لطالما قُلتُ أن صديقي القديم هذا يُعقّد الأمور و حسب! لا شيء في حياته كان بسيطًا, كان لابد أن يخوض دورة مُتكرّرة تزداد كل يوم التفافًا و تظهر أمامه مُنعرجاتٌ مُلتوية تُصعّب عليه قراراته. لكنّه يقول أنه يريد أن يعود لنُقطة البداية و ينطلق باستقامة بعيدًا كن كل تلك التعقيدات!
فهل أُساعدهُ باسم صداقتنا أم أضع عملي كأولويّة لا مُنازع لها؟!!
بدّل ثيابه المُعتادة بسروال رياضي قصير و سُترة رياضية تُناسبه اسفلها كان يرتدي قميص بِلا أكمام أسود اللون فكّر كيف سينظر اليه الاخرون عندما ينزع السترة مُظهرًا ذراعه المفتول و كتفيه المتناسقين , " مارتن عازف القيتار الرئيسي في فرقة "دي آي DA" يُحافظ على رشاقته "
انتعل مارتن الحذاء الرياضي الثخين بألوانه الفاقعة المُظلّلة بالأسود , تفقد شعره و بعثره كما يجب ثم خرج و حقيبة رياضية تتعلّق على كتفه.
جيمي الذي استيقظ لتوّه فتح باب غرفته و خطا خلال الردهة بقدميه الحافيتين, من الهدوء المُسيطر على الجناح ظن انه الوحيد المتواجد فيه و ان كلا من رفيقيه الاخرين قد خرجا بينما يستغرق هو في النوم و قد حلّ العصر الى ان عبرت آنا من خلفه بسرعة و ودعته بصوت عالٍ ثم اقفلت الباب وراءها.
لم يكترث...كان يشعر برأسه ثقيلًا و آلمته عيناه حين أغمضهما ضاغطا جانبي أنفه بسبابته و إبهامه, سهر البارحة حتى وقت مُتأخر و هو يُرتّب الأمور التي تخص الفرقة, الأرباح و الخسائر من جولتهم العالمية - الأولى بالنسبة لهم-, ثم اللّقاءات التي وافق على خوضها و تلك التي رفضها, مُختلف عروض العمل و الاعلانات..انتهى كل ذلك بشكل جيد عدا هذا الصُّداع الذي يكاد يُفقده رباطة جأشه حين ألقى كبسولة القهوة في المُحضّرة و ضغط الزر بنوع من الحدة بينما يُطبق كفه على جبينه مُغمض العينين.
انتظر ان تجهز قهوته السوداء المُركّزة عندما رنّ هاتفه الذي كان في يده الأخرى, لن يحتاج لرؤية الاسم فتلك النغمة الموسيقية الهادئة تخص شخصًا واحدًا فقط, كان قد خصص لكل مُتصليه نغمة مُعينة عندما علم مارتن ذلك اتصل به و هو بالقرب منه فقط حتى يعرف ما النغمة التي وضعها له و اذ بها الموسيقى النهائية للعبة قتال تتكرر فيها عبارة game over بصوت روبوت يُحتضر!
خصص لآنا معزوفة صاخبة بآلات الطبل و يومها هزّت رأسها بامتنان لجيمي و بخشوع لتلك الأنغام التي تأسرُها!
أما هذا اللحن فكلاسيكي, ليست الأذن فقط من تسمع النوتات و هي تمتزج ببعضها بطريقة مثالية انما العقل ايضا يتخيل تلك الأصابع و هي تُداعب مفاتيح البيانو البيضاء لتصنع ما يُعرف بـ " معزوفة العذراء ".
سرح بتفكيره في نقطة ما غير بعيدة في ماضيه و أتاه نوع من الالهام استيقظ منه عندما انتهى الاتصال و انقطعت الموسيقى, سرعان ما عادت و فتح الخط مُباشرة
حيّته بصوتها الطفولي الناعم: ــ مساء الخير حضرة القائد!
اكتفى برد التحية بينما يُرجع شعره الأحمر الى الخلف: ــ مساء الخير.
وضع الكوب الأبيض أسفل مُحضّرة القهوة و سأل: ــ ماذا عنكِ؟
ــ سار كل شيء على ما يُرام, لا كوابيس و هذا غير مُتوّقع..
ــ أكيد... لابد أنك استيقظت للتو
تكهّنت ذلك من صوت مُحضرة القهوة, فأجاب بعدما ابتلع ما ارتشفه من كأسه و هو يشعر أخيرًا بأن ثِقل رأسه يخِّف:
ــ نعم, عملتُ حتى وقتٍ مُتأخر
ــ لا يجب أن تُتعب نفسك يُفترض أننا في عطلة!
ــ حتى في العُطل يجب أن يتواجد من يعتني بالأطفال..
بان تذمر طفيف في نبرته فضحكت لوسي بخفّة مُؤيدة:
ــ أنتَ مُحقٌ في هذا..! أبقهم أحياء لبعض الوقت سأعود قريبًا!
ــ آنا قد تنجو لكن مارتن..لن أعدكِ بشيء..!
عبرت اليه ضحكتُها رنانةً في أذنه و كان مُمتعًا أن يستمع اليها, عادت تقول:
ــ سأذهب الآن, أراكُم قريبًا
سمعها تضحك مرة أخرى قبل أن تُقفل الخط و يفعل هو المثل بينما يسير باتجاه غرفة الجلوس يُلقي بنظرة الى الأفق الداكن و هو ينعكس على زجاج المباني يُكسبها لونًا أزرق مشوب. ارتخى على الأريكة خمسينية الطّراز و شغّل التلفاز, يُقلّب قنواته و يحتسي قهوته التي لا تزال دافئة و غمامة البُخار تتصاعد من جوفها البُنيّ.
"عُذرًا لكننا منحنا الوظيفة مُنذ أسبوع"
" لا تملك المُؤهلات التي نبحثُ عنها لذا نعتذر منك لا نستطيع توظيفك"
رفضٌ بعد آخر, استمرّ يسمع الكلمات المُنقحة و التي تخرج بأسفٍ حقيقي من البعض و من البعض الآخر لم تكن سوى اصطناع اعتادوا على لعبه.
حرّك القلم مِرارًا على طلبين في الجريدة التي بيده مُزيلا إياهُما من على القائمة و بذلك تكون هاتان هُما آخر فرصة له لهذا اليوم في إيجاد عمل يُناسبه, عَمِل سابقًا كنادلٍ في مطعم بدوامٍ ليلي لكنّهُ طُرِد منه منذ يومين و حسب لأنه تصرّف كرجُلٍ نبيل و حاول مُساعدة زميلته التي تعرضت لمُضايقة من زبون.
كان بإمكانه إيجاد وظيفة مُحترمة في بنكٍ ما أو أي شركة اقتصادية كالشركة التي يُديرُها والدُه, فشهادته في العلوم الاقتصادية تُخوّله لذلك, لكن مخافة أن يكشفه أحدهم أو يتعرّف عليه جعله يُفضّل الوظائف ذات الراتب البسيط و البعيدة عن الرّسمية.
و هو سائر يذرعُ الشوارع المُزدحمة بالمارّة في صباحِ يومِ جُمعة دافئ نسبيًا, فثلجُ ليلة البارحة الخفيف لم يتراكم و سُرعان ما ذاب من على الأسقُف و الأرصفة, أما كريس فلم يكن يضعُ كوفيته الصوفية, راح يُفكّرُ بآخر شِجارٍ خاضه مع والده, كانت تلك أوّل و آخر مرة يتشاجران فيها..
و ثاني مرّة يجعلُ والدته تبكي, الأولى كانت لما ظنّت أنه مات..الجميع اعتقد موته وقتها و لم يكن له يدٌ في ذلك..لا أحد له يدٌ في الموت, لكنه بقيّ يحملُ ذلك الذّنب يوم رآها تبكي بوجهٍ جزِع و هي تنظُر لشظايا الزّجاج التي اخترقت جانب رقبته و جُزءًا من يسار وجهه و بكُلِّ تلك الدماء التي لطّخته...حمّل نفسه ذنب رؤية والدته منظرًا كذاك..
الثانية, كانت ناتجة عن قرارٍ اتخذه بنفسه, لا ظروف, لا ضغوطات, فقط هو و والدهُ ينجرفان في حديث قاسٍ, تحوّل سريعًا لصُراخ و تبادلٍ للاتهامات!
تنهّد و هو يسترجِعُ ذكرياته الضبابية, حينها كان قد وصل لشِقته فتح بابها و دخل يُزيل حذاءه و معطفه الرّمادي الداكن و يُعلّقه على المشجب, ثم خطى داخل المنزل الهادئ حتى تقدمت إليه الهرّة السوداء تدُّق الأرضية اللامعة بُخطوات مُتواثبة صامتة
بدت و كأنها تستقبله و تُرّحبُ بعودته فهو غائب منذ أبكر الصباح يبحثُ عن عمل و ها هو الغروب على وشك الحلول, كان قد قرفص عندها و راح يلاعبُها و هي تُخرخر بسعادة:
قالها بابتسامة واسعة و كأنه يقولها لبشري ثم حملها بين كفيه و وضعها على مرفقه حاضنًا إياها إلى صدره فارتاحت لملمس قميصه القطني سُكريّ اللون و سار بها إلى المطبخ و فتح باب الخزانة الطويلة و اخرج منها طعامًا خاصًا بالقطط أفرغه في صحنها الخاص و قدمه لها فقفزت من ذراعيه بخفة ناحية الطبق المُقعّر
ابتسم و قال: ــ بالهناء و الشّفاء
هُنا دُقَّ الجرس, فوقف مُتجهًا ناحيته بوجهٍ تهلّلَ فرحًا!
حدثّ نفسه قائلًا: ــ إنها حتمًا آنا !
سارع لمدَّ يده إلى المقبض و سحبه بقوة, لتنحسر معالم البهجة عن وجهه حين رأى المُسدّس الذي يُصوّبُ ناحيته!
تسمّر مكانه و كأن الدمّ قد تجّمد فيه رغم أن قلبه قد انطلق في نبض مُتصاعد! ينظر إلى الذي يَختفي رأسه تحت خوذة كبيرة واقية خاصة بالدّراجات النارية ذات زُجاج أسود عاتم, لبث للحظة وجيزة ليتمكن أخيرًا من إدراك أنها فتاة.. و قبل أن يحزر, كانت الذراع المُمتدة ناحيته تنخفض و تمتد اليد الأخرى رافعة الخوذة كاشفة عن البشرة البيضاء الصافية و العيون الرّمادية الوامضة جموحًا و الشعر القصير الأصفر الباهت و بابتسامة ماكرة حيّته:
أجاب بتقطُع و لا تزال عليه علامات الصدمة, بدا كمن يُحاول تجميع الكلام:
حرّرت ضحكتها المكبوتة: ــ لا يُشير وجهك على انك سعيد حقًا برُؤيتي
قالتها و هي تقتحم المدخل فتحرك تلقائيا ليسمح لها بالعبور مقفلًا الباب و سار وراءها:
ــ و هل طريقتك في إلقاء التحية تجعلني سعيدًا في نظرك!..شعرتُ أن سنوات موتي العشر لم تكفهم حتى يعودوا ليقتلوني مرّة أخرى!
أخذ يتنفّسُ بلُهاث و قد ارتعب حقًا, قد يكون تماسك في تلك اللحظة لكن بعدما أدرك انه لا يزال حيًا فهو حتمًا لا يُريد تجربة الموت للمرة الثانية و بتلك الطريقة!
رآها تُحرّكُ رأسها بالمكان فقال: ــ المطبخ إلى يسارك
سارت إلى حيثُ أشار لها وقد رفعت الكيس الذي تعلّق من على طيّة مرفقها بينما يداها مُنشغلتان الأولى تُمسك المُسدّس و الثانية بالخوذة:
لحق بها مُحذّرًا: ــ لا تترُكي ذلك الشيء في مطبخي!
كانت قد وضعت الكيس على طاولة صغيرة لأربع أشخاص حُشرت في زاوية المطبخ الصغير ثم التفتت ناحيته حيثُ يقف مُرتكزًا على إطار الباب:
ــ كريس ليست أوّل مرة تراني أحمل مسدّسًا..كما أنني لا أشعُر بالذّنب لأنني أخفتُك, ليتك رأيت وجهك و كأن قابض الأرواح قد أتى لزيارتك!
و أمسكت خصرها و هي تنحني مُستندة على الطاولة و تضحك, بينما ابتعد هو عن الباب و غادر مُخلفًا عبارته وراءه:
ــ حتى أنك أحضرت نيس معك!..
أتاه صوتها و هي تخرج من المطبخ مُتجهة إليه حيثُ يجلس على أريكة فردية بوجهٍ مُتجهّم, لم يكن قد تجاوز الصدمة و استمرّ عقله يُعيد نفس الجملة ( كيف أمكنها فعل هذا بي!), و كأن آنا اهتمتْ حقًا فتلك أصبحت حادثة ماضية و كأنها لم تحصُل أبدًا, فكّر في نفسه للحظة مُدركًا أنهُ يُعقّدها وحسب!
أجابها عندما وصلت إليه و كانت القطة تثب خلفها و قد لحقت بها عندما خرجت من المطبخ:
ــ ليست نيس التي تعرفينها, ماتت والدتُها منذ فترة و لأنها الوحيدة التي تُشبه نيس من بين بقية إخوتها القطط احتفظتُ بها و أطلقت عليها نفس الاسم
كتمت آنا ضحكة كادت تنفلت منها قائلة:
عاد وجهه ليعبس بعد أن كان قد انشرح قليلا:
أرخت آنا جسدها على أريكة طويلة بيضاء وُضعت بجانب الأريكة الفردية التي يجلس عليها كريس و تناثرت فوقها وسائد مُربّعة باللون الأخضر الفاتح و الأزرق المائي و الفضيّ, أزالت سُترتها الجلدية مُظهرة قميصها الفاقع الضيق قصير الأكمام فالبيت كان دافئًا و وضعتها على المسند الجانبي للأريكة :
رفع حاجبيه مُستغربًا: ــ ماذا؟؟
ــ أكاد أموت فضولًا هنا و أنت تسألني "ماذا" !..ما الذي تفعله في كاوس؟!!
اعتدل كريس و قد تقدم بجذعه للأمام مُسندًا مرفقيه على ركبتيه و مِثله فعلت الشقراء بحركة بطيئة تُواكبه, بقيت تُحدّق إلى عينيه البُنيتين الحائرتين و قد طال به الصمت فحثّته بنفاذ صبر:
ــ قضيتَ عشر سنوات في لُندن, تخرجت, و الآن أنت مالك لأحد فروع شركة والدك هُناك, و بعد؟..ماذا حصل؟؟
و أضافت كلماتها الأخيرة بدقة و حذر و هدوء تام, حتى أنها خرجت همسًا, فصحّح لها:
تراجعت بصمت تنظُر أمامها للاشيء بينما عقلُها مُبحرٌ في أفكارٍ و استنتاجات, ثم عادت تخترق وجهه بنظراتها:
ــ هل تركتَ الشّركة؟!..و مايكل هاملتون..ما كانت ردّة فعله؟
كان قد استعد لمثل هذا الحوار, ظل طوال الفترة التي تبعت اتفاقهُما إلى اللقاء يُحاول ترتيب أفكاره حتى يسهل عليه سردُها لآنا, لم يكن يشُّك في ذكائها و قُدرتها على استوعاب أفكاره دون أن يتلّفظ بها, مما أشعره بارتياح أكبر, فأجابها و قد حضّر إجابته مُسبقًا لكلِّ سؤالٍ مُحتمل:
ــ نعم..تركتُ كل شيء, لندن, الشركة, و أتيتُ إلى هنا..لم أخبر أي أحد أنني قادم حتى رآني أبي ذات يوم أقف أمامه و حقائبي معي..
رفع رأسه إلى النافذة الزُّجاجية المُمتدة من السقف إلى الأرضية, إلى الليل الذي خيّم و الأضواء الخارجية المُتلألئة من بعيد, كمن يستعيد تلك الذكرى لحظة بلحظة..
كان الظلام قد زحف و بدأ يُخفي معالم الغرفة ببطء, فمدّت آنا يدها لتضغط زر إنارة مصباح طويل وُضع بين الأريكتين و استمعت لمُحدثّها بنبرته المكروبة و هو يُواصل و قد وجد حبل أفكاره من جديد:
انعقد حاجباه و اضيقت عيناه بكمد و حيرة:
ــ أخبرته أنني عُدتُ و لا أُفكّر في تغيير رأيي, أخبرته أنني ما عُدتُ أريد حياة الفرار هذه لكنّه لم يستمع لي..و طردني من البيت..
استعاد في رأسه المشهد بالصوت و الصورة, والده يُلقي بيده تجاهه كتعبير للسخط مُردّدًا
" هذا جزائي لأنني قُمتُ بحمايتك!..لماذا تُريد تدمير كل ما بنيته الآن؟..لديك شهادة, بيت, شركة أنت الآمر الناهي فيها..ماذا تُريد أكثر؟!!..."
ــ أريد أن أستعيد نفسي!..أن أكون كريس هاملتون من جديد!
ردّد نفس العبارة التي قالها لوالده على مسامع آنا التي كانت مُنصتة, ساكنة على غير عادتِها بينما أكمل بابتسامة حزينة:
ــ آنا..لم يتبقى أمامي الكثير من الوقت لذلك أريد منكِ أن تُساعديني..
ــ تعلمُ أنني سأفعل دون أن تطلب حتى!
زفر نفسًا بقيّ يكبُته لفترة مُحضّرًا كِليهما لما سيقوله الآن:
ــ تعلمين ان الحادث الذي تعرضتُ له كاد يقتلني حقًا..لم يقتلني يومها لكنّه يقتُلني الآن..
واصل في ظل صمتها و حيرتها:
ــ قبل خمسة أشهر عندما كنتُ لا أزال في لندن, كنتُ مع روبن , تعرفينه صديقي ذاك لقد أصبح طبيبًا تماما كما كان يتمنى, كنا نُمارس الجري في صباح يوم عطلة, عندها شعرت بألم في صدري, أصر روبن على أن يفحصني و لم أستطع كبح تطلّعه فهو طبيب في النهاية و ما حصل كان ضمن تخصّصه, بعد أيام ظهرت النتائج, هُناك ضلع يضغط على رئتي مما يُعطّل قلبي في بعض الأحيان و اذا ما طال الوقت..
تعلّقت جُملته تلك بفكر آنا و هي ترسم الصورة الكاملة للمُستقبل الذي يكاد يكون معروفًا, حيثُ لا وُجود لكريس حقًا!
ــ هذا بسبب الحادث الذي تعرضت له أليس كذلك؟
ــ هذا ما توقعه روبن أيضًا, يبدو ان أحد أضلعي المكسورة يومها لم تُرمّم كما يجب..!
ــ و هل يعلم والدك بالأمر؟
ــ أخبرتُ أمي اذن فهو يعلم
أصدرت صوتًا مُبدية انزعاجها و هي تتراجع بظهرها رافعة ساقًا فوق أخرى و عاقدة ذراعيها عند صدرها بحاجبين مُتقاربين:
ــ يجب أن أُضيف مايكل هاملتون لقائمة الآباء السّادين!
ضحكَ عُنوة فقد أثار كلامها تعجُّبه:
ــ أي قائمة هذه! و من المُضافون إليها حاليًا؟
ضيقت عينيها الرّماديتين المُتوهجتين بفعل ضوء المصباح الخافت:
ــ هاري روبنسون! انه على رأس القائمة, و يبدو أن والدك يأتي بعده, ثم جدّي!
ازداد حقدُها الدّرامي و هي تذكرُ جدها مما جعل كريس يضحك مرّة أخرى, لفّت رأسها ناحيته جانبيًا و قالت:
ــ أي نوعٍ من المُساعدة تُريد؟ هل تحتاج مالًا لإجراء العملية؟؟
سألته ببلاهة فأجاب بانزعاج طفيف:
ــ آنا المال آخر همي, و العملية أيضًا كان يُفترض أن أخضع لها قبل شهرين من الآن لكنني أستمر في تأجيلها رغم ان هذا جعل روبن يغضب أيضًا..
ثم استعاد في باله كم من شخصه أغضبه لحد الساعة, والده و صديقه روبن, و الغضب التالي سيكون أعظم عندما يعلم الغافلون أن كريس هاملتون وريثُ شركة ...... حيّ يُرزق و هو نفسه "جايك كولت" الشاب العاطل عن العمل!
ــ أريد أن أُخبر لوسي من أكون!
ــ لن يكون ذلك سهلًا أنت مُدرك؟
دنا منها بيأس: ــ لهذا أحتاج إليكِ!..على الأقل أريدها أن تعرف أنني لازلتُ حيا قبل أن أُجري العملية..
ــ ألا ترى أنك تتصرّف بأنانية؟!
أخفض رأسه تحت وطأة نبرتها المُؤنبة:
ــ أعلمْ...فكرت في هذا كثيرًا, ربما أموت اذا فشلت العملية و بهذا أُدمّر ما تبقى من حياتها..!
عيونه البنية مُنسدلة بخذلان للذات و شعره الخشبي المُلتمع تحت ضوء المصباح يلوذُ مُنحدرًا على جبهته بثغر مُقوّسٍ بعبوس ردد بعارٍ شديد و كأن الذّنب ذنبه هو و آنا استمرت في كويّ جِراحه:
ــ تعلمُ أنني لن أسمح لكَ بإيذاء مشاعرها أكثر! انها بخير الآن و لا تكن سببًا في فشل انجازي!
إنجاز.. لوسي مُجرّدُ انجاز بالنسبة لآنا, كذلك كان كريس في السابق, تُناديه سيدي, تسير معه و لا تُحدّثه, تكتفي فقط برمي نفسها بدلا منه اذا ما صادفت اي نوع من الأخطار, أيام كانت درعه كان واجبًا عليها حمايته, أما الان فلديها أولويات أخرى, لكن رغم ان لوسي كانت هذه الأولوية إلا أن آنا بقيت على تفكيرها العملي, فلو كان الأصوب أن يبقى كريس بعيدًا عن لوسي فستُبقيه!!
قال و قد هزّته تلك اللفظة " انجازي " :
ــ لا تنظري للوسي على أنها مُجرّد صفقة عمل, أنتُما صديقتان!
كان واثقًا عندما قالها بصوتٍ مُرتفع فأذهلتها عزيمته تلك و هي تُحدّق به بعينين واسعتين و فم شبه مفغور لكنها ابتلعت كل الكلمات التي تراكمت ترغبُ في الخروج و الصراخ به و اكتفت بتحويل نظرها الى الأرض و هزّ رأسها مُذعنة, فأرخى هو الآخر كتفيه و عَبَرت ابتسامة خفيفة مُحياه
لم تترك الروسية الشقراء مجالًا للصمت حتى ينزرع بينهُما فقالت بسُرعة:
لم يُجبها بعد و كانت قد وقفت و أخذت بيده ساحبة إياه معها إلى المطبخ, لكنّه لن يترُكها تفعلُ شيئًا هكذا فكر و هو يوقفها قبل أن تصل للأكياس التي أحظرتها معها و يجلسها على احد كراسي الطاولة هناك:
ــ دعيني أتكفّل بذلك, راقبي مهاراتي في التقديم
قالها و هو يغمزُها ثم يبتعد مُتنقلًا في المطبخ من ركن لآخر, أخذ الأطباق و فضّ مُحتوى الأكياس و رتبّها بطريقة أنيقة, لفائف السلمون, أرز و صلصلات مُتنوّعة, و وضعها على الطاولة حيث تجلس آنا مُنحنيًا بلباقة:
أخفضت رأسها ضاحكة بخفة ثم رفعته ناحيته مُشيرة بيدها للمقعد الذي بالقرب منه:
ــ فقط اجلس و دعنا نأكل أكاد أموت جوعًا
سحب الكُرسي و هو لا يزال مُبتسمًا و أخذ عيدان الأكل و باشرا بتناول عشائهما دار في رأسه أنهما لم يحضيا بعشاء مُماثل منذ أربع سنوات و يبدو أنها كانت تفكر في ذات الأمر حين قالت:
ــ منذ متى لم نجلس على نفس الطاولة هكذا؟
ابتسم لسؤالها فهو الذي كان يُفكر في طرحه قبل قليل و واصل تحريك عصي الأكل الخشبية و رأسه مُنحنٍ إلى صحنه:
ــ و كأنكِ لا تتذكرين حتى تسأليني
ــ بلى أتذكر جيدًا, لا زلتُ أحافظ على نفس الذاكرة القوية, لكنني أردتُ أن أختبرك
صوّب رأسه ناحيتها قائلًا:
ــ السابع و العشرون من أكتوبر عام 2012