خلف الكواليس
ولكن فجاة رأيتهم يلعبون لعبة ما ، وكانوا مستمتعين على ما يبدو ، ثم دعوني لأشاركهم ، فرمى علي أحدهم طوقاً دائري الشكل ، ما أن التقطته حتى تذكرت المدرّبة كيف كانت تمسكه بمهارة في صالة التدريب .. ،هل هي انا حقاً الآن ؟
وبتُّ العب معهم قليلاً ، فأرمي عليهم الطوق ويبادلوني بواحد آخر بعد ان يلتقطه أحد . كانت لعبة عجيبة لكانها لاطفال الروضة الصغار ، ورغم هذا لم اكترث سوى لمشاركتي لعبتهم ثم الإنصراف بشكل مفاجئ .
ورميت الطوق بإهمال ثم انصرفت بالفعل ، حتى مررت من بينهم بلا اكتراث .. وغادرت الى مكان آخر ، كان ذلك المكان هي الغرفة الصفراء المشعة في المسكن .. ، شيء ما حثني للمضي قدماً هناك حتى دخلتها ،ووجدت العميل السري بالهندام الرسمي الأسود ، والنظارة الشمسية الحاجبة لطليعته ، كان ينتظرني..، لكانه يريد ان يهديني رسالة ما تشير إلى مهمة جديدة .
هو يعمل لمنظمة مرهبة ، تقشعر حين تعبر بوابة الدخول ،صاحبة اعمال غير معروفة ، وهي لربما تكون كالسيطرة على العالم او الدولة ، او للتوصل من خلال تجاربها سواء على الجنس البشري أو غيره إلى إكتشاف قد يحدث تحوّلاً جذرياً على الارض .. !ولكن لا أحد يفقه الكنه المختبئ ، ومجموعة جراحين بأكف إحترافية لتشريح الجثث و الفئران البشرية في السجون القابعة في الدرك السفلي من عمارة المنظمة .
وكان هذا العميل غامض إلى حد ما ، يرهب منه الكثيرون ممن يعملون في المنظمة ،وبالأخص أصحاب المهام مثلي ،لقد سمعت عن الكثير منهم من لقى حتفه مقتولاً على يده، بعد أن عادوا بتقاريرهم فور انهاء المهمة ، والمخيف لنا نحن من نحاول أن نؤدي مهامنا على اكمل وجه أنه يشهر سلاحه على كل من يعود إليه ، سواء عاد بعد نجاح المهمة أو فشلها ، لقد كنا على دراية بان من يفشل في أداء عمله سيواجه العقوبة ، ولكن بالنسبة لمن ينجزها .. كان امراً مخيفاً !
ويضع يده في بطن جيبه ،ويحدق ناحيتي بلا مبالاة ..، كأداة لتنفيذ الأمر .
القى الظرف بإهمال وهو يخبرني ما خلف التفاصيل ، لم انتبه لما اخبرني اياه حرفياً ، ولكن كان يعني هذه المرة بان أستخدم متفجّرات لقتل أشخاص في طريقهم إلي كزيارة مفاجئة دبرّتها المنظمة حتى يوقعوا بهم ، وكان علي التصرف بطبيعية وود .. قبل أن ينفجر ذلك الشيئان الغريبان الموضوعان على الطاولة الزجاجية .
وبالفعل حدث ما حدث ، وجائني الضيوف وفق الخطة ، ثم جلسنا لبعض الوقت ، وفي الدقيقة المصيرية رأيت دوي إنفجار في الغرفة ، رأيت الدخان يتطاير! وبعد أن أنسحب عن اجواء الغرفة الخانقة انكشفت اجسادهم مرمية بعشوائية ، واحد يتدلى على الأريكة وآخر على الأرض الرخامية .. ولا أتذكر الباقين .
والغريب في الامر بأنني كنت بينهم .. امامهم ولم أصب بأدنى خدش !
أديت المهمة بنجاح وصعدت السيارة معه ،حتى أعود للمنظمة ، كان لهاثي جليّاً على ذلك الهدوء الطاغي ، أتذكر ان هناك شخص صامت كان يربض بجوار مقعده في المقدمة ، كان العميل يقود بسرعة جنونية، ويتجاوز السيارات بمهارة كأنه معتاد على هذا ، بينما يكلّمني لثوانٍ عندما ينظر لي من الخلف بواسطة تمرير ناظريه إلى المرآة الامامية المتدلاة ، كنت كل ما ابصره فيه تلك النظارة السوداء شبح الفزع ، وكانت تبان عليه دوماً الثقة والاعتيادية .
سمعته يقول وهو ينظر لي من خلال المرآة ،
( هذه آخر فرصة لكِ ، لديكِ مهمة أخرى عليكِ تأديتها فوراً )
لم أفهم كلياً ما تعنيه عبارته الأولى .. آخر فرصة لي ؟ .. لقد أنجزت ما طلب مني بنجاح فما الذي يرمي اليه بكلامه .. ؟ .. اكان يعني بانه سيقتلني عند عودتي من المهمة التالية ؟!
أم ان هناك مقصداً آخر يختبأ وراء كلماته .. لم اكن أعلم بالضبط ، ولكن كان لدي شكوك في عدة أمور معينة .
على كلٍ ، رأيت نفسي في الغرفة المضيئة ، وكان لونها قد انحاز إلى البرتقالية فأصبح نورها أشد غمقاً ،وجهت ناظري إلى المكان واول شيء وقعت عليه عيناي كانت أربعة اشياء غريبة مربعة اكثر من كونها ذات شكل مستطيل ، موضوعة على الطاولة الزجاجية ، فأيقنت انها متفجّرات من نوع آخر ،وان هناك ايضاً زوّار قادمون و مهمتي هي أن أربّع اشلائهم حول المكان بعد أن يصلوا . فعقدت العزم على أن لا يكون هناك ادنى احتمال للفشل ، أجل .. كنت خائفة من الفشل .. وذلك لأني أتذكر كلماته تباغتني كالصدى يرتفع في رأسي . وبالرغم من هذا الخوف كنت واثقة بأن العمل سيكون سهلاً ، بل أني لن أصيب فيه أي شائبة !.. والسبب هو أنني اديت ذات العمل قبل ساعة وكان ذلك سريعاً .
لم أتفاجئ من أن الضيوف كانوا مجموعة اطفال اكثر من كونهم كثيري الحركة ، يتنقلون في المكان بسرعة كأنهم يلعبون الغميضة ، ويمتطون الارائك والطاولة بمرح ، كأن الغرفة هي مكان لعيشهم !
فأصابتني الحيرة في التفكير ، والتساؤل يرمي ذاته بإرتباك .. الوقت يمضي وكلما تأخرت وأطلت انهاء المهمة كان هذا في غير صالحي ، لم يكن وضعاً جيداً ،كنت أحاول ان احرّك المتفجرات نحوهم ، وكلما وضعتها بجانبهم أزدادوا حركة عن ذي قبل ، فجعلت اراقبهم جيداً بإنتباه شديد ، فما لبثت الساعة تحصي العد التنازلي لوقتي المخصص حتى رميت المتفجرات بعشوائية في اماكن وقوفهم .كانوا أربعة اطفال ، لكل واحدٍ مصيره ، ولكن سرعان ما تحرّكوا من مواقعهم واتجهوا إلى الحائط وبمحاذاة زاوية من زوايا الغرفة . حتى انطلق دوي الانفجار القوي مكتسحاً المكان المغلق ! وبدأ الاطفال يصدرون أصوات ضحكاتهم وهم بجوار بعضهم البعض .. لم يصبهم شيء ! وهاجمني الوجل فور رؤيتي لذلك المنظر .. أنه يدل على أن المهمة التي وكّلت ألي .. قد فشلت !!
لم أبصر بعد ذلك سوى أني رأيت جسدي يتحرك بأقصى سرعة .. ، كنت أجري كأني في مطاردة ، وكنت خائفة من أن يقترب مني أولئك الأشخاص اللذين يحاولون الأمساك بي بعد ظهورٍ لم يكن بالحسبان ، واصلت التقدم بكل ما لدي وفي نفسي شعور لا يهدأ البتة .. شعور سوف يوخزني بشدة عندما أركب معه .. ،
ظهرت السيارة السوداء من العدم في طريقي ، بابها الخلفي مفتوح ، ونافذته مفتوحة ايضاً وهو يشير بيده ألي ثم الى الباب لينوهني بالصعود بسرعة ،قبل أن أكون فريسة لتلك الذئاب التي ستفترسني بعد سويعات . كانت الاجواء في أعلى ساعات توترها ، كل شيء كان مختلطاً .. عشوائياً .. وغريباً ، بحيث أن السيارة تميل ذات اليمين وذات الشمال .. وكلما اتجهت لليمين ازدادت بعداً عني ، وكان لدي فقط ثوانٍ معدودة لانتهز أقرب فرصة والقي جسدي الى داخلها.
أبصرت الهلاك يدنو مني .. يريد أن يبتلعني .. قبل أن يحالفني الحظ وأكون بقفزة رشيقة داخل السيارة ، بعد أن أغلقت بابها الذي ظل مفتوحاً وانا على المقعد !
كان الباب مفتوحاً بالفعل وأنا جالسة الفظ هواء رئتاي بصعوبة ، ولكن اللحظة انقضت بعد زمن .. لأراني في ذلك الصمت الرهيب مجدداً ، انه يقود السيارة .. وكنت أشك في وجود احدٍ معه .. !!
كنت أتسائل بين صخب أفكاري اللامتناهية ، وتصوراتي بالموت .. هل سألقى حتفي الآن ؟ .. لقد فشلت وها أنا ابدأ بمحاولة تبرير فشلي،
( أسمعني ارجوك ، لقد كانوا يتحركون بسرعة .. الاطفال ! عجزت عن أصابتهم .. لقد حاولت حقاً بكل جهدي ! .. لا أعلم ماالذي حدث حقاً لقد تحركوا في اللحظة التي وضعت فيها المتفجرات .. صدقني !! .. أنا حقاً لا أعلم .. لقد كان .. صعباً !! .. لم أستطع ، صدقني رجاءً !!)
يالهذا الأحساس ،شعور الخوف يسري حيا في عروقي . كنت على علم بان المنظمة لا تقبل أي مبررات للفشل ، حتى وإن اجتهدت في اقناعها بأصدق محاولاتك والاسباب المنطقية التي اعترضتك .. فلن يجدي ذلك أي نفع ، كل ما يجب ان يحدث بعد الوقوع في الخطأ هو العقوبة ،العقوبة فحسب ،لأن الفشل في المهمة يعني عصيان الأوامر !!
نظر نحوي من المرآة ، استطعت رؤية نظارته الشمسية الحالكة ، ولكن هذه المرة هُيّأ لي بأن عيناه خلف هذه القطعة السوداء تنظر إلى رجفتي وشعوري بالبرد .. في صبرٍ رهيب ،هدوءٍ قاتل!!
لم أتذكر جيداً إن كانت اسناني الخلفية تتصارع فوق بعضها ، أو عن ازدياد موجة رعشتي الطفيفة وانا انظر الى مراقبته لي دون ان ينبس ببنت شفة ، ولكن ما خُتِمَ على ذاكرتي هو انتقالي من موضعي فجأة لأشعر بوجودي بمحاذاته بالضبط .. بل ملاصقة لكتفه الأيسر الذي يتحرك ليقود السيارة !!
( ماذا الآن ؟ .. لا عليكِ ..)
نطقها مقتولة الحسّ ، ولكني كنت أتحسب كل حين لظهور اي سلاح سيوجه ناحيتي ، لجبهتي مثلاً ، أو أي مكان قد يزهق روحي فوراً ، ولكن كل شيء كان يعم بالسكون .. حتى نفسي ،كانت ساكنة ، بينما انظر اليه ما بين لحظة واخرى. لم أكتشف كيف أتسع مقعد السائق لكلينا .
وجدته يعبث بشيء أسود صغير بعض الشيء ، كان يختبأ وراء سترته السوداء ثم يظهر مرة اخرى بشكل غير مكشوف كلياً ، ادركت بعد ذلك انه مسدس ، فأخذت التقط أنفاسي !!
وجهه لذراعي ، التصقت بالنافذة قدر المستطاع ، ولكنه بالتاكيد كان قريباً ، ولم البث أن نظرت للمسدس يرتخي من كفّه كانه تخلّى عن فكرة قتلي ، حتى اخترق اذناي صوت ضحكاته الهستيرية !!
وأنطلقت اول رصاصة فأصابت ذراعي ،
لم أشعر بشيء .. لم أشعر بألمها يتحرك داخلي ،سوى ان هناك شيء عالق بين أضلعي ، ثم رأيته يبتسم بسخرية وعيناه متسليتان بمنظري، أرهبتني اكثر . وسمعت صوت الزناد يتحرك ليصيب ذراعي مرة أخرى ، طلقة ثانية ، طلقتان .. ثم واصل الضحك الجنوني كان به يتذوق متعة في ما يفعله ، ليطلق بسرعة فأصيب بخمس رصاصات في ذراعي اليمنى .
كان عندما اطلق علي الرصاص يقود السيارة بيده اليسرى ، ويطلق باليمنى ، ولم تبد عليه إمارات الارتباك لكونه يمارس عملاً قد يشوش قيادته ،عدا تسليته في تعذيبي كممارسته للعبة حماسية .. !!
( ماذا هناك ؟ .. هل تشعرين بها ؟ .. هل تشعرين بالنزيف ؟ .. أيؤلمكِ ! )
أخذ يوجه عباراته لي وهو يتابع الضحك ، واحسست بدماء ذراعي تنزف .. حتى ازدادت غزارة ، وشعرت بأنها قد تبللت بهذا السائل الذي اثار انزعاجي وهلعي ، سائل يزحف تحت كم قميصي ويواصل التدفق من خمسة ثقوب !!
رأيت انني ملقاة على الطريق وهو واقف امامي ، السيارة مفتوحة قربنا ،وكنت أتسائل عن وجود بضعة اشخاص يراقبونني .. ، كان يضع كفه في جيبه ، ويحمل المسدس في الكف الاخرى . شعرت وقتها بألم في ذراعي المصابة ، كان يراقبني وحسب ،وتسائلت مرة أخرى عن أن هذا الالم الذي يراودني .. أهو حقاً نفسه الذي يشعر به المصاب بعيار ناري في واقعنا ، أهو حقاً ؟
كنت أجرب رفع رأسي لانظر اليه ، ولكني راقبت حذاءه الأسود الانيق يمر بجانبي ، ثم سمعت طقطقته خلفي ، ثم تلاشى صوته ..، فأيقنت أنه وقف يراقبني من الخلف ..، يراقب كيف أني اعاني من ازدياد الألم ، واريد الحركة ولكني مشلولة عن اتيانها.
صفحة إلكترونية 16 ، من رواية ( #### )