05-30-2009, 10:03 AM
|
|
العمل والملل .. بين الشَّجيِّ والخَليِّ بسم الله الرحمن الرحيم العمل والملل .. بين الشَّجيِّ والخَليِّ إبراهيم كشت - قالت العربُ في أمثالها منذ القديم (وَيلُ الشَجيِّ مِنَ الخليّ)، وقالت معاجم اللغة إن (الشجيّ) هو مشغول البال، أما (الخَليُّ) فهو من كان خالياً من الهمّ. ولك أن تتخيلَ الصورة في الواقع، وتتصوّر حال هذا (الشجيّ) وهو مشغول الفكر والوجدان بأمر مهم مؤثر، يأتي لمجالسته ومؤانسته رجل (خليّ) لا همّاً لديه ولا اهتماماً ولا شأناً مهماً، فكم سيكون ظل هذا الخليّ ثقيلاً على ذاك الشجيّ، وكم سيكون وقع حديثه غليظاً، وصوت ضحكه سَمِجاً، وحضوره كلّه مُقيتاً، ووجوده (ويلاً) حقيقياً يكابده الشجيّ المسكين.
ولا أدرى لماذا يحضرني هذا المثل القديم عدة مرات في اليوم الواحد، ربما لأني توسعتُ في تفسيره، وتماديت في القياس عليه، فصارت كلمة الخليّ تعني عندي (فاضي الأشغال) الذي يعاني الملل من قلة العمل، أما الشجيّ فهو (المشغول) الذي يحسّ في كل لحظة بأن واجباته أكثر من أوقاته . ولعلك تعرضتَ لمواقف تذكرك بهذا المثل القديم، فها أنت منهمكٌ في عملك، رئيسك طلب إليك إنجاز مهمة عاجلة، والمرؤوس يطلب رأيك في مشكلة ملحّة، والمراجعون ينتظرون عند باب مكتبك، والأوراق التي تتطلب الدراسة تكدست أمامك ... وإذا بالهاتف يرن، ويبدأ المتحدث بكلام ممطوطٍ مطولٍ، تفوحُ من صوته رائحة الملل، كل عبارة تتثاءب، وكل جملة تتمطى، تطول المقدمات، وتكثر الديباجات، بما يشي بأن الوقت بلا قيمة ... إنه صديق أو قريب يبحث عن وسيلة (يقتل) الوقت من خلالها، فقد فاضَ به المللُ من قلةِ العمل، فلجأ إلى محادثتك .. بينما أنت لا تملك إلاّ أن تصرخ بملء فمك، ومن قعر وجدانك : (ويل الشجيّ من الخليّ) .
على أيّ حال، السأم غير الملل، وربما التمستَ لمن يعاني السأم عذراً، إذ قد يعبر سأمهُ عن حالة من الكآبة، حيث أن السأم علاقة بالوجود والحياة والناس والأشياء تفتقر إلى الإيجابية والحب، وعلى رأي الروائي الإيطالي (البرتو مورافيا) فإن السأم هو (فقدان العلاقة بالأشياء) . أما الملل فسببه غالباً الفراغ، أو قلة العمل، أو عدم وجود اهتمامات ذات قيمة تشغل المرء فتستغرق طاقاته وأوقاته . ولا يشير الملل بالضرورة إلى عدم وجود مهام تنتظر الإنجاز، أو مشاغل تستحق الاهتمام، وإنما قد يشير إلى عدم الرغبة في القيام بشيء ذي بال، وإلى الميل للتثاقل والتكاسل . وعدم وجود قيمة إنسانية راقية واهتمامات وأهداف يتوجه إليها التفكير والجهد والوقت، وعدم القدرة على الالتزام بما تقتضيه الحياة من ضوابط وقواعد .
ولأن الإحساس بالملل شعور قاسٍ غليظ يصعبُ احتماله، فإن للناس مذاهب شتى في مقاومته، وهي مذاهب تتأثر بثقافة المجتمع، فالمجتمع الذي يسوده تداخل العلاقات القبلية والعائلية والاجتماعية، وتغيب فيه ثقافة الإنجاز، وتنحدر فيه قيم الفكر والفن والأدب، يغلب أن يتوجه أفراده في مقاومتهم للملل (شعورياً أو لاشعورياً) إلى الإكثار من الزيارات، والمبالغة في عدد المناسبات، وطول الأحاديث الهاتفية الأرضية والخلوية، واصطناع الصراعات العائلية والجيرانية، والتفنن في سبل التدخل في شؤون الآخرين، واطلاق الشائعات، وتسقّط توافه الأخبار وتداولها، والتمادي في الفتوى (بدون علم) في شؤون السياسة والاقتصاد، هذا ما لم يؤدِ إلى أشكال من الانحراف والفساد .
وكثيراً ما يغيب عن ذهن الوالدين، والمدرسة، والمجتمع، أهمية تعليم الأبناء ما له قيمة راقية من شؤون الحياة، وتوجيههم إلى ما يستحق أن يستغرق الطاقة والوقت، أُعني توجيههم إلى التركيز على الإنتاج والإنجاز، وإلى تقدير الفِكر، وتذوّق الأدب، والتعلّق بالفن، والبحث عن الجمال، والإهتمام بالعمل التطوعي، والاعتناء بتطوير الذات، وتعلَّم المهارات، والاستعداد لتغيرات المستقبل، فهذا ما يقيهم حاضراً ومستقبلاً من وطأة الإحساس بالملل، أو المعاناة من نتائجه الوخيمة . |