البارت الخامس
توجهت ميرنا لهدفٍ آخر بعدَ أن استولى ساي على جزءٍ ليسَ ببسيط من قلبها فهذا الهدف يعني إسعاده و إخراجه إلى صفحةِ حياةٍ جديدة يستحقها و هذا يستدعي إصلاحِ فيونيكا و تغيير أساسياتِ فكرها فمعَ كلِّ هذا تمنيه لوجودها هنا و لو للحظات يجعلها تفكر أنَّه يحبها و لكن لا يستطيع التأقلم مع سلوكياتها....
ستفعل ميرنا أيَّ شيء لترسم ابتسامةً الرضا على شفتيه ,ابتسامة ٌ تُذهب الحزن الطاغي على عينيه.....
دخلَ الطبيب في تلك اللحظات قائلاً: يبدوا أنَّ مريضنا بخيرٍ الآن.
ساي و قد علاهُ التذمر: ما بالك مايك؟...هل تريدُ التخلص مني بأدويتك الغريبةَ هذه؟ أنتَ طبيبٌ مبالغ.
علته البسمة التي لم تمحوا ملامحه الشبه باردة: حقاً تبدوا بخير؟و ماذا تنتظر مني حين تتجاهل كلامي ساي؟..هل تنتظر كلمات الثناء التي سأسقطها فوق رأسك و أقول لك أحسنتَ عملاً بإهمال صحتك؟
ساي: على الأقل راعيت وجود هذه الفتاة معي و تكلَّمت معي مباشرة عوضَ أن تتحدَّث معها.
رفع الطبيب كتفيه: أنظري له...يحاول أن يلومني بأيِّ شكل..
أتمَّ و هو يوجه كلامه لساي : ألا تخجل من نفسك تتصرَّف كالأطفال؟...على الأقل تظاهر بالرجولة أمام مخطوبتك.
أحسَّت ميرنا بحرارةٍ مفاجأة في داخلها لكنَّها لم تجب ...
نظر لها ساي بضحكةٍ خفيفة: ما الذي تتفوه به..؟ لقد أحرجتها..إنَّها ليست مخطوبتي مايك ,إنَّها تعمل لدي كنائبة في المتجر.
مايك : آسف يا آنسة..فأنا لم أرَ مخطوبته من قبل فأشتبه عليَّ الأمر.
أجابته بتقبُّلٍ واضح: لا بأس..إنَّه ليسَ بالأمرِ المهم...لكنَّ هذا غريب فكما يبدوا أنتما على معرفةٍ جيِّدة.
أجابها ساي الذي نهضَ من ذلكَ السرير: ما شرفنا بهذه المعرفة حالتي هذه فأنا هنا كلَّ أسبوعٍ تقريباً.
أتمَّ الطبيب بأسلوبه: لذا يجب أن أعطيه علاجاً مضاعفاً لألاَّ يعود و يزعجني مرَّةً أخرى.
ساي: تتحدّّث و كأني مسرور بالمجيء لحضرتك .
الطبيب بنوعٍ من الحدة: كفَّ عن العبثِ ساي..حالتكَ خطرة بالفعلِ منذُ الآن ,يجب أن تأخذ هذا على محملِ الجد..أقول هذا كطبيب و ليْسَ كصديقٍ يستعطفُ على حالك.
ساي: حسناً ,حسناً..وصلت المعلومة.
ميرنا مستفسرة: و هل يجب على السيد شيوكي البقاء هنا؟
اختفت تلك الجدية و الرسمية الباردة بضحكةٍ عالية: سيد شيوكي..لحظة ,هل أنتِ جادة بمناداته بهذا الشكل الرسمي؟ لم أتصوَّر أنَّك ذو أهمية ساي.
ساي أضيقَ عينيه ببعضِ الاغتياظ : و ماذا في هذا؟..الجميعُ في المركز التجاري يناديني بهذا الاسم.
مايك بسخرية: لا تكذب عليَّ فأنا أرى عملائك ينادونكَ سيد ساي لا غير.
بقيَ ساي صامتاً مع انزعاجٍ واضح عليه... أوقفَ مايك نفسه عن الضحك: عفواً لم أقصد الإهانة ,إنَّما الأمرُ غريبٌ نوعاً ما فعندما تقول سيد شيوكي يتبادر للجميع والد ساي و ليس هو بالذات.
أعادت ميرنا سؤالها بتجاهل: هل يحتاج السيد شيوكي للبقاء في المشفى سيد مايك؟
أجابها بهزل: ألا ترين أنّهُ يستطيع القفز كالحصان؟..لا داعي لبقائه .
توجهت بنظرةٍ مزجتها ببسمةٍ خفيفة نحو ساي ليبادلها هو النظرةَ ذاتها قائلاً: أرأيتِ, كلَّ شيءٍ بخير؟
......نهاية دوام العمل......
أتَمَّت ميرنا عملها لليوم و اتجهت نحوَ السيد شيوكي لترى إن كانَ لديه أمرٌ ما و لكنَّ هذه ليست سوى حجة لتطمئن عليه...
" هل تأمرني بشيء سيدي؟"
أجابها بوضوحٍ جوهري أذهب عنها قلقها: لا..ليسَ هناك شيء..تستطيعينَ الذهاب.
رفعت ميرنا حقيبتها الفيروزيةِ ِ التي في يدها لتضعها فوق كتفها: إذاً..أراكَ لاحقاً.
أوقفها ساي للحظة: ألا تمانعين بإيصالك؟
صمتت للتفكير لحظات...لكن ساي قطعها بقوله: كشكرٍ لما فعلته لهذا اليوم لي.
أجابته بابتسامة: حسناً ,لكن...
نهضَ آخذاً معطفه: لكن ماذا؟
ابتعدت لتفسح مكاناً بجانبها له: لكن لا تأخذني لمدينةَ ملاهٍ اليوم.
جعلَ يده تستقر خلفَ رأسه: لن أفعل..فأنا أحسُّ ببعضِ الراحة.
بدأت تخطوا مع خطواته: و ما سبب هذه الراحة بينَ ما حدث اليوم؟!
أخذته بسمةٌ خفيفة و هو يقول: لقد أغضبتها قليلاً..أراحني هذا.
حرَّكت رأسها مستنكرة: مسكينةٌ فيونيكا.
.......................
ترجلت ميرنا و حركت رأسها بامتنان: شكراً لك .
أجابها بلطفٍ و ملامحُ خالية من صرامةِ المدراء...ملامحُ مختلفة لفتىً عادي في أوائلِ الشباب: أراكِ غداً..لا تتأخري.
رفعت يدها على حدِّ النافذة المفتوح: لا أتقبَّل الأوامر خارج نطاق العمل سيدي..فلا يهم لو تأخرت قليلاً.
استغلَّ ساي الفرصة لمحو صورة المدير في ذهنها و خلق علاقةٍ خارجية عن العمل و الأوامر: إذاً ميرنا..هللا أقلعتِ عن مناداتي بهذا النحو أيضاً.
باتت تُحدِّقُ به مستوعبةً للتو أنَّها سمعته يلفظ هذا لاسم بهذه الراحة عدَّةَ مرات...كانت للتو تتذكر أنَّه ناداها بالاسم و أحسَّت بشعورٍ غريبٍ في داخلها كما لو أنَّ حواجز عديدة بدأت بالاضمحلالِ بينهما..أحسَّت أنَّهما اقتربا من بعضهما البعض بمئات الخطواتِ الطويلة و هذا لم يكن مزعجاً بل العكس كان يُشعرها براحةٍ مؤنسة بشكلٍ عجيب...
ظهرَ صوتُ الشاب المقترب منهما ببعضِ الهزل و السخرية في أسلوبه: تبدوا متأقلماً معها ساي..لم أتصوَّر أنَّ أختي جيدة في خطفِ قلبِ فتىً ثري مثلك...أ أنتَ أبلهٌ لهذه الدرجة؟
اعتراها الغضب من بدايةِ أخيها هذه: ما هذا هاجي؟!
بدا على ساي الاستنكار في إجابته متهرباً: مرحباً..لقد أوصلتها فقط..لا ضير ,أليسَ كذلك؟
لم يكن هاجي مهتماً لانزعاجهما بل أتم بالأسلوبِ ذاته: لا بأس ,فليسَ من عادتي أن أتدخل في حياتها الخاصة...فأنا أعرف شبابَ هذه الأيام جيداً و كيفَ أنَّهم يفضلونَ البقاءِ معاً ...أنتَ تفهمُ ساي.
صرخت ميرنا صرخةً ثائرة في وجه أخيها و حمرةِ خجلها كانت واضحة لكلٍّ من ساي و هاجي: هاجي, سأقتلك..انتظر فقط.
ابتسم هاجي متماً: أرأيت؟..هذه هيَ حقيقةُ الفتاةِ التي تقفُ أمامك ,كالبركانِ الثائر الذي ينفجر بأيِّ آن...نصيحةٌ مني, لا توقع نفسكَ معها.
ميرنا تشدُّ على حقيبتها الفيروزية: أقسم أنَّكَ ستكون منصهراً بعدَ لحظات.
كانا مندمجين بالشجار حتى أوقفهم سماعِ ضحكةِ ساي التي شعرت بها ميرنا كأوَّلِ ضحكةٍ تسمعها من أعماقِ قلبه...
نظرَ هاجي و ميرنا له بثوانٍ من الصمت لتعتلي أصوات ضحكاتهم المجاريةِ له.....
نظرَ لهما ساي براحةٍ عابرةٍ على قلبه: تبدوانِ لطيفين.
وجَّه هاجي نظرة لأخته بمباشرتها وجهاً لوجه: ألم تعرضي عليه الدخولِ ميرنا؟
أشاحت بوجهها عنه بانزعاجٍ لم ينمحي بعد: لا ,لم أفعل.
قالَ معاتباً: ظننتكِ كبرتِ و تعرفين التصرُّف مع الآخرين.
أجابته بتأوه: يبدوا أنَّك متتوِّقٌ للجدالِ هذه الليلة.
أدار ساي مفتاحَ المحرك ليتحرَّك ذاهباً: أنا ذاهبٌ على كلِّ حال فلا تتعب نفسك.
اتجه هاجي ناحية ساي و فتح الباب ليجر يده: مستحيلٌ أن أدعك تذهب بهذه السهولة أيُّها الصغير.
حاول ساي أن يجيب بكلماته المتقاطعة: لـ..كنـ...
حاولت ميرنا تشجيعه أيضاً: لا ترفض سيد شيوكي ,لن يضرُّكَ الجلوس في بيتٍ عتيق لليلةٍ واحدة.
سماعُ هذا جعله يظهر بعضَ الانفعال: لم أقصد هذاـ..
.....................
منزلٌ ظاهرٌ عليه التواضع و بساطةِ المعيشة أوَّله ممرٌّ ضيق خلفَ بابِ الدخول و بعدها الغرفة الصغيرة التي بالكادِ حوَت أساسياتِ المعيشة التي تبدي حالتهم السيئة....
جلسَ ساي على تلكَ الأرضِ الخشبية القديمة دونَ تعليق لكنَّه أحسَّ بغربةٍ بين ثنايا البيتِ الذي تطأه قدمه لأوَّلِ مرَّة....
اعتلى صوت هاجي قليلاً: أمي, هناكَ ضيفٌ اليوم.
لحظاتٌ مضت قبلَ دخولِ تلكَ المرأةِ الهزيلة الشاحبة الواضحِ عليها سيماءِ المرض لتجلس قرباً منه...
أحسَّ بهالةِ عطفٍ و حنانٍ لا متناهيين منها ...عطفٍ و حنان لم يتسنى له أن يتخيَّله من قبل ...
رنَّ صوتها الدافئ في أذنه: أهلاً بك.
انتابهُ الخجل نوعاً ما من هذه المرأةِ الغريبة و طأطأ رأسه مجيباً: مرحباً سيدتي, تسرني رأيتك.
أجابته بأريحيةٍ وصوتٍ هادئ يظهرُ منه التعب و الإرهاقِ الشديدين: تبدوا شاباً لطيفاً ,هل أنتَ صديقُ هاجي؟
منعه حياءه منها و توتره من الإجابة عليها كطفلٍ جالسٌُ على ركبتيه أمام غريب فأجابت ميرنا بمرحٍ لتهيئ له أجواء المكانِ الجديد: إنَّه السيد شيوكي الذي أخبرتكِ عنه أمي.
علت ملامحها الدافئة بسمةً خفيفة و هي تنظر له لترتكز هذه البسمة في ذهنه لتُخرجه من قفصِ الجسد لحظات يطير بروحه كالطائرِ من شدَّةِ سروره.... حينَها قالت: إذاً أنتَ مدير ميرنا, لم أتصوَّر أنَّكَ صغير السن هكذا!
انتقى الكلماتِ التي تبدي أدبه و احترامه: لقد أخبرتُ الآنسة ميرنا أنني وصلتُ لهذا العمل عن طريقِ والدي و مساندته.
لا يخفى أنَّه ينتظر كلماتها القادمة بفارغِ الصبر و لم يكن انتظاره طويلاً حينَ قالت: على ما يبدوا,إنَّ والدك يهتمُّ بكَ كثيراً.
كانت ميرنا تنتظر مراوغةً واضحة منه لتتمها هي بالابتعادِ عن هذا المنحنى المزعج..فهو على ما يبدوا لا يحب التحدث عن والده كثيراً...
لكنه لم يظهر ردَّةَ فعل بل أجاب مع عدم قناعةٍ في نفسه و خجلٍ ظاهر في تصرفاته: تستطيعين قولَ هذا.
ضحكت ميرنا ضحكةً خفيفة شدَّت نظر ساي و الأم لها فقالت له بابتسامةٍ ساخرة: لم أكن أظن أنَّك خجول.
بدا عليه التوتر محاولاً الإنكار رغم وضوح الأمر للجميع: أنـ..أنا...
أشار هاجي له ساخراً: عفواً, أكلت لسانه القطة.
ميرنا: لو كنتُ أعلم أني سأراك بهذا الشكل لكنتُ أتيتُ بك في وقتٍ أبكر.
لم ينزعج بل شعر و كأنَّ هذا الخجل يعني الألفة َ الروحية التي لم يحس بها من قبل ,لكن شعرَ بالراحة حين رأى تلكَ المرأة تدافع عنه معاتبةً طفليها: كفا عن الاستهزاءِ به...من الطبيعي أن لا يألف الجلوس هنا من الدقائق الأولى...قليلٌ من الوقت و سيكون بخير ..
تاحت لعينيها بالنظر له مرَّةً أخرى: أليسَ كذلك؟
وضعَ يده خلف رأسه مبتسما ليجيبها باختصار: أجل ,بالطبع.
هاجي و هو لا زال ساخراً: و كأنَّكَ فتاةٌ تمت خطبتها ساي...
نظرت الأم بحدَّة لاينها ليتوقف فوراً بالعاً ريقه معتذراً: حسناً...أظن أنني آسفـ..حقّاً.
مرَّ وقتٌ قصير مع حديثٍ متوالٍ جعله يتخلَّص من شعوره بالغربة و يدرك الكثير من الأمور التي لم يدركها من قبل..شجارِ الأخوة..حنان الأم و عطفها الذي لا يعوَّض..دفء الأسرة..اجتماعُ عائلة...
عيناهُ كانت تدورُ لهم لتستوعب هذه المفاهيم الغريبة التي لم تمر عليه طيلة ال19عاماً التي عاشها....
نهضت الأم لطبخِ العشاءِ بعدَ فترة و معها ابنتها لتساعدها و هاجي أخذَ ساي لغرفته و أجلسه على سريره الذي يكادُ أن يتهدم بأيَّةِ لحظة من عدم ثباته و كثرةِ تصدعاتِ خشبه القديم....
تأمَّل ساي صوتَ الأرضيةِ المزعج و النوافذِ النصف متكسرة قبلَ أن يجلس لكن مع ذلك قال جملته المبينة لرؤيته السعادة في هذا البيت الصغير: أغبطك على هذه الأسرة هاجي.
جلسَ هوَ الآخر مرتسماً ابتسامته بسماعِ ذلك و قال بصوتٍ فتىً يُظهر النضج و التفهم: أعلم هذا..أنا أعترف أني محظوظ بامتلاك عائلةٍ رائعة.
كانَ ينظر ساي له و هو يتحدث فلو كانت ميرنا من سمعت قوله لأبدت رأياً آخر بتاتاً....
لاحظ هاجي نظراته الغريبة: ماذا؟
" أختكَ مختلفةٌ عنكَ تماماً."
" مثلُ ماذا؟"
"كلُّ شيء ,أقصد..الآراء و طريقةُ التفكير...الشكل و الطباع.."
ضيَّقَ عينيه ليتم بجدية: لا أؤيدك بكلِّ شيء فتفكيرها مقاربٌ لتفكيري كثيراً إلاَّ أنَّها فتاة و تظهر مخاوفها بسرعة...فالآن مثلاً هي تخافُ دوماً من عدم إجراء عمليَّةِ القلب لأمها في الوقتِ المناسب.
ظهرت نبرةُ الاستغرابِ و الدهشة بين طياتِ لسانه: قلب..!
تأوه للحظة: أجل...لذا فهيَ ليست مثلي تسيطر على نفسها بإظهار العقلانية فتراها دائماً ما تعود لنقطة واحدة و هي الحصول على النقود..لو كانَ لديها النقودـ..
قاطعه للحظة بغضب دفين: هذه هيَ النظرةُ الخاطئة..النقود لا تحل المعضلات...من الحماقة الاعتقادُ بهذا.
أجابه بكلمةً وافية لفهمه: أوافقك.
نهضَ هاجي و بدأ يتحرك في تلكَ الغرفة ليجلس على الأرضيةِ الخاوية من أيِّ بساطٍ بسيط : لا أستطيع تفهم تفكيرها..لا أعلم ربَّما لأني لستُ أخيها الحقيقي.
لحظةُ صمت لتعلن استيعابه للموضوع: لستَ أخيها..!!
أجابه بحزنٍ واضح بينَ ثنايا عينيه: أنا ابن خالتها..لقد توفي والداي و أنا في السادسة من العمر و لذا فقد أخذتني خالتي لرعايتي تحت كنفها ..إنَّها رائعة بالفعل فرغم وضعهم السيئ لم تحاول التفريق بيني و بين ابنتها بأبسطِ شيء حتى لم أشعر للحظة بلوعةِ اليتم...
ظهرت نبرةِ الحزن و التأوه بشكلٍ أقوى في تتمة حديثه بعد صمت: لكن أنا لم أكن فتىً يستحق كل هذا العناء و لم أستطع حتى أن أجمع النقود لعمليتها الجراحية أو أن أكون جليساً جيدا لميرنا.
كان ساي صامتاً يرى في نفسه الكأس الذي يجب أن يحمل همَّ غيره الآن ليهدئه و هاجي نهض عائداً ناحيته بنظرةٍ و ملامح خاليةٍ من المرح أو المزاح و اضطجع على سريره : أتعلم...إنَّ مشكلتي هيَ ميرنا.
حاول ساي إبقاء ملامحه الباردة رغم اضطراب داخله: ميرنا!
كان هاجي يحرِّك بؤبؤتيه بعدمِ ثبات و استقرار: إنَّها لطيفة حقاَّ.
ركَّزَ نظره بعيني ساي : أتعرف؟..كلَّما تتحدَّث تشدني للإصغاءِ لها دون ملل من الاستماع لحديثها و صوتها و بسمتها الخفيفة التي ترتسمها في العادة تجعلني أنسى همومي .
كان ساي يشعر بغيظٍ شديد و شعلةِ غضبٍ مديد: و ماذا؟
لاحظ هاجي تغيراً طفيفاً على ملامحه فجلس ليباشره وجهاً لوجه: ألا تخشى أن أسلبها منك ساي؟
ساي بحدة واضحة في حديثه: لا أظن أنَّ لي علاقةٌ بالأمر...فأنا لديَّ من يشغل تفكيري منذ مدَّةٍ طويلة.
أخذ هاجي نفساً ليبدي الارتياح: ظننتُ أن لدي رقيبٌ في حبِّها..كم كنتُ أبله .
ساي ما زال بحدَّته: أبله لتتكلَّم دونَ علم.
نظر له نظرةً جادة: دونَ علم!!..و هل رأيتَ تصرفاتكَ أيُّها الفتى؟!و كأنَّكَ مفتونٌ بها..أخبرني..إن لم يكن ذلكَ لحب إذاً فلماذا....؟
قاطعه ساي ناهضاً من مكانه: آسف, أود الخروج قليلاً.
قال هاجي: يجب عليَّ أن أعرف الحقيقة...أنا لا أريدُ أن أفقد من أراها معنى وجودي, أتفهم؟
جملةٌ جعلته يكاد يفقدُ صبره فمشى خطواتٍ و أمسك مقبض باب الغرفة لكن أوقفه هاجي بنهوضه قائلاً بابتسامة: ما بك يا رجل...؟! لا تغضب .
ساي: لمَ يجب عليَّ أن أغضب..قلتُ لكَ أن لا علاقةَ لي بالأمر.
خرج ساي تاركاً خلفه هاجي الذي استند على الحائط الأيسر: ليسَ مقنعاً...
....................
كان ساي يودُّ الخروج من المنزل و ليس تلك الغرفةِ فقط فذلكَ الحديث لم يرقه أبداً...ازدادَ استيائه لهذا الفتى الذي باتَ يعرف أنَّه ليسَ أخ ميرنا بل عشيقاً قريباً منها...لكن لماذا هذا الانزعاج فهي لا تمته بصلة على كلِّ حال...
"أه..من الجيد رأيتك, هل تستطيع إخبار هاجي أن الطعام أصبح جاهزاً؟"
تلكَ كانت الأم التي أوقفت جسده بصوتها...كانَ يريدُ المعارضة و عدم العودة لذلك الشاب لكنه لا يعلم سبب عدم تمكنه من ذلك...و كأنَّه أصبح خارجاً عن سيطرةِ نفسه حينَ رآها أمامه...كلُّ شيء سينفذ لأجلها..و بسهولة...لكن سرُّ هذا الحب الساري في قلبه لهذه الدرجة لم يكن معروفاً له...لكنَّه أجاب مطيعاً: بالطبع.
عادَ الجميع لغرفةِ الجلوس ملتماً بجلسةٍ متواضعة حولَ الطعامِ البسيط الذي لم يكن سوى حساءَ احتوى بعضَ الخضار و سلطةٍ موزعة في عدَّةِ أطباق....
لم يُبعد ساي عينيه عن تلك الأطباق إلاَّ حين قالت ميرنا بخجلٍ و إحراج: آسفة ,نحنُ لا نملك أفضل من هذا سيد شيوكي.
أجرى بسمةً خفيفة على شفتيه: ليسَ مهماً..لا تهتمي لهذا الأمرِ البسيط.
كانَ بالفعل يعني ما نطق به لسانه فهو كان ينظر لدفءٍ كانَ سيذوقه بعد لحظات في لقيماتٍ من هذا الطعام...
بدأ هاجي بالسخرية: مؤدَّبٌ للغاية..
أتمت الأم وضعَ الأطباق و جلست بجانب ساي الذي امتلئ سروراً و توتراً و هي تقول لابنها: ألن تتوقف عن هذا هاجي؟
ساي: لا بأس, إنَّه لا يزعجني.
وضعت طبقه أمامه: لكنه يزعجني,فأنا لا أحبُّ أن يسخر أحد من ضيفٍ دخل باب منزلي.
كانَ ذلكَ الطعام ألذُّ طعامٍ تذوقه على البسيطة ..ممزوج بحبٍ و دفٍ أموي ...حلمٌ يتمنى لو يدوم لأبدِ الدهر...إنَّه مستعد ببيعِ كلِّ ما يملكه و أكثر للحصول على هذه اللحظة...
كسر ساي صمته: لذيذ.
ابتسمت و هي تجيبه: سعيدةٌ لأنَّهُ راقك بني..كل كما تشاء فهناك المزيد أيضاً.
قالت للتو(بني!)...يا لها من لحظة..كيفَ له أن يتناسى هذه الجملةِ التي سمعها بعد طولِ انتظار, بدأ يأكل و يمني نفسه بسماع هذه الكلمة العظيمة بالنسبةِ له مرةً أخرى....
جمعَ ساي جلَّ شجاعته قائلاً: عفواً سيدتي..لم أتشرَّف حتى الآن بمعرفةِ اسمك.
"مادونا و لكن نادني كما تريد"
بدأ الأخوان يتهامسان و يضحكان بصوتٍ خفيف و ما كانَ يدور بينهما...
هاجي يهمس في أذن ميرنا: هل يتحدَّث بهذه اللباقة معكِ ميرنا؟
أجابته: معي!!..تمزح من المستحيل أن يفعل ذلك ..لكنَّه جيد بالتلاعب بالكلمات بل ماهر بذلك.
قال لها: هل يتلاعب بالكلمات مع أمي إذاً؟
أجابته بابتسامةٍ ساخرة: لا أظن فوجهه كالطماطم كما أرى.
انتبهت مادونا لابنيها: هل بدأتم بأحاديثَ تافهة مرَّةً أخرى..؟
مدَّ هاجي طبقه الفارغ مراوغاً: لا..أريدُ المزيد أمي.
وجهت مادونا الكلام لابنتها: إذاَ ميرنا قومي أنتِ بهذا.
احتجاجٌ واضح في نبرةِ كلامها: لماذا أنا؟ ألا يستطيع فعل ذلك بنفسه؟أنا لست بخادمته..
ضرب بطبقه على الأرض: و من قال أني أحتاجُ لفتاةٍ مثلك؟
ميرنا بحدة: ماذا لو أرحتنا ببقائك في أستراليا أيها الغبي؟
(إنَّهما مندمجين مع بعضهما البعض...)
قاطعت ميرنا فكره الذي ذهب بعيداً و هو ينظر لهما: ما بكَ سيدي؟ هل هناكَ خطبٌ ما؟!
أجابها بتحريك رأسه نافياً: لا شيء.
حاولت مادونا فتح باب الحديث معه: لم تحدثنا عن نفسك و عائلتك ساي.
أخرج ساي تنهداً ضعيفاً لم يلحظه غير ميرنا التي لم يخفى انكسارها لأجله فأجابت فوراً: و ما الذي تتوقعينه أمي؟..عائلةٌ غنية و مترفة لا تشكو من مشاكل كفقراءٍ مثلنا.
ودَّ ساي أن يجيبها من كلِّ قلبه لكنه توقف......
..........بعدَ العشاء........
جلسَ ساي بجانبٍ منعزل ينظر لميرنا التي أتت بكتبها المدرسية لتحل فروضها مستعينةً بهاجي الجامعي....
كان يحترق ساي من الداخل و هوَ يرى تفاوتَ حياته و حياةِ هاجي الذي يبتسم بسعادة مع ميرنا لكنَّه لم يكن يتمنى زوال هذا الشعور من هذين الاثنين بل كان يتمنى لهما السعادة رغم حزنه....
كانت مادونا جالسة قريباً منه تحيك بخيطين ثخينين أحدهما أبيض و الآخر رمادي: لم أكن أعتقد أنَّ حسائي سيعجب فتىً مترفٍ مثلك.
كانت أعصابه تسترخي كلَّما نطقت مادونا ببعضِ الحروف: أقولها بصدق ,لم أتذوق ألذ من هذا الحساء من قبل.
أبعد هاجي عينيه عن كتاب ميرنا رافعاً رأسه: بالطبع, ليسَ هناك ألذُّ من طعام أمي.. أليسَ كذلك ميرنا؟
أجابته و هيَ منهمكة في دروسها: أوافقكَ الرأي.
ابتسمت مادونا بلطف و هي تقول: جميعُ الأبناء يرونَ طبخَ أمهاتهم أفضل من طبخ الباقي من الناس..ألا ترى أنَّ طبخَ أمِّكَ الأفضل ساي؟
اصفرَّ لون ميرنا و هيَ تنظر له يقول بحزن: لا أعلم..فأنا لم أتذوق طعمَ طهيها منذ طفولتي و لا أذكرها...لقد توفيت أمي مذ كنتُ طفلاً.
أنزلت مادونا يديها لتدع الخيط يمشي على الأرض و هيَ تنظر له بعطف: لابدَّ أنَّك تفتقدها كثيراً...
مدت يمناها نحو وجنته اليسرى لتحركها بحنانٍ لا متناهٍ نحوه خاصة: لا بأس بني..اعتبرني والدتك و نادني كأمِّكَ أيضاً...سأكون سعيدة بأن يكون لي ابنٌ رائعٌ مثلك.
نقصٌ واضح قد بانَ في حياته...
واضحٌ أكثر من أيِّ وقتٍ آخر....
هذه اليد التي تتحرَّك عطفاً قد أخرجت هذا النقص بحلَّته الحقيقية....
تخدَّر جسده للحظات و دموعه كانت ستجاري يدها النازلة لكنَّه سرعان ما نهضَ قائلاً ببرود: آسف ,لقد تأخرت كثيراً..يجب عليَّ الذهاب الآن.
لم تتصوَّر ميرنا استياءه لهذه الدرجة فتركت كتابها فوراً:أينَ أنتَ ذاهبٌ بهذه السرعة؟!
بدأ هاجي بحديثه الفارغ الذي يزيد تحطمَ أعصابه: هل ستشتاقين له بهذه السرعة؟..لا تستعجلي كلَّ هذا الشوق ميرنا...فهو لن يغيب سوى ساعاتٍ حتى الغد.
توجه نحو المخرج قائلاً بجفافٍ واضح: لديَّ بعض الأعمال التي لم أتمَّها.
نهضت ميرنا خلفه لتودعه...
كانت تقف بجانبه خارج المنزل: هل أزعجك ما قالته أمِّي؟
تقدَّم ساي نحو سيارته المركونة قريباً: لم تقل شيئاً مزعجاً.
وقفت ميرنا أمام سيارته البيضاء قائلة : لماذا خرجت من فوركَ إذاً؟
لمحها بنظرةٍ جدية للحظة: قلتُ السبب, و لا أظنُّ أنِّي مكلَّفٌ بالتوضيح لك..ابتعدي فقط.
كانت تخشى الجدال معه و خاصَّةً بعد ما حصلَ في هذا اليوم فابتعدت : حسناً إذاً..أراكَ لاحقاً.
ركب ساي السيارة و حرَّكها قليلاً: أرى أن عليكِ الدخول الآن؟
ابتعدت ميرنا أكثر: تصبح على خير.
جوابٌ بارد طرأ على مسامعها كبرود الثلج: و أنتِ.
قالت له جملتها الأخيرة قبل أن تدخل: انتبه لنفسك.
ابتعد فوراً دونَ أن يزيد في كلامه أكثر...
ربما كانَ هذا الابتعاد على أمل الابتعاد عن النقص الذي طالما شعر به في داخله....
ربما كان هروباً من اللحظاتِ التي لن يحصل عليها مهما حصل...
و ربما هروباً من أمانٍ زائف..و مشاعره المتأججة التي لا يعرف سبباً لها و لا مستقراً...
........اليوم التالي.......
صوتُ ارتطام شيءٍ خفيف على الطاولة شدَّه لرفع عينيه ليرى صندوقَ طعامٍ صغير قد وُضع من قبل ميرنا....
"ما هذا؟"
أدارت جسدها و جلست على مقعدٍ هناك: من أمي ,أظن أنَّها سترسل لك وجبةً يومية منذ اليوم.
"تبا"
هيَ الكلمة الوحيدة التي طرأت على مسامعها لتعرف انزعاجه فلم تخفي تعجبها من ذلك: ما بك؟..لقد قالت أمي أنَّ هذا كاعتذارٍ لإزعاجك البارحة.
أجابها ببرود: أبلغيها شكري و أخبريها أن لا داعي أن تجهد نفسها .
حركت ميرنا بؤبؤيها يميناً قليلاً: لا أعرف ما الذي يزعجك سيد شيوكي؟!
قال بحدةٍ خفيفة: أتودينَ أن تعرفي ما بي ؟..حسناً سأخبرك ,كلُّ ما هنالك أنني لا أستطيع تقبُّل استعطافها و طيبتها الزائدة لي كطفلٍ يتيم يحتاج الرعاية.
نطق بهذا متذكراً ما قاله هاجي عن كونه يتيماً رعته خالته, مما زادَ يقينه بعقيدته التي باتت تأخذ مأخذاً من تفكيره...
قطبت حاجبيها :إنَّ... إنَّ أمي حاولت أن تظهر محبَّتها و تبين أسفها ولم تقصد أن تجرح مشاعرك...استعطاف؟! أنتَ مضحك بالفعل .
أحسَّ ساي ببعضِ الاستفزاز من نائبته فقال لها مشيراً بالخروج: اذهبي لعملك و اتركيني وحدي.
بانَ غضبها أكثر بشدِّها لتلك اليدين فوق فخذيها: أنت تهوى المشاكل!..أليسَ كذلك؟!
حاول تجاهلها بتشغيل زر حاسوبه.....
لكنَّها نهضت لتقف أمامه بجرأة معاتبة: ألم ترَ حالتها الصحيَّة؟
اكتفى ساي بالصمت ليسمع تتمة حديثها..: هل تستطيع إقناع نفسك أنَّ هذه المرأة بالرغم من إنهاكها و تعبها الشديدين قد قامت بإجهادِ نفسها لصنع طعامٍ لتستعطف عليك؟!
" ليسَ لدي الوقت لسماع كلامك المنطقي ,دعيني أنهي عملي"
أرخت ميرنا أعصابها قائلةً بحزن لتجعلها كلماتها تستقر كالسهام الحادَّة في جنانه: أنتَ لا تفهم..كانت قلقةً عليكَ كثيراً و على مشاعركَ التي جرحتها دونَ قصد ...لقد أحبَّتك كثيراً و لم تتوقف عن التحدث عن حسن لباقتك و حديثك معها..حتى أنَّها استطاعت أن ترى الحزن الذي لا يعرف سببه سواي في عينيك....تجاهلت ابنيها لأجلك..
مدَّت يديها بوثوق لترفع صندوق الطعام قائلة: مادمتَ لا تريده فأنا هنا..لن أفوت هذا الطهي الرائع.
كانَ ساي ينظر لشاشةِ حاسوبه لكن ذهنه و جوارحه كانت تتبع ميرنا التي وصلت للباب فأوقفها : أظنُّ أنَّ ما تحملينه خاصٌّ بي و لم آذن لكِ بأخذه..ضعيه فوق الطاولة و اذهبي حيثُ ما تريدين.
كبرياء يرفض المحبة ...هذا ما يوهمه ساي لنفسه..لكنَّه قد أخفى فرح و ولعَ صغيرٍ تحت قناع الحدَّة و تقطيب الحاجبين هذا....
لكن في أفكار ميرنا تستطيع جرَّه إلى واقعه فلا بأس أن ينكسر هذا الكبرياء قليلاً...
أعادت ميرنا صندوقَ الطعام قائلةً بشقاوةٍ مرحة: لا تكن عنيداً في فهم الجانب الآخر للحياة..
أعاد ابتسامتها بمثلها: أنتِ خبيثة...
أتمَّ بأسلوبٍ آخر ممزوجٍ بالبرود و النضج: و هل تفهمينه أنتِ؟..أنتِ أجهلُ مني ميرنا.
وجهت حدقتها للأسفل: ربما..
....................
حبٌّ جم قد تركَّز في كرياتِ البطاطةِ تلك...غريبٌ حبُّ قد استقر في قلبيهما في ساعاتٍ قليلة...قليلة!!
لا ,بل أطول ساعاتِ الدنيا بالنسبة لساي ...تلك هيَ الساعاتِ التي تلاقت بها الأرواح قبل الأجساد....
انتهى ساي ليعيد صندوق الطعامِ لميرنا و حينَ أعاده....
كادت عيناها تخرج ذهولاً و تأسفاً على الصندوقِ الخاوي تماماً: آآآآه...التهمته التهاماً؟!...أعطيتكَ إيَّاه من عشر دقائق فقط!
أجابها ببراءة: آسف ,لقد كانَ لذيذاً.
تأوهت بتأسف: لقد كنتُ أؤمل نفسي بلقيماتٍ قليلة على الأقل, كنتُ أتضوَّر جوعاً.
قالَ لها: هل تودِّينَ أن أطلب لكِ غداءً من المطعمِ المجاور؟
بتذمر..: و هل تركتَ لي خياراً؟..ذنبكَ و يجب أن تدفع عليه حساباً.
" ذنب!"
استمرت بتذمر أكثر: و ما خلته؟
خرجَ قائلاً: لا يهمني الدفع على كلِّ حال.
......أجواء العمل.....
فترةٌ قد عمَّ الهدوء بها و ذلك لعدم مجيء فيونيكا في هذه الفترة و هذا ما ساعد ساي على التحسُّن و الاستقرارِ النفسي و معَ هذا فلم تترك ميرنا فكرة حل هذه المشكلة التي تزعج السيد شيوكي فلابد لها من إيجاد طريقة لتجعل فيونيكا تظهر مشاعرها المخبوءة خلف هذه التصرفاتِ الغريبة ....
مشكلة المركز التجاري الوحيدة كانت الملل و الروتين اليومي ..فلا دموعَ حزن أو ضحك فرح يظهر تحت أجواء هذا العمل المتثاقل لكن هذا الروتين لم يبقى كما هوَ فقد غيَّره ساي بدخوله صارخاً تعتليه ملامح الغضبِ الجامح...
..: ما هذا الخطأ الفادح ميرنا؟
نهضت من ذهولها بما سمعته لكنَّها لم تستطع أن تقول شيئاً و هي لا تفهم ما الذي جرى .....
كانَ ساي يحرِّك يده التي تحمل ملفاً بانفعال: لم أتصوَّر أبداً أنَّكِ ستقعين في خطأٍ كهذا.
توجهت نحوه بتردد واضح: لقد ركزتُ على كلَّ شيءٍ بدقة.
وجه نظرته المشتعلةِ غضباً نحوها: إذاً, من أين أتت هذه المصيبة أيتها الدقيقة؟
حاولت ميرنا تهدئته : هدئ من روعك و أخبرني ما الذي يجري هنا؟..ستؤذي نفسك بهذا الأسلوب.
حاولَ أن يسيطر على تحركاته الغير موزونة جالساً على أحدِ المقاعد: خيبتِ أملي و خنتِ ثقتي بك .
سكبت كأسَ ماءٍ لتقدمه له: خذ...حاول أن تهدأ..ألم يقل لك الطبيب أن تبتعد عن الانفعالات العصبية؟!..سيطر على غضبك الآن.
أخذَ كأس الماء ببطء إنهاك دونَ أن يتمتم بحرف لكنَّها جلست قربه محاولةً كسر صمته الذي كانَ يزيد قلقها و شحوب وجهها بكلِّ ثانية: ألا تخطط أن تخبرني بجريمتي المجهولة التي أغضبتك مني؟
انفجر ساي ضحكاً: غبية..غبية..بالفعل غبية..كادَ يُغمى عليكِ من الدهشة.
"أه!"
سكب كأس الماء على وجهها: ما هذه الأه ميرنا ؟..لقد خدعتكِ كالعادة.
نهضت ميرنا من فورها و هي تمسح الماء عن وجهها: ما أسخفك ,لقد خفتُ عليكَ كثيراً ..ظننتُ أنَّه سيغمى عليكَ أنت.
حاول الصمت بصعوبة: اتضح لي العكس؟
قالت و الاغتياظ بادٍ: إذاً ,ما مناسبة هذه المزحة السخيفة التي سقطت من السماء لذهنك؟
كانَ فرحاً لهذا الانتصارِ الجزئي و أجابها بمرحٍ صبياني: تغيير أجواءٍ و حسب.
سمحا لبعضِ الصمت أن يعتري المكان قبل أن يقول: كيفَ حالُ والدتك؟..هل هيَ بخير؟
ارتسمت ابتسامةً خفيفة لفكرةٍ داهمتها: أنت تفكِّر بها إذاً.
راوغ بعينيه: و ماذا بذلك؟.. طبيعي و أنا آكل طهيها يومياً.
أجابته: صحَّتها سيئة نوعاً ما و هاجي يحاول أن يجد عملاً ليساعدني بجمعِ المالِ لعلاجها..
ضيَّق عينيه بجدية: لو لم أكن أعرف رأيك لطرحت اقتراحَ المساعدة و لكن...
لم تترك رسمةَ تلك البسمة و هي تقول: شكراً لاهتمامك سيد شيوكي.
كانَ هناكَ شيءٌ آخر يضايقه أفصح عنه بأسلوبه: و عن هاجي...كيفَ هوَ حاله؟..ماذا يفعل الآن؟
نهضت و فتحت النافذة الكبيرة هناك لتتطاير خصلاتها الذهبية :أخي بخير أيضاً و كما قلت فهو يبحث عن عمل...لكني لا أتمنى أن تجتمعا مرَّةً أخرى.
" لمَ؟"
توجهت نحوه لتواجهه منحية وجهاً لوجه: لأنَّكما تسببان لي الصداع و تجراني للجنون.
ضحكَ ضحكةً خفيفة ليخفي وراءها ارتياحه النفسي: عفواً لكنَّكِ لستِ بعيدةً عن هذه الحالة النفسية.
صرخت ميرنا متصنعةً الغضب: سيد شيوكي.
" هل تحبينه؟!"
صُدِمت بحق حين سمعت هذه الجملة فأجابت: بالطبع ,فهو أخي الأكبر.
"أنا أعرف أنَّه ليسَ كذلك ميرنا.."
اقتربت منه ساخرة: إذاً من يكون..؟
أبدى انزعاجاً: كفي عن التغابي فقد أخبرني عن كلِّ شي.
" من أخبرك بهذا الشيء السخيف ؟!"
" هاجي بنفسه. "
" و هل صدَّقت؟!"
أغمض عينيه للحظة ليجيبها" لقد صرَّح لي بأمرٍ جعلني أصدِّق"
وجهت نظرةَ بلاهةٍ له : أتعلم ما هو تخصص أخي؟..
ضلَّ صامتاً ليصل لما تهدف إليه من سؤالها....
أتمت بنفسِ الأسلوب..: إنَّهُ في كليَّةِ الآداب و بالتخصيص قسم التمثيل و قد ذهب ببعثة أي أنَّه يجيده...لأقول الصدق لقد خدعك فلو أردت آتيك بجوازه لتتأكد...إنه أخي و خليصي و ليسَ لي خالة من الأساس...
أخذت نفسَ ضجر: لا فائدةَ منه..لقد كذب عليك كذبةً أخرى من كذبه ,هوَ يستخدم هذا الأسلوب ِ لاستدراج الآخرين لقول ما يريد سماعه...لا أعلم ما الذي أراد سماعه منك لكن أنت أبله لتصدِّقه.
أخذَ نفساً عميقاً بارتياح لسببٍ مجهول أو بالأصح ما يتجاهله قبل أن يطلق عنان صوته المرتاح: أظن أني أشعر بالغباء الآن أكثر من أيِّ وقتٍ مضى..
سألته بفضول: إذاً ما الذي قاله لك أيضاً؟
تغيرت ملامحه لبرودٍ و شرود: اسأليه بنفسك.
( استدراج!...ما الذي كان يطمح له ذلك الفتى المخادع؟...كنتُ غبياً يفكر بمساعدته تواً..هل يظنُّ أنَّه سيفلت مني؟)
ميرنا باحتجاج طفولي: قل لي..هيا..أنا أريد أن أعلم كيفَ خدع داهيةً مثلك.
أجابها: لا تحاولي استدراجي لقول ما أفصح به فمن المستحيل أن أفتح فمي بذلك الكلامِ الفارغ.
صرخت بطفوليةٍ عشوائية: لا أرضى بهذا..لقد كنتُ أساساً بخدعته التي انطلت عليك بغباء سيد شيوكي.
ضحكَ بخفة قائلاً بخبثٍ مبطن: ألا ترين أنَّ حديثَكِ غير متوازن ؟..تنعتينَ رئيسكِ بالأحمق و الغبي و الأبلهِ أيضاً ثم تضيفين عليها..سيد شيوكي...أنتِ غريبة حقاً ميرنا,إن كنتِ تتحدثين معي كرئيس هذا المركز التجاري فلابدَّ أن تعرفي نتيجة هذه الإهاناتِ الصريحة.
تلعثمت بتوترٍ واضح : أنا آسفةـ..لن أنعتك بهذا مرَّةً أخرى..سامحني على سوءِ أدبي.
استند بظهره مستقيماً على المقعد: لم أقصد هذا ,فأنتِ لا تتحدثين مع رئيسكِ الآن..هل تفعلين؟...أنتِ تتحدثين مع الفتى الذي يبادلك الحديث عن عائلتك و ظروفكِ الشخصية.
أعجبتها الفكرة دونَ وعي لأنَّ هذا سينقذها من الطردِ المباشرِ على الأقل فأجابت بتحريكِ رأسها بسرعة متفاعلة: أجل ..أجل..بالطبع أنا أتحدَّث معَ فتىً في التاسعةَ عشر من عمره فقط..و هو ليسَ الرئيس بل شخصٌ أتبادل معه حديثٌ عن عائلتي..بالتأكيد, هذا كلُّ شيء.
أمسكَ يدها و أجلسها: إذاً لا يجب عليكِ أن تنادي فتىً في التاسعةَ عشرةَ من عمره بالسيد..ألا تظنين أنَّ هذا ليسَ منطقياً؟
أجابته و هي تفكر :أمممم...أظنُّ أنَّك على حق لكن الأمر أنَّـ....
قاطعها: إذاً أنا مديرك.
أحست نفسها في زقاقٍ مسدود فلا خيارَ لها سوى تقول بنفيٍ شديد: لا...
"أنا اسمي ساي فقط فيجب على فتاةٍ تقاربني في العمر أن تناديني بساي..."
انفعلت قليلاً"ماذا؟!..مستحيل"
أشاحت بوجهها في الجهة المقابلة لكنه أعاده ببعضٍ من القوة.." ليسَ مستحيلاً..انطقي بكلمة واحدة...ساي"
احمرَّ وجهها كالجمرة الملتهبة لكنَّها حاولت تلبية طلبه...:سا..س...
انفعلت قائلة لتزيد من يأسه: لا أستطيع..
كانَ في قمَّةِ الأمل حين نطقت بالحرف الأول من اسمه لكنَّها قلبت هذا بانفعالها ذاك فهبَّت رأسه بنوعٍ من الإحباط : هاه...إنَّها ثلاثُ حروفٍ فقط.
أبعدت يديه عنها ببطء: لماذا أنتَ مصر؟..هل هذا الأمر مهم كثيراً؟..هل تودُّ إجباري؟
أجابها بسؤالٍ آخر أخرجها من نوعٍ من الغفلة: و أنتِ لماذا تعاندين؟..هل اسمي صعبٌ لهذه الدرجة؟!
(صعب..لا..ليس كذلك, إذاً لماذا؟حقاً لما لا أستطيع..)
لكنَّها قالت بنوعٍ من الجفاف: لم تجبني.
أجابها بلهجةٍ واثقة: ليسَ هناكَ شيءٌ أهم أفكِّر به في هذه اللحظة.
"لكن أنا حقاً.."
كانَ غاضباً نوعاً ما لتصرفها فهوَ بالنسبةِ له لم يطلب الكثير فهل هيَ مستعدَّة لمعارضته لكي لا تلفظ باسمه فقط...ما هذا, هل هوَ الأسوأ أم ماذا؟!!
كيفَ يستطيع كسرَ هذا الحاجز...وضعَ يده بينَ ثنايا خصلاتها ناضراً لبؤبؤتيها بحدَّة و صرامةٍ واضحة: أقول و تكررين.
نظرت له نظرةَ تساءل لكنَّه أفهما بإصراره أنَّه لن يترك قراره: قلت أقول و تكررين ما تسمعيه...سين...
تلفظت بتوتر و استغراب من أسلوبه: سين...
"...ألف.."
"..ألف.."
"..ياء.."
"..ياء.."
" اسمي متكون من هذه الحروف و يُنطق ..ساي"
احتفظت بالصمت حتى قال لها بصوتٍ مرتفع عن طبيعته: ماذا ينطق..؟؟؟
أجابته بصوتٍ منخفض لا يكاد يسمع يدل على شدَّة حياءها: سا..ي.
رفع صوته أكثر قائلاً: ماذا قلتِ؟..لم أسمعكِ جيِّداً.
قالت بتسلِّط أكبر و صوتٍ أعلى و جوهرٍ أوضح: ساي.
دقَّ قلبه دقةًّ جعلته يحدِّقُ بها بابتسامةٍ عريضة..
لكن ما أثارَ العجب دموعه التي كانت تهبط كالسيلِ بواديها الفسيح: تبكي!
بدأ يمسحها بكلتا يديه: إنَّهُ بكاءُ الفرح ...لم أتصوَّر أني سأشعر بهذا الشعور المبهج لنطقكِ باسمي.
كان لسانها مربوطٌ عن الكلماتِ المناسبة لكنَّ ساي كانَ يتصرَّفُ بغرابة بوضعه إصبعين من يمناهُ فوقَ شفتيها: قولي لي.. هل نطقَ هذا الفم باسمي أنا؟..هل ما سمعته أذني كان صحيحاً؟..أم كان وهماً فقط...ميرنا أسمعتني اسمي.
(لماذا هوَ فرحٌ لهذه الدرجة ؟...لقد كنتُ مجبرة على نطق اسمه !..)
لكنَّه أبعد يده عنها مسترخياً: أهديتني أجمل لحظة في حياتي..أنا ممتنٌ حقاً.
وقفت غاضبة: أهديتك!!..أنتَ من أجبرني على هذا سيد شيو...
تلعثمت و هي تحاول تدارُكَ الأمر: أق..صد سا..ي.
نطقت بها مرَّةً أخرى مما جعلَ ابتسامته أعرض قليلاً براحة و هو ينهض: آسف لإزعاجك.
أدارَ جسده للخارج: لكن لا أظن أنني من أجبرك على التلعثمِ مرَّةً أخرى لقولها...بل أنتِ من أجبر نفسك ...مشكلتكِ أنَّكِ تحبين إرضاءَ الجميع.
رجع برأسه لطرفه الأيمن ليسمح لبؤبؤته بالنظر لها و هيَ واقفة : مرَّةٌ واحدة كفيلةٌ بإسعادي..لا بأس الآن..أنا كنتُ أريد تجربة سماعه منكِ لا غير و كانت تجربةً مذهلة لكني لن أجبركِ على فعلها مرَّةً أخرى, اطمئني.
خرجَ لترمي نفسها على المقعدِ بإنهاك و كأنَّها عملت لشهرٍ متواصل فالضغطُ الذي أحسَّت به تواً لم يكن بسيطاً لكن معَ هذا أحست بأمانٍ في داخلها فكرَّرته بين سرائرها بخفوت: ساي..
لكنَّ الأيام التالية لم تكرِّر هذا الاسم على مسامعه و ميرنا كانت تنتظر ردَّةَ فعله لكنَّه أظهر عدم لا مبالاته التي كانت تزيدها تأنيباً للضمير فكلَّما نظر لها أو حدَّثها كان يبدوا عليه الشوق لذلكَ الوقت....
......بعد عدةِ أيام......
كانَ ذلكَ الشاب مضطجعاً على فراشه العريض واضعاً يده فوق عينيه التي غطتها بعضُ الخصلاتِ البنية المتناثرة و الذي كانَ مبعثراً بعدمِ ترتيبٍ على وسادته....
كانَ منشغلاً بالتفكيرِ بعمق.....
بالحوادث التي يحاول حلَّها....
بالفتاةِ التي بدأت تأخذ أفكاره جلَّها....
أجل..تلك الفتاة التي ما إن توجه نظرةً بسيطةً إليه و كأنَّها تعيده للحياة و تشرحُ صدره .....
الفتاة التي سرقت مشاعره الغريبة و المجهولة تجاهها...و سيطرت عليه بنطق تلك الحروف...
كانت هيَ السعادةِ التي ينشدها....لكن السعادة الواهمة لم يكن لها لتدوم...و الذي أعلن عن زيفِ هذا الوهم هوَ صوت الباب المطروق....
تقلَّب يمنةً و قال بصوتٍ مبحوح و انزعاج: ماذا؟ أليسَ اليوم عطلة؟
أجابه صوت فتاةٍ شابة خلف الباب بأسلوبِ احترام شديد: أجل سيدي..لكنَّ السيِّد شيوكي قد أتى للمنزلِ اليوم.
نهضَ ببرود و غوغاءٌ قد ظهرت في داخله فهوَ يعلم أنَّ سبب مجيء والده ليس سوى موضوعٍ عقيم... جهَّزَ نفسه ليمتثل أمام والده بكلِّ احترام: مرحباً أبي.
كانت ملامحُ والده الجميلةٌ مغطاةٌ بالحدة على غيرِ العادة و هذا ما جعله متيقناً أنَّ عليه الصبر و تهيئة نفسه ليجيب والده بعذرٍ موجه...
لم يجب السيد شيوكي التحية بل أشار لكرسيٍ يقابله: اجلس ساي.
احتسى شيئاً من قهوته بحركةٍ رزينة تظهر ثراءه و كبر
ازدادت حدَّةُ لكنته: أ لهذا اتصل بي والدها؟
حاول ساي التوضيح: كلُّ ما في الأمر أنَّها بدأت تغار من مساعدتي في المركز.
لم يكن والده سيئاً في التعامل لكن للأسف لم يكن يحاول تفهم ابنه بل كانَ يقنعه بأخطائه فقط ...
نهضَ السيد شيوكي من مكانه ليجلس بجانب ابنه: أخبرني ما الأمر.
قال الأساسيات بشفافية و وضوح و أتم بعدها:..أنتَ تعلم ما هو رأيي بها أبي ,لما يجب علَّي أن أتحملها طيلةَ حياتي؟!
وضعَ السيد شيوكي يده على كتف ساي برفق قائلاً: مازلتَ لا تعي حقيقةَ الأمورِ ساي, ما تتحدث عنه ليست سوى ذرائع طفولية تلقنها نفسك....فلا حبَّ حقيقي و لا حياةَ لعائلتنا دونَ الحفاظ على موقع العائلةِ الاجتماعي...أتفهم؟ إنَّ فيونيكا فرصةُ عمرٍ لا بديلَ لها و لو كنتُ مكانك لما سنحتُ لأفكارٍ كهذه أن تحول بيني و بين السعادةِ التي تنتظرني.
كما توقع, نقاشُ ينتهي بما بدأ أو بالأصح لا بداية له و لا نهاية........