عرض مشاركة واحدة
  #39  
قديم 06-14-2016, 04:25 AM
 





.













.
.




الفصول السابقة


الذّكرى الأولى~ ليس مُجرّد حُلمْ
الذّكرى الثانية~ أوّل نظرة, بعد عقدٍ من الزّمنْ
الذّكرى الثالثة~ عودةٌ للحاضر


~






لطالما قُلتُ أن صديقي القديم هذا يُعقّد الأمور و حسب! لا شيء في حياته كان بسيطًا, كان لابد أن يخوض دورة مُتكرّرة تزداد كل يوم التفافًا و تظهر أمامه مُنعرجاتٌ مُلتوية تُصعّب عليه قراراته. لكنّه يقول أنه يريد أن يعود لنُقطة البداية و ينطلق باستقامة بعيدًا كن كل تلك التعقيدات!
فهل أُساعدهُ باسم صداقتنا أم أضع عملي كأولويّة لا مُنازع لها؟!!

آنا كريستين#



بدّل ثيابه المُعتادة بسروال رياضي قصير و سُترة رياضية تُناسبه اسفلها كان يرتدي قميص بِلا أكمام أسود اللون فكّر كيف سينظر اليه الاخرون عندما ينزع السترة مُظهرًا ذراعه المفتول و كتفيه المتناسقين , " مارتن عازف القيتار الرئيسي في فرقة "دي آي DA" يُحافظ على رشاقته "

انتعل مارتن الحذاء الرياضي الثخين بألوانه الفاقعة المُظلّلة بالأسود , تفقد شعره و بعثره كما يجب ثم خرج و حقيبة رياضية تتعلّق على كتفه.

جيمي الذي استيقظ لتوّه فتح باب غرفته و خطا خلال الردهة بقدميه الحافيتين, من الهدوء المُسيطر على الجناح ظن انه الوحيد المتواجد فيه و ان كلا من رفيقيه الاخرين قد خرجا بينما يستغرق هو في النوم و قد حلّ العصر الى ان عبرت آنا من خلفه بسرعة و ودعته بصوت عالٍ ثم اقفلت الباب وراءها.

لم يكترث...كان يشعر برأسه ثقيلًا و آلمته عيناه حين أغمضهما ضاغطا جانبي أنفه بسبابته و إبهامه, سهر البارحة حتى وقت مُتأخر و هو يُرتّب الأمور التي تخص الفرقة, الأرباح و الخسائر من جولتهم العالمية - الأولى بالنسبة لهم-, ثم اللّقاءات التي وافق على خوضها و تلك التي رفضها, مُختلف عروض العمل و الاعلانات..انتهى كل ذلك بشكل جيد عدا هذا الصُّداع الذي يكاد يُفقده رباطة جأشه حين ألقى كبسولة القهوة في المُحضّرة و ضغط الزر بنوع من الحدة بينما يُطبق كفه على جبينه مُغمض العينين.

انتظر ان تجهز قهوته السوداء المُركّزة عندما رنّ هاتفه الذي كان في يده الأخرى, لن يحتاج لرؤية الاسم فتلك النغمة الموسيقية الهادئة تخص شخصًا واحدًا فقط, كان قد خصص لكل مُتصليه نغمة مُعينة عندما علم مارتن ذلك اتصل به و هو بالقرب منه فقط حتى يعرف ما النغمة التي وضعها له و اذ بها الموسيقى النهائية للعبة قتال تتكرر فيها عبارة game over بصوت روبوت يُحتضر!

خصص لآنا معزوفة صاخبة بآلات الطبل و يومها هزّت رأسها بامتنان لجيمي و بخشوع لتلك الأنغام التي تأسرُها!
أما هذا اللحن فكلاسيكي, ليست الأذن فقط من تسمع النوتات و هي تمتزج ببعضها بطريقة مثالية انما العقل ايضا يتخيل تلك الأصابع و هي تُداعب مفاتيح البيانو البيضاء لتصنع ما يُعرف بـ " معزوفة العذراء ".

سرح بتفكيره في نقطة ما غير بعيدة في ماضيه و أتاه نوع من الالهام استيقظ منه عندما انتهى الاتصال و انقطعت الموسيقى, سرعان ما عادت و فتح الخط مُباشرة
حيّته بصوتها الطفولي الناعم: ــ مساء الخير حضرة القائد!
اكتفى برد التحية بينما يُرجع شعره الأحمر الى الخلف: ــ مساء الخير.
ــ كيف حال الجميع؟
ــ مُزعجون كالعادة.
ــ توقعت ذلك
وضع الكوب الأبيض أسفل مُحضّرة القهوة و سأل: ــ ماذا عنكِ؟
ــ سار كل شيء على ما يُرام, لا كوابيس و هذا غير مُتوّقع..
ــ لكنّه جيد.
ــ أكيد... لابد أنك استيقظت للتو
تكهّنت ذلك من صوت مُحضرة القهوة, فأجاب بعدما ابتلع ما ارتشفه من كأسه و هو يشعر أخيرًا بأن ثِقل رأسه يخِّف:
ــ نعم, عملتُ حتى وقتٍ مُتأخر
ــ لا يجب أن تُتعب نفسك يُفترض أننا في عطلة!
ــ حتى في العُطل يجب أن يتواجد من يعتني بالأطفال..
بان تذمر طفيف في نبرته فضحكت لوسي بخفّة مُؤيدة:
ــ أنتَ مُحقٌ في هذا..! أبقهم أحياء لبعض الوقت سأعود قريبًا!
ــ آنا قد تنجو لكن مارتن..لن أعدكِ بشيء..!
عبرت اليه ضحكتُها رنانةً في أذنه و كان مُمتعًا أن يستمع اليها, عادت تقول:
ــ سأذهب الآن, أراكُم قريبًا
ــ اعتنِ بنفسك يا قزمة
سمعها تضحك مرة أخرى قبل أن تُقفل الخط و يفعل هو المثل بينما يسير باتجاه غرفة الجلوس يُلقي بنظرة الى الأفق الداكن و هو ينعكس على زجاج المباني يُكسبها لونًا أزرق مشوب. ارتخى على الأريكة خمسينية الطّراز و شغّل التلفاز, يُقلّب قنواته و يحتسي قهوته التي لا تزال دافئة و غمامة البُخار تتصاعد من جوفها البُنيّ.

“ # „

"عُذرًا لكننا منحنا الوظيفة مُنذ أسبوع"
" لا تملك المُؤهلات التي نبحثُ عنها لذا نعتذر منك لا نستطيع توظيفك"

رفضٌ بعد آخر, استمرّ يسمع الكلمات المُنقحة و التي تخرج بأسفٍ حقيقي من البعض و من البعض الآخر لم تكن سوى اصطناع اعتادوا على لعبه.
حرّك القلم مِرارًا على طلبين في الجريدة التي بيده مُزيلا إياهُما من على القائمة و بذلك تكون هاتان هُما آخر فرصة له لهذا اليوم في إيجاد عمل يُناسبه, عَمِل سابقًا كنادلٍ في مطعم بدوامٍ ليلي لكنّهُ طُرِد منه منذ يومين و حسب لأنه تصرّف كرجُلٍ نبيل و حاول مُساعدة زميلته التي تعرضت لمُضايقة من زبون.
كان بإمكانه إيجاد وظيفة مُحترمة في بنكٍ ما أو أي شركة اقتصادية كالشركة التي يُديرُها والدُه, فشهادته في العلوم الاقتصادية تُخوّله لذلك, لكن مخافة أن يكشفه أحدهم أو يتعرّف عليه جعله يُفضّل الوظائف ذات الراتب البسيط و البعيدة عن الرّسمية.
و هو سائر يذرعُ الشوارع المُزدحمة بالمارّة في صباحِ يومِ جُمعة دافئ نسبيًا, فثلجُ ليلة البارحة الخفيف لم يتراكم و سُرعان ما ذاب من على الأسقُف و الأرصفة, أما كريس فلم يكن يضعُ كوفيته الصوفية, راح يُفكّرُ بآخر شِجارٍ خاضه مع والده, كانت تلك أوّل و آخر مرة يتشاجران فيها..

و ثاني مرّة يجعلُ والدته تبكي, الأولى كانت لما ظنّت أنه مات..الجميع اعتقد موته وقتها و لم يكن له يدٌ في ذلك..لا أحد له يدٌ في الموت, لكنه بقيّ يحملُ ذلك الذّنب يوم رآها تبكي بوجهٍ جزِع و هي تنظُر لشظايا الزّجاج التي اخترقت جانب رقبته و جُزءًا من يسار وجهه و بكُلِّ تلك الدماء التي لطّخته...حمّل نفسه ذنب رؤية والدته منظرًا كذاك..
الثانية, كانت ناتجة عن قرارٍ اتخذه بنفسه, لا ظروف, لا ضغوطات, فقط هو و والدهُ ينجرفان في حديث قاسٍ, تحوّل سريعًا لصُراخ و تبادلٍ للاتهامات!

تنهّد و هو يسترجِعُ ذكرياته الضبابية, حينها كان قد وصل لشِقته فتح بابها و دخل يُزيل حذاءه و معطفه الرّمادي الداكن و يُعلّقه على المشجب, ثم خطى داخل المنزل الهادئ حتى تقدمت إليه الهرّة السوداء تدُّق الأرضية اللامعة بُخطوات مُتواثبة صامتة
بدت و كأنها تستقبله و تُرّحبُ بعودته فهو غائب منذ أبكر الصباح يبحثُ عن عمل و ها هو الغروب على وشك الحلول, كان قد قرفص عندها و راح يلاعبُها و هي تُخرخر بسعادة:
ــ لقد عُدتْ.
قالها بابتسامة واسعة و كأنه يقولها لبشري ثم حملها بين كفيه و وضعها على مرفقه حاضنًا إياها إلى صدره فارتاحت لملمس قميصه القطني سُكريّ اللون و سار بها إلى المطبخ و فتح باب الخزانة الطويلة و اخرج منها طعامًا خاصًا بالقطط أفرغه في صحنها الخاص و قدمه لها فقفزت من ذراعيه بخفة ناحية الطبق المُقعّر
ابتسم و قال: ــ بالهناء و الشّفاء
هُنا دُقَّ الجرس, فوقف مُتجهًا ناحيته بوجهٍ تهلّلَ فرحًا!
حدثّ نفسه قائلًا: ــ إنها حتمًا آنا !
سارع لمدَّ يده إلى المقبض و سحبه بقوة, لتنحسر معالم البهجة عن وجهه حين رأى المُسدّس الذي يُصوّبُ ناحيته!
تسمّر مكانه و كأن الدمّ قد تجّمد فيه رغم أن قلبه قد انطلق في نبض مُتصاعد! ينظر إلى الذي يَختفي رأسه تحت خوذة كبيرة واقية خاصة بالدّراجات النارية ذات زُجاج أسود عاتم, لبث للحظة وجيزة ليتمكن أخيرًا من إدراك أنها فتاة.. و قبل أن يحزر, كانت الذراع المُمتدة ناحيته تنخفض و تمتد اليد الأخرى رافعة الخوذة كاشفة عن البشرة البيضاء الصافية و العيون الرّمادية الوامضة جموحًا و الشعر القصير الأصفر الباهت و بابتسامة ماكرة حيّته:
ــ ﭘﺭﻳﭬﻳﺕ!
أجاب بتقطُع و لا تزال عليه علامات الصدمة, بدا كمن يُحاول تجميع الكلام:
ــ رادي ﭬس فيديت
حرّرت ضحكتها المكبوتة: ــ لا يُشير وجهك على انك سعيد حقًا برُؤيتي
قالتها و هي تقتحم المدخل فتحرك تلقائيا ليسمح لها بالعبور مقفلًا الباب و سار وراءها:
ــ و هل طريقتك في إلقاء التحية تجعلني سعيدًا في نظرك!..شعرتُ أن سنوات موتي العشر لم تكفهم حتى يعودوا ليقتلوني مرّة أخرى!
أخذ يتنفّسُ بلُهاث و قد ارتعب حقًا, قد يكون تماسك في تلك اللحظة لكن بعدما أدرك انه لا يزال حيًا فهو حتمًا لا يُريد تجربة الموت للمرة الثانية و بتلك الطريقة!
رآها تُحرّكُ رأسها بالمكان فقال: ــ المطبخ إلى يسارك
سارت إلى حيثُ أشار لها وقد رفعت الكيس الذي تعلّق من على طيّة مرفقها بينما يداها مُنشغلتان الأولى تُمسك المُسدّس و الثانية بالخوذة:
ــ أحضرتُ طعامًا صينيًا
لحق بها مُحذّرًا: ــ لا تترُكي ذلك الشيء في مطبخي!
كانت قد وضعت الكيس على طاولة صغيرة لأربع أشخاص حُشرت في زاوية المطبخ الصغير ثم التفتت ناحيته حيثُ يقف مُرتكزًا على إطار الباب:
ــ كريس ليست أوّل مرة تراني أحمل مسدّسًا..كما أنني لا أشعُر بالذّنب لأنني أخفتُك, ليتك رأيت وجهك و كأن قابض الأرواح قد أتى لزيارتك!
و أمسكت خصرها و هي تنحني مُستندة على الطاولة و تضحك, بينما ابتعد هو عن الباب و غادر مُخلفًا عبارته وراءه:
ــ مُضحكٌ جدًا!
ــ حتى أنك أحضرت نيس معك!..
أتاه صوتها و هي تخرج من المطبخ مُتجهة إليه حيثُ يجلس على أريكة فردية بوجهٍ مُتجهّم, لم يكن قد تجاوز الصدمة و استمرّ عقله يُعيد نفس الجملة ( كيف أمكنها فعل هذا بي!), و كأن آنا اهتمتْ حقًا فتلك أصبحت حادثة ماضية و كأنها لم تحصُل أبدًا, فكّر في نفسه للحظة مُدركًا أنهُ يُعقّدها وحسب!
أجابها عندما وصلت إليه و كانت القطة تثب خلفها و قد لحقت بها عندما خرجت من المطبخ:
ــ ليست نيس التي تعرفينها, ماتت والدتُها منذ فترة و لأنها الوحيدة التي تُشبه نيس من بين بقية إخوتها القطط احتفظتُ بها و أطلقت عليها نفس الاسم
كتمت آنا ضحكة كادت تنفلت منها قائلة:
ــ شُكرًا للتوضيح!
عاد وجهه ليعبس بعد أن كان قد انشرح قليلا:
ــ العفو!
أرخت آنا جسدها على أريكة طويلة بيضاء وُضعت بجانب الأريكة الفردية التي يجلس عليها كريس و تناثرت فوقها وسائد مُربّعة باللون الأخضر الفاتح و الأزرق المائي و الفضيّ, أزالت سُترتها الجلدية مُظهرة قميصها الفاقع الضيق قصير الأكمام فالبيت كان دافئًا و وضعتها على المسند الجانبي للأريكة :
ــ هيا..
رفع حاجبيه مُستغربًا: ــ ماذا؟؟
ــ أكاد أموت فضولًا هنا و أنت تسألني "ماذا" !..ما الذي تفعله في كاوس؟!!
اعتدل كريس و قد تقدم بجذعه للأمام مُسندًا مرفقيه على ركبتيه و مِثله فعلت الشقراء بحركة بطيئة تُواكبه, بقيت تُحدّق إلى عينيه البُنيتين الحائرتين و قد طال به الصمت فحثّته بنفاذ صبر:
ــ قضيتَ عشر سنوات في لُندن, تخرجت, و الآن أنت مالك لأحد فروع شركة والدك هُناك, و بعد؟..ماذا حصل؟؟
و أضافت كلماتها الأخيرة بدقة و حذر و هدوء تام, حتى أنها خرجت همسًا, فصحّح لها:
ــ كُنت
تراجعت بصمت تنظُر أمامها للاشيء بينما عقلُها مُبحرٌ في أفكارٍ و استنتاجات, ثم عادت تخترق وجهه بنظراتها:
ــ هل تركتَ الشّركة؟!..و مايكل هاملتون..ما كانت ردّة فعله؟
كان قد استعد لمثل هذا الحوار, ظل طوال الفترة التي تبعت اتفاقهُما إلى اللقاء يُحاول ترتيب أفكاره حتى يسهل عليه سردُها لآنا, لم يكن يشُّك في ذكائها و قُدرتها على استوعاب أفكاره دون أن يتلّفظ بها, مما أشعره بارتياح أكبر, فأجابها و قد حضّر إجابته مُسبقًا لكلِّ سؤالٍ مُحتمل:
ــ نعم..تركتُ كل شيء, لندن, الشركة, و أتيتُ إلى هنا..لم أخبر أي أحد أنني قادم حتى رآني أبي ذات يوم أقف أمامه و حقائبي معي..
رفع رأسه إلى النافذة الزُّجاجية المُمتدة من السقف إلى الأرضية, إلى الليل الذي خيّم و الأضواء الخارجية المُتلألئة من بعيد, كمن يستعيد تلك الذكرى لحظة بلحظة..
كان الظلام قد زحف و بدأ يُخفي معالم الغرفة ببطء, فمدّت آنا يدها لتضغط زر إنارة مصباح طويل وُضع بين الأريكتين و استمعت لمُحدثّها بنبرته المكروبة و هو يُواصل و قد وجد حبل أفكاره من جديد:
ــ غضِبَ بشدّة..
انعقد حاجباه و اضيقت عيناه بكمد و حيرة:
ــ أخبرته أنني عُدتُ و لا أُفكّر في تغيير رأيي, أخبرته أنني ما عُدتُ أريد حياة الفرار هذه لكنّه لم يستمع لي..و طردني من البيت..
استعاد في رأسه المشهد بالصوت و الصورة, والده يُلقي بيده تجاهه كتعبير للسخط مُردّدًا
" هذا جزائي لأنني قُمتُ بحمايتك!..لماذا تُريد تدمير كل ما بنيته الآن؟..لديك شهادة, بيت, شركة أنت الآمر الناهي فيها..ماذا تُريد أكثر؟!!..."
ــ أريد أن أستعيد نفسي!..أن أكون كريس هاملتون من جديد!
ردّد نفس العبارة التي قالها لوالده على مسامع آنا التي كانت مُنصتة, ساكنة على غير عادتِها بينما أكمل بابتسامة حزينة:
ــ آنا..لم يتبقى أمامي الكثير من الوقت لذلك أريد منكِ أن تُساعديني..
ــ تعلمُ أنني سأفعل دون أن تطلب حتى!
زفر نفسًا بقيّ يكبُته لفترة مُحضّرًا كِليهما لما سيقوله الآن:
ــ تعلمين ان الحادث الذي تعرضتُ له كاد يقتلني حقًا..لم يقتلني يومها لكنّه يقتُلني الآن..
واصل في ظل صمتها و حيرتها:
ــ قبل خمسة أشهر عندما كنتُ لا أزال في لندن, كنتُ مع روبن , تعرفينه صديقي ذاك لقد أصبح طبيبًا تماما كما كان يتمنى, كنا نُمارس الجري في صباح يوم عطلة, عندها شعرت بألم في صدري, أصر روبن على أن يفحصني و لم أستطع كبح تطلّعه فهو طبيب في النهاية و ما حصل كان ضمن تخصّصه, بعد أيام ظهرت النتائج, هُناك ضلع يضغط على رئتي مما يُعطّل قلبي في بعض الأحيان و اذا ما طال الوقت..
تعلّقت جُملته تلك بفكر آنا و هي ترسم الصورة الكاملة للمُستقبل الذي يكاد يكون معروفًا, حيثُ لا وُجود لكريس حقًا!
ــ هذا بسبب الحادث الذي تعرضت له أليس كذلك؟
ــ هذا ما توقعه روبن أيضًا, يبدو ان أحد أضلعي المكسورة يومها لم تُرمّم كما يجب..!
ــ و هل يعلم والدك بالأمر؟
ــ أخبرتُ أمي اذن فهو يعلم
أصدرت صوتًا مُبدية انزعاجها و هي تتراجع بظهرها رافعة ساقًا فوق أخرى و عاقدة ذراعيها عند صدرها بحاجبين مُتقاربين:
ــ يجب أن أُضيف مايكل هاملتون لقائمة الآباء السّادين!
ضحكَ عُنوة فقد أثار كلامها تعجُّبه:
ــ أي قائمة هذه! و من المُضافون إليها حاليًا؟
ضيقت عينيها الرّماديتين المُتوهجتين بفعل ضوء المصباح الخافت:
ــ هاري روبنسون! انه على رأس القائمة, و يبدو أن والدك يأتي بعده, ثم جدّي!
ازداد حقدُها الدّرامي و هي تذكرُ جدها مما جعل كريس يضحك مرّة أخرى, لفّت رأسها ناحيته جانبيًا و قالت:
ــ أي نوعٍ من المُساعدة تُريد؟ هل تحتاج مالًا لإجراء العملية؟؟
سألته ببلاهة فأجاب بانزعاج طفيف:
ــ آنا المال آخر همي, و العملية أيضًا كان يُفترض أن أخضع لها قبل شهرين من الآن لكنني أستمر في تأجيلها رغم ان هذا جعل روبن يغضب أيضًا..
ثم استعاد في باله كم من شخصه أغضبه لحد الساعة, والده و صديقه روبن, و الغضب التالي سيكون أعظم عندما يعلم الغافلون أن كريس هاملتون وريثُ شركة ...... حيّ يُرزق و هو نفسه "جايك كولت" الشاب العاطل عن العمل!
واصل على مضض:
ــ أريد أن أُخبر لوسي من أكون!
ــ لن يكون ذلك سهلًا أنت مُدرك؟
دنا منها بيأس: ــ لهذا أحتاج إليكِ!..على الأقل أريدها أن تعرف أنني لازلتُ حيا قبل أن أُجري العملية..
ــ ألا ترى أنك تتصرّف بأنانية؟!
أخفض رأسه تحت وطأة نبرتها المُؤنبة:
ــ أعلمْ...فكرت في هذا كثيرًا, ربما أموت اذا فشلت العملية و بهذا أُدمّر ما تبقى من حياتها..!
عيونه البنية مُنسدلة بخذلان للذات و شعره الخشبي المُلتمع تحت ضوء المصباح يلوذُ مُنحدرًا على جبهته بثغر مُقوّسٍ بعبوس ردد بعارٍ شديد و كأن الذّنب ذنبه هو و آنا استمرت في كويّ جِراحه:
ــ تعلمُ أنني لن أسمح لكَ بإيذاء مشاعرها أكثر! انها بخير الآن و لا تكن سببًا في فشل انجازي!
إنجاز.. لوسي مُجرّدُ انجاز بالنسبة لآنا, كذلك كان كريس في السابق, تُناديه سيدي, تسير معه و لا تُحدّثه, تكتفي فقط برمي نفسها بدلا منه اذا ما صادفت اي نوع من الأخطار, أيام كانت درعه كان واجبًا عليها حمايته, أما الان فلديها أولويات أخرى, لكن رغم ان لوسي كانت هذه الأولوية إلا أن آنا بقيت على تفكيرها العملي, فلو كان الأصوب أن يبقى كريس بعيدًا عن لوسي فستُبقيه!!
قال و قد هزّته تلك اللفظة " انجازي " :
ــ لا تنظري للوسي على أنها مُجرّد صفقة عمل, أنتُما صديقتان!
أجابته بنفس الانفعال:
ــ و لكن ماذا لو مُتّ؟!
ــ لن أموت!!
كان واثقًا عندما قالها بصوتٍ مُرتفع فأذهلتها عزيمته تلك و هي تُحدّق به بعينين واسعتين و فم شبه مفغور لكنها ابتلعت كل الكلمات التي تراكمت ترغبُ في الخروج و الصراخ به و اكتفت بتحويل نظرها الى الأرض و هزّ رأسها مُذعنة, فأرخى هو الآخر كتفيه و عَبَرت ابتسامة خفيفة مُحياه
لم تترك الروسية الشقراء مجالًا للصمت حتى ينزرع بينهُما فقالت بسُرعة:
ــ ألستَ جائعًا؟
لم يُجبها بعد و كانت قد وقفت و أخذت بيده ساحبة إياه معها إلى المطبخ, لكنّه لن يترُكها تفعلُ شيئًا هكذا فكر و هو يوقفها قبل أن تصل للأكياس التي أحظرتها معها و يجلسها على احد كراسي الطاولة هناك:
ــ دعيني أتكفّل بذلك, راقبي مهاراتي في التقديم
قالها و هو يغمزُها ثم يبتعد مُتنقلًا في المطبخ من ركن لآخر, أخذ الأطباق و فضّ مُحتوى الأكياس و رتبّها بطريقة أنيقة, لفائف السلمون, أرز و صلصلات مُتنوّعة, و وضعها على الطاولة حيث تجلس آنا مُنحنيًا بلباقة:
ــ أي طلبات أخرى آنستي
أخفضت رأسها ضاحكة بخفة ثم رفعته ناحيته مُشيرة بيدها للمقعد الذي بالقرب منه:
ــ فقط اجلس و دعنا نأكل أكاد أموت جوعًا
سحب الكُرسي و هو لا يزال مُبتسمًا و أخذ عيدان الأكل و باشرا بتناول عشائهما دار في رأسه أنهما لم يحضيا بعشاء مُماثل منذ أربع سنوات و يبدو أنها كانت تفكر في ذات الأمر حين قالت:
ــ منذ متى لم نجلس على نفس الطاولة هكذا؟
ابتسم لسؤالها فهو الذي كان يُفكر في طرحه قبل قليل و واصل تحريك عصي الأكل الخشبية و رأسه مُنحنٍ إلى صحنه:
ــ و كأنكِ لا تتذكرين حتى تسأليني
ــ بلى أتذكر جيدًا, لا زلتُ أحافظ على نفس الذاكرة القوية, لكنني أردتُ أن أختبرك
صوّب رأسه ناحيتها قائلًا:
ــ السابع و العشرون من أكتوبر عام 2012
رفعت رأسها عن طبقها بسرعة و عيناها مُتسعتين بتفاجئ, رمشت به عدة مرات فأعاد نفس حركة الحاجبين المُرتفعين و التساؤل البريء:
ــ ماذا؟


ــ كنتُ سأقول أربع سنوات لستُ أحفظ التاريخ بهذه الدّقة!
رمقها بعيون شبه مفتوحة: ــ لأنه كان عيد ميلادي!
أصدرت آهة تفاجُؤ و هي تتذكر ذلك اليوم حين بلغ كريس سن الواحدة و العشرين و انتهى بذلك العقد المُبرم و لأنها حريصة ناحية من تتعامل معهم و بالعقود فقد رحلت مع اول الصباح المُعلن لذلك اليوم

و لم تستطع منع نفسها من الضحك عليه مرة أخرى فقلب كريس عينيه بتذمّر, و دسّ لُقمة في فمه مُجبرًا نفسه على الصمتْ فهو لم و لن يتمكن من مُجاراتها, لطالما تصّرفت معه بلؤم و هو تعوّد لكن يبدو انه بعدما افترقا لمدة أربع سنوات فقد نسي ما يُعتبر عندها مُزاحًا!

“ # „

أصواتٌ غليظة ارتطمت ببعضها مُسببة قدرًا عالٍ من الضجة في حيّزٍ صغير كسيارة المرسيدس الرياضية فضيّة اللون, تلك التي توقفت فجأة حين داس سائقها على المكابح بعُنف تناسب و ملامح وجهه الغاضبة, صاح بهم:
ــ هذا يكفي!
كانوا فعلا قد صمتوا حين تمايلت أجسادهم في مقاعد السيارة الفاخرة و زعيق العجلات يدوي من حولهم!, و اشتّد انتباهُهم إلى الصارخ و هو يُواصل ضابطًا أنفاسه و يُحرّك عينيه الزرقاوين بينهم:
ــ لن نذهب إلى أي من تلك الأماكن التي تقولون عنها!
بدا التهديد في صوته لكنهم تذمروا و من جديد ارتفعت أصواتهم في نقاشٍ همجيّ!
قال أحد الشبان في المقاعد الخلفية و الذي كان إلى جانبه شخص آخر:
" اسمع ماتي,"midnight "قريب من صالة البولينغ سنقضي فيه ساعة واحدة ثم نتجه إلى الصالة "

أصدر صاحب الشعر الأسود الأملس الجالس بالمقعد الذي إلى جوار ماتي صوتا مُستنكرًا و قد اعترض على الاقتراح:
" جون ما الذي تقوله ساعة ستمر و كأنها خمس دقائق! "

نهره المدعو جون و الذي كان ثخينًا بشعرٍ مُجعّد ينتصبُ في كل اتجاه من على رأسه المُدوّر, فتراجع بِن الفتى الآخر عن الكلام مُرغمًا, بينما استمر جون في مُحاولة إقناع ماتي و الذي بقي على رأيه حين قال بصرامة:
ــ لا و ألفٌ مثلُها!..لن نذهب لأيّ دورِ شبابٍ غير قانونيّة! لا ميدنايت و لا غيره!, قبلتُ الخروج معكم الليلة بشرط واحد " لا عبَثْ! "
" فلنُصوّت! "
قالها الشاب القصير في الخلف من الزاوية الأبعد عن مقعد السائق فتمتم البقية
" فكرة سخيفة "
" لن أصوّت أنا أيضًا "

إلا أن ماتي قلب الفكرة في رأسه ثم قال:
ــ معهُ حق فلنُصوّت...سنذهب لصالة البولينغ!
و رفع يده بالقرب من رأسه, قال الاثنان في وقت واحد
" ميدنايت "
ثم ضربا قبضتيهما ببعض و ابتسما بانتصار لبعضهما, أما ماتي فبقي ينتظر صوت الفتى القصير الذي توحي ملامحه بالرزانة, كان واثقًا من اختياره فهو لم يكن ليُجازف بقبول رهان التصويت لولا معرفته بطباع بآليكس, و كما توّقع فقد رفع آليكس يده قائلًا بهدوء:
" صالة البولينغ "
" آآه اللعنة عليك "
قالها بِنْ مُعبرًا عن استيائه من آليكس
التفت الأشقر إلى المِقوَد و اعتدل في جلسته مُبتسمًا بثقة:
ــ و الآن لنعرف رأي جايك ثم سنُقرر إلى أين سنذهب!

“ # „

ــ شكلُك مُضحك حقًا..حالتك بأكملها بائسة!

رماها بنظرة مع التفاتة خفيفة و هو مُنشغل بغسل الأطباق, تجلس على كرسي محشو في الزاوية تضع يدها على خدها و تتأمله تارة بمئزر المطبخ المُزركش و تارة أخرى تتمعن بديكور المطبخ, الخزائن ذات اللون الأحمر بمقابضها الفضية و الثلاجة السّوداء ببابٍ واحد مع الطاولة الصغيرة التي تجلس على أحد كراسيها الخشبية و المُخصصة لأربعة أشخاص, كُرسيان أبقاهما للاستعمال اما الاثنان الأخران فمدفونان بين الطاولة و الجدار. جملتُها حملت السخرية و الاستهزاء لكن عيونها الواسعة تغلّفت بالبراءة مما جعله يُهمهم بضحكة صغيرة..

لم تكن آنا من النوع المُراعي بل كل فكرة تطرأ على بالها تقولها, ما بقلبها على طرف لسانها, كانت صريحة جدًا و لا تتوانى في ابداء رأيها الشخصي بطريقتها الخاصة مهما كان رد فعل الناس حيالها, هي فقط لا تهتم بما يعتقده الآخرون..ذلك هو مبدؤها الأول.
مع رنين الجرس رفعت الشقراء خدها من على كفها مُتسائلة:
ــ هل تنتظرُ زُوّارًا؟؟
ــ لا ابدًا!
أجاب و هو ينفض يديه من الماء ثم مسحهُما بطرف المئزر بينما يسير الى المدخل, عندما أطل من ثقب الباب عاد ركضًا الى آنا و قال بهلع:
ــ ماتي!..انه ماتي!..هيا بسرعة يجب أن تختبئي في مكان ما!!
لم يترك لها مجالا للكلام او الاعتراض أو حتى إبداء اقتراح بل دفعها بسرعة الى غرفته و ألقاها داخل خزانة ثيابه مُخفيا اياها وراء قُمصانه و معاطفه المُعلقة بشكل مُرتب و أمرها:
ــ إياكِ و القيام بأي شيء!..فقط ابقِ مُختبئة هنا و سأتدبرُ أمره!
و عاد الى الباب بعدما أقفل عليها باب خزانته كي يمنعها من الخروج فهي حتما ما كانت لتستمع له و تبقى مكانها, أغلب ظنه انها ستخرج و تضرب ماتي بمقلاة على رأسه كي تُفقده الوعي!

فتح الباب و صدره يرتفع و ينخفض من جريه و من تنفسه الذي أصبح سريعًا فجأة بسبب توتره, ماتي قد لاحظ ذلك و دخل يتفحصه بعيونه البحرية و يتمعن في البيت:
ــ ما الامر؟..هل توقيتي خاطئ؟
تساءل ببراءة بينما أجاب كريس بتردّد و هو يحاول ربط كلماته كي تبدو متماسكة و مُقنعة لماتي فألقى اليه بطرف الخيط كي يُزيل تلك الشكوك التي قرأها في عيني صديقه:
ــ ظننتُه صديقي قد عاد, لقد أتى لزيارتي لبعض الوقت
تأوه ماتي مُتفهمًا لكنه ضحك بعدها مُعترفًا:
ــ لا تغضب..لكنني ظننتُك تُخفي فتاة في مكان ما, قد تكون في الخزانة ربما!
ابتلع كريس ما وجده بحلقه من مرارة الارتعاب, هل ماتي يملك ذلك النوع من البصيرة؟؟, هكذا تساءل مع نفسه بحيرةثم حوّل الحديث عنه:
ــ في العادة لا تُكلّف نفسك عناء القدوم بل تكتفي بالاتصال!
ــ بلى فعلت و هاتفك مُغلق!
تذكر كريس هاتفه الذي كان في جيب معطفه فاقترب منه حيثُ كان مُعلّقًا و اخرج الهاتف ثم رافعه قُبالة ماتي كمن يُبرر ما حصل:
ــ نفذت البطارية..أمضيتُ طوال اليوم ابحثُ عن عمل و انا مُتعبٌ حقا لذلك لن أستطيع القدوم!
كان صاحب العيون التُرابية قد حزر سبب قدوم ماتي, فكر أنه لابد و أن بقية اصدقائه ينتظرون في الأسفل
ماتي غير مُكترث بما سمعه من صديقه بل انصبَّ اهتمامه على ذلك الشيء الفضيّ الدّاكن فوق الطاولة الزجاجية القصيرة التي تتوسط الاريكتين:
ــ هل هذا مُسدس!
و اتسعت ابتسامته و هو ماضٍ اليه و أخذه بيده بينما يُمثّل التّصويب مُصدرًا صوت اطلاق مُزيّف
ــ بام بام..!!
كريس و هو يرفع كفيه امامه يُحذره: ــ ماتي ضعه من يدك!
لكن الأوان قد فات حين انطلقت الرصاصة بعدما ضغط ماتي على الزناد!

“ # „

حتماً سمعته جيدًا, إنه اطلاق نار! و حصل في هذه الشقة! تفقدت حزامها بسرعة و مُسدسُها لم يكن فيه أدركت مُتأخرة إنها وضعته على تلك الطاولة في غرفة الجلوس و لم تعد لتحمله من هناك!
و وسط ظُلمة خزانة الملابس قاومت الباب المُغلق و صف الثياب التي تُعيقُها, حاولت جاهدة مُطلقة سيلًا من اللعنات فتح الباب لكنها لم تستطع فقد كان مُغلقًا من الخارج! الف فكرة دارت في رأسها..مُسدس, رصاصة, إصابة, دم!
صاحت بحنق: ــ تبا!

“ # „

بقي كلاهُما شاخصًا في اللوحة الواقعة على الارض و قد تحطم جانبُ اطارها البرونزي, لا صوت.. سوى انفاسُهما الثقيلة و قرقعة الزجاج و هو يسقط ببطء على الأرض ماتي جاثمٌ مكانه بصدمة يزدري ريقه و كريس يقف غير بعيد عنه و قد استعاد تركيزه :
ــ لقد حذّرتُك!..هيا قِف..لا بأس لم يحصل سوء.
و ساعده على الوقوف, رمى ماتي المسدس من يده بذُعر و قال:
ــ ارجو أن تكون لديك رخصة لتحمل مُسدسًا
اجاب كريس فورًا: ــ انه لصديقي ذاك, انه شرطي, سيعود ليأخذهُ مع الصباح انا واثق!
قالها بنبرة مُتأكدة مما أقنع ماتي, فرتّب الأخير سـرته النيلية و سرّح شعره الأشقر مُعيدًا إياه إلى الخلف و قال مُحاولا تجاهل ما حصل:
ــ ألن تأتي؟!
كريس بنبرة صادقة: ــ أنا حقًا آسف..!
ــ لا بأس, و أنا آسف بشأن اللوحة سأعوضك عنها!
ــ اوه لا تهتم الأهم هو لا اصابات!
كرر وراءه: ــ نعم لا إصابات.
سار معه الى الباب و عندما صارا عند الرواق سمعا صوت تحطم قوي! فتستر كريس بأن قال بسرعة:
ــ يبدو ان نيس أسقطت سلة الثياب!
ــ اوه أجل حسنا سأذهب الآن
ابتسم بمرح و لوح لكريس قبل ان يخرج و ينغلق الباب وراءه استند كريس على الباب بظهره و هو يتنفس بعمق غير مصدق ان الامر انتهى!, ظهرت آنا و بصوتٍ خائف قالت:
ــ هل أصابك أي شيء؟؟
ــ لا, و ماتي ذهب..كل شيء على ما يُرام, ما كان ذلك الصوت؟
سألها بريبة فظهر الارتباك عليها و هي تُسرّح شعرها اسفل رقبتها:
ــ لقد كسرتُ باب الخزانة..
تنهد بهدوء و لم يبدُ عليه أي ضيق حيال الحُطام الذي حصل اليوم, لوحة مُحطمة برصاصة مغروزة في جدار غرفة الجلوس! و باب خزانة مخلوع! و سألها:
ــ لا بأس..لم تُؤذي نفسك اليس كذلك؟
ــ لا أبدا ركلة واحدة و فُتح!
قالتها بساقٍ ممدودة كمن يُوجه ركلة في الهواء!, ثم أضافت وهي تُخفض ساقها:
ــ أظن أنه عليّ الذهاب الآن..
ليست سوى ثوانٍ حتى كانت آنا قد خطت الى غرفة الجلوس و اخذت سترتها و ارتدتها على عجل, دون أن تنسى مُسدّسها و خوذتها السوداء, حشت قدميها في حذائها الرياضي الأبيض ثم قالت مُودّعة:
ــ أراكَ قريبًا
فتح لها الباب و قال: ــ سأتصل لأطمئن انك وصلتِ بأمان
و كعادتها صدرت منها ضحكة عابثة و هو الآخر لم يظهر عليه الانزعاج فعلى مايبدو بدأ يستعيد طريقة التعامل معها, ودعته و راقبها تنزل السلالم بخفة و دخل مُقفلًا بابه بمجرد ان غابت عن ناظريه.

“ # „

في المرآب الواسع الذي يقبع في الطابق الأرضي للبناية كان رفاق ماتي ينتظرون عودته بعدما صعد الى شقة "جايك" كي يدعوه لمُرافقتهم لقضاء بعض الوقت الممتع على حد قولهم, كانوا ليكتفوا بانتظاره هنا ريثما ينزل اليهم لكن هاتف كريس كان مُغلقًا فاضطر ماتي للصعود اليه و ترك الشبان الثلاث في سيارته.
أليكس الفتى القصير و ابيض البشرة و صاحب الملامح الهادئة يرتكز على خلفية السيارة الفضية أما الآخران و اللذان كانا كضدين لبعضهما شكلا فجون ممتلئ الجسم و معالمه غائرة في وجهه أما بِن فكان نحيفًا جدًا بوجه مُتصلب غير أن هذا الاختلاف كان ظاهريًا و حسب لأن تفكيرهما مُتقارب جدًا و غالبًا ما كانا يغلبان ماتي بالتحالف ضده, لكن ظهور أليكس كان اشبه بطوق النجاة في حين يُحاول هذان المُتلاعبان اغراقه!
على الرغم من ذلك فإن ماتي تعايش مع موت كريس بطريقة أفضل مما فعلت أخته..
صفّر بِن باعجاب و اتسعت احداقه و هو يرمق الدراجة النارية المُلتمعة بلون أحمر, اقترب منها بخُطوات سريعة لكنه حافظ عليها صامتة و لمسها بحذر شديد و كأنه خائف على معدنها الصقيل من أن يتأذى بفعل لمسته الخفيفة كالريشة, بانبهار قال:
" Y2K انها الزوجة التي يُريدها أي أعزبٍ مثلي!"
كان جون قد وصل الى جواره و هو الآخر مشدود الى الدراجة الفخمة لكن اعجاب بِن كان أشّد, في هذه الاثناء صار ماتي عندهم حين سمعوه يقول بنبرة أوضحت يأسه و استسلامه:
ــ لن يأتي..
" نعم!"
صاح بها الاثنان و قد ظهرت عليهما الغبطة بينما يتقدمون باتجاه السيارة, نطق أليكس و هو يلج الى المقعد الخلفي:
" لا نزال مُتعادلين "
تابعه ماتي يهُّز رأسه مُوافقًا: ــ ساعة واحدة ولا دقيقة اضافية!..ثم بعدها نكمل السهرة في صالة البولينغ
أومأ الشابان المعنيان بعيون ماتي زرقاء اللون التي سددت لهما نظرة وعيد نقلها بينهما بالتناوب, ثم عادا ليبتسما لبعضهما بمكر.
أدار ماتي المفاتيح و تصاعد صوت المُحرّك القوي مجلجلًا وسط سكون المكان, تحركت السيارة حركة خفيفة كي يخرج بها من وضعية الركن حين جأر صوت مُحرك آخر صدر من آخر المرآب سرعان ما تبين مصدره عندما عبرت من أمامهم الدراجة الحمراء بسرعة كبيرة و خلّفتهم ورائها و قد انحنت رقابهم يتتبعونها
" انها فتاة!"
صاح بها بِن و الذي كان اكثر من اهتم بالدراجة و رغم ظهورها المُفاجئ و سرعة عبورها إلا أنه تمكن من إدراك ان راكبها فتاة كونها تركت نافذة الخوذة مفتوحة مما أبان جزءًا من ملامح وجهها الأنثوية
ماتي بنبرة اعتيادية و هو يدير المقود و ينطلق بالسيارة:
ــ و أين المشكلة؟
بِنْ بغير تصديق: " انها Y2K تبلغ سرعتها227 ميل في الساعة وينتج محركها قوة 320 حصانآخر قطعة بيعت بـ 175 ألف دولارلابد أن صاحبتها ثرية جدًا! ابنة وزير ربما!
ــ تبدو كابنة احد افراد المافيا الرّوسية
هكذا علّق الأشقر و هو يُقهق ضاحكًا..!

“ # „

و فيما يقضي الجميع ليلة يُمكن أن تكون هادئة رغم كل ما حدث و كل ما كان ليحدث فالختام كان جيّدًا و نجا السر ليومٍ آخر!, لكن الحقيقة تقترب من الضوء أخيرًا بعدما عاشت في سردابٍ مُظلم لمُدة عشر سنين!

حُلم طفا الى عقل تلك الشابة المُتكوّمة بلحافها الدافئ و قد عاد الجو ليبرد مع حلول الليل, الريح انطلقت هائمة في الآفاق الداكنة تضرب الأشجار عارية الفروع و تطرق النوافذ الزجاجية مُصدرة صفيرًا يختنق حين يمضي بعيدًا..

بوجه مُتجهّم كانت تقف, ترتدي ثوبًا أخضر كأوراق الشجر اليانعة أسفله يدور حولها كشرائط عريضة اطرافه مقصوصة على شكل زوايا حادة و على ظهرها تثبتَّ جناحان صناعيان مُزينان برذاذ برّاق و بعض الأحجار الزجاجية اللامعة, أما شعرها الفاحم فكان مُبعثرًا حولها, مُتكتفة و تنفخ وجنتاها الورديتان بانزعاج طفولي, حاولت معها والدتُها بعدما فشلت مُعلمتها في ذلك:
" لوسي عزيزتي, لا حل آخر هل تريدين أن تأخذ فتاة أخرى مكانك؟"
هي حتما لا تُريد هذا, عملت جاهدة حتى تحظى بدور ترينكبيل, و كله من أجل كريس لانه مُنح دور بيتربان! و الآن بعدما وقع من على المسرح و لوى كاحله فلا يستطيع تأدية الدور لذا أخذ كيفن مكانه, أكثر صبي تكرهه لوسي!, لم تتوانى في شرح موقفها لأمها و إن كان همسًا:
" و لكنني أكرهه! "
نظرت اليها أمها بعتاب و قالت: " لوسي كم مرة عليّ إخبارك بهذا, لا يجب أن تكرهي أحدًا..."
أكملت عنها: " هذا يقتل قلبي..أعلم و لكن.."
صمتت بقلة حيلة فحثتها لارا على المُضي في الكلام: " لكن ماذا؟ "
استجمعت كلماتها و قد ضغطت على عينيها و هي تُغمضهُما ثم فتحتهما و قالت بسرعة:
" لقد سخر مني بسبب لون شعري! قال انه لا يجب ان اكون ترينكبيل لانني لست شقراء...لو كان لدي شعر مثل شعرك ربما كُنتُ لأكون ترينكبيل حقًا.."
قالت آخر جملة و هي تُمسك بخصلة من شعر والدتها الذهبيّ, تراجعت كفّتها الصغيرة لتُلاعب بين أصابعها خصلة شعرها السوداء لتحوم بعدها الصورة و تتموّج مُغيّرة المشهد, مع اختفاء والدتها الجاثمة على ركبتها امامها و صدور صوت آخر من ورائها, التفتت بهدوء حين قال " عليكِ تصفيف شعرك سيبدأ العرض قريبًا "
تربيتة على قمة راسها و ابتسامة ناعمة تقوست لها عيناه البُنيّتان, اكتفت بالصمت و النظر اليه بذراعه المُضمدة و المطوية الى صدره بحزام يتعلق على رقبته و ضمادة تخفي كدمة جبينه. قرأ ما بعينيها و فهم كل فكرة طرأت على بالها, لم تحتج لإعادة شرح شيء فقد سمع صوتها الداخلي الذي صرخ " لا أريد أن أكون ترينكبيل المُعتمة! "
قال: " لكن لولا رذاذ الجنيات لما تمكّن بيتربان من الطيران! "

~

تم و الحمد لله~

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيفكم قرّائي الأعزاء خ
حتى أكون صريحة فصل اليوم طويل جدا أكثر من 5000 كلمة
و هو لعيون فيوليت
الساعة عندنا 2:20 بالليل فحطو ردود تفتح النفس

سبر أغوار:

ــ ﭘﺭﻳﭬﻳﺕ! تعني مرحبا
ــ رادي ﭬس فيديت تعني أهلا سعيد برؤيتك

و هي بالروسية

في أمان الله
و رعايته







.
.









.


رد مع اقتباس