شمس الظهيرة الحارقة أشعت بلهيبها على طرقات قطاع
[ميراجال] المدينة المعروفة بصناعاتها الحديدية بدءاً من السكك والمعامل ضخمة إلى المشاريع الصغيرة والبسيطة.
وقد اشتهرت
[ميراجال] أيضاً بعمرانها العالية وعماراتها المكتظة بالبشر وغير البشر فغمرت الألوان القاتمة شوارعها الطويلة الضيقة واتخذت منها حلة شملت كافة تدرجات الأبيض الناصع وحتى الأسود الحالك.
سُكانها ذوي ملامح متهكمة ولا أحد يخطئ بإلقاء ابتسامة عليك
حتى الأطفال الصغار ممن يتقاذفون الطابة فيما بينهم أمام نافذة المطعم -الذي اهتدت اليه خطواتهم بينما يستجوبون بعض الناس- لم يعبؤا بها وهي تهديهم ذاك التعبير السخيف
سحبت تاما نفسها بعد أن فاض كأسها وطلبت ثلاثة صحون من التشاهان ومعكرونة لجوين الشارد بدراسة بعض المعلومات بالدفتر وما استنتجه من أقوال السكان ممن استوقفوهم خلسة
فهناك من أشار لهذا المطعم الصغير وفر بسبب الأحاديث حوله ومنهم من استهزأ بمهمتهما وقال بأن المشبوهين لا يظهرون بكثرة بأوقات الصباح، أي أنهما كما الحمقاوان وسيكون بحثهم أشبه بعديم أهمية على الإطلاق.
عاد النادل بعد فترة وسلمهما الطلب لتهرع لصحنها أشبه بأنها لم تأكل منذ قرون خلت مُتجاهلة تواجدها بين حشدٍ من الرجال
جوين وبعكسها وبرقة واتزان مفرطين سحب الهاشي من على المسند الخاص به وتمتم بضع كلمات مطبقاً كفيه قبل شروعه بالأكل كشكر على الطعام
المطعم مليء برجال مفتولي العضلات وكل منهم متهم في هذه القضية بنظر مساعدها!؟
بعضهم يلعب الورق جانباً وبعضهم يرمي النكت الفارغة ويقهقه بصوت خفيض وعدة أمور لم تحبها تاما كإنتشار رائحة السجائر الخانقة بالجو
بعد فترة وجيزة سمعت جلبة خلفها فتوقفت عن الأكل بداعي الاكتفاء واسندت يدها على حافة الطاولة الخشبية
أرجعت ظهرها لتلامس وجه الكرسي بعدها وأخذت أطراف أصابعها تتلمس جزء الرداء العلوي الذي يخفي ملامحها المتأهبة لأية أمر قد ينهي مهمتهم سريعاً
وكما الهدية المغبطة لصاحبها أتت هذه الهدية على رجليها وبوقتها
سمعت أحدهما بصوته الثخين الغليظ وكان يحشر أفخاذ الدجاج المقرمشة بفمه مصدراً لصوت المضغ المسبب للإضطراب والزعزعة بذاتها
تحولت تقاسيم وجه تاما من المهتمة للمتقززة ولكنه سحبها لدى قوله:
"سنقوم بتوزيع الرقم صفر صفر ثلاثة وخمسون وبعد انتهاءنا سنعود للتفاهم مع الرجل!"
تساءلت عما يهم بحديثهما بقدر أهمية تلك الأرقام
"لكن الطلب الكامل لم يجهز لغزو السوق!، أم أنك تخمن بخطة لإخراجك من حرب المنافسة الطاحنة... اللعنة يا رجل، لن نضع أقدامنا بالسوق دون منافسة حامية والجميع سيهرع للأخذ منا وقد نتورط بالديون حينها ولن نجد طريقة سريعة للتسديد."
قالها صاحب الصوت الأنثوي الرقيق وهو ينزل نظارته الدائرية ويعيد رفعها بطريقة تلقائية
في حين رجعت هي للأكل وكأن شيئاً لم يقم بشدها مطلقاً
هما ليسا حتى مُثيرين للشبهة أكثر من البقية، فقط عدة من الأمور المتعود عليها كالبيع والربح والمنافسة الطاحنة التي تنشب عادةً بالأسواق!!
انبلجت عيني مساعدها وتلفت ببصره سريعاً ناحية أحد الطاولات المجاورة إليهم ولكون أن هذا المطعم صغير فهو لم يجد مشكلاً بتحديد الصوت رغم الجلبة
ألقى جوين بصره عليها وأرخى أصابعه من شد رداءه حول صدره
مال بجذعه ناحيتها وهمس بصوت خفيض:
"لقد وجدت طرف الخيط!؟"
تنبهت إليه وألقت بسمعها للطاولة المجاورة وقالت مبتعدة
مخافة أن تلتصق بهم التهمة:
"أرجو ألا يكون مقطوعاً!؟"
صاحت بعدها مدعية الغضب وجالبة للأنظار:
" ثلاثون ألف زاما!" "اتفقنا على تقاسمها سيدتي... لقد أسهمت في أرباحك أنا أيضاً؟!" "ثلاثة أرباع الأتعاب أنا من تحملها فماذا عنك!" "سيدتـ..."
جاراها جوين بالكذبة فلاحت بشفتيها ابتسامة جانبية وعادت للتلفت للشابين اللذين كانت أعينهما كما من بالمطعم كافة تحدق بهما
بزقت على شمالها وقالت بلهجة عابثة تتصنع التحذلق:
"ما الأمر أيها الرجال!!؟، ما بالكم ترمقونني وكأنني التهمت عجلكم الذي انتظرتموه منذ الأمس لينضج!"
مثلت الوقوف والترنح وكأنها ثملة بذات النظرة فكانت تتقدم منهما تنوي احكام قبضتها على رأس ذاك الشاب أشعث الشعر والفتى الأصلع رفقته لكن يد جوين أمسكت بها وهدأها هاتفاً:
"أوه، سيدتي... لم تأكلي دواءك حتى اليوم"
نظر إليهم متأسفاً:
"أعتذر ولكنها تمر بنوبات غضب مؤخراً!؟"
وقال مُعبراً لكليهما:
"بسبب النقود التي معها... انها بخيلة"
بدا وكأنهما ابتلعا الطُعم فنهض كليهما مفزوعين ودلائل الفزع سكنتهما وفرا لدى انتباه ذا الصوت الأنثوي والبدين لهما وللممثلين الآخرين
بينما عادت تاماياشي مبتسمة ولمعت عيناها حيوية وتهيأً لمغامرة أخرىَ، وعاد الجميع ليهتم بما حوله
فألقى بعضهم العبارات المغتاظة والحانقة وربما حتى بعض الألفاظ النائية التي تجاهلاها مدعين انشغالهما بالتحدث عن أعمالهما
وبعد فترة من الجلوس والتخطيط الهادئ وقفت مع جوين الذي فهم الأمر بكافته ووضعت الحساب على حافة الطاولة مع بضع بقاشيش وخرج كليهما.
‘
*#
اعتمدا المشي بزقاق طويل وضيق بين عمارتين كبيرتين ليبدو المكان سهلاً لسرقتهما
هناك صناديق مصطفة بغير انتظام ورائحة المجارير تصبغ المكان
والجرذان تتقافز بين ساقيهما
فجأةً توقفا فقد سد ذاك الأصلع صاحب العينين الجاحظتين الطريق أمامهما مشيراً بالسيف الذي بيده علىَ تاماياشي
ولكن كلماته لم تكن بمكانها ولا حتى بالوقت المحدد بشكل غير متوقعألقى السيف وجثى قابضاً لكفيه ومرتجيا منها
"إن كنت تملكين ثلاثمئة زاما سيدتي، فقط اقرضيني الربع الذي ستقومين بتسليمه لمساعدك"
كردة فعل معتادة كان جوين يضع يده على نصله لإخراجه متحفزاً في حال أية هجوم ولكنه سحبها وعاد لشبكها ثابت الملامح منتظراً للخطوة القادمة
"ولمَ أفعل هذا؟، أنا سيدة طماعة وكل بنز من الزامات التي لدي أحسب حسابه وحساب اخراجه!"
أجاب هو ودموعه المتأثرة بضخامة موقفه الذي وقع به تنهمر على وجنتيه الممتلئتين بإفتراء مدروس:
"أرجوكِ، سأعمل لديك لما تبقى من حياتي البائسة أنا أتوسلك!!؟" "إن أعدته أضعافاً، فحينها سأقبـ..."
قبل أن تنهي كلماتها سحبت مسدسها ووجهته للأعلى بسرعة وعيناها ترمقان الظل المتحرك الماكث تحت سلالم العمارة قبالتها
في حين تلفت جوين كالبرق ووضع سيفه على نحر الأصلع المُدعي هو كذلك مانعاً له من أية حركةٍ أخرىَ
"خطة هشة!"
نطق جوين فقفز أشعث الشعر ذو العينين الحمراوين وبيده فأسه متوسطة الحجم أمام تاماياشي ينوي قتالها
مغتراً بدا وحسب أنه سيلتقطها كالفئران التي تعبث بالمكان
"الحمقى مجدداً... ألا تكف المنظمة الرمادية عن ملاحقتنا!" "حتى ننتهي منكم!؟"
قالتها تاما فألقى الفتى الفأس ناحية كتفها وراوغته بإمالة جذعها بمرونة دون جهد، لمرة واثنتين وثلاثة كانت تتجاوزه بحذر
اكتفت وها هو دورها لتنتعش بقتال جديد
عاد الفأس العجيب بقوة خفية ليد الشاب كأن به مغنطيس يسحبه ولمرة أخرى بسرعة خارقة ألقاه وكان يعود لقبضته وهي تتجاوزه بمهارة
"ما هذا!"
يتراجع مندهشاً من استمرار مجابهتها له ولتقدمها منه
أحست بطول المناورة ونفاذ صبرها معه فرفعت مسدسها وسددت على يُمناه طلقة واحدة فإقتحمت رصاصتها الجدار من وراءه
"أيها الوغد!!، ترتدي قفازاً ممغنطاً... أتمزح معي!؟"
سقط الفأس من يده بعد تشوش ذبذبات الجذب على الفأس بسبب الطلقة التي لم تصب يده تماماً
ليتهاوى هو الآخر ويظل دون دفاعات
قفزت تاما عليه وشدته من ياقة قميصه ودكت به كامل غضبها
والآخر يرتعد من حالتها ومما وقع به زميله
"أمامك ثلاث ثوان للاعتراف وإلا سأقوم بحلق شعرك هذا... أو ربما شيء أكثر اثارة!؟"
التهمته بتأملها وأبانت على جانبها الأسود
"ما رأيك بمليء جسدك الممشوق بالجروح ووضع القليل من الملح عليك!!؟... ذلك احساس يبعث اللذة ما رأيك!"
تحدث جوين مخافة أن تزيد هذه المرأة المتوحشة أكثر من كلماتها المرعبة للفتى فيسقط صريعاً كما حصل مع البعض ممن سبقوه
"لقد علمنا مسبقاً بشبكة التزوير المتواجدة بالقطاع!، وبأن المسؤول عنها كيداوا جايمي، رسام اختفى من قطاع تلزيني... ناهيك عن غباءكما وتحدثكما بشأن آلة (تي-كا عشرون) التي قمتما بإفسادها والمختصة بتسميك الأوراق ومن بين استعمالاتها التزوير وتخطيطكما للفرار بعد ذلك!؟"
بُهت كليهما ولم يجدا إلا الاعتراف وسيلة
فلا مفر وقد قُبض عليهما بالجرم المشهود
زفر بملل:
"تم تكوين الشبكة من ثلاثون عضواً، خمسة رؤساء ومن بينهم كيداوا وهو المسؤول نسبياً عن القطاع أما الباقين فمجهولون بالنسبة لنا!"
سألته:
"رؤساءكم، ماذا سيفعلون بعد هذا؟" "سيقومون بدفع الطلبية، صفر صفر ثلاثة وـ... اليوم" "ثلاثة وخمسون!؟"
قاطعته بعيون منبلجة واستنتجت بتتبع ما جرى بأن البدين الذي جلس خلفها بالمطعم هو وصاحب الصوت الأنثوي تابعين للشبكة وهاذين الأبلهين كانا يتبعانهما كتظليل وربما مراقبة أيضاً بسبب افسادهما للآلة
(تي- كا عشرون)
بسرعة سحبت الأصفاد من حافظة أسلحتها ووضعت احداها بيد الأول وجرته لأقرب عمود ووصلت الطرف الآخر به في حين قام جوين بنفس الأمر وتركهما منفصلين عن بعضهما وعلامات الهزيمة تجلت على تقاسيمهما
رفعت تاما ساعدها حيث التف سوار حديدي دقيق حول رسغها كان جهاز إرسال الكتروني مصغر يومض بضوء أخضر خافت
ضغطت على جانبيه فإنبثقت أمامها بالهواء واجهة مربعة الشكل
رفعت اصبعها ومسحتها بخفة تُحرك عدة رموز غريبة عليها وما هي إلا دقائق من الإنتظار حتى امتلئ المكان بعدة أفراد من قوات الدعم الخاصة بالقطاع ممن يعتمرون ثياباً بيضاء وخوذات خضراء موسومة بشعار القطاع
وأسرعت عائدة للمطعم مع جوين بعد أن خلعا الرداءين فلم يعد هناك أي لُبس يجعلهما مقيدين بها.
‘
*#
x رجاءاً، عدم الرد!