ذهبية : كنز لا يضاهى سموه راقتني لم أصدق ما يجري...
حرارة تلك الصفعة مازالت تؤلمني و تشعل لهيبها بقلبي، حقّاً ما الذي فعلته لأجازى هكذا ..؟!
وصلت لذلك الباب القهوائي لأنزل مرتجلة من تلك السيارة الفاقعة و أسلم المال لسائقها ...
لممت نفسي قبل أن أتجه لمسكن أختي ، فما من مكانٍ أفضل من هنا حالياًّ...
طرقت الباب بيمناي التي قبضتها مراتٍ عدَّة ، إلّا أن الإستجابة لم تكن إجابة طرقاتي ، يبدوا أن لا أحد هنا..
جلت ببصري حائرة، يستحيل علي الذهاب لمنزل أهلي و هذه الحمرة قد اتخذت مكانها على وجنتي ، لو رآها والدي ستكون مصيبة لا حل لها و عقدة لا تفك ..
لحظات من التفكير العقيم قطعه وصول سيارة أخي الناصعة من جهة المغرب حيث أفلت الشمس توا و ما زالت حمرتها بادية...
يبدوا أن هادي قد تكفل بإيصال ريمان لمكان ما كالعادة..
دققت النظر لهم و له هو الآخر، لم يبدُ بخير ، ملامحه متجهمة و تقطيبة بيِّنة على محياه...
ثوانٍ و قد التف حولي أطفال أختي ، و هي بدورها و قد رفعت على كتفها صغيرتها الشقراء رغد ...
أظهرت شهقة خفيفة لما لاحظته ، فأسرعت لفتح قفل دارها لندخل و يتبعنا هادي الذي ركن سيارته بزاويةٍ ما خارجاً...
كنت أنتظر ذلك..لأضمها باكية ...
شددت بكفي عليها لتربت على كتفي مواسية، ليومِ شؤم لم أكن أراه في سلسلة ذكرياتي و آمالي ..!
و هادي ، ذهب ليغسل وجهه مبعداً عنه ألم شيئٍ لا أدركه...
دقائق لم أشأ عدها مرت قبل أن أهدأ و أجلس على الأريكة المتواجدة في المكان ، حقا شعرت بضعفي عندما انهزمت لبكائي الصامت ثانيةً ...
ما الذي يجري ..لا أعلم..؟!
شعرت بجسد صغير لقصير القامة يلتصق بي و بؤبؤيه تلمعان بدموعٍ حزنٍ على وضعي ، نطق بصوت ضعيف يخشى غضبي ربما : خالتي..أنتِ بخير؟
بالفعل تناسيت وجود أشخاص غيري و غير ريمان...
أخذت بدر في حجري و وجهت حديثي للآخر الجالس على الأرض ببساطة ينتظر مني ترحيبا قد نسيته...
مددت يدي له هو الآخر : نصر ، تعال إلى هنا.
توجه لي على الفور مجيباً و هو يخترق ساحة حزني بإبتسامته المشرقة و بهيته الطفولية..حقا، للأطفال عالم لا تكتسحه سوى أوهام السعادة في طيات براءة ...
شققت إبتسامة لم تخلوا من الإدعاء و لساني يعتذر منهما : آسفة حقا ، لم أجلب لكما أيَّ حلوى لليوم.
"لمَ؟!"
"إذاً يجب عليك اللعب معنا طيلة الليلة.."
هذا ما تلقيته من إجابة لإعترافي الذي تجلى اعتذاراً و ما كان علي إلا الإيماء بالموافقة، فبالطبع هما سيناما قريبا و تنتهي مهمة رشوتي لهما ...
ربما ساعةٍ من اللهو مضت حتى وضعت ريمان أطباق الطعام ، شوربة عدس مع بطاطا مقلية ، أظن.. إنها تحاول التخفيف عني بتحظير ما أحب و أشتهي ...
حقا، رؤية ابتهاجها و تصرفها الأمومي هو ما يجعلني ألجأ لها و لو بصمت...
هي لم تسألني حتى ما جرّني للمجيئ.. فعادة ما آتي صامتة و أخرج كما أتيت...
إلَّا أن هذه المرة حمرة هذه الصفعة قد فضحت سر مجيئي ..
تناولنا و إرادتنا هي الصمت...
لكن تواجد الأطفال قطع إرادتنا هذه...
لعبهم الطفولي و شجارهم الذي جر ريمان للصراخ عليهم قاطعة مدار هدوئها المعتاد...
أما أنا فكنت سجينة عالمي ..
حتى هادي بدا بعالمٍ مختلف، جرني للفضول حقا لسؤاله عمّا به و عندما سألت: هادي..هل أنت على ما يرام؟
أجاب بصراحة استغربتها و هالة توقف لساني عن استفسار المزيد ترافق لحنه الغامض: لا.
هو و ريمان قريبان كفاية ليقل لها ما لديه لها على ما أتصوَّر، دوماً ما يندمجان مع بعضهما رغم تضاد شخصيتيهما ...
على كلٍّ ، أعرف أني لن أكون ذا منفعة لأحد ما دمت لا أعين نفسي ...
تنهدت لما طرأ ببالي فأنا حقا عاجزة عن حلِّ مشاكلي الشخصية مع كامل لأتبرع لمساعدة أحد آخر..
لذا تركته و شأنه ...
أنهيت موعد اللعب مع الطفلين لأذهب نحو المطبخ المفتوح الذي تقف به أختي ...
بإبتسامتها الرحبة تلك حتى في وحدتها ، تجعلني أفكر ...هل أنا أكبر منها أم هي أكبر مني...
ففارق العمر بيننا لم يكن سببا لمرحها المعتاد و جديتي التي لم تفارقني يوماً...
قلت لها و أنا مقاربة لها : أساعدك؟
أجابت بمد طبق مملوء برغوة الصابون : خذي..
وقفت بجانبها مجيبة دعوتها و بدأت بغسل الأواني معها ...
لحظاتٌ و هي تقول : سيعرف كامل خطأهُ قريباً..انتظري فقط .
رمقتها بنظرة خاطفة ثم عدت أنظر لكفيَّ العاملتان...
كامل..
كنتُ أظنه كاملا في كلِّ شيئ ..و الآن علمت مدى خطئي ، فالظن لا يغني من الحق شيئا...
حرفت دفة الحديث نحو ما شغلني قليلا متسائلة: ريمان ، ما به هادي؟
حدقت بي ثوانٍ قبل أن تجيب بإختصار: لديه بعض المشاكل التي تؤرقه، أتمنى أن يكون بخير هو الآخر .
سرحت أفكر في صمت ، فالشرود على ما يبدوا قد رافق وجودي هنا حاليّاً...
لكن هذه المرة..
لأجل أخي ، فما الذي يجره لإظهار غرابة أطوار لم أعتدها منه...
فمنذ انتهى العشاء و هو يتقلب فوق الأريكة مدعيا النوم الذي قد فارقه..غاضبٌ من نفسه أم من غيره بتلك التقطيبة التي تعلوا وجهه الحنطي...حزين لأجل شيئٍ يؤرقه...
و قد صرح بأنه ليس بخير!
يبدوا أن الأمور لاتجري بخير البتة البتة، و ها أنا قلقة للغاية..
أحنيت ريمان عن وظيفة أمومتها لليلة ، و طلبت منها إعطائي رغد لتنام عندي ...
و قد رحبت هي بفكرتي ...
استلقيت على فراش صنعته من عدة أغطية و بدأت أنظر لديكور غرفة الأطفال هذه، تلك الألعاب المصفوفة في أماكنها المخصصة و تلك الخيمة المنصوبة تحكي بعد عالم هؤلاء الصغار...
ضممت رغد و بدأت أحكي لنفسي مدى إعجابي بوالدتها، تقوم بثلاثة أطفالها في غياب زوجها الذي تجره ضروف الحياة للعمل بعيداً...
هي إمرأة اتسمت بصفات الجمال الملكوتي في رأيي ، صابرة و متفهمة و هذا ما كنت أطمح له طيلة سنوات عمري ...
أظن أني خيبت ظن نفسي ...
بدأت أمسح خصلات صغيرتي الشقراء متذكرة شبيه ملامحها ...فحمي الشعر الذي لم يتسم إلّا بالغموض و الصمت و اليوم بكلمة شتت كل ذهني...
لا، يعني ليس بخير...
له همٌّ لم يستطع كتمانه كما العادة بقول ..لاشيء!
أشعر بضيق حقا...
غداً، سأحاول فهم ما يجري له...
استيقظت على صوتها المفعم بالعفوية و المرح و هي تصفق بكفيها : هيا هيا...استيقظوا جميعكم ، إنه الصباح...
تذمر ابنيها كان جليا في تململهما و تكاسلهما بينما أنا قلت بإنزعاج و ذراعيَّ تسعى لإخفات نور المصباح الذي أضائته : ريمان، بعض الهدوء أرجوك...أود بعض الهدوء و النوم...و لست ابنيك لتوقضيني للدوام المدرسي . .
أردفتُ يإعتراض نسبي : يا إلهي...
جيد أنها خرجت لتوصل ابنيها لمدرستهما ، إنها فرصة مناسبة للحديث مع هادي..سأصنع الفطور و أوقضه ...
طبقت قراري و ها هو يحدق بشاشة حاسوبه المحمول مقابله على الطاولة الشفافة، بدا طبيعيا جداً...
ربما بدأ يخفي ما بداخله كي لا أقلق ...
أو لألا يتحدث عن ما يزعجه و يمضي يومه بصمت كما اعتدت عليه...
وضعت الفطور الذي لم أصنع منها سوى الشاي و القهوة ..
معه بعض مربى الجزر و الجبن و اللبنة و العسل ، و لله الحمد كل شيئ متواجد...
فأنا لا مزاج لي للطبخ ...
نهض يغسل يديه و يأتي جالسا على الطاولة الرمادية التي تتوسط المطبخ و ذلك بعد أن استدعيته ، و بعد لقيماتٍ قليلة قلت و أنا أرمقة بناظري كأني أقيس نبضه : هادي، أخبرني...ما بك؟
أجفل لحظة و هو مطأطأ الرأس قبل أن يعود لأكله : هوني عليك...أنا بخير الآن صدقيني ، لا تقلقي نفسك .
نظراته اللامبالية جعلتني أشعر...بالغباء...
طيلة ساعات و أنا أفكر كيف أواسيه بسبب كلمته المباشرة تلك و بعدها يأتي و يقول أنه بخير...
لا و المصيبة الأدهى حين ينطق ببرود مردفاً: ما الذي يجري لك أنت هناء؟
لحظة...
هل للتو، قلب دقة الحديث نحوي ...؟!
أ أنا سيئة بالمواساة لهذه الدرجة ..؟؟؟
و قد أقلقته بدوري ، يالي من فتاة...
أظنه قد انزعج من كثرة سؤالي منذ البارحة فأراد إراحة نفسه بتذكيري مابي من هم ...
حقا لا أعلم ما هو شعوري..صاعقة أم صخرة سقطت على رأسي لا أدري من أين...؟!
مع كل شيئ، أن لا أكون من يسمع شيئ لم أجربه سابقاً....
دوما أسمع و أبتسم و أحل مشاكل من حولي... فأين أنا..!
تملكتني سعادة غامرة لم أستطع مقاومتها ...
لا أريد حلاًّ لمشاكلي و لا أن يتشاجر مع كامل، لكن أن يصغي إلي..لهو بالشيئ الذي يستحق الشكر الجزيل ...
فقدت إدراكاتي تماما و أنا أسهب في الحديث عن الواقع المرير الذي عايشته قبل مجيئي ، و نسيت أني قد جلست لأجله هو ...
بدوت أنانية على إظهار دواخلي التي أخفيتها ...
أنا أتألم، أنا أحزن...و أشعر بحرارة تختلجني...
و ما بال هذه الأنا تتسلط على مشاعري...؟!
كان يسمع و أنا أعلم، لكنه لم يرمقني بنظرة حتى... بل كان يحدق في شاشة هاتفه هذه المرة...
أتممت ما لدي لآخذ تنهيدة طويلة منتظرة منه صمتا متوقع أكثر مما أبداه في لكنته الباردة التي تخفي خلفها الكثير : لستُ أختلف عنكِ فأنا أيضا لدي مشاكلي ، بالأمس فقط شعرت بحرارة تغزوني ....
هل للتو...صرَّح بشيئٍ من مكنوناته لي...؟!
لحنه بارد و لكنةٌ جامدة تلف جملته، لكن...صراحة حديثه و اختياره لكلماته التي لم تأخذ سوى دقيقتين في تسلسلها لتسجنني بطياتها فهمت منها أمران...
لست الوحيدة من أعاني...فهناك وحدة اتلمسها في حديثه من الأقربين قبل المبعدين..
و أنه أخ نادرٌ قد حظيتُ به...
غريبُ أطوار و لستُ أنكر، لكنه رائع...
كفاه عزَّةً أنه قال لي : لن أدعكِ تكونين غير هناء ، فأنتِ كذلك..
تغوغلت بؤبؤتي دموع نشوة لا تضاهى...
لم أشأ البكاء فرحاً أيضا ، فنضراته منذ لحظات و أنا أبحث عن مشكلتي الشخصية معه لم تكن غير تعبيرٍ جيد عن "الفتيات مزعجات " ،هذا..إن كان يفكر بشئ أصلاً...!
نهضتُ أرفع كوب القهوة الذي أمامي و كوب الشاي الذي ارتشفه و نطقت سائلة بنوعٍ من المرح الخارج عن إطار الحزن الذي صنعته: قهوة أم شاي ..؟
لاحظت شبح إبتسامة وددتُ لو ظهرت جليّا و هو يجيبني محاولاً عدم إبداء اكتراث: شاي أسود .
نهضت ألبي و كلي فرح يغمرني ، كلَّما أبحث عن سر ذلك بمحادثتنا لا أرى شيئاً سوى غرابة هدوءها و انقلاب ساحتها ضدي أنا....
قد يكون لأنه أسدى لي نصيحة صبر أو لأن قلقي بدأ يضمخل بتصريحه البسيط لي أنه بخير و لا داعي للقلق ...
صوت تحرك الكرسي الخشبي تلاه صوت خطاه مدمجة بكلماته: تجدينني في الحديقة .
أجبته ب " حسناً " دون أن أواجهه و تمت محاورتنا بهذا ...
لم يخفى علي سر ذهابه لتلك الساحة المكتسية بالخضرة ، رغبته تتجلى في إسناده ظهره بإستقامةٍ على شجرةٍ تتوسطها ...
سيسرح قليلا في إلهام لا يُعرف ،و سيبدوا ظاهره كمن لا يعي شيئا و لا يفكر بشيئ، بينما أنا خير من يعلم أنَّ عقله في قمة إدراكاته و تفكيره في سمو تعقله...
و بعدها سيفتح حاسوبه متجها لوظيفته الأسمى في نظره، فرغم سكون ظاهره إلَّا أنه يدرس بجد و يقلب صفحات کتبه و حاسوبه عشرين ساعة من الأربع و عشرون ...!
دلفت ريمان و هي تدندن بأنشودة طفولية لم أفهمها لأرحب بها في طريقي الحديقة الخلفية : أهلا بعودتك ريمان.
بشاشة وجهي أبهجتها و علامة ارتياحها هو ابتسامتها التي اتبعت حواسها ، لكنها وضعت ما أتت به من مشتريات على الطاولة الزجاجية التي توسطت الأرائك الأربع ذات اللون الناصع الذي كسره بعض الوسائد الفحمية سائلة : أين هادي ؟
أجبتها : يدرس في الحديقة .
أرخت جفنيها بحنان أمومي لم تكتسبه من أيامها بل هي لطافة روحها الذي دلتها على فهم آهاتنا : تحسن إذاً...حمداً لله ...كنت قلقة.
بادلتها بإبتسامة صامتة ، هي معلولة فخري بما أملك...
في الدنيا كنوز كثيرة نتلمس ألطافها ، و وجود اخوين رائعين أسماها ...
و كنزي لا يضاهى سموه ...
جعل الله سعادتهما تطفوا محلقة بسماء ابتهاجي ...
__________________
إخوتي
إني أغضب لأجلكم و منكم
و أحزن لأجلكم و بسببكم
و أبتهج لأفراحكم و تفائلكم
فتحملوا أخوتي هذه
هي كل ما لدي لكم
التعديل الأخير تم بواسطة وردة المـودة ; 04-23-2017 الساعة 10:31 PM |