قبل الحادثة بساعتين.
لوّح لهُ الوقتُ مُحييًا أداءه، كيفَ وفَق بين الخُبثِ وجيرانِه؟ قدْ حاكَ هذه الملحمة منذُ سنواتْ وكمْ تاقَ شوقًا لكتابةِ نهايتها. الآن لم تبقَى إلا مائةٌ وعشرون دقيقَة حتَى الغسَق وحالمَا يأتي الصبَاح سيكُونُ كل شيءٍ يبابًا منسيًا. قدُمت زوجته، محتضنةً إياهُ بشجُونٍ ناضَل ليبقى رفيقًا للظلام، احتضنها وانتظر السؤالَ الذي تلهّف لسماعِه قرونًا: كيف سيكون صباح الغد؟ الراحةُ التي اكتسحت قلبه لن ولم يعوضها شيءٌ على وجهِ الخليقة، اجاب بعد لحظةِ تمعن: صباحٌ كهسِيسِ الباسِيليكْ، مبعْثرٌ على وسوسَاتِ الشياطِين، مُحْتَضنٌ بذِراعيّ البوفارْدِيا، تبكِيهِ الباسِنْت. إنّه صباحُ الفِراق، صباحُ الوداعْ. الصباحُ المنتظر الذي شاء القدرُ أن يخطهُ بيديهِ ظانًا أنهُ قد ملكَ مآل الأوضاعِ بين أصابعِ كفيه. تأملت فِي هيون وجه زوجها الهادئ، الذي صامَ عن الآثامِ حتى يأتي يومُ إثمهِ الأكبر، أحاطت وجههُ بكفيها وباغتتهُ بسؤالٍ ما تكهنّه: ماذا عن الصغيرة؟ هل ستكُون بخير؟
خارتْ قوى عينيهِ وفرغتَا مِما يمكنُ قراءته، اغمضهمَا برفقٍ ثم أجابَ بلا تردد: لم تخلقُ النار التي تتجرأ على المساسِ بجلدِ ولحمِ آل فيرميليون، لا تشغلي بالكِ بما سيؤول إليهِ حالها. الخوفُ الذي توطنَ أخاديد صدرها قدْ تضَاءل بعضَ الشيء؛ فتبسمت لذلك براحةٍ غيرِ مألوفَة. ابتعدَ عنها ووقفَ عند البابِ التركوازي لمكتبه، حمَل الشعلة الآثمَة بيدهَ وحدثهَا دون أن يلتفتَ إليهَا: كُوني بخير، لا تدعي ألسنة اللهيبِ تلدغُك، إن ألم حرقها سيلازمُ صدري حزنًا لو حدث. اتاهُ صوتها فعرف انها تبتسمُ كعادتها: لا تقلق، النيران تحبني. ابتسامتها الشقيَة كانت الإجابة التي انتظرها، صدرتْ ضحكةٌ خفيفة منه وسار خارجًا ليعدَ نفسهُ لمأتمٍ عظيم.
الوقتُ الحالِي.
إنها تنصهر،الأجسَادُ التِي تتراكَضُ أثناءَ تفَحُمِهَا صارِخةً مِن ألمِ الإحتراقِ، يتراكضُونَ هائمِينَ بِلا رُشدٍ ينتظرونَ نجدةً تعفِيهم من الوجعِ وقدرِ موتِهِم المفَاجِئ. يتساقطُون فردًا تلوَ الآخَر مُتفحِمين، ليكُونوا وقُودَ النيرانِ التِي أكلتهمْ بجبرُوتِهَا. يبدُو كُل شيءٍ بطِيئًا لهَا ريثمَا تنظرُ الهارِبينَ من الحياةِ، من وُأِدتْ حياتُهمُ غدرًا قبيَلَ أوانِهَا. أطفالٌ تفحَمُوا حتَى صاروا رمادًا وأخروَن يبكُونَ بحثًا عن لحظةٍ من السَلام، سكَنُ عائِلةُ فانغ يحترِق، يختفِي، يتلاشَى ببطءٍ مع إحمرارِ النيرانِ الحَارِقَة، بقيتْ مكانهَا فاغرةً الفاهَ الذي لم يرأى مجزرةً قبلا، بقلبٍ أشبَهَ بالورقِ الممزّقْ، لم تستطِع تحريكَ قدمِيهَا ولا وجُودَ لماءٍ يُسعِفُ حالهُم حتى وإن تحرَّكتْ. الصمتُ سَاد على حينِ غرَة وكأنما كُل عائِلةِ فانغ.. قد مُحيت! تستطِيعُ رؤيةَ الأجسادِ عديمةِ الهويةِ مُتراميةً فِي كُلِ مكَان، وبعضهُم لم تستطِع تركِيبَهم ليكُونوا أجسادًا مُجددًا. تحرَّكت.. ركضتْ.. هرعت إلى أيِ مكانٍ تختفِي فِيه آثارُ الموتْ، إلى أيِ ملجأٍ قد يُوجَد. لما؟ لما حصل كُل هذا؟
توقَّفتْ على منظرٍ مُهِيبٍ آخَر، حِينَ أُنتُشِل السيفُ الغَادِرُ من صدرِ أحدِ أعضاءِ العَائِلَة، ليقعَ أسفلَ قدَمي قاتِله ويلطِخ حذاءهُ بدماءِه القرمزيَة، أخذتْ تنظرُ للِي رينْ مدهُوشةً بلا تصدِيق! كان هو! هو من قتلهمْ أجمعِين! لكِن .. لماذا؟ صرختْ بهِ مُنكرةً ما تراه: لما لي رين؟ لما فعلت هذا؟. إلتفتَ إليهَا وباتَ ينظرُ إليهَا ساكِنًا مكانَه، بوجِههِ المُلطَخِ بالدمَاء ويدهُ التِي حصدتْ أرواحًا لا تستردُ إلى هذا العالم! سَار نحوهَا ببطء، تراجَعَتْ إلى الوراءِ مُحاولةً الفِرار إلا أنّه تعداهَا دُون أن ينبسَ بكلمة أو يفعلَ فعلةً ما. التفتتْ لتصرُخَ بهِ مُجددًا فإذا بهِ قد تلاشَى في النيرانِ ولم يعدْ لهُ مِن أثرٍ لتجِدَه، إلا أنها سمِعتْ صوتهُ يرددُ عبارةً واحِدةً عبر النيران: سأترككِ للأيام من بعدي.
انتشرتِ النيران وأكلتْ كُل ما هو موجودٌ تقريبًا، البوابةٌ الخاصَة بمسْكَنِ عائِلةِ فانغ مدمرةَ ولا أمل لها فِي أن تجدَ مخرجًا آخَر. فزعت! ستحرقهَا النيرانُ كما حرقتِ الجمِيع! كلا.. لا تريدُ الموت حرقًا! إلا أن دعواتِهَا لم تجَب، وصلتْهَا النيران.. وغابتِ الدنيَا عن وعِيهَا.
قارةُ كاميلوت – الثانيةُ صباحًا.
استقيظتْ كميتٍ تمّ احياؤهُ مِن قبرِه ليومِ الحِسَاب، تصرخُ بأعلَى ما يُمكِنُهَا، جِلدُهَا يحترِقُ حرقًا مُختلِطًا مع ألمٍ مِن نوعٍ آخر، كألمِ سكراتِ الموتْ، كاحتِضَارٍ بطِيء، كمراحِل خُروجُ الرُوح.. كنفوقٍ تامْ! دخَل سيفِيروس بسُرعَة، انتشلهَا مِنَ الفراِش وأدخلَهَا إلى دورةِ الميَاهِ حيثُ ألقاهَا بسرعةٍ في حوضِ الإستحمامْ، فتح المياهَ البارِدَة فانسابَتْ عليهَا مُخففةً حرارةَ النيرانِ الخفية التي حرقتْ جِلدَهَا. باتَ يربتُ على رأسهَا مُنتظرًا أن تتوقفَ عن الإرتجَاف وتعُودَ مِن عالمِ الرُؤيا إلى الواقِع، دخل غيلبرت مفزوعًا إليهمَا، فحالمَا سمَع صرخات أختهِ حتَى استيقظتُ كُل مخاوفِهِ معه، أخذَ يلهثُ إثرَ ركضهِ من الجانبِ الآخرِ للقصرِ إلى حيثُ غرفةِ فايوليت، حالمَا رآهَا حتَى ألقى بنفسهِ عليها محتضنًا إياهَا دون أن ينتبه لبرودةِ المياهِ التي بللتهُ تمامًا. خففَ عنهَا بصوتهِ الحنُون: لا تقلقِي يا صغيرة، نحنُ هنَا، إهدأِي، إهدأي..
أبعدهُ سيفيروس عنه وقال بهدوء: اتركهَا للحظاتٍ حتَى تتنفَس. انصَاعَ الفتَى لأوامرِ أخيهِ الأكبَر وجلسَ بجوارِهِ على الأرضِ حتَى هدأت فايوليتْ وعَادَتْ إلى الواقِع. باتتُ ترمقُ جِلدهَا بفزَع، حروقٌ حمراءُ وأخرَى قاربتْ على إذابتِه، أرادتِ البكاءَ إلا أنها تماسَكَتْ ونظرتْ إليهِمَا بأقوَى ما يمكِنُهَا، أرادَ غيلبرت الحديث إلا أنها استوقفتهُ بسرعةٍ قائِلة: عائِلةُ فانغ.. قد مُحيت! اتسعتْ عينَا الأولِ بغيرِ تصديق فيمَا بقيّ سيفيروس هادئًا ينتظرُ بقيةَ الحديث، أكملتْ برجفةٍ بسيطة: فانغ لي رين نفذ وعده، أبَاد عائلتهُ كلهَا..
ضاقتْ عينا سيفيروس بوحشيّة فيمَا وقفَ غيلبرتْ بقلقٍ عمِيقٍ لم يحاوِل اخفاءه، أصدرَ ما كانَ يتوقعهُ الإثنانُ كعلةٍ للموضوع: إذن.. قد عثرَ على دليلٍ يقودهُ إلى باسيليوس. وقفَ سيفيروس فزرعَ الرُعبَ في نفسيهِمَا لبرودِ نظراتِه، بعد لحيظَاتٍ أعقبَ على كلامِ شقيقهِ بنبرةٍ بارِدَة: بل أسوأ، لقد عثرَ على شيءٍ أقوَى من مجردِ دليل.. لابدّ وأنّهُ قد وقعَ على ما سيغيرُ توازُنَ الحَال.
حمَل فايوليتْ بين يدِيه معانقًا إياهَا، أخفَى قسماتِ وجههِ بشعرهِ الطوِيل وهمسَ برجفةٍ بسيطِةٍ في أذنِهَا: لقد أفزعتِيني يا صغِيرة.. اعتقدتُ أن خسارَتَكِ التِي أخشاهَا قد آن أوانُهَا.. لا تجعلِيني أفقدكِ.. أبدًا..
ليسَ مِن عادةِ سيفيروس أن يقُول كلامًا كهذَا، عانقتهُ بقوةٍ تعبرُ عن سعادتِهَا، طمأنتهُ بجملةٍ واحِدة: ما دُمتَ هُنا فأنَا لن أذهَب لأيِّ مكَان. قفزَ غيلبرتْ عليهِمَا مُنكرًا تجاهُلَ وجُودِه: هذا غيرُ عادِل! عانقانِي أيضًا!
فِي أعماقِ وعيِ شيفا. ( عُد إليّ، إلى الحُلم الذي آوانا قبلًا. عُد إلى الوقتِ الذي فنَى، إلى العقل الذي ابْتُلى. تشعّب، تمزّق ثم تكوّن على بقايَا البالوعَات، على رفاتِي، على أطلالِي. إلى الوحلِ عُد ومِن الطين أعِد عجنِي وخَلقِي مُجددًا، إلى البشرية إبعثنِي حيًا. إنّي أقدِسُك، إنّي أُكَونُك فِي قلبِي، حيًّا أتخيّرُك. كمَا تتملّكني ذنُوبي أتملّكُ حضُورَك. إنّك تعُود، ببطءٍ أنتَ تطوفُ حولِي. شبحٌ مِن الماضِي، حاضِري ومُستقْبلِي.. إنّك تعُود.. تعُودُ إليّ.
) ( قد شهِدتُ إعتلالَ رُوحِك، كنتُ شاهِدًا على إعتِقالِ مُستقبلِك. لم يكُن طريقُكَ مُمهدًا كما كنتُ اعتقِد. أنت كُنتَ الضياعْ، كُنتَ الرياءْ، كُنت الصراخَ والاستِسْلام. وأنا كُنتُ السِجنَ الذي ارهقَك، كنتُ الوقتَ الذي اهلكَكْ، كنتُ موتَك وحياتَك، أنا مولِّدٌ لكُل هلوساتِك، بؤرةُ إضمحْلالِك واساسُ بكَائِك.
)
صُوتهَا السلسُ الذي تسمعهُ لأولِ مرةٍ مُخترقًا الطبقاتِ التسعَ للظلامْ قد لامسَ جزءًا منسيًا فِي قلبِهَا، أثَار حواسهَا وأرهقَ مشاعِرهَا. الصوتُ الحنُونُ القوِي، صوتُ امرأةٍ ذات سلطانٍ عظِيم، تحدثُ شخصًا لم تعرفهُ شيفَا، فالمكانُ يحتويهِ الظلامُ مرافِقًا قيودَ الأزليةِ التي تعتصرُ جسدهَا دونَ مقاومَة، أتاهَا عبرَ الظلامِ صوتُ رجلٍ لم تسمعهُ قبلًا: من وادي الخلود، من غياهب النسيان، من النوم الذي بلا نهاية، أنَا أعيشُ على فُتاتِ أنفاسِك، على سُكْرِ نواياك، على الآثامِ التي تُثقِلُ كاهِلَك، دعِيني اعانقك، دعيني أتملصُ من هذهِ العزْلَة، اقرأِي عليَّ آياتًا من الرحمَة.. تعاليّ إليّ!
صمتَ الصوتُ للحظاتٍ حتَى سألَ بنبرتِهِ الأخاذَة: فِي صدري قلقٌ يُعرِيني مِن الراحَة، ماذا عنك؟
لسانُهَا لا يتكَلمْ، لا يملكُ صوتًا ليرُدَّ على كُلِ ما تسمعهُ في عقلِهَا، أتاهَا صوتُ الرجُلِ وقدْ باتَ أقرَبَ إليهَا: من تكُونِين؟ وكيفَ تسجُنِيني في سجنٍ آخَر.. سجنٌ مظلمٌ كسجْنِي، دونَ أصفادٍ تقيدُ معصَميّ، ما تكُونين؟
تريدُ أن تتحدث! تريدُ أن تردّ وتُجاهِرَ بكُل الذي ملأ صدرهَا بصرخاتٍ لا تخرُج، لم تستطِعِ الحديث وقد شعرت – مجازيًا – بإنّ حضُور الرجلُ باتَ بعيدًا، حاولتْ مِن خلالِ الظلامِ أن تنادِيهِ دُون جدوَى فإذا بصوتهِ البعيد يغردُ بكلماتٍ لم تفقهَا: الطَائرُ الأعمَى سينقرُ عينيكِ، محررًا غربانًا سوداءَ لا يراهَا إلا أنتِ.. وستعُودُ هذهِ الغربان لتأكل جسدكْ، فأنتِ دنياهَا وآخرتها.
تلاشَى صوتهُ كوترٍ مُنقطعْ، فتحتْ عينيهَا على الدنيا بفزعِ رؤيةِ الموتْ، السماءُ تمطرُ بغزارةٍ أطفأتْ الحريقَ الذي أبادَ كُل ما كان يسمَى حيًا، جلستْ وكُل كيانِهَا يرتَجِفُ رعبًا من هولِ ما حدثَ خارِجًا وداخِلًا، تشعرُ بالبردِ الشديد، هذا الزمهريرُ يكادُ يفتِكُ بكُلِ خليةٍ تعيشُ فِي جوفِهَا. نظرتْ إلى نفسِهَا، إلى الجسدِ الذي ما احترق ولا تأذَى، زاد هلعُهَا ووقفتْ تتخبطُ بحركاتٍ دائرية باحثةً عن حرقٍ واحِد.. جُرحٌ واحِد، لكِن لا شيءَ على هذا الجسدِ قد كَان. ألقتْ بنفسهَا على الأرضِ فتساءلتْ بارتجافٍ لم تستطِع التحكُمَ فِيه: لِمَا لم تحرقنِي النيران؟