرّت و واثقة أنها تجاوزت مشاعرها نحو جايك لكن العلاقة التي نشأت بين هذا الأخير و بين ماتي تُشعرها بعدم الارتياح, صداقتهما توطدت بسرعة و أعرب لها ماتي بعد أن صارا يتواعدان بشكل رسمي أنه تمكن من الظفر بها بعدما حصل على بعض المساعدة من جايك و ، هذا الأخير يستمر بوصف ماتي على أنه صديقٌ قديم.. الفيلا المُطلة على البحر واسعة ذات طابقين مع احتساب الطابق الأرضي، ترتفعُ فوق هضبة صخرية عملاقة فتطلب الوصول إليها الصعودَ بالسيارة، و كانت تلك فرصة مُمتازة لجيمي كي يُخرجَ سيارته الجيبْ برونزية الطلاء و من المرات النادرة جدًا تولى هو القيادة. مارتن على المقعد بجانبه و الفتاتان في الخلف. كانت الفيلا من الصلب و الخشبِ، مُحاطة ببعضْ أشجار الصنوبر بأوراقها الإبرية مع نزولهم من السيارة ضمّ مارتن ذراعيه مستشعرًا البردْ و هو يزحف تحت قميصه القطنيّ الكاجويّ استقبلت الحصى أقدامهم قبل أن يصعدوا المساحة الغرانيتية التي يقوم عليها الطابق الأرضي، هذا الأخيرُ به ردهة موصولة بصالون ذو أثاثٍ شبابيّ عصريّ، أرائك بيضاء طويلة و قصيرة الحافة، مقاعد دائرية باللون الأحمر و الأزرق و طبعًا تلفازٌ مُسطّح بـ 55 بوصة و جهاز ستيريو. تمعن الشباب الأربعة بالمكان و قد ظهر الرضى على وجوهم جميعا، كان جيمي قد اختار مُصمّم ديكورات منزلية بارعا و لم يُخيّب ظنّه أبدًا، و هكذا تمكّن من الوفاء بوعده لرفاقه و خصّص لهم بيتًا يأويهم جميعًا، البيت الذي سيحتضنُ شتاتهم في كل مرة يتبعثرون فيها. هرولت آنا إلى الطابق الأعلى عبر السلالم ذات الدرجات البيضاء و السوداء نظرت إليها و صاحت بحماس: ــ مفاتيحُ بيانو!..دو ري مي فا مي ري فا! كانت تقفز من درجة إلى أخرى بينما تصنع اللحن المُتناسب مع حركات قدميها. ثم تابعت طريقها تتفقدُ الغرف و خلفها انطلقت لوسي هي الأخرى مُتحمسة. ألقى مارتن جسده على أحد المقاعد الدائرية المنفوخة فغرق فيه مُسترخيا بينما يقول: ــ رؤية آنا تتصرف هكذا يُثير دهشتي و يُسعدني في نفس الوقت, من الجيّد أن تبدو كفتاةٍ من حينٍ لآخر. ــ لم أدرٍ أنكَ تنظرُ إليها على أنها شاب جلس حينها جيمي إلى الأريكة بالقرب من مقعد مارتن و قالها دون نبرة التساؤل و قد سحق سيجارة على المنفضة الموضوعة على المنضدة الزجاجية التي تتوسط الصالون, ليُجيب ذو العينين الكُحليتين: ــ لم أقصدهذا رغم أنها تُزعجني عندما تسرق مُثبّت الشعر.. ــ أنتَ بدأت هذه الحرب معها ــ أوه حسنًا ربما كانت تلك غلطتي اعترف مع عبور تلك الأيام بذاكرته عندما كان يأخذُ مثبّت الشعر خاصتها و هي تثور كبركان في وجهه، ثم استدرك الحديث: ــ كُنتُ أقولْ أنا فعلًا أحترم شخصيتها لكن فكّرتُ أنه ربما لو أظهرت جانبًا لطيفًا..مهلا متى عُدتَ لتُدخّن؟ ظننتُك أقلعتَ عنه! أرخى جيمي رأسه على مسند الأريكة مُتأملا السقف المُرتفع: ــ لُفافةٌ واحدة للاحتفال.. هزّ مارتن رأسه و قد تفهّم: ــ شُكرًا لكَ جيمي، لأنّك جمعتنا معًا و لأنكَ وَفيتَ بوعدك ثم على ربّتَ ركبته برفق و هو يكشر على ابتسامة مُمتنة تمتم و هو يغمض عينيهِ القانيتين: ــ الشغفُ جمعنا تفقدت كل من الفتاتين غرفتها و بطريقة ما نالت كلتاهما على الشرفة المُطلة على البحر. كان ذلك إيثارًا من جيمي أن يتنازل بمنظر البحر لزميلتيه أما مارتن فلا يحب المياه على أي حال. أطّلت لوسي على آنا في الشرفة المُجاورة و قالت بصوت مرتفع بالقدر الذي يسمح لصديقتها بسماعها: ردت الروسية بنفس الطريقة: ــ هل من بسكويتٍ للترحيب يا جارتي العزيزة و ضحكتا معًا حتى صاحت لوسي بحماس أكبر كأنما تذكرت أمرا مُهمًا: ــ فلنتفقد المطبخ! دخلتا المطبخ العصري و الذي غلب عليه اللون الخشبي و راحتا تُفتشان ثلاجته المُزدوجة و قد مُلأت بأطيب الوجبات الخفيفة و المُقرمشات و رفوفه ذات المقابض اللامعة. كان صوتُ خطواتهما يصل للشابين في الأسفل فكان الأربعة يقضون وقتًا مُمتعًا و اعتراهم في تلك اللحظة الرضى و الامتنان لتولّد هذه المشاعر. مضى الصباحُ المُفعمُ بالحركة و تعاون مارتن و لوسي على إيقاد حطب جديد للمدفئة فالثلج عاد يهطل مُجدّدًا لكن بكثافة أقل مع حلول الظهيرة, و يُتوقع أن يستمر تساقطه حتى الليل. يفصلهم عن البحر مسافة سير لمدة عشر دقائق و لم يكن ينتهي الطريق عند شاطئ رملي بل عند منحدر صخريّ شاهق , فكان صوت تكسر الأمواج الرمادية عند المنحدر أصخب الأصوات التي من الممكن أن تُسمع في بُقعة مُنعزلة كتلك بينما الأربعة مُنتشرون على أرائك الصالون و كلٌّ مُنشغل بأمرٍ ما فآنا تُقلّب لائحة الأفلام المُتوفرة على رف يعرض العديد منها أما مارتن و لوسي فيجلسان إلى جانب بعض على الأريكة الطويلة البيضاء يتصفحان مواقع التواصل الاجتماعي و يتبادلان التعليقات و الصور، و جيمي كان ينعم بلحظة هدوء نادرة بعيدًا عن هاتفه الذي يكون عادة في يده دومًا و يكتفي بمُراقبة البيت الجميل و يتحسّسُ دفئه. ليرِد لوسي اتصالْ، كان ذلك شقيقها ماتي، وقفت لتُجيب سائرة بقدمين حافيتين باتجاه النافذة التي ما عاد المنظر التي تُطل عليه واضحًا بعدما تكاثف الضبابُ و اشتدّت الرياح. لحظات و عادت إلى حيث كان مارتن قائلة مُخاطبة الجميع: ــ ماتي يُحضر حفلة لصديقته, و الواضح أنني مُلزمة بالحضور نفضت جسدها على الأريكة و قد بدت مُتضايقة من فكرة الذهاب و الحفلة برُمّتها, سألت آنا و هي تُعيد أحد الأفلام إلى الرف: ــ لا إنما وقعت عقد عمل مع جورج مِلْ و أخي يريد تشجيعها بإقامة الحفلة, ستكون بسيطةعلى حد قوله
نطق جيمي و هو مُسترخٍ على مقعده و لا يزال مُغمض العينين:
ــ جورج مِلْ, الفضيحة ثم النجاح الساحق..
شرحت آنا الفكرة و قد لاحظت التساؤل على وجه زميليها: ــ في بداياته اتّهم بالرشوة و الابتزاز و التحرش, تجاوز القضايا واحدةً بواحدة, الأخيرة استمرت بعض الوقت لكنه أثبت أن الضحية كانت تتعاطى المُخدرات مما سبب لها ذُهانا نفسيًا و ربح القضية ثم بووم اشتهر اسمه هنا وهُناك. يُعرف عنه أنه يواعدُ الصغيرات في السن، إنه رجلٌ مُتلاعبْ, لكن كل ذلك أصبح طي النسيان فهو مُخرج بارع و هذا ما لا يُمكن إنكاره
قالت و هي ترفع في يدها فلم "تحت الصفر" لتُضيف كأنما تُخاطب نفسها و هي تتمعن المُلصق:
ــ بطولة هاري وايز و إيما ريت همم يبدو جيدًا
علّق جيمي: ــ مُناسبٌ لهذا الطقس، دعينا نُشاهده
هزّت آنا كتفيها: ــ حسنًا
و اتجهت لتشغيل التلفاز و وضع القرص في جهاز الدي في دي، بينما مارتن مصدوم تمامًا، "هل هذا جيمي فعلًا!" صاح عقله. أثناء ذلك حل الصمت لفترة لتقول لوسي: ــ شعوري بالقلق يزداد قال ذو الشعر الأسود و قد حوّل عينيه عن جيمي إليها: ــ ما الأمر؟ لا تقولي أنك خائفة على شقيقك من تأثير جورج مل على صديقته هذه ــ بل خائفة من صديقته بالذات, لم أرتح لها لا تبدو و كأنها جادة بخصوصه كما يبدو هو ــ ربما هذه فرصتك لتُراقبيهما عن كثب فكرت للحظة لتقول: ــ معك حق, قد أتمكن من فهم علاقتهما أكثر..لكن سأحتاجُ لرُفقة فهل ستأتي؟ لم يكن يتوقع أن تعرض عليه الذهاب معها لذلك فقد بدى مندهشا للحظة قبل أن يستعيد تركيزه ويجيب: ــ ماتي ألن تُنهي هذا اليوم, أقدّر فعلا م افعلته من أجلي كان يومًا لا يُنسى و استمتعت به رغم هذا الجو العاصف لكن ألا ترى أنك تتجاوز المعقول كان قد عصب عينيها بالكوفية التي انتزعها من رقبتها بينما تكفل باقتيادها على الطريق المثلج من السيارة إلى غاية الوجهة المقصودة. قال بنبرة لا رجوع فيها:
ــ سينتهي قريبًا تركتُ الأفضل للختام
دفع بالباب الزجاجي و حثّها على السير و الولوج فطاوعته بخُطى غير متوازنة، ما إن سمعت الباب خلفها يُقفل حتى شعرت به ينتزع عنها العصبة لتسقط عن عينيها اللتين فتحتهما لتتفاجئ بالمحيط المظلم حولها.. رغم انعدام الإضاءة إلا أنها عرفت أين هي يستحيلُ أن تُخطئ.. كادت تقول ما ببالها لولا إنارة المصابيح بغتة كاشفة مجموعة الأشخاص الذين يقفون عند طاولة في منصف القاعة ليصيحوا عاليًا بحماس: "مُفاجئة! " أعادها إلى المقهى، كانت شرائط الزينة الملونة تتساقط فوقها، نظرت لجميع تلك الوجوه مألوفة، كاثرين و لورا زميلتاها في العمل، زوجة عمها القصيرة و الممتلئة و عمها بالطبع ! تحدث ماتي إليها هامسًا: ــ تمكنتُ من إقناعه بطريقة ما. ركضت باتجاهها الفتاتان و عانقتاها بينما لا تكفان عن الصراخ و الكلام معبرتان عن تحمسهما و سعادتهما بالخبر. خلفهما اقترب شخصان آخران لم تكن الصهباء تتوقع أبدًا أن تلتقي بهما, لوسي التي احتضنتها مُهنئة و معها شابٌ آخر صافحها مُعرّفًا بنفسه على أن اسمه مارتن و تمنى لها التوفيق.. تمعنت فيهم جميعًا و لم تستطع منع دموع الامتنان من التكاثف في محجري عينيها, مع حلول كل هؤلاء الأشخاص و خاصة من افترضت أنهم سيكونون آخر من يكترثون لها سمحت لنفسها ببعض الأمل الفائض و تساءلت عيناها الباحثتان بين الطاولات و عند المشرب و حتى بالقرب من مدخل المطبخ عن أحدهم. لكنها عادت لتُجبر نفسها على الاستيقاظ و هي تُدرك أن فعلها ليس صائبًا فالتفتت إلى ماتي مُبتسمة بود ساحبة يده بين يديها لتقول: داعب وجنتها بيده الحرة قائلًا: ــ أن تكوني سعيدة هذا كل ما أسعى و سأسعى إليه دومًا نادت السيدة لونا بصوت عالٍ: ــ هيا يا شباب حضرتُ بعض المُقبلات اللذيذة لن تتركوها تنتظر طويلا قضيتُ كل فترة بعد الظهر أعمل عليها.. تعالوا هيا هيا و اشتغلت بضيافتهم و بدا أنهم يقضون وقتا مُمتعًا، لوسي استحوذت عليها السيدة لونا و هي تُحدثها عن مواضيع كثيرة لا ترتبط ببعضها أبدًا، تكلمت عن الحلويات و العصائر التي حضرتها اليوم ثم عن شبابها و كيف التقت بزوجها ثم لما اكتشفت أن لوسي مغنية في فرقة طلبت منها أن تَحكم على صوتها و غنت المرأة أغنية قديمة لا تظن الشابة أنها سمعتها في حياتها الموسيقية كلها ! لكنها كانت مُستمعة صبورة و تفاعلت بشكل جيد مع زوجة صاحب المقهى. مارتن وجد نفسه محصورًا بين الشابتين كاثرين و لورا, الأولى كانت مُراهقة تبلغ الخامسة عشرة و الثانية كانت شابة يافعة تصغُره بِسنة, و تعرفتا عليه فورًا لما دخل هو و لوسي قُبَيل وصول فيكتوريا و ماتي. حصلتا على توقيع و صورة و الآن هُما تُحاولان اغتنام فرصة لقاء نجم دارك آنجلز شخصيًا قدر المُستطاع على حد قول المراهقة الصغيرة. أما الثُنائي و العم فكانا يتحدثان بتناغم لم يكن ماتي من يشيعه كما يحدث عادة فقد اقتنع آدم و رأى أن ابنة أخيه ناضجة بما فيه الكفاية لتُقرّر مصيرها حين قال في الختام:
" أنتِ أمانة من والديكِ و سأدعمك فيما أرى أن فيه مصلحتك.."
لم يتسنى له إضافة شيء و لم يتسنى للصهباء الرد حين هبط الظلام عليهم فجأة مع انقطاع التيار و من وسط أصوات التفاجؤ ارتفع صوت السيدة لونا بعتاب واضح:
" قلت لك مرارا أن تجلب من يصلح المولد قبل حلول الشتاء ! "
اجابها صوته المبحوح: " هييه كل ما تُجيدينه هو انتقادي نسيتْ ألا ينسى البشر !" تكلم صوتٌ آخر بقلق: ــ لوسي هل أنتِ بخير؟ أجابت مُلتفتة برأسها ناحية صوته: ــ بخير ما دمتُ لن أتحرك من مكاني تراجع صوته و قد شعر أنه أفرط في رد فعله قائلا: ــ طبعًا
تحدثت الفتاة على يمينه: "قلقٌ بشأنها هاا "
و شعر بلكزة على ضلعه جعلت جسده يقفز تلقائيًا في مكانه. كانت السيّدة لونا قد نهضت خلف زوجها ليتفقدّا الخلل و لم تتحمل لوسي الجلوس في الكرسي و الظلام يلُفها, أشعلت هاتفها و تحرّكت باتجاه الواجهة الزجاجية المُطلة على الحديقة. رأى مارتن ضوء هاتفها يضرب الأرض و الطاولات و هي تشق طريقها عبرها، توقّفت لوسي تنظرُ إلى الخارج حيثُ تكاثف الثلج حتى علق بحواف النوافذ و الأبواب. كان الثلج الابيض المفروش في الخارج و ضوء الإنارة العمومية يبعثان بعض النور إلى داخل المقهى. كانت شاردة في منظر الحديقة البيضاء حينَ اقتُحِمَ الباب بجانبها لتهُب رياحٌ جليدية قوية في وجهها و اندفع الظل الأسود نحوها مما جعلها تجفل و قد حطّت يداها على صدرها حين شهقت.
باغتها الصوت: ــ لا بأس إنه أنا
و أشعل هاتفه راميًا الضوء على وجهه, زفرت لوسي بعدما كانت تحبس أنفاسها و اعترفت: كانت عفويتها معه تغمره سعادة, و فكّر أنها تُفاجئه دومًا بتواجدها في الأماكن التي لا يتوقع أبدًا أنه سيلتقيها فيها. شرحت له بسرعة: ــ حصل عطل ما في المُولّد. لاحظت الثلج الذائب على شعره و حاجبيه, كان يزفر هواءً باردًا فدعته باستعجال بينما تسير أمامه: ــ تعال يجب أن تجلس قرب المدفئة لحقها على ضوء الهاتف و وصلا حيث فكتوريا و ماتي لا يزالان عند الطاولة ذات الأرائك المنخفضة يعتمدان هما أيضًا على هاتف لطرد بعض الظلام. صاح الأشقر عندما وقف الاثنان عندهما: رفع كريس أنفه المُحمر من تحت كوفيته و قال:ــ أنا أسف حقًا كان تزحمة السير خانقة, لقد تراكم الثلج بسرعة هذا المساء..فيكتوريا.. كانت بالفعل تنظر نحوه و أكمل مربّتًا على كتفها, شعرت ببرودة أصابعه المتصلّبة على قميصها الصوفي الخفيف: ــ تهانيّ لكِ, اجعلِ ماتي فخورًا ابتسمت و هي تلتفتُ إلى ماتي و تشُدّ على يده بقوة و فعل هو المثل, راقبت لوسي ذلك رغم أن مبادئها استنكرت ذلك لأنه ليس من عادتها التدخل في أمور الناس لكنه أخوها الأكبر و ليس أي أحد. سُمعت حينها أصواتٌ بين العتاب و التذّمر كانا لعم فيكتوريا و زوجته التي تحمل قنديلًا كهربائيًا، جلبته و وضعته وسط الطاولة و انتبهت لكريس ــ جايك لقد أتيتْ، أنا حقًا غاضبة منك فأن تترك العمل لا يعني أن تتوقف عن زيارتنا. كيف أمورك الآن؟ اعتذر لها و قال: ــ لم أجد وقتًا لأزور المقهى ما عُدتُ أعبر من هنا إلا نادرًا و لابأس بالأوضاع حاليًا شكرًا لسؤالك علّق آدم : ــ مذ رحلّت عادت للتذّمر حيال كثرة الأواني,آدم لقد تعبت, آدم ما كان على جايك ترك العمل هكذا, آدم يجب أن تجد لي عاملًا آخر.. أضاف مُحدّثًا الشاب الذي اكتفى بالوقوف مُبتسمًا بإحراج: ــ خيرُ ما فعلتْ هو أنك تركت العمل حتى أنا ما عدتُ قادرًا على دفع أتعاب عامل إضافي جحدته زوجته بنظرة أقل ما يُقال أنها قاتلة، ثم ابتسمت لكريس: ــ سأحضر لك كوبًا من القهوة اجلس إلى الموقد لتحظى ببعض الدفء و انصاع فورًا فقد بدأت أسنانه تصطّك ببطء بين فكّيه، ألقى التحية على كاثرين و لورا اللتان رحبتا به بحفاوة و على مارتن أيضًا الذي ردّها بهزّة من رأسه. جلس إلى المدفئة التي تقبع في الجدار الشرقيّ للمقهى فانعكس ضوء اللهب المتصاعد من الحطب على ملامحه و شعره، أزال عنه كوفيته و سترته الجلدية ذات اللون الأخضر الزيتيّ و انشغل بفرك أصابع يديه التي استأنست لقرب النار منها. جلبتْ له زوجة العم كوب القهوة الساخنة, فأمسكه مُمتنًا: ــ شُكرًا سيدة لونا, لطالما أحببتُ القهوة التي تُعدّينها قهقهت: ــ حتى عمُّكَ آدم الذي لا يعجبه العجب اعترف أنه يحب قهواي، دعني آخذ سترتك ناولها إياها شاكرًا و بينما مضت السيدة الأربعينية انشغل هو بالقهوة و شعر بحرارتها تتوغل في جسده المُتجمّد مع أول رشفة. لم يكن الأمر بيده حواسه كانت تتعمّد التقاط أي شيء يخصُّها و سمعها تُخاطبُ أحدهم هامسة أن " فلتبقى لبعض الوقت فقط..القليل بعد..الطريق مزدحمة على أي حال فلتنتظر قليلًا " التفت يساره أين كان جزء بسيط من وجهها يظهر تحت نور القنديل الكهربائي, رأى مُحّدثها يهز رأسه بإذعان و عرفه فورًا و إن كان في هذا الضوء القليل الشاحب. التقت عينا مارتن بعيني الجالس عند المدفئة بينما تتركه لوسي و تخطو نحو هذا الأخير, جلست من جانبه الأيمن فالتفتَ عنه إليها. تحدثت لورا: ــ لمَ تريد المُغادرة بهذه السرعة ! جذبته المُراهقة بقولها: ــ دعيه لورا أخبرني الآن ما رأيك أنت؟ لم يكن مُنتبهًا لها قبلًا لذلك فقد باغته السؤال, وضّحت له: ــ كُنا نقول أننا نريد سماع أغنية لكَ, غنيتَ ذات مرّة مع لوسي لكن بقية الألبوم كله بصوت لوسي. نريدك أن تُغني أنت فقط.. سألت الأخرى الأكبر سنًا: ــ أظن أن هذا ممكن أليس كذلك؟ بعثر شعره بنوع من الحرج فذلك لم يكن متوقعًا و أجاب: ــ حسنًا في الواقع, أنا أكتب الأغاني غالبًا و جيمي يعمل على اللحن و لوسي تُغني.. وسأكون صريحًا لا أحبذ دومًا ذلك النوع من الكلمات, أقصد تلك.. قاطعته الشابة: ــ الكلمات الحزينة اعترف رغمًا عنه: ـ ـتمامًا ــ و لمَ تكتُبُ كلمات حزينة على أي حال؟ مع أنها تعمل على جذب الناس أكثر, أنا شخصيًا بكيتُ بشدّة عندما استمعت لأغنية "رحيل" قال بهدوء و هو يلاعب هاتفه بين أصابعه: ــ تلك الأغنية كتبتها لوسي.. رفع رأسه و نظر إليهما بالتناوب و قال بحماسة: ــ تُريدان أغنية لي؟ لكما ذلك احرصا على الإشهار لها عند تنزيلها!
صرخت الفتاتان من شدّة الحماسة, فصمّ أذنيه من حدّة صوتيهما و ضحك على ردّة فعلهما
التفت الجميع نحو الأريكة و قد اجتذبتهم الضجة التي افتعلتها الفتاتان, علّق كريس:
ــ من الصعبِ أن تكون مشهورًا
أسندت ذقنها على ركبتها: ــ أراهن على أن مارتن مُستمتع, إنه يحب أن يكون مركز الاهتمام
شعرت أنه ينظر في عُمق عينيها, ربما حضورها إلى هُنا لم يكن فكرة سيئة بعد كل شيء, فرقع الخشب المُحترق فرمشت مُتداركة شرودها, لم تجب فلم تعرف ماذا يقصد بالضبط. ــ أنتِ لا تُحبين أن تكوني مركز الاهتمام..لماذا اخترتِ الغناء إذن؟ رفعت ركبتها الأخرى و ضمّت ساقيها بذراعيها مُتأملة النار و هي تأتي على الخشب بلا رحمة, فكّرت قليلًا ثم قالت: ــ ربما لأن البوح بما لم أستطع قوله على شكل أغنية كان أريح و أكثر أمانًا وجد أن كوبه قد فرغ بالفعل فوضعه جانبًا و قال: ــ أفهم ذلك باغتته بسؤالها: ــ كيف عرفتَ أنني لا أحب أن أكون مركز الاهتمام؟ حاول التملّص و هزّ كتفيه ببراءة: ــ خمنتُ ذلك اترفع أحد حاجبيها و همهمت بضحكة: ــ فعلًا؟..بدوتَ واثقًا جدًا...حسنًا تخمينك صحيح عادة أنا لا أحب الظهور و كل تلك الضوضاء لكنني تأقلمت مع أصدقائي في الفرقة و نجح الأمر كان شاكرًا لكونها تحلّت بالقوة و تجاوزت كل عقبات حياتها, علاقتها بأخيها الأكبر كانت قوية و تمكنّت من تكوين أصدقاء و أصبحت ذات شُهرة يقتدي بها المُراهقون, كل ذلك تشكّل في فكرة واحدة هي أن لوسي نضجت فعلًا. حوّلت عينيها إليه و ضوء اللهب يتراقص فيهما واضعة رأسها على ركبتيها و مُحدّقة به سألته: ــ كل ما أعرفه هو أنك صديق ماتي, كيف التقيتُما؟ كان يُميل رأسه هو الآخر ليُقابلها و قد أسند خدّه على قبضة يده بينما يُجيب: ــ التقينا صُدفة في هذا المقهى.. لطالما اتّسمَ مقهى "ضوءالقمر" بالنشاط و الحركة فقد كان العمل يسيرُ بشكل جيد طوال السنوات السبع منذ افتتاحه، بموقعه المناسب المُطل على حديقة خضراء فسيحة حُدّدت طُرقاتها المُلتوية بحجارة نهرية ملساء لتلتقي الدروب عند نافورة كبيرة أنيقة الزخرفة تقذف المياه بتناغم بين مضخاتها الصغيرة منها و الأخرى الكبيرة. ذاكَ ما كان ينظرُ إليه الشاب الأشقر عندما يتعبُ من مُراجعة الأوراق التي أمامه و التي نثرها بفوضوية على طاولة مُستديرة احتكرها عند المساحة الخارجية للمقهى. أتَتهُ نادلة بهندامٍ مُرتبْ, قُمصانٌ أبيض ناصع يستحيل أن تكون به أي بُقعة و تنورة سوداء منفوشة يكادُ يجزم أنها لفّتها حول خصرها عدة مرات حتى تُصبح على هذا القصر, أما شعرها الأسود فكان ملفوفًا أعلى رأسها. سألته بأدب و ابتسامة فرضتهما عليها أولويات العمل: ــ ماذا تريد أن تطلب يا سيدي؟ ــ فلتأتِ فيكتوريا لأخذ الطلب قالها بجزم و دون أن يرفع ناظريه عن أوراقه, لا يحق للنادلة أن تغتاظ فهذا الجواب كان مُتوقعًا كل الفوضى التي حلّت داخل المطبخ بين ثلاثتهن كانت بلا جدوى, فيكتوريا تتوسل لزميلتها أن تذهب و تأخذ طلبه و الأخرى تساند فيكتوريا فانتهى بأن سارت النادلة خاضعة لهما أما الشاب الطويل الذي يقف عند الصنبور مُنشغل بغسل الأطباق و الفناجين لم يبدُ أنه مُهتم. عادت النادلة و التي كانت لورا، أدلت قائلة باستسلام: تأففت فيكتوريا بضيق و صاحت بصوت مخنوق: ــ ألا يملُ هذا المُزعج, سايرته آخر مرة لأن عمي طلب ذلك. صحيحٌ أنه يبدو شابًا على قدرٍ من الثراء و التحضر لكنني لستُ مُستعدة للخوض في الأمر اللعنة و ضربت الأرض بكعب حذائها الأسود اللامع, في حين تحدثت زميلتها: نطقت كاثرين: ــ فيكتوريا حتما لديكِ ارتجاجٌ في المخ حتى ما عُدتِ تُلاحظين, إنه يبدو كأمير خرج من حكاية قديمة..كم أنتِ حمقاء و أسندت خدها على إطار باب المطبخ مُتأملة إياهُ في الخارج و لا يزالُ يُصارع كومة الأوراق و يدون الملاحظات. كُنَّ ثلاثتهن عند باب المطبخ المحشور في أبعد زاوية من المقهى و كلٌّ منهن تُحدّق إلى ماتي بنظرة مُختلفة، هُنا نطق غاسلُ الأطباق بشكل غير مُتوقع من ورائهن مُباشرة مما أجفلهن حين قال: ــ أستطيعُ أخذ طلبه إذا أردتِ كان يُخاطبُ فيكتوريا على وجه التحديد فعيناهُ البُنيتان كانتا عليها، حلّ التساؤل على جميعهن فكانت هُناكْ لحظة صمتٍ استيعابية حتى سألت كاثرين: ــ أنتَ تُجيد فنون التقديم صحيح؟ ــ أجل، كان هذا سبب تقدمي لطلب العمل لكن السيد آدم أخبرني أنه مقهى نادلات لذلك لا يستطيع منحي هذه الوظيفة لكنه عرض عليّ العمل خلف الكواليس ــ مادام عمي غائبًا حاليا فتستطيعُ أنت تولى أمره سأكون مُمتنة لكَ! رتّب أكمامَ قُمصانه الأبيض و قد رفعها إلى مُستوى مرفقه و نزع مئزر المطبخ الذي كان يرتديه, قدّمت له فيكتوريا دفترها الصغير و قلمها و دفعته خارج المطبخ الصغير ثم انتشرن هُنا و هُناك بين الزبائن يتولين طلباتهم بينما يراقبن في ذات الوقت غاسل الصحون الذي تحوّل إلى نادلٍ أنيق و هو يخطو باتجاه الشاب الآخر في الخارج انتصب كريس عند رأس ماتي و حياهُ بوِدْ: ــ نهاركَ سعيد سيدي, ماذا تُريدُ أن تطلب؟ كان آخر ما توقعه أن يسمع صوتَ رجل في حين كان ينتظر قدوم فيكتوريا ناحيته بمشيتها المغرورة و ملامحها المستاءة أغلب الوقت و الأكثر عيناها الحادتان. أما ما أمامه الآن فعكسُ ذلك تمامًا, لم يكن قد نظر إليه بعد و حين فعل لم يُحاول أبدًا إخفاء نظره الاستياء من عينيه الزرقاوين: ــ أخبرتُ النادلة التي أتت قبلك بما أريده ــ لكنّكَ لم تسأل عما تُريدهُ هي قال كريس بصوتٍ ثابتْ فبدت رنّته مألوفة في أذن ماتي لكن صدمة التفاجؤ كانت أكبر حين قال: اعتدل كريس في وقفته و أجابْ: ــ حسنًا حتى أكون واضحًا, أنا أتفهم اهتمامك بها و.. قاطعه : ــ هل أنتَ حبيبُها؟؟ أفلتَت ضحكةٌ من كريس وقهقه، قال: ــ توقعتُ أن تتوصل لهكذا استنتاج, في الواقع أنا هُنا لمُساعدتكْ.. عرفتُ أنك تتردّد إلى هذا المكان منذ فترة لا بأس بها لذلك لابد من أنك جاد بخصوصها.. ــ هي الآ نتظن أنني أحاول إقناعك بالابتعاد عنها لكنني هُنا أعرض عليك المُساعدة ــ لأنني أرى أنك تبذل جهدا هنا و لكنك لا تُجيد توجيهه. نظر الأشقر إلى النادل الشاب بعنين تسعيان لاختراقه بحثا عن أي احتيال, ذلك الذي لم يجده في هاته التقاسيم الهادئة و هذه العيون السمراء ثم قال مباشرة: ــ ايسبريسو لو سمحت..لكِلينا. انحنى كريس و على شفتيه ابتسامة هادئة: ــ في الحال توقف عند المشرب أين تكفلت زوجة العم بتجهيز الطلب لتأتيه فيكتوريا إلى جانبه بسرعة: تصنّع الشاب اليأس و هو يقول: ــ إنّه عنيدٌ جدًا, لكنني على وشك التفاوض معه تحرك حاجباها بغير فهم و هي تقول: ــ التفاوض؟ تظاهر بعدم سماعها و حمل الصينية و التفت عائدًا: راقبته يذهب و بيده الصينية الدائرية لتسمع العمة تُنبّهُها: ــ يُستحسنُ أن تنتهي من هذا قبل عودة عمّك لا طاقة لي على مناقشته! هزّت فيكتوريا رأسها مواكبة زوجة عمها وضع الفنجانين على الطاولة و قد فرغت من الأوراق بعدما جمعها صاحبها جانبًا, ارتشف الأخير من فنجانه ثم ابتدر: ارتكز الشاب الطويل بمرفقيه على الطاولة و نظر إلى وجه الأشقر بتمعن قبل أن يقول بصوتٍ دراميّ مُتعمّدًا إضفاء جو سنيمائي: فكر الأشقر في الأمر لكنه عندما لم يتوصل لشيء مُقنع سأل: ــ اسمعْ, هُناك فئةٌ من المُجتمع تُحب الظهور أفرادها مُولعون بكسب الاهتمام و لفت الانتباه لذلك يكون فيهم نوع من النرجسية لكيّ تَتحكم فيهم يجب أن تُحطّم غرورهم ذاك و التجاهل طريقة مُناسبة ــ لكن بمُعارضتهم لن تكسب سوى كرههم، أنا هنا أسعى لكسب ودّها يا صديقي و ليس العكس! أسدل النادل رأسه و هو يضع عن شفتيه فنجان قهوته ثم عاد لينظر إلى الأشقر قائلًا: ــ ليس النساء و تحديدًا ليس فيكتوريا.. واصل على مضض قبل أن يقول الآخر شيئًا: ــ أستطيع أن أؤكد لك أنها شخص تنافسي تبحثُ دومًا عن مُغامرة تستحق الخوض و أنت بسعيك الواضح خلفها لم تهتم لك لأنها سئمت من هذه الأساليب القديمة و أنت بنظرها ولدٌ غنيّ مُدلّل... قاطعه و قد أدهشته صراحة هذا النادل: ــ لكنّني لستُ كذلك, صحيحٌ أنني أقود سيارة أودي و أعيش حياةً مُترفة لكنني لن أقبل أن تأخذ عني فكرة الولد المُدلّل كان الشاب الأشقر قد انفعل لحظتها مما دفع بالنادل إلى إمساكه من ذراعه حتى يُجبره على الثبات: ــ أجل كنتُ أقول أنك ولدٌ مدلل في نظرها لكن هذا لايهم تلك تبقى مجرد فكرة في دماغها و ستُدرك كم كانت مُخطئة عندما تتعرف عليك جيدًا، النقطة التي أريدك أن تركز فيها هي كيفية تجاهلها.. أهملها لفترة من الوقت و ستجدها تتساءل عن السبب و تعيد التفكير في الأمر برمته و ربما أنها تصرفت بقسوة معك و أنك شابٌ جيّد.. عقلها الباطن سيوهمها و سيعمل على استعادة نبع الاهتمام المفقود و عندها ستجد أنت فرصتك! كانت يد النادل لا تزال على ذراع الشاب الأشقر و تشّد عليها هذه المرة في حركة تشجيعية, خلال فترة صمتٍ تلاقت فيها العينان الترابيتان و المحيطيتان حتى كسرها الأشقر مُفسحا عن ابتسامة رضا عريضة أبانت صف أسنانه و قال: ــ تبدو لي خطة جيدة..لا ضرر من المحاولة بادله النادل ابتسامة ارتياح و هو يسحب يده ليتناول فنجانه و يرتشف قهوته, في الحين الذي أضاف فيه الأشقر: ــ يبدو أنك خبير في هكذا أمور ــ في الواقع لستُ كذلك, كل ما في الأمر أن لي صديقًا "خبير" و أظنني تعلمت منه بعض "الحيل" ــ ليته كان لي صديق مثله..ما كنت لأتشرّد بهذه الطريقة! ضحك كريس بخفوت و صورة روبن تعبر في باطن عقله, زير النساء ذاك الذي اضطر للتغطية عليه عشرات المرّات. ثم علِقت جملة ماتي هُناك في فراغ ما منه..لم يكن موجودًا عندما احتاج إليه, كلاهما تجاوز مراهقته معتمدًا على نفسه و تساءل أي الأشخاص أصبح ماتي الآن نطق ماتي: ــ حسنًا في الوقت الحالي ذهني يفترض أنني أستطيع الوثوق بك..رغم أن هذا ليس منطقيًا أبدًا أجاب النادل و عيناه سارحتان في لون قهوته الداكن: ــ أحيانًا المنطق يمنعك عن المضيّ فيما تُريده.. لم يُعلّق ماتي ففي ذهنه أدرك أن الشخص الذي أمامه إما أن يكون ذو بديهة أو يُعاني عُقدة ما. سأله كريس و هو يومئ بعينيه إلى جبل الأوراق: ــ تُحضّر شهادة ما؟ ــ أجل لديّ امتحان مُحاماة في يوليو توسعت الدهشة في وجهه فلم يكن ذلك ما يتوقعه من ماتي الذي عرفه لما كان في الثانية عشرة ــ مُحاماة، هذا مُفاجئ حقًا.. أتوقع أن توظفك سيدة جميلة في قضية طلاق ثم تتزوج بك و ضحك في استمتاع بينما عقد ماتي ذراعيه و قد التوت شفتاه في انزعاج خفيف: ـ ـقضايا الطلاق فاشلة رغم أنها تُدّر المال لكنها مُملة, تستهويني قضايا الجريمة شجّعه: ــ بالتوفيق إذن أتمنى أن تنال مُرادك لمح النادل فيكتوريا من خلف الواجهة الزجاجية و هي تُحرّك ذراعيها و تتحرك بعشوائية بما لم يفهمه لكن وجهها أبدى القلق و التوتر. سرعان ما توضح السبب صرخ أحدهم باسمه ثم رأى آدم صاحب المقهى يذرع الطريق بين الطاولات باتجاهه و كان غاضبًا تمتم النادل بين شفتيه و هو يستعد للوقوف حين أوقفه الشاب الآخر قائلًا: لم يتسنى للنادل الاعتراض فكان صاحب المقهى قد وصل إليهما عندما قال بلهجة مؤدبة و هو يخاطب الأشقر: ثم استدار ناحية النادل يُحدثه بنبرة صارخة مُعاتبة: ــ ما الذي تفعله عندك أيها الأخرق المطبخ يعج بالفناجين و الأواني التي تنتظر من ينظفها قم أيها الكسول هيا و سحبه من ذراعه فطاوعه النادل و قام, ليقول الأشقر: ــ أعتذر منك سيد آدم أنا من دعوته لفنجان قهوة, مضت مدة لم نلتقِ و كانت مُصادفة جميلة أن أجد صديقي القديم هُنا أفلت آدم النادل الشاب و قد شعر بالارتباك و هو ينقل نظره بين الاثنين: هزّ الأشقر رأسه و أجاب النادل: ــ من الابتدائية سيدي، أستأذن الآن لديّ فناجين تحتاجُ غسلًا و تجفيفًا ثم مدّ يده ليُصافح الأشقر قائلًا:ـ ـماتي, سعيدٌ أننا التقينا بعد مرور كل هذه الفترة ابتسم ماتي و هو يصافح كريس بقوة: ــ و أنا أيضًا و أنا أيضًا كانت عيناها مُتسعتان بدهشة و على فمها ضحكة أفلتتها و هي تقول: ــ هذا لا يُصدّق و ثم؟ كيف سار الأمر؟ ــ نجحت الخطة و النتيجة أمامك.. ــ و الجميع يعتقد أنك و ماتي أصدقاء قُدامى بالفعل هزّ رأسه مُفكرًا: ــ تقنيًا نعم, نوعا ما لم تكن كذبة فنحن صديقان بالفعل أصبح يتعمّد الاندفاع, جُمله أضحت مُفخّخة و ركّز على قراءة ردود فعلها, و كانت بالفعل ردودًا مُلاحظة خاصة لشخص مثله حتى لو مضت كل تلك السنوات فالإنسان يحتفظ بعادات تُصبح جزءًا من شخصيته و يستحيل أن ينسى التعابير التي تصنعها لوسي, الآن يجد نفسه يكتشف تعابير و حركات جديدة..كانت تُمسّدُ رسغها عندما تسهو و ترمش عدة مرات كالدمية عندما تندهش. أثناء صمتها كانت تُفكر و قد أدرك فيما عندما سألته: ــ عملتَ في هذا المقهى و الآن تعملُ في الميتم..ألم تحصل على أي شهادة؟ دلّك الجانب الأيمن من رقبته و عيناه على النار بينما يهم بالإجابة, و كأن حركته نبّهتها على أمرٍ كادت تنساه..ركزّت على تتبع ذراعه و هي تنزل لتبقى رقبته مكشوفة و مُرادُها مُسطّرٌ هُناك على جلده..أمعنت مع الظلال التي تضرب بعشوائية و خبت وميض الترقب من وجهها عندما رأت أثرًا لغُرزٍ جراحية واضحة على طول ذلك الجانب من رقبته بدت أنها تستمر على مساحة أكبر أسفل قميصه القطني الأسود..لم تكن هُناك شامة بالفعل لكن تلك الغرز سردت قصة مؤلمة. التقط ذهنها صوته مُتأخرًا نوعا ما حين سمعته يقول: ــ لن تُصدقي لو أخبرتك أن لديّ ماجيستير في العلوم الاقتصادية و إدارة الأعمال بدت مُتفاجئة و منبهرة، للحظة سقط فمها مفتوحًا قبل أن تتداركْ: ــ وااه..و لكن لماذا لا تطلب توظيف لدى شركة ما, سيكون ذلك أفضل صعُب عليه شرح الأمر لها: ــ نعم أعلم, أمممم المشكلة في أوراق هويتي..لديّ جنسية بريطانية و استمتع برؤية تعابير الصدمة و الدهشة و الانبهار تعبر سريعًا على وجهها ذي الاستدارة و الغرة الكثيفة السوداء لم تكن تلك كذبة فهو فعلا يحمل الجنسية البريطانية لكن فيما يخص التوظيف فكان ذلك تمويها ذكيًا نوعا ما و هي بسرعة اقتنعت: ــ طبعًا سيصعب عليك إيجاد وظيفة في شركة وطنية, لكن..بما أنك "من بريطانيا"... شعر بذلك, فكر أن "هاهو ذا يحصل.." استمرت: ــ ..لماذا أتيتَ إلى كاوس؟ |
__________________ .. |