|
نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| ||
| ||
من خطب الشيخ عائض القرني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71]. أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار. يَا عَامِراً لِخَرَابِ الدَّارِ مُجْتَهِداً بِاللهِ هَلْ لِخَرَابِ الدَّارِ عُمْرَانُ {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16].وَيَا حَرِيصاً عَلَى الأَمْوَالِ يَجْمَعُهَا أَبْصِرْ فَإِنَّ سُرُورَ الْمَالِ أَحْزَانُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبهِ وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا فَالْزِمْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 18-21]. أيها الناس: ما الدنيا؟ ما ذهبها؟ ما فضتها؟ ما قصورها؟ ما مناصبها؟ كل هذا لا يساوي شيئاً. لعبٌ ولهو، تفاخر وتكاثر، زهو ورياء، إعجاب وغرور، أما الحقيقة الثابتة، أما القضية المهمة، فهي الإيمان والعمل الصالح. خرج علي بن المأمون، ابن الخليفة العباسي المأمون، إلى شرفة من شرفات القصر ذات يوم، ينظر إلى سوق بغداد، ينظر من البروج العاجية، طعامه شهيٌ، ومركبه وطيّ، وعيشه هني، يلبس أفخر الثياب، ويأكل ما لذَّ وطاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته. فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب، وهذا يأتي، هذا يبيع، وهذا يشتري. ولفت نظر الأمير رجل من الناس، يعمل حمّالاً بالأجرة، وكان يظهر عليه الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحمل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان. فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق، فكان هذا الحمَّال إذا انتصف الضحى، ترك السوق، وخرج إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم. سبحان مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُوا دَائِماً وَلَمْ يَزَلْ مَهْمَا هَفَا الْعَبْدُ عَفَا سبحان من اتصل به الفقراء والمساكين، سبحان من التجأ إليه الضعفاء والمظلومون، سبحان من عرفه الفقراء، وحُجب عنه كثير من الأغنياء والوجهاء.يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلا يَمْنَعُهُ جَلالُهُ عَنِ الْعَطَا لِذِي الْخَطَا عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف بيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة. أخذ الأمير ينظر إلى هذا الرجل، فكان إذا صلى الضحى، عاد إلى عمله، فعمل حتى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبلّ كسرة الخبز بالماء، ويأكلها، ثم يشرب من الماء، ويحمد الله - عزَّ وجلَّ - ثم يتوضأ لصلاة الظهر، فإذا صلى، جلس فدعا الله - عزَّ وجلَّ - وابتهل وبكى، وناجى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم ينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته. وفي اليوم الثاني يعود إلى نفس العمل، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، إلى أيام كثيرة. فتعجب الأمير من ذاك الرجل، وأصرّ على أن يعرف قصته، فأرسل جنديّاً من جنوده إليه؛ ليستدعيه إلى القصر، فذهب الجندي، واستدعى الحمَّال، فقال الحمَّال: ما لي وملوك بني العباس، ليس بيني وبين الخلفاء صلة، ليست لي قضية ولا مشكلة، ولا مهمة، إن أشكل عليّ شيء رفعته إلى الحي القيوم، إن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت سقاني الله، ما عندي دار، ولا عقار، ولا أرض، فقال الجندي: أَمْرُ الأمير، لابد أن تحضر اليوم في قصر أمير المؤمنين. فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل!! وهذه الكلمة سلاح الفقراء والمساكين، سلاح المظلومين والمضطهدين، بها تتكسر رؤوس الطغاة، وتتحطم عروش الجبابرة، وتسحق قلاع الظالمين. قالها إبراهيم عليه السلام، لما أتوا به، ووضعوه في النار المحرقة، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً. وقالها موسى عليه السلام، لما طارده فرعون وجنوده، والبحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله. وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - في بدر، وأحد، والأحزاب، وتبوك، والمسلمون في قلة، وضعف، وفقر، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنصره الله، وهداه الله. ذهب خالد بن الوليد إلى اليرموك، فرأى جيوش الروم كالجبال، والمسلمون فئة قليلة، فقال أحد الصحابة لخالد - رضي الله عنه -: اليوم نلتجئ إلى جبال أجا وسلمى. فدمعت عينا خالد، وقال: بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل ... فانتصر. ورأى سعدٌ فارس في الكفر والعماية والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رؤوسهم بقدميه. وقالها صلاح الدين فانتصر المسلمون، وداسوا أهل الصليب بأقدامهم. وقالها المجاهدون الأفغان، لما أتت روسيا بقواتها، وطائراتها، ودباباتها، وصواريخها، فخرج المسلمون الأفغان بأسلحتهم القليلة، متوضئين، متوكلين على الله. قال لهم الناس: التجؤوا إلى القوى العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالوا لهم: اذهبوا إلى العواصم الدولية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالوا لهم: الحل في واشنطن ونيويورك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]. نصرهم الله - عزَّ وجلَّ - وخذل عدوهم، وأزال دولة الشيوعية من على خريطة الوجود!! دخل الفقير على ابن المأمون الأمير، فسلم عليه. قال الأمير: أما تعرفني. قال الحمَّال: ما أتيتك، وما رأيتك حتى أعرفك!! قال الأمير: أنا ابن الخليفة. قال الحمَّال: يقولون ذلك!! قال الأمير: ماذا تعمل؟ قال الحمَّال: أعمل مع عباد الله، في بلاد الله!! قال الأمير: قد رأيتك أياماً، ورأيت ما أنت فيه من مشقة وعناء، وإني أريد أن أخفف عنك. قال الحمَّال: وكيف ذلك؟ قال الأمير: ائتِ بأهلك، واسكن معي القصر، آكلاً، شارباً، مستريحاً، لا همّ، لا غمّ، لا حزن. قال الحمَّال: يا ابن الخليفة، لا همّ على من لم يذنب، ولا غمّ على من لم يعصِ، ولا حَزَن على من لم يسئ!! أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معصية الله، فهو في الغم والهم والحزن. فقال له الأمير: وهل عندك أهل؟ قال الحمَّال: أمي عجوز، وأختي عمياء، آتي بإفطارهما قبل الغروب، فهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام بعد العشاء. قال الأمير: فمتى تستيقظ؟ قال الحمَّال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل!! قال الأمير: وهل عليك دين؟ قال الحمَّال: ذنوب سلفت بيني وبين الحيّ القيوم. قال الأمير: ألا تريد أن تسكن معي القصر؟ قال الحمَّال: لا والله. قال الأمير: ولم؟ قال الحمَّال: أخاف أن يقسو قلبي، وأن يضيع ديني. قال الأمير: أتفضِّل أن تكون حمالاً جائعاً عارياً، ولا تكون معي في القصر؟! قال الحمَّال: إي والله!! ثم تركه الحمَّال وانصرف، فأخذ الأمير يتأمل، وينظر إليه وهو مشدوه، فقد أعطاه درساً عمليّاً في الإيمان والتوكل على الله، أملى عليه دروساً في التوحيد والعبودية، ألقى عليه كلمات نفذت إلى قلبه، فأخذ يتابعه بطرفه، حتى اختفى عنه. وفي ذات ليلة، استفاق الأمير من غفلته، وأفاق من غيبوبته وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، ونوم طويل، وأن الوقت قد حان للتوبة والتشمير. تَنَبَّهُوا يَا رُقُودُ إِلَى مَتَى الْجُمُودُ فاستيقظ الأمير وسط الليل، وقال لخدامه: إني ذاهب إلى مكان بعيد، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا والدي أني ذهبت، فسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر.فَهَذِهِ الدَّارُ تَبْلَى وَمَا عَلَيْهَا يَبِيدُ الْخَيْرُ فِيهَا قَلِيلٌ وَالشَّرُّ فِيهَا عَتِيدُ وَالْعُمْرُ يَنْقُصُ فِيهَا وَسَيِّئاتٌ تزيدُ فَاسْتَكْثِرِ الزَّادَ فِيهَا إِنَّ الطَّرِيقَ بَعِيدُ إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاءُ ففي مواقفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا خرج الأمير في ظلام الليل، خلع ثيابه الفاخرة، ولبس لباس الفقير، ذهب واختفى، ولم يعلم أحد أين ذهب. يقول أهل التاريخ: ركب إلى واسط، وغيّر هيئته، وصار مسكيناً من المساكين، وعمل أجيراً مع تاجرٍ من تجار الآجر، يعمل في صنع الطوب والطين والبناء. أصبح ابن الخليفة صوَّاماً، قواماً، ذاكراً لله - تبارك وتعالى - له أوراد في الصباح والمساء، يحفظ القرآن، يصوم في شدة الهجير، يقوم الليل، يتَّصل بالحي القيوم، ليس عنده من المال إلا ما يكفيه يوماً واحداً. ذهب همه وغمه وكربه وحزنه، ذهب عنه العجب والكبر والخيلاء والغرور. {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]. ثم جاءت سكرة الموت بالحق، أتته الوفاة على هذه الحال، فأخبر التاجر أنه ابن الخليفة المأمون، وأوصاه إذا مات، أن يغسله، ويكفنه، ويدفنه، ثم أعطاه خاتمه ليسلمه إلى المأمون بعد وفاته. ومات الأمير، فغسله الرجل، وكفنه، وصلى عليه، ودفنه، ثم ذهب بالخاتم إلى المأمون، فلما رأى المأمون الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، ثم سأل التاجر عنه: وماذا كان يفعل؟ فأخبره التاجر أنه كان عابداً، ناسكاً، أواباً، ذاكراً لله تعالى، ثم أخبره بموته، فضجّ الخليفة والوزراء، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وأيقنوا أن الأمير قد عرف طريق السعادة، وطريق النجاة يوم القيامة. لكنهم ما مشوا معه في الطريق، وما أنابوا إلى الله كما أناب؛ {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]. أيها الناس، عباد الله: هذه قصة من قصص التائبين ذكرها أهل التأريخ في كتبهم، وأثبتوها، وحفظوها، ونقلت إلينا، لنعتبر بها، ولنتعظ بغيرنا. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف: 111]، فهل من متدبر، وهل من عاقل يعلم أن السعادة في التذلل لله، في السجود لله، في تلاوة كتاب الله، في ذكر الله، في الالتجاء إلى الله، فوالله ليست السعادة في الدور، ولا في القصور، ولا في الأموال، ولا في الحدائق، وإنما السعادة الحقيقية في طاعة الله الواحد الأحد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فُيصبغ في النار صَبغةً[1]، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قطُّ؟ هل مرّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب!! ويؤتى بأشدّ الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فُيصبَغ صَبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قطُّ؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيتُ شدة قطُّ))[2]. فكم من نعيم للمساكين عند الله، وكم من سعادة للعارفين بالله، وكم من شقاوة لمن جعل الدنيا همّه، وقدَّم المعاصي والشهوات على طاعة ربه، فسوف يبكي ويندم، ولات حين مندم؛ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد: فصور اللجوء إلى الله، وصور التمسكن لله، وصور عبودية الله، كثيرة جدّاً، عاشها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فدعوة الأنبياء تعيش مع الفقراء، وتحب المساكين، فهي انتصار للضعفاء، وترسيخ لمبدأ المساواة، وهذا المبدأ أرساه الإسلام بلا منازع. (جليبيب) أحد المساكين من الصحابة الكرام، ليست له أسرة معروفة، ليس عنده مال، ولا منصب، ولا شيء. يذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثيابه الممزقة، بطنه جائع، ووجهه شاحب، وأعضاؤه هزيلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) قال: يا رسول الله، غفر الله لك، ومن يزوجني؟ ثم يلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثانية، فيقول له: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) فيقول: يا رسول الله، ومن يزوجني، لا مال ولا جمال. لأن كثيراً من الناس، لا يزوج إلا على الدراهم والدنانير، لا يزوج الرجل إلا إذا رأى عنده ممتلكات، وشاحنات، وسيارات، وقصور، فيبيع ابنته من ذاك الرجل، كما تباع الناقة، أو السيارة في سوق المزاودة، لا ينظر إلى دينه، ولا إلى صلاته، ولا إلى صدقه، ولا إلى أمانته، لا ينظر إلا إلى ماله، وداره، وعقاره. وقد يكون هذا الرجل فاجراً سكيراً، قد يكون لعيناً طريداً بعيداً، ولكن أنساه ذلك كله مال هذا الرجل، ومنصب هذا الرجل، وسيارة هذا الرجل، وقصر هذا الرجل، فيبيع ابنته، ويقطع رحمها، فيخسر بذلك الدنيا والآخرة. ويلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - جليبيباً مرة ثالثة، فيقول: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) فيقول: يا رسول الله ومن يزوجني، لا مال ولا جمال، فيقول - صلى الله عليه وسلم - له: ((اذهب إلى ذلك البيت من الأنصار، وقل لهم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغكم السلام، ويقول: زوجوني ابنتكم)). هذا مرسومٌ من كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فذهب جليبيب، فطرق الباب، قال أهل البيت: مَنْ؟ قال: جليبيب، قالوا: ما لنا ولك يا جليبيب، فخرج صاحب البيت قال: ماذا تريد؟ قال: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغكم السلام، فارتج البيت فرحاً، ثم قال: ويأمركم أن تزوجوني ابنتكم. فقال الرجل: أشاور أمها، فشاورها فقالت: لا لعمر الله، لا نزوجه، فسمعت البنت العابدة الناصحة الصالحة، فقالت: أتردَّان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: ((شأنك بها))، فزوجها جليبيباً[3]. فأنشأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتاً، أساسه على الإيمان والتقوى؛ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]. أفمن أدخل ابنته بيتاً مسلماً، تالياً لكتاب الله، مستقيماً على أوامر الله، معظماً لحدود الله، خيرٌ، أمّن أدخل ابنته بيتاً فيه التبرج والغناء، فيه الفحش والضلال واللعنة؟!! وعاشت هذه المرأة في سعادة حقيقية، ليست كالسعادة الوهمية التي يتمناها البعض، أو يحلم بها البعض. وفي إحدى الغزوات، وقد أفاء الله على نبيه فيها، فقال لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: نعم؛ فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)). قالوا: نعم؛ فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: لا، قالوا: ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه))؛ فطُلب في القتلى، فوجوده إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه)). فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فحُفر له، ووضع في قبره[4]. وفي المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لزوجته، فقال: ((اللهم صبَّ عليها الخير صبّاً، ولا تجعل عيشها كدّاً كدّاً)). قال ثابت: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها[5]!! هذا هو جليبيب الصحابي الفقير، يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني وأنا منك!!)). نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا فهنيئاً لك يا جليبيب، وهنيئاً للمخلصين، وهنيئاً للصادقين، السائرين إلى الله - عزَّ وجلَّ. تَرَدَّى ثَيابَ الْمَوْتِ حُمْراً فَمَا أَتَى لَهَا اللَّيلُ إِلا وهي من سُنْدُسً خُضْرُ هنيئاً لمن قتل في سبيل الله، ولمن باع نفسه وروحه بجنة عرضها السماوات والأرض، وقبحاً للمتخلفين عن ركب النجاة، وحسرةً على الضائعين الضالِّين. فيا من أخذ بأيدي الصالحين، خذ بأيدينا إليك، ونوِّر قلوبنا بطاعتك، وعمِّر بيوتنا بذكرك، واغرس في قلوبنا لا إله إلا الله، لتؤتي أكلها كل حين بإذنك يا واحد يا أحد. عباد الله: وصلوا وسلموا – رحمكم الله – على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. * ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليّ صلاة؛ صلى الله عليه بها عشراً))[6]. فاللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
#2
| ||
| ||
رد: من خطب الشيخ عائض القرني
جزاك الله خير
__________________ أنا جروح في صورة انسان أنا ذكرى منسية أنا دموع واحزان بأختصار أنا قصة طويلة ما يحفظها كتاب |
#3
| ||
| ||
رد: من خطب الشيخ عائض القرني
تسلم يدك |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
حمل كتاب(محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه) لفضيلة الشيخ عائض بن عبدالله القرني | fares alsunna | تحميل كتب مجانية, مراجع للتحميل | 7 | 09-30-2019 06:58 PM |
اللهم بلغنا رمضان ( أكثر من 1000 محاضرة صوتية خاصة بشهر رمضان ) | fares alsunna | أرشيف القسم الإسلامي 2005-2016 | 11 | 09-15-2007 09:24 AM |
أئمة الحرم المكي: ( علي الحذيفي) حفظه الله | عثمان أبو الوليد | نور الإسلام - | 3 | 06-10-2007 12:55 AM |
بالمقابل: ( الشيخ محمد حسين يعقوب ) حفظه الله | عثمان أبو الوليد | نور الإسلام - | 10 | 05-31-2007 11:26 PM |
[ من هو الإمام محمد بن عبد الوهاب ] دعوته وسيرته ... | fares alsunna | نور الإسلام - | 2 | 05-24-2007 12:29 AM |