"كذبتي.. حطمتني"
اخترق الضوء حجاب الظلمة المسدل على غشاء ناظريها لتبدوا الصورة الضبابية لها بوضوح، بياض حولها من كل شيء...
هي مستلقية على فراش عال و يسراها نافذة ما...
أسدلت جفنيها ثوان تصب بها تركيزها لتتلامس أناملها اليمنى بكف شخص ما...
كف حانية تقود كل من يجهل أن يعرف أنها لتلك المرأة الحنون قلبها ، المرهف حسها، و النبع حنانها...
لم يكن هناك داع لتنطق عادة حتى تجذب إنتباه صغيرتها التي مهما كبرت تبقى طفلة في نظرها ، لكن هناك حاجب يحجب عن عقلها الوعي لتدرك قربها رغم تلامس الكلام..!
حركت يسراها لتمسح على رأس المستلقية بشرود : بنيتي، إستيقظتِ؟
شعرت الأخرى بشيء يشدها للنظر نحوه، لترى ذات الشيب الوقور بنظرة متفحصة قلقة ...
أرادت أن تتحدث لكن أبت أن تخرج الحروف من مخارجها ...
لا تعرف لمَ ، تشعر أنها فقدت القدرة على النطق...
هناك ثقل غريب تستشعره ، و وزن كبير تحمله داخلها
هي غافلة...
أن ذلك وزن الهم الذي أثقلها بَعْد وزن ..رونالد!
جابت بمقلتيها الزرقاوين تلك الغرفة لتقع حدقتيها نحو رجل متكوِّرٍ حول نفسه ...
رجل فحمي الشعر، بزته الرسمية التي أبدت تناسقها مع خصلاته متطجعة ...لم تفهم لمَ هذا الشاب مطأطأ الرأس جالس بفوضوية في غرفتها هي...
لكن هناك شعور قادها لنطق حروف هو يفهم كيف يلتقطها: فيكتور، أين رونالد...؟!....
تمتمت بصوت خافت تشبع بالحزن دون أن تدرك السبب في مواجهته مقلتيها بعين محمرة..
هو بدورة كان حائراً..
بالكاد تمالك نفسه و أوقف دموعه التي انسابت فوق خديه السهلين ، لتخرق قلبه بسهم قطع نياطه..
بماذا يجيبها، أليس هو من أخبرها بالواقع المرير ...؟!
أليس هو من كان سبب تحول صديقه لجثة هامدة...؟
ألا تذكر حقا كيف أصبح ضحية تضحية لأجله...؟!
مازال يشعر بيد رونالد الخاطفة التي بدلت موقعهما في لمحة بصر ليكن هو بجانب باب سيارته!
صورته و زجاج ذلك الباب يتناثر مخترقا جسده لازالت تعاود ظهورها أمامها ...
فشعور الذهول يلازمه الحظة...
حقا، من أين لرونالد الهزيل قدرة جر ثقله هكذا..؟!
بعد ثوان استوعب أنَّ المحادثة الأخيرة بين هذين الإثنين كانت وداعا حاراً على قلبها...لذا هي تحت صدمة لا يتصوَّر مداها...
صوّب عينه نحو مجاورتها التي أحاطتها بصمت ، وكأن ذلك هو حديثها التام في هذه اللحظة..!
لا يفهم لمَ رونالد قد فضَّل الموت على البقاء قرب كاترين...
لقد ختم حياته بالحديث معها، جوارها...
الغبي
أوقعه في عراك مع نفسه فليته كان من رحل ...
هو بالكاد يتمالك نفسه و العقل يحتم عليه التماسك ، لأجلها...
لأجل من دوما يُهَدّدُ في صدد حمايتها، البقاء درعها...
بحكم أنه رفيق تلك الجثة الهامدة حاليا لخمسة عشر عاما متوالية ، هو علم من تصريح لسان رفيقه أنها استقرت بعرش قلبه...
تاه في ديجور عتمة أفكاره التي لم تصل لبوادر النور و الهدى ليصوب نظره نحو والدتها ثم لها بحيره. .
وقف ليعيد لها الواقع الذي تاهت عنه بعدما وصل جوار سريرها، جلس على طرفه و هي بدورها استقبلت تقربه بمحاولة جلوسها ..
و أعانتها على ذلك أمها الصامتة بينما ملامحها تحكي صراخ ألم على فلذة كبدها...
هي لم تتصوّر أن فراق صديق كرونالد سيكون قريبا و أمام ناظري هذه الفتاة بجانبها..
يبدوا أن ذهولها بما جرى من حدث فضيع كان شديدا...
ليتها تعلم فقط ، أن أنياط قلب هذه الفتاة قد تمزق و أخرج منه كافة المشاعر ...
كاترين...محتارة في سلك سبيل العقل الذي يرشدها لشؤم لا تذكره..بل لا تود أن تستذكره، هي كانت تحلم حلما فضيعا ...
حلم سيئ فقط ..
ثبات حدقتي فيكتور الحادتين أبدا الجدية التي تجاهلتها بجملتها التي توحي بفقدان ذاكرتها : قلت لك..خذني لرونالد.
يكفي...يكفي...هو لم يشأ أن يمضي لحظة مقابل حياة عزيز كرونالد، لو كان بإرادته فهو يود تنفيذ طلبها بدوره...أن يلحق صديقه لدار أخرى ليوسعه ضربا لكل دمعة ذرفها أسفا عليه و ليعيده لهذه الروح المذهولة شابحة عينيها على أمل واه..
ازدرأ ريقه الناشف و بسط كفه فوق رأسها قائلا كلماته بصوته الدقيق علّه يعينها في فهم ما يجري: لقد رحل بعيداً ...رونالد رحل عنا كاترين، أرجوك...إفهمي هذا.
دفعته لتنزل من السرير متجهة نحو ملاذها ...أملها و قلبها الذي يدلها على كذب هذا الشاب...
تبعتها والدتها لكن خطاها كانت أسرع ...
ذلك المعبر الطويل ذو الخط الزهري لم يمثل لها شيئا سوى وهم...
إنها في وهم...
أطلقت عنان صوتها ليتدارج للعلو و الصراخ: رونالد...رونالد أين أنت...رونالد هذه أنا كاترين...
عدم توازن هو مصاحبها و هي تتماسك بما حولها باحثة عنه ... فمن سيصدق أنه تركها بعدما صرّح بمكنون لا جواب له...متى قالت هي مالديها..؟!
لسانها كان يتحرك بعفوية أثارت إستغراب من حولها: ...كف عن العبث رونالد..ليست مزحة جيدة..ليست مزحة جيدة بتاتا...
لم تجد جوابا، رونالد لا يستجيب لها
..!
رونالد الذي لطالما فاجأها ...أغضبها ..أفرحها... أحزنها ..يتجاهل ندائاتها....
وصلت للمخرج الذي أطل عليها بنور الشمس..
و أظهر لها رصيفا كالذي تناسته...
شدت أصابعها على جانبي رأسها الذي يكاد ينفجر ...صور غير معقولة تظهر دون أن ترغب...
وجهت ناظريها لما ترتديه، ملابسها الأقحوانية مغطاة بزخرفة غريبة من لون قان مألوف...
إنها...
إنها...دماء تطاشرت من جسد استقرت بجانبه قبل ساعات قليلة...!
قرب جسدها الممشوق من الهوي لولا كفي من توجهت لها بضعف و أسى ..
نظرت لها كاترين متمسكة بها و بمأمنها: أمي... لقد كان معي... يتحدث حتى أغضبني... و أنا...
أحرقت قلبه...
همسة فيكتور وصلت مسامعها من الخلف بعدما لاحظ مابلغته هذه الفتاة : قال أن إبتسمي...
~~~~~~~~
~~~~~~~~
لا أصدق...أني أقف على ثراه ...
أناس قلّة تحوم حولي بألبستها القاتمة التي تكبتني أكثر و لا أحد منهم يشكل له دائرة الأسرة
أين و هو وحيد والديه المتوفيين...
أنا..هي أسرته التي رآها خفاء عن نفسي
آه...
كم من المهول فقده، كم من العصيب إخفاء زفرات و شهقات وددت لو تخرج...
أكبتها و سوف أستمر بذلك ...فأنا منذ اخترقت جسده تلك الحدود الزجاجية الحادة...
عندها فقدت إدراكي و وعيي و روحي معا. ..
منذ أن تلطخ قميصه الناصع و بنطاله القهوائي
بدأت أدرك شيئا واحدا...أنه لايريد بكائي و نحيبي...
وأنّى للميت بكاء و نحيب
ربت مرتدي السواد القاتم قربي على كتفي ، رمقت قامته التي بدت أقصر لوهلة ثم قلت ببرود يغلف آهات غير مسموعة: لا تلم نفسك فيكتور ، لم يكن لك يد بما حصل... هو اختار ذلك ...
كلمات قالها ... حفرت آثارها في أعماقي
" هل... حدثك بالأمس عن نواياه"
أطبقت عيني لأنظر نحو الممتد في فراشه الأبدي...
أنظر لمن حادثني عن مصير غير مسموح لي...
يبدوا أن هذا المستلقي أخبره عن تخطيطات حياته التي لم تبدُ لي يوما..
بالتفكير بالأمر
لا أستطيع إدراك تكفيره ذنبه بهذا الشكل...!
قد يعرف فيكتور و قد يجهل واقع ماجرى ...؟!
لكن رونالد لخص الحادثة بجملته التي لن أنساها ما حييت...
حسده
هو قاتله...
جلست أبعد الزهور التي وضعت بترتيب عشوائى على صدره ، لم يرق لي تدخل صوت قارئ الأدعية ذاك و هو ينهرني بإنفعال من لمس رونالد...من هو ليردعني ...
لكني استجبت بصمت بعدما همست في أذنٍ لا تسمع كلماتي الأخيرة: قلادتك... بالفعل تناسبني، فهي من بين كفيك طوقت جيدي.
نهضت مديرة ظهري ، و جسدي يصارع رعشة لا يجب أن تهد قواي...
نطقت بجفاف لفيكتور الذي بدأ حائرا في تهدئتي لكونه يعلم عن الثورة التي بداخلي: سأعود، هل توصلني؟
صوته الخافت بدى مخافة جلب انتباه المجاورين لنا : كاترين، هل أنت بخير؟
بخير..؟!
أنَّى للخير أن يدنو مني...؟!
أشعر و كأن الموت أرحم على هذا الصمود الذي أدعيه
لكني ، تفوهت بخطيئة لم أظن أنها ستكلِّفني الكثير : أنا بخير ..لنعد.
إبتعدت...
بين تلك القبور المصفوفة اتخذت خطى خروجي ، بينما تركت مشاعري تندثر تحت رمال قبره
و تركت لنفسي ذكرى تطوق جيدي لأجله...
~~~~~~~
~~~~~~~
أدخلني فيكتور منزلي و سلَّمني مفتاح داري قبل أن يودعني ليرحل...
شكرته ثم توجهت للمطبخ لأشرب كأسا من الماء ليبعد عني الجفاف المستوي على حلقي..
والدتي و والدي ، لم أحادثهما منذ يومين و ذلك يضايقهما فعلا...
لكن ما أفعل و الكلمات تمتنع عن الإفصاح عما سيضايقهما لا غير ...
ما الذي سيفعلانه لو تكلمت عن ألمي ..؟!
هما لن يفعلا شيئا و لن يعيدا لي من رحل...و بالتأكيد ..إن سمحت لشفتي بالنطق فسوف أسترسل و أفصح عن المكبوت لدي ...
جيد على الأقل، أنهما احترما قرار تركي أذهب لوحدي دونهما لمراسم الدفن..
و ما ساعد ذلك، أن لأبي لقاء بأب المدعوا لورانس..للتحدث عن زواجي!!
سكبت الماء في الكأس و رفعته ، لكن.. لم أستطع تقريبه نحو شفتي الذابلتان
لا شيء يعبر من مجرى حلقي منذ ما حدث و هذا ليس بإرادتي...
سمعت والدي الذي دخل دون ملاحظتي : عدتِ؟
أومأت إيجابا و أنا أواجه قامته المستوية أحدق في ملامحه المهيبة و الوقور، هو بدوره كان ينظر لكفي المتشبثة بفستاني الضيق ليكرر سؤاله عله يحثني على الكلام: متأكدة.؟.لا تبدين كذلك.
ربما استنفذت طاقتي بتلك الإبتسامة التي أظهرتها ليقتنع بكذبتي : أجل، سأصنع لنفسي قهوة...هل تريد فنجانا؟
بان الإرتياح لترتخي ملامحه و أجابني و هو يتجه لحيث يريد : فنجانان رجاء...ثم تعالي لمكتبي، فهناك شخص يود لقائك.
رحل من أمامي لأسرع بالتمسك بالخزانة السكرية يسراي... ندمت حقا لما تفوهت به، ما ضير التصريح عن علة تعبي و إرهاقي و أني أحتاج بعض الراحة و الوقت ...
التفكير بلقاء ضيف والدي يفقدني حواسي...
ما الذي سأفعله لنفسي الآن بعد كذبة بيضاء واهية؟!!!
~~~~~~~
~~~~~~~
نفذت ما طُلب منها و اتجهت للطابق العلوي حيث مكتب والدها...
وضعت الفنجانين أمام والدها و أمام الرجل الذي يقابله ، كان رأسه مليئ بالشيب كوالدها و وجهه الطويل يحوي ملامح تنم عن الصرامة...
لم تتفرس ملامحه كثيرا بل جلست على الأريكة الحمراء المسورة بحواف ذهبية تستمع لحديثهم بصمت ، كان حديثاً بدأ بإعجاب السيد أندريان بالمكتبة الممتلئة بالكتب حتى الثقافة و إيجابياتها في المجتمع...
لم تستمتع بشيء لكنها كانت مجبرة على إنتظار دورها في محادثتهما و هذا حصل بعد فترة كما هو متوقع...
أطلّ عليها بنظرة فاحصة قبل أن يبتسم لها مبديا رأيه بها : أنتِ حقا جميلة أيتها الصغيرة.
نظرته و إبتسامته الغريبة تلك كادت لتكون إشارة أنه الرجل الذي سيكون زوجها لولا تصريح والدها أنه شاب عشريني ...
أمالت رأسها قليلا لتنطق ممتنة بجفاف لم يتسنى لها إخفاءه : ذلك لطف منك أن تراني بهذا الجمال.
ازدادت حدة نظراته وهو يشير ببنانه نحوها بهزل خفيف: أخطأت ..فبعد حديثك أرى أنك فاتنة و لست جميلة فقط.
صكت على أسنانها لتمحوا فكرة رغبتها بالذهاب و الإختفاء من أمامه، من هو ليبدي رأيه بها بهذه الوقاحة...!
سألها بعض الأسئلة عن نفسها و عن حياتها ،لتجيبه بما لديها ...فكلّها كانت جزئية و سخيفة ...
لكن سؤالا ما جعله تجفل مفتكرة ...
"هل ترغبين بهذا الزواج؟"
مزحة...يمزح ...
من يرغب بذلك، هي كذبت كذبة ستقيدها طيلة العمر... لا مانع لديها ...لا مانع لديها من دخول حياة كاذبة ككذبتها الحالية...
فلا يهم... رونالد ليس موجودا لتبدي حق أفكارها...
كذبتها هذه لن تضر غيرها هي ، و لا بأس بكل شيء...
بعد رونالد ، لا سعادة تلوح لها لتنتظرها...
لذا لا بأس بالكذب...
أكثر و أكثر
على نفسها ~~~~~~
~~~~~~
" لا أمانع .."
لاحت السعادة جلية على وجهه ، حتى أن نشوتها ظهرت في لمعة بؤبؤيه الخضراوين : رائع.
وجه حديثه الأخير لأشعر بصعقة لفتني و صفعة آلمتني...
كان ينطق حروفة ببهجة تقصم ظهري : غدا ستلتقين بإبني لورانس، أنا على وشك السفر الأسبوع القادم و سيطول غيابي لذا سنتم كل شيء و آخر هذا الأسبوع سيكون الزفاف...
لحظة...ما هذا الهذيان، هل عاقبة كذبتي عذاب هذه اللحظة..؟!!
أنا ..مازلت أرتدي سواد الحزن على رونالد، فكيف لي أن أقوم بتجهيز لزفاف الأسبوع القادم مع غيره...
هل هناك طرفة مؤلمة كهذه في الحياة!!!!
رمقته بنضرة زاجرة: ألا ترى أن ذلك تسرع... لأخبرك..أنا لست بمزاج لهذا الحديث الآن، يبدوا أن والدي لم يخبرك بظروفي الحالية...
أجاب قائلا : بلى، أنا آسف لزميلك...لكن ذلك لا يمنعنا...لا صلة لنا به ، و أنت يجب أن تتعدي صدمتك بوقت وجيز، لا أن تعيشي صدمة توقف مسيرة حياتك.
كم هذا الوضع مزري؟!!!
حولت نظراتي لوالدي مسترجية المعونة لكنه أشاد بصواب ما قاله هذا السيد: إنه على حق، رونالد رحل و لا نستطيع فعل شيء، و موته لا يردع زواجك...هو ليس من العائلة.
ليس من العائلة...!!!
لكنه...لكنه...عائلتي التي طوقتني بهذه القلادة الفضية..
سحقا، كذبتي هاته كنت أعرف أنها ستسحقني و هذا هو ما أردت ، لكن لم أتصور أن يبدأ مفعولها منذ الآن ، و بهذه الفضاعة....
حبل كذبي أقصر من من أي حبل...فقد بتره حكم الحياة بلحظة
قراءة ممتعة |
__________________
إخوتي
إني أغضب لأجلكم و منكم
و أحزن لأجلكم و بسببكم
و أبتهج لأفراحكم و تفائلكم
فتحملوا أخوتي هذه
هي كل ما لدي لكم
التعديل الأخير تم بواسطة وردة المـودة ; 03-23-2017 الساعة 07:28 PM |