|
تحميل كتب مجانية, مراجع للتحميل كتب مجانية, كتب عربية للتحميل, كتب ألكترونية, كتب اجنبية, كتب تعليمية, مراجع عربية,كتب للتحميل, كتب للقراءة. |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
| ||
| ||
استيلا الفاتنة استقليت عربة بعد الظهر إلى المدينة . ووصلت هناك في وقت متأخر من المساء . فنزلت في ال (( بلو بور )) لتمضية الليل , ونهضت في الصباح الباكر لزيارة الآنسة هافيشام . كان الوقت ما زال باكراً على القيام بأي زيارة , فأخذت أتسكع في المدينة وأنا أفكر في مولاتي وأرسم صوراً رائعة لخططها التي تضعها من أجلي . لقد تبنت استيلا , وتبنتني أنا أيضاً , ولا بد أن تكون نيتها تربيتنا معاً . كانت تريد مني إحياء المنزل المهجور , وإدخال نور الشمس إلى الغرفة المظلمة , وإدارة الساعات وإشعال المواقد الباردة ـ وبعبارة موجزة , القيام بالأعمال الرائعة التي بقوم بها الفارس الشاب في القصص الخيالية , وأتزوج الأميرة . نظمت خطواتي كي أصل إلى المنزل في وقتي المعهود . وحين قرعت الجرس , فتح الباب شخص هو آخر من كنت أتوقع أن أراه هناك . (( أورليك )) ! " آه , سيدي الصغير , فهناك تغيرات أكثر مما لديك . لكن أدخل , أدخل . سأخالف التعليمات لو أبقيت البوابة مفتوحة . " دخلت , فأقفل البوابة وسحب المفتاح . " كيف جئت إلى هنا ؟ " فأجاب : " جئت على قدمي . " " هل أنت هنا على الدوام ( أم بنية حسنة ) ؟ " " لا أعتقد أنني هنا بقصد الأذى , سيدي الصغير . " لم أكن متيقناً من ذلك . اتجهت إلى الممر الطويل ولقيت ساره بوكيت التي اصطحبتني إلى غرفة الآنسة هافيشام . قالت هذه : " أدخل يا بيب . " كانت تجلس في كرسيها قرب الطاولة القديمة بثوبها القديم , ويداها فوق عصاها . كانت تجلس بالقرب منها سيدة أنيقة لم يسبق لي أن رأيتها . كررت الآنسة هافيشام تقول : " أدخل يا بيب , كيف حالك يا بيب ؟ إنك تقبل يدي وكأنني ملكة , ايه ؟ حسناً ؟ " قلت : " بلغني , آنسة هافيشام , أنك تكرمت باستدعائي لمقابلتك , فأتيت مباشرة . " رفعت السيدة الأخرى عينيها ونظرت إلي بغرور , فوجدت العينين هما عيني استيلا . لكنها تغيرت كثيراً وباتت أكثر جمالاً وأنوثة بكثير , وأحرزت تقدماً رائعاً حتى بدوت وكأنني لم أتقدم بعد . وتخيل لي وأنا أنظر إليها بأنني عدت ذلك الفتى العامي الخشن ثانية . مدت لي يدها , فتمتمت كلاماً عن السرور الذي حل بي برؤيتها من جديد , وأنه طالما غمرني الشوق للقائها . قالت الآنسة هافيشام بنظرتها الجشعة : " هل تجدها تغيرت كثيراً يا بيب ؟ " " عندما دخلت يا آنسة هافيشام ,لم يتراءى لي شيء من الشكل أو الوجه من استيلا, لكن من المؤكد الآن بما يلفت النظر أنها ... السالفة . " قاطعتني الآنسة هافيشام متسائلة : " ماذا ؟ لن تقول أنها استيلا المعروفة ؟ " ثم تابعت تقول : " كانت متكبرة ومهينة , وأردت الابتعاد عنها . ألا تذكر ؟ " فقلت بارتباك أن ذلك كان منذ زمن بعيد , وأنني لم أعرف حينذاك أفضل منها أو مثلها . ابتسمت استيلا بهدوء تام وقالت أنها لا تشك بأنني كنت مصيباً وأنها كانت مزعجة للغاية . ثم سألتها الآنسة هافيشام : " هل تغير ؟ " قالت استيلا وهي تنظر إلي : " كثيراً جداً . " قالت الآنسة هافيشام وهي تداعب شعر استيلا: " وهل أصبح أقل خشونة وعامية ؟" ضحكت استيلا ونظرت إلي . كانت ما زالت تعاملني معاملة الفتى , لكنها مضت في إغرائي . وتم الاتفاق على أن أمضي بقية النهار هناك , وأعود من ثم إلى الفندق ليلاً , وإلى لندن في النهار التالي . بعد أن تحدثنا بعض الوقت , صرفتنا الآنسة هافيشام لنتمشى سوياً في الحديقة المهملة . وفيما اقتربنا من المكان الذي تقاتلت فيه مع الشاب الهزيل ,توقفت وقالت : " لابد أنني كنت طفلة غريبة لأختبئ وأشاهد القتال حينذاك, لكنني فعلت ذلك واستمتعت به كثيراً . " عند ذلك أخبرتها أننا الآن صديقان حميمان . " حقا ! أظن أني أذكر بأنك كنت تقرأ مع والده . " قلت مكرهاً : " أجل . " , لأن ذلك بدا وكأنه يجعل مني صبياً . كانت الحديقة كثيفة بشكل يحول دون السير بسهولة , وبعدما طفنا حولها مرتين أو ثلاثة , خرجنا ثانية إلى مصنع الجعة , فذكرتها حين خرجت من البيت وأعطتني بعض اللحم والشراب , فقالت : " لا أذكر . " فقلت : " ألا تذكرين أنكي دفعتني للبكاء ؟ " قالت : " كلا . " وهي تهز برأسها وتنظر حولها . أظن أن عدم تذكرها وعدم اكتراثها أبداً حملاني على البكاء ثانية , بيني وبين نفسي ـ وهذا أشد البكاء إيلاماً . قالت : " يجب عليك أن تعرف بأن لا قلب ولا تعاطف ولا مشاعر . " سمحت لنفسي بأن أشك في ذلك , وقلت بأنه يستحيل وجود مثل هذا الجمال من دون قلب . قالت : " إني جادة , فإن كنا سنترك سوية كثيراً , عليك تصديق ذلك في الحال . لنتمشى حول الحديقة مرة أخرى , ثم ندخل . تعال ! ليس عليك أن تذرف الدمع لقسوتي اليوم ؛ بل ستعتني بي وتدعني أستند إلى كتفك . " أمسكت بفستانها الأنيق بيد , ولامست بالأخرى كتفي ونحن نسير . طفنا في الحديقة الخربة مرتين أو ثلاث , وبدت لناظري مزدانة بالزهور والورود . عدنا في النهاية إلى المنزل حيث علمت أن وصيّي قد جاء ليقابل الآنسة هافيشام بزيارة عمل وأنه سيعود للغداء . كانت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها تنتظرني, وحين ذهبت استيلا لتحضير نفسها للغداء وغدونا وحدنا , التفتت نحوي وقالت بهمس : " هل هي رشيقة وجميلة وناضجة ؟ وهل أنت معجب بها ؟ " " كل من يراها لابد أن يعجب بها , آنسة هافيشام . " وضعت ذراعها حول عنقي وجذبت رأسي نحو رأسها وهي تجلس في الكرسي , وقالت : " أحبها , أحبها , أحبها ! كيف تعاملك . " قبل أن أتمكن من الإجابة ( هذا إن تمكنت من الإجابة على سؤال صعب كهذا ) رددت قائلة : " أحبها , أحبها , أحبها ! إن كانت ستستحسنك , فأحببها . إن جرحتك أحببها , إن حطمت قلبك أشلاءً , أحببها , أحببها , أحببها ! اسمعني يا بيب , لقد تبنيتها لتحظى بالحب . ربيتها وعلمتها لتحظى بالحب , فأحببها , سأخبرك ما هو الحب الحقيقي , إنه التضحية العمياء , والخضوع التام والثقة والإيمان بنفسك , وبالعالم أجمع , فتمنح قلبك وروحك جميعاً إلى من تحب ـ مثلما فعلت أنا . " بعدما قالت كلمتها الأخيرة , أطلقت صيحة جامحة , ونهضت من كرسيها ثم راحت تضرب في الهواء , كأنما تريد أن تضرب بنفسها إلى الحائط لتقع جثة هامدة . لكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها بلمح البصر , إذ ذاك دخل السيد جاغرز للغرفة . وبعد حديث وجيز مع الآنسة هافيشام , اصطحبني للخارج لنتناول الغداء مع استيلا والآنسة ساره بوكيت . بقيت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها , إذ لم تكن تتناول الطعام أو الشراب مع الآخرين . أكلنا حتى الشبع , وبعد الغداء وُضعت قنينة من نبيذ البورت الأصيل أمام وصيي , ثم تركتنا السيدتان . لم يسبق لي أن رأيت أحداً في المنزل يساوي السيد جاغرز في قدرته على التكتم . إذ ظل يحافظ على نظراته وقلما أشاح ببصره إلى وجه استيلا أثناء الغداء . وحين أصبحنا بمفردنا , جعلني أشعر بتضايق شديد , وكان كلما رآني أوشك على سؤاله شيئاً , ينظر إلي فيما يحمل كأسه بيده ويحرك الشراب بفمه وكأنه يطلب إلي أخذ العلم بأن ذلك لا يجدي نفعاً لأنه لا يستطيع الإجابة . صعدنا بعد ذلك إلى غرفة الآنسة هافيشام ولعبنا الورق . في غضون ذلك الوقت , كانت الآنسة هافيشام قد وضعت أجمل الحلي من طاولة تزيينها على شعر استيلا وحول عنقها وذراعيها , ورأيت أن حتى وصيي راح ينظر إليها من تحت حاجبيه الكثيفين بعدما بدا جمالها أمامه . لعبنا حتى الساعة التاسعة , ثم اتفقنا على أن يصار إلى إبلاغي مسبقاً عن مجيء استيلا إلى لندن , فأقابلها عند العربة . بعد ذلك استأذنتها بالانصراف وعدت أدراجي إلى المنزل . في وقت متأخر من الليل , راحت كلمات الآنسة هافيشام تتردد في أذني : " أحببها, أحببها , أحببها . " فعدلت فيها ورحت مخاطباً وسادتي : " أحبها , أحبها , أحبها ." مئا المرات . ثم غمرني شعور بالامتنان في أنها ستكون من نصيبي , أنا الذي كنت مساعد الحداد ذات يوم . ثم تساءلت متى يا ترى ستبدأ بالإعجاب بي , ومتى ينبغي أن أوقظ القلب الذي في صدرها , وهو الآن في سبات ؟ اعتبرت تلك عواطف سامية ونبيلة . لكنني لم أتصور أبداً أن هناك من الحقارة والدناءة في ابتعادي عن جو لعلمي بأنها ستحتقره . ففي اليوم السابق فقط حملني جو على البكاء , لكن دموعي ما لبثت أن جفت , فليغفر لي الله ! لقد جفت بسرعة . الفصل السابع عشر حديث الأصدقاء في الصباح التالي , أخبرت وصيي الذي كان يقيم معي في (( البلو بور )) بأنني لا أظن أن أورليك هو الشخص الملائم للعمل لدى الآنسة هافيشام , وأخبرته بما أعرفه عنه . فقال : " عظيم يا بيب , سأذهب هناك في الحال وأصرفه . " لدى عودتي إلى حانة برنارد , وجدت هربرت يتناول غداء من اللحم البارد , وكان فرحاً في لقائي مجدداً . وبعد أن بعثت الولد الخادم إلى المقهى لإحضار المزيد من الطعام , شعرت بأن علي إخبار صديقي بسري ذلك المساء بالذات . بدأت حديثي قائلاً : " عزيزي هربرت , لدي شيء خاص جداً أخبرك به . " أجاب : " عزيزي هاندل ( كان يحب تسميتي هاندل ) , ستكون ثقتك محط نقديري واحترامي . " فقلت : " إنه يتعلق بي يا هربرت وبشخص آخر . " وضع هربرت رجلاً فوق أخرى وراح ينظر إلى النار وقد أمال برأسه جانباً , وبعد أن تطلع إلى النار عبثاً لبعض الوقت , نظر إلي لأنني لم أتابع الكلام . قلت وأنا أضع يدي فوق ركبته : " هربرت , أنا أحب , أنا أهيم بـ(( استيلا )) . " أجاب هربرت بطريقة بسيطة متوقعة : " هذا صحيح , حسناً . " " حسناً يا هربرت , أهذا كل ما تقوله , حسناً ؟ " فقال : " أقصد ماذا بعد , إني أعرف ذلك طبعاً . " قلت : " وكيف تعرف ذلك ؟ " " كيف أعرف ذلك يا هاندل ؟ أعرفه منك بالطبع . " " لم أخبرك أبداً . " " تخبرني ! لم تخبرني أبداً حين تقص شعرك , إنما لدي الوعي لملاحظة ذلك . كنت دائماً تهيم بها , منذ عرفتك . لقد أحضرت هيامك بها وحقيبتك معاً . تخبرني ! بل كنت دائماً تخبرني طيلة النهار . حين أخبرتني بقصتك كلها , فقد أعلمتني بوضوح أنك بدأت تهيم بها منذ أن رأيتها , حين كنت صغيراً جداً بالفعل . " قلت : " حسناً , إذن لم أتخل عن ولعي بها . لقد عادت , وهي أكثر جمالاً وأناقة . لقد رأيتها البارحة , ولئن كنت أعبدها من قبل , فإني أعبدها أضعافاً الآن . " فقال هربرت : " فهذا من حسن حظك يا هاندل , فقد تم اختيارك وصرت نصيبها . لكن هل لديك فكرة عن وجهة نظرة استيلا حول الموضوع ؟ " " آه ! إنها على بعد آلاف الأميال عني . " " صبراً يا عزيزي هاندل : متسع مكن الوقت , متسع من الوقت . ألديك المزيد لتقوله ؟ " أجبت : " أخشى أن أقوله , ولكن قوله ليس بأسوأ من التفكير به . أنت تدعوني إنساناً محظوظاً . طبعاً , فأنا كذلك . لم أكن بالأمس سوى مساعد حداد . ولم أفعل شيئاً لأنهض بنفسي في الحياة . بل الحظ وحده رمقني ومع ذلك , فحين أفكر باستيلا , لا يسعني أن أصف لك كم أشعر بالضعف والغموض , وكم أتعرض لمئات الصدف . إن كل آمالي تعتمد على شخص واحد , وكم هي واهية وغامضة هذه الآمال . " أجاب هربرت : " ألم تخبرني أن وصيك السيد جاغرز قد أعلمك منذ البداية إنك لم تمنح الآمال فقط ؟ حتى وإن لم يخبرك بذلك , ألا تعتقد أن السيد جاغرز ـ من بين سائر الرجال في لندن ـ هو الذي سيحتفظ بعلاقاته المالية تجاهك , إلى أن يتأكد من مركزه ؟ " قلت بأنه لا يسعني الإنكار بأن هذه نقطة مهمة . فقال هربرت : " أظن أنها نقطة مهمة , أما بالنسبة للباقي , فينبغي أن تمنح وصيك بعض الوقت , وعليه كذلك أن يمنح موكله بعض الوقت , ستبلغ الواحدة والعشرين قبل أن تعرف أين أنت , ولعلك تحصل إذ ذاك على بعض المعلومات . والآن أود إزعاجك بعض الشيء للحظة . لقد كنت أعتقد أنه لا يمكن لاستيلا أن تكون شرطاً لميراثك , إن لم يذكر وصيك ذلك . ألم يشر المحسن إليك مثلاً أن لديه بعض الأفكار بشأن زواجك ؟ " " أبداً . " " إذاً يا هاندل , بما أنك لم تُخطب لها , ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ " " لا أستطيع ذلك يا هربرت . " " ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ " " كلا , مستحيل . " فقال هربرت : " حسناً , سأحاول الآن أن أكون لطيفاً من جديد . " ثم أخبرني عن عائلته , وعن نفسه بشكل خاص . لقد كان مخطوباً لفتاة تدعى كلارا , تعيش في لندن , وكان والدها عاجزاً يلازم غرفته على الدوام ويتسبب فيها بمشاجرات عنيفة . أخبرني هربرت أنه منذ أن بدأ يجني المال , كان ينوي الزواج من تلك الفتاة , وأضاف قائلاً : " لكن تعلم أنك لا تستطيع الزواج حين ما تزال تخطط لأمورك . " يتبع ... |
#17
| ||
| ||
الفصل الثامن عشر إلى ريتشموند بصحبة استيلا في ذات يوم تلقيت رسالة بالبريد , أثار مجرد غلافها الخارجي نشوة عظيمة في نفسي , إذ أنه لم يسبق لي أن رأيت الخط الذي كتيت به , فقد تعرفت على صاحب الخط . تقول الرسالة : (( يُفترض حضوري إلى لندن بعد يوم غد بعربة الظهر . أعتقد بأنه تم الاتفاق بأن تحضر للقائي . على كل حال , هذا ما تراه الآنسة هافيشام , وأكتب رسالتي تقيداً بذلك . إنها ترسل لها تحياتك ــ المخلصة : استيلا . )) لو كان لدي الوقت الكافي , لأوصيت على بضع بدلات لهذه المناسبة , لكن بما أن الوقت ضيق , فلابد بأن أقتنع بما لدي . تلاشت شهيتي في الحال , ولم يهدأ لي بال إلى أن حل ذلك النهار , ولم يهدأ لي بال حينذاك , إذ رحت أتردد على مكتب العربات حتى قبل أن تغادر العربة (( البلو بور )) في بلدتنا . ووصلت النافذة أخيراً ورأيت وجه استيلا ورأيت يدها تلوح لي . بدت استيلا في ثياب السفر أكثر جمالاً ورقة مما كانت عليه في السابق حتى بالنسبة لعيني . كان تصرفها أكثر جاذبية مما سبق لها أن اكترثت بإظهاره نحوي , فاعتقدت أني كنت أشهد تأثير الآنسة هافيشام في ذدد التغيير . وقفنا في باحة النزل وأشارت لي إلى حقائبها , وحين تم استلامها جميعاً تذكرت ـ بعدما نسيت كل شيء في غضون ذلك ما عداها ـ فأنني أجهل المكان الذي تقصده . فقالت لي : " إني ذاهبة إلى ريتشموند , والمسافة هي عشرة أميال . علي أن أستقل عربة , وعليك بمرافقتي . هذه محفظتي , وعليك دفع الأجور منها . أوه , لابد أن تأخذ المحفظة . ليس لدينا خيار أنا وأنت سوى التقيد بالتعليمات . " " علينا أن نرسل بطلب عربة يا استيلا , هلّا ترتاحين قليلاً هنا ؟ " " بلى , علي أن أرتاح هنا , وأن أتناول بعض الشاي , وعليك الاهتمام بي في هذه الأثناء . " تأبَّطت ذراعي وكأن ذلك كان هو المفروض , وطلبت من خادم كان يحدق بالعربة كرجل لم يسبق أن رأى مثل ذلك الشيء في حياته , أن يقودنا إلى غرفة جلوس خاصة . فأرشدنا إلى غرفة في الطابق الأعلى , وطلبت الشاي لاستيلا . سألتها : " إلى أين أنت ذاهبة في ريتشموند ؟ " قالت : " سأسكن لقاء نفقة كبيرة مع امرأة تدعى السيدة براندلي , وهي تستطيع اصطحابي هنا وهناك , والعمل على تقديمي وتعريف الناس علي وتعريفي عليهم ." " أظنك ستسعدين بالتغير والإعجاب . " " أجل , أعتقد ذلك , هلأنت سعيد مع السيد بوكيت ؟ " " أعيش هناك بسرور , على الأقل بسرور كأي مكان أكون فيه بعيداً عنك . " فقالت بهدوء : " أيها الأحمق , كيف تنطق بمثل هذه التفاهات ؟ صديقك السيد ماثيو باعتقادي أفضل من باقي عائلته . " " بلغني أنه بالفعل من أصحاب الإيثار , وأسمى من الحسد الوضيع والكراهية . " " يقيني بأن لدي كل سبب يحمل على هذا القول . " قالت : " وليس لديك كل سبب لقول ذلك عن باقي قومه , فهم دائماً ما يرسلون تقارير ليست في مصلحتك إلى الآنسة هافيشام . وقلما تستطيع إدراك مدى الكراهية التي يضمرها هؤلاء القوم حيالك . " " آمل ألا يتسببوا لي بالضرر . " انفجرت استيلا بالضحك بدلاً من أن تجيب , وقالت : " كلا , كلا , كن على يقين من ذلك . تأكد بأنني أضحك لأنهم يفشلون . يا لهؤلاء القوم ويا للعذاب الذي يتذوقونه ! " ضحكت ثانية , وقد بدا أن ضحكتها لا تنسجم مع الموقف , فتبادر إلي أنه بالفعل هناك ما يتجاوز حدود معرفتي بالأمور . وأضافت تقول : " كن مطمئناً بأن هؤلاء القوم لم ولن يُضعِفوا من مركزك لدى الآنسة هافيشام حتى بعد مائة عام . وإضافة إلى ذلك , فإنني مدينة لك لأنك السبب بانهماكهم وبعدم جدوى حقارتهم , وهاك يدي عربوناً لذلك . " حين مدت لي يدها بدلال , أمسكت لها ووضعتها على شفتي . فقالت : " أيها الفتى السخيف , ألا تأخذ بالتحذير ؟ أم أنك تقبل يدي بذات الروح التي سمحت لك بها مرة تقبيل خدي ؟ " قلت : " أي روح كانت تلك ؟ " " علي التفكير للحظة . روح الازدراء بالمتآمرين . " " إن قلت نعم , فهل لي أن أقبل خدك ثانية ؟ " كان عليك السؤال في أن تلمس اليد . لكن نعم , إن كنت ترغب في ذلك . " انحنيت وكان وجهها الهادئ كتمثال , فقالت وهي تنسل مبتعدة فور لمسي خدها : " والآن عليك الاهتمام بتناولي الشاي , وعليك مرافقتي إلى ريتشموند . " قرعت الجرس لطلب الشاي , وبعد أن أتى الشاي وتم تناوله ودفع الحساب , صعدنا العربة وانطلقنا بعيداً . وحين مررنا بهامر سميث , أشرت ها أين يعيش السيد بوكيت , وقلت أنه لا يبتعد كثيراً عن ريتشموند , وبأنني آمل لقاءها من حين لآخر . " أوه , بلى , يجب أن تراني , وأن تأتي جين تجد الوقت مناسباً . يجب أن يجري ذكرك لدى العائلة ؛ في الواقع فقد تم ذكرك هناك . " وصلنا ريتشموند أسرع مما كان متوقعاً , وكان المكان الذي نقصده منزلاً قديماً لا بأس به , فظهرت عند الباب حين قرعت الجرس خادمتان جاءتا لاستقبال استيلا . أعطتني يدها بابتسامة , وتمنت لي ليلة سعيدة ثم توارت في الداخل . مكثن أحدق للمنزل وأنا أفكر بالسعادة التي سأنعم بها لو أنني أعيش معها هناك , وأنا مدرك بأنني لم أسعد معها أبداً , بل كنت في تعاسة دائمة . يتبع ... |
#18
| ||
| ||
الفصل التاسع عشر الهوامش المالية فيما اعتدت على الآمال لدي بدأت أشعر بتأثيرها النفسي على نفسي وعلى الذين من حولي , فعشت في حال من القلق المستمر حيال تصرفي مع جو , ولم يكن ضميري مرتاحاً تجاه بيدي . وحين كنت أستيقظ في الليل , كنت أفكر بنفس كئيبة بأنني ربما كنت أكثر سعادة لو أنني لم أتعرف إلى وجه الآنسة هافيشام , وبلغت الرجولة قانعاً بكوني شريك جو ف دكانه القديم المتواضع . لم يكن مركزي الجديد بذي فائدة لهربرت . فقد دفعه تبذيري لمصاريف فاقت قدرته , وأفسد البساطة في حياته , وأصاب طمأنينته بالقلق والندم . وبدأت أغرق بالدين , وسرعان ما لحق بي هربرت . كان بودي أن أتحمل مصاريف هربرت , لكن هربرت كان معتداً بنفسه , فلم أستطع التقدم إليه بمثل هذا الإقتراح . وهكذا غرق بالمصاعب من كل حدب وصوب , وبقي ينتبه لنفسه . كان في كل صباح يذهب إلى الوسط التجاري , وغالباً ما كنت أزوره في مكتبه لكنني لا أذكر أني رأيته مرة يفعل شيئاً سوى النظر حوله . فكنت أقول له أحياناً : " يا عزيزي هربرت , إن وضعنا سيء . " " يا عزيزي هاندل , لئن صدقتني , فقد كنت على وشك النطق بهذه الكلمات . " وكنت أقول : " إذن لنمعن النظر في أمورنا . " كنا نشعر دائماً بمتعة بالغة عن تحديد موعد لهذا الغرض . فنطلب وجبة خاصة على الغداء مع زجاجة نبيذ غالية لشحذ الفكر لتلك المناسبة . وبعد الغداء , نأتي بالأقلام والورق . فأتناول ورقة وأكتب في أعلاها : " مذكرة بديون بيب . " كذلك كان هربرت يتناول ورقة ويكتب عليها : " مذكرة بديون هبرت . " ثم يرجع كل منا إلى كومة أوراق بجانبه , سبق أن ألقيت في الأدراج , أو استحالت نتفاً في الجيوب , أو أصابها بعض الإحتراق من الشموع , أو ألصقت إلى المرآة طوال الأسبوع , أو لعلها أتلفت بشكل أو بآخر . فكان صرير الأقلام يبعث فينا أثناء الكتابة كثيراً من الانتعاش حتى أنه كان يصعب أحياناً التفريق بين القيام بهذا العمل وتسديد المال بالفعل . وبعد أن نكتب لبعض الوقت , كنت أسأل هربرت كيف تسير معه الأمور , فيقول : " إنها تتصاعد يا هاندل , لعمري إنها تتصاعد . " فأجيب : " كن حازماً يا هربرت , واجه الأمر ودقق في شؤونك . " وتكون لأسلوبي الجازم نتائجه , فينكب هربرت على العمل من جديد , ثم يستسلم بعد فترة , مبرراً بأن بعض الفواتير قد فقدت . " إذن قدرها يا هربرت , قدرها بأرقام مدورة وسجلها . " فيجيب صديقي بأعجاب : " يا لك من إنسان بارع , فلديك في مجال الأعمال قدرات رائعة حقاً ! " اعتقدت ذلك أيضاً , واعتبرت نفسي في تلك المناسبات رجل أعمال من الدرجة الأولى : حازم , حاسم , واضح وهادئ المزاج . ومن إحدى عوائدي في العمل ما كنت أدعوه " تخصيص هامش " . فلو افترضنا مثلاً أن ديون هربرت هي مائة وأربعة وستون جنيهاً . أقول : " أُترك هامشاً وسجلها مئتين . " . أو لنفترض أن ديوني هي أربعة أضعاف ذلك, فإنني أترك هامشاً وأسجلها سبعمئة . كنت شديد الإيمان بالحكمة من هذا الهامش , لكن لابد لي من الاتعراف من أنها طريقة مكلفة . إذ سرعان ما نعرف بديون جديدة تغطي الهامش بأكمله وتتجاوز حدودها لتدخل في حيز هامش آخر . إنما كان يسودنا شعور بالسكينة والإرتياح نتيجة التدقيق بأحوالنا , وهو ما عززني آنذاك بموقف من الإعجاب بالنفس . ذات مساء كنت في حالة السكينة هذه حين وصلتني رسالة من بيدي تعلمني فيها عن وفاة شقيقتي وتطلب إلي حضور الدفن نهار الاثنين التالي . يندر أن أتذكر شقيقتي بحنان كثير , لكن حسبي أن هناك صدمة من الندم , بغياب مشاعر الحنان . وبتأثير ذلك , امتلكني غيظ شديد من المهاجم الذي عانت الكثير بسببه , وشعرت بأنه لو كان لدي الدليل الكافي , لكنت طاردت أورليك , أو أي إنساناً آخر , إلى آخر الدنيا انتقاماً . كتبت إلى جو معزياً , وحين حل النهار استقليت عربة إلى قريتي وسرت باتجاه دكان الحدادة . بعد انتهاء مراسم الدفن , تناولت غداء بارداً مع جو وبيدي . وقد سُر جو كثيراً حين سألت إن كان بوسعي أن أنام في غرفتي الصغيرة . وفيما بدأت تقترب بداية الظلمة , اغتنمت فرصة للخروج إلى الحديقة مع بيدي في نزهة قصيرة . قلت لها : " أظن أن من الصعب عليك البقاء هنا يا عزيزتي بيدي . " فقالت بلهجة أسف :" أوه , لا يمكنني ذلك يا سيد بيب . لقد كنت أتحدث إلى السيدة هابل, وسأذهب إليها في الغد . آمل أن تستطيع الاهتمام بالسيد غارجري , سوياً إلى أن يستقر . " " وكيف ستعيشين يا بيدي ؟ إن كنت بحاجة إلى المال ــ " " كيف سأعيش ؟ سأخبرك يا سيد بيب . سأحاول الحصول على وظيفة معلمة في المدرسة الجديدة المنجزة تقريباً هنا , لقد تعلمت منك الكثير يا سيد بيب ؛ وكان لدي الوقت للتقدم منذ ذلك الحين . " " أعتقد أنك ستتحسنين دائماً يا بيدي , وفي كافة الظروف . " ثم أخبرتني بتفاصيل وفاة شقيقتي . إذ ظلت في إحدى حالاتها السيئة أربعة أيام , وحين خرجت منها في المساء , قالت (( جو )) بوضوح . فاستدعي جو من الدكان وأشارت إليه بأنها تريد أن يجلس بالقرب منها , ثم ألقت برأسها على كتفه بارتياح ورضى . وقالت (( جو )) ثانية و (( سامح )) , ومرة (( بيب )) . ولم ترفع رأسها بعد ذلك , وبعد ساعة كانت قد فارقت الحياة . " ألم يُكتشف شيء يا بيدي ؟ " " لا شيء . " " هل تعلمين ماذا حل بأورليك ؟ " " أعتقد من لون ملابسه أنه يعمل في مقالع الحجارة . " ثم أخبرتني أنه ما زال يحاول إيقاعها في حبه , الأمر الذي أثار غضبي الشديد , كان علي الذهاب في الصباح الباكر . وفي الصباح الباكر , كنت في الخارج أنظر خلسة من إحدى نوافذ دكان الحدادة . وقفت هناك بضع دقائق , أتطلع إلى جو وقد باشر عمله , فيما وهج الصحة والقوة بادٍ على محياه . " وداعاً يا عزيزي جو ! كلا , لا تمسحها ـ بالله عليك , أعطني يدك المسودة ! سأعود ثانية ومرات عديدة . " فقال جو : " ليس عاجلاً يا سيدي , وليس دائماً يا بيب . " يتبع ... |
#19
| ||
| ||
الفصل العشرون الوجه المشرق انتقلت مع هربرت من سيء إلى أسوأ بويادة ديوننا والبحث في شؤوننا ، ووضع الهوامش ، وما شابه ذلك ، ومع مرور الوقت بلغت سن الحادية والعشرين . وقبل بلوغي الحادية والعشرين بيوم واحد , تلقيت مذكرة رسمية من ويميك يعلمني فيها أن السيد جاغرز سيكون سعيداً إن قمت بزيارته في الخامسة من بعد ظهر اليوم التالي . حين وصلت المكتب , هنأني ويميك وأومأ لي برأسه للدخول إلى غرفة وصيي . صافحني السيد جاغرز وهو يخاطبني بالسيد بيب وقدم لي تهانيه . ثم سألني عن أحوال معيشتي , فلم أستطع الإجابة على ذلك السؤال . سألته إن كنت سأتعرف على هوية المحسن إلي ذلك النهار . فأجابني بالنفي , ثم قال إنه على علم بأنني مدين , فقدم لي ورقة نقدية بقيمة خمسمئة جنيه , وأضاف بأنني سأحصل على نفس المبلغ سوياً , وأن علي أن أعيش ضمن هذه الحدود إلى أن يظهر المحسن إلي . بدأت بالتعبير عن امتناني للمحسن لكرمه الفائق الذي يخصني به , حين أوقفني السيد جاغرز ليقول : " أنا لا أتلقى أجراً لأنقل كلماتك للآخرين يا بيب . " . وبذلت جهوداً متتالية لأتبين متى سيتم الكشف عن المحسن السري . وإن كان سيأتي إلى لندن , لكنها باءت جميعها بالفشل . بل كل ما استطعت حمل السيد جاغرز على قوله هو : " حين يكشف لك ذلك الشخص عن نفسه , سيتوقف دوري في المهمة . " . من هنا استنتجت أن الآنسة هافيشام لم تخبره ـ لسبب أو لآخر ـ عن إعدادها لي للزواج من استيلا , أو أنه يستاء من ذلك ويشعر بالغيرة حياله , أو يعارض المخطط بشدة ولا يرغب القيام بشيء بصدده . تركته وذهبت إلى مكتب ويميك , ولما أصبحت الجنهات الخمسمئة في جيبي , خطرت ببالي فكرة ورأيت أن أستشير ويميك . فأخبرته أنني أود مساعدة صديق يحاول الانطلاق في ميدان التجارة لكنه لا يملك المال لذلك . فكان رأي السيد ويميك بأنني أرتكب ضرباً من الحماقة لو فعلت ذلك , وسيكون حالي كمن يلقي بماله سدى في نهر التايمز . لكن ويميك كان في منزله أكثر كرماً من المكتب , ولذا قمت بزيارته عدة مرات في المنزل , ووجدنا في النهاية تاجراً شاباً يدعى كلاريكر كان يحتاج إلى مساعدة عاقلة ورأس مال , وقد يحتاج في حينه إلى شريك له . وقد وقعت معه على اتفاق سري بشأن هربرت , فدفعت نصف مبلغ الخمسمئة جنيه الذي أملكه , ووعدت بتسديد دفعات أخرى من دخلي بتواريخ محددة . كان العمل من التنظيم البارع حتى أن هربرت لم يكن لديه أدنى شك بضلوعي فيه . ولن أنسى أبداً وجهه المشرق الذي عاد به ذات مساء ليخبرني خبراً مذهلاً , هو أنه تعرف إلى تاجر شاب أبدى إعجاباً باهراً به , وأنه مؤمن بأن الفرج قد جاء أخيراً . يوماً بعد يوم أخذت آماله تكبر ووجهه يبتهج .إلى أن تم أخيراً إنجاز كل شيء ودخل ميدان العمل. بكيت فرحاً عندما ذهبت إلى السرير , لأنني رأيت أن آمالي قد منحت شخصاً بعض الخير . الفصل الحادي والعشرون شجار مؤقت لو قدر لذلك المنزل الوقور في ريتشموند أن يستحيل مزاراً للأرواح حين أموت , فلا شك أن شبحي سيكون من زائريه . آهٍ لليالي والأيام العديدة التي كانت روحي المعذبة تزور ذلك المنزل حين كانت استيلا تعيش هناك ! ففي داخل المنزل وخارجه , كنت أعاني كل أنواع العذاب الذي تسببه لي استيلا ؛ فطبيعة علاقاتي معها التي وضعتني موضع الألفة بدلاً من موضع التفصيل , كادت تدفعني إلى الجنون . فكانت تستخدمني لمضايقة باقي المعجبين , وكان لها معجبون كثر . كنت أشاهدها غالباً في ريتشموند وتبلغني أخبارها في المدينة , وغالباً ما كنت أصطحبها مع عائلة براندلي التي تقيم معهم للتنزه وحضور المسرحيات والحفلات الموسيقية وحفلات الأنس والسمر وسائر أنواع اللهو , حيث كنت ألاحقها ــ وكان كل ذلك مصدر عذاب وشقاء . ولم أنعم بساع من السعادة بصحبتها , ورغم ذلك فقد بقيت أفكر على مدار الساعة بالسعادة الناجمة عن وجودها معي حتى الممات . ذات مساء أخبرتني استيلا أن الآنسة هافيشام تود أن تستضيفها ليوم في (( ساتيس هاوس )) , وأن علي اصطحابها إلى هناك والعودة إذا شئت . فوافقت بكل طيبة خاطر , وذهبنا بعد يومين لنجد الآنسة هافيشام في الغرفة حيث رأيتها أول مرة . كانت هذه أكثر ولعاً باستيلا نحوي بنظرة ثاقبة , وسألتني بتوق حتى على مسمع استيلا : " كيف تعاملك يا بيب , كيف تعاملك ؟ " لكن عندما جلسنا بالقرب من موقدها ليلاً , كانت غريبة للغاية , إذ فيما ظلت تمسك بيد استيلا , جعلتها تذكر أسماء وأحوال الرجال الذين تجتذبهم , وفيما كانت الآنسة هافيشام تصغي باهتمام , جلست تتكئ باليد الأخرى على عصاها وتحدق إلي كالشبح . استنتجت من ذلك أن استيلا كانت تستخدم لتثأر الآنسة هافيشام من الرجال , وأنها لن تكون من نصيبي إلا حين تثأر لها . واستنتجت من ذلك سبب إبعادي طيلة ذلك الوقت , وسبب رفض وصيي الإقرار بأية معلومات تتعلق بأنها ستكون من نصيبي . وحدث في هذه الزيارة أن تبادلت استيلا والآنسة هافيشام كلاماً قاسياً , وكان هذه أول مرة أراهما تتعارضان . كنا نجلس قرب الموقد , والآنسة هافيشام ما تزال تتأبط ذراع استيلا , حين بدأت هذه تسحب يدها تدريجياً . فقالت الآنسة هافيشام وهي تنظر إليها بحدة : " ماذا ! هل سئمتي ؟ " أجابت استيلا : " بل سئمت قليلاً من نفسي . " وهي تحرر ذراعها وتتجه نحو المدفأة , حيث وقفت تحد إلى النار . فصرخت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها بعصبية : " قولي الحقيقة أيتها الجحودة ! لقد سئمتي . " نظرت استيلا إليها بهدوء تام , ثم حدقت إلى النار ثانية . فقالت الآنسة هافيشام : " يا لك من جماد وحجر ! يا لقلبك البارد , البارد . " قالت استيلا : " ماذا ؟ وهل تلومينني لأنني باردة ؟ أنتي ؟ " فكان الرد العنيف : " ألست كذلك ؟ " قالت استيلا : " عليك أن تعلمي بأنني كما صنعتني . خذي المديح كله , خذي الملامة كلها , خذي النجاح كله , خذي الفشل برمته , وباختصار خذيني . " صاحت الآنسة هافيشام بمرارة : " أوه , أنظر إليها , أنظر إليها ! أنظر إليها حيث تربت , كم هي قاسية وجاحدة من رباها ! حيث وضعتها إلى هذا الصدر البائس حين كان ينزف من الطعنات التي أصابته,وحيث أغدقت عليها سنوات من الحنان والعطف." قالت استيلا : " ماذا تريدين ؟ لقد كنت طيبة جداً معي , وإنني مدينة لك بكل شيء . فما الذي تريدينه ؟ " أجابت الأخرى : " الحب . " " لديك إياه . " قال الآنسة هافيشام : " كلا . " " والدتي بالتبني , لقد قلت بأنني مدينة لك بكل شيء , كل ما بحوزتي هو لك مجاناً , وكل ما منحتني , لك استرجاعه عند الطلب , وإن سألتني أن أمنحك ما لم تمنحيني إياه , فإن إقراري بالجميل والواجب يتعذر عليه المستحيل . " صاحت الآنسة هافيشام وهي تلتفت نحوي بغضب : " ألم أعطها الحب أبداً ! ألم أعطها الحب متقداً , فيما هي تتحدث إلي هكذا ! لتدعوني مجنونة , لتدعوني مجنونة ! " أجابت استيلا : " ولماذا أدعوك مجنونة أنا من دون سائر الناس ؟ هل من أحد يعرف نواياك نصف ما أعرف ؟ وهل من أحد يعرف ذاكرتك الثابتة نصف ما أعرف ؟ أنا التي جلست بجانب هذا الموقد بالذات أتعلم دروسك وأنظر في وجهك , حين كان وجهك غريباً يخيفني . " فانتدبت الآنسة هافيشام تقول : " منسية بسرعة ! أحوالي باتت طي النسيان ! " " كلا , لم تنس , لم تنس , بل هي مخزونة في ذاكرتي . متى وجدتني أخالف تعليماتك ؟ ومتى وجدتني أوافق على ما تعارضين عليه ؟ كوني عادلة معي . " ثم لمست صدرها بيدها . انتدبت الآنسة هافيشام تقول : " مغرورة جداً , مغرورة جداً . " قالت استيلا : " من علمني أن أكون مغرورة ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ " وزعقت الآنسة هافيشام تقول : " قاسية جداً , قاسية جداً . " " ومن علمني أن أكون قاسية ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ " صاحت الآنسة هافيشام وهي تمد ذراعيها : " لكن لتكوني مغرورة وقاسية معي . استيلا , لتكوني مغرورة وقاسية معي . " نظرت استيلا إليها بتعجب هادئ , ثم عادت تنظر إلى النار ثانية . واستقرت الآنسة هافيشام , لست أدري كيف على أرض الغرفة , فانتهزت الفرصة لأغادر الغرفة وأتمشى تحت ضوء النجوم مدة ساعة أو أكثر في الحديقة المهملة . وعندما استجمعت شجاعتي في النهاية لأعود للغرفة , وجدت استيلا تجلس على ركبة الآنسة هافيشام . بعد ذلك لعبت الورق مع استيلا كسابق عهدنا , وبذلك انتقضت الأمسية , فذهبت للنوم. قبل أن نغادر في اليوم التالي , لم يتجدد الشجار بين الآنسة هافيشام واستيلا , ولم يتجدد في أي مناسبة مماثلة . يعتذر علي قلب هذه الصفحة من حياتي دون أن أذكر فيها اسم بانتلي درامل , وإلا كنت في منتهى السعادة . ففي ذات مناسبة , حين كنت أنا وهربرت مجتمعين مع بعض الأصدقاء في نادينا , تراءى لي أنني رأيت بانتلي ينظر باستهزاء نحوي بطريقة مشينة , وما لبث أن عرض على الحاضرين نخب استيلا . سألت : " استيلا من ؟ " فأجاب درامل : " لا عليك . " قلت : " استيلا من أين ؟ " " من ريتشموند أيها السادة , ذات الجمال الفريد . " فقال هربرت عبر الطاولة بعد أن شُرب النخب : " أعرف تلك السيدة . " فقال درامل : " حقاً ! " قلت مضيفاً وقد احمر وجهي : " وكذلك أنا . " قال درامل : " حقاً ! يا إلهي ! " أثارت هذه الإهانة غيظي فدعوته بالإنسان الوقح على التجرؤ بشرب نخب فتاة لا يعرف عنها شيئاً , وأفصحت عن استعدادي للمبارزة معه : لكن الحضور قرروا أنه في حال أحضر درامل شهادة من السيدة تفيد أنه يحمل شرف معرفتها , فسيتوجب علي الاعتذار له بصفتي سيداً , نظراً لأنني فقدت صوابي . وفي اليوم التالي جاء درامل يحمل اعترافاً موجزاً بخط استيلا , يفيد أنها حازت شرف الرقص معه عدة مرات , مما لم يترك لي أي خيار سوى الاعتذار له . يعجز لساني بالتعبير عن الألم الناشئ عن التفكير بأن استيلا تبدي إعجابها بمثل هذا الإنسان الحقير الأخرق . لذا اغتنمت أول فرصة للقائها في حفل في ريتشموند ومفاتحتها حول هذا الموضوع ــ وكان درامل بين الحاضرين . قلت : " استيلا , أنظري إلى ذاك الرجل في الزاوية لذي ينظر إلينا . " قالت استيلا : " لماذا أنظر إليه ؟ وما المثير فيه لأنظر إليه ؟ " قلت : " ذلك السؤال بالذات الذي أريد توجيهه إليك . فما زال يحوم حولك طيلة الليل . " فأجابت استيلا وهي ترمقه بنظرها : " أن ألعث وسائر المخلوقات الكريهة تحول حول الشمعة المضاءة , فهل يسع الشمعة القيام بشيء ؟ " " كلا , لكنني أشعر بالخزي يا استيلا إذ تشجعين رجلاً مقيتاً للغاية مثل درامل . رأيتك تمنحينه نظراتك وابتساماتك هذه الليلة بالذات , كما لم تمنحينيها أبداً . " قالت استيلا : " وهل تريدني إذن أن أخدعك وأوقع بك ؟ " وهل تخدعينه وتوقعين به يا استيلا ؟ " " أجل , وبالكثيرين غيره ـ جميعهم ما عداك . ها هي السيدة براندلي مقبلة , لن أقول أكثر من ذلك . " يتبع ... |
#20
| ||
| ||
الفصل الثاني والعشرون الزيارة المربكة بلغت الثالثة والعشرين , وكنا تركنا نزل برنارد منذ أكث من سنة وسكنا في (( التامبل )) , وكانت غرفنا في (( الغاردن كورت )) بجانب النهر . وقد دفع العبرحلة لهربرت إلى مرسيليا , فبقيت بمفردي . افتقدت وجه صديقي المرح وعشرته , فجلست أقرأ حتى الحادية عشرة . وما أن أغلقت الكتاب حتى سمعت وقع أقدام على الدرج . حملت قنديل القراءة وخرجت إلى أعلى الدرج . ناديت وأنا أنظر إلى الأسفل : " يوجد شخص في الأسفل , أليس كذلك ؟ " " أجل . " " أي طابق تريد ؟ " " الأعلى , أريد السيد بيب . " " ذلك اسمي . " صعد الرجل , ومن خلال ضوء مصباحي رأيت وجهاً غريباً علي , كان ينظر إلي بتأثر وفرح لرؤيتي . وفيما حركت المصباح مع إقبال الرجل , تبين لي أنه يرتدي كالمسافرين في البحر. كان شعره طويلاً رمادي اللون وكان يبلغ نحو الستين من العمر . قوي البنية , وقد اسمر جلده واشتد بسبب تعرضه لعوامل الطقس . ولما صعد الدرجة أو الدرجتين الأخيرتين , رأيته يمد كلتا يديه نحوي . فقلت : " أرجوك ما هو غرضك ؟ " كرر : " غرضي ؟ " ثم قال : " آه ! أجل . سأشرح غرضي إذا سمحت . " " وهل تود الدخول ؟ " فأجاب : " نعم أود الدخول . " أدخلته الغرفة التي كنت غادرتها لتوي , وطلبت إليه التعريف عن نفسه . نظر حوله بفرح وكأن له نصيباً من الأشياء التي يتطلع إليها , ثم خلع معطفه وقبعته الخشنة ومد يده إلي ثانية , فقلت وأنا أشك تقريباً بأنه مجنون : " ماذا تقصد ؟ " جلس على كرسي قرب الموقد وغطى جبينه بيديه السمراوتين الكبيرتين , ثم قال وهو ينظر من فوق كتفه : " ما من أحد هنا , أليس كذلك ؟ " فقلت : " لماذا تسأل هذا لسؤال وأنت غريب جاء إلى منزلي في هذا الوقت من الليل ؟ " أجاب وهو يهز رأسه إلي بمحبة : " أنت شاب شجاع , إنني مسرور لأنك نشأت شاباً شجاعاً ! لا تسيء إلي , فستندم لاحقاً إن فعلت . " أقلعت عن نيتي التي أفصح عنها , فقد كنت أعرفه , عرفت المجرم صاحبي , إذ لم يكن بحاجة ليخرج المبرد من جيبه ويريني إياه . لم يكن بحاجة ليتناول المنديل من جيبه ويلفه حول رأسه . تذكرته حتى قبل أن يقدم لي هذه الأدلة . عاد إلى حيث كنت واقفاً , ومد لي ذراعيه مرة أخرى . لم أعرف ماذا أفعل , فمددت له يدي على مضض , فأمسك بهما ورفعهما إلى شفتيه ثم قبلهما , ثم قال : " لقد تصرفت بنبل يا ولدي . بيب النبيل ! ولم أنس ذلك أبداً . " كان على وشك أن يغمرني , لكنني أبعدته وقلت : " إبق بعيداً ! إن كنت ممتناً لما فعلته عندما كنت طفلاً صغيراً , فحبذا لو أظهرت امتنانك بتقويم سبيلك في الحياة . إنك مبتل وتبدو مرهقاً , هل تشرب شيئاً قبل رحيلك ؟ " قال بلى , فحضرت له بعض الرم والماء الساخن وقدمته إليه , فوجدت لدهشتي عيناه مغرورغتان في الدموع . لانت مشاعري حيال ذلك فأسرعت أسكب لنفسي بعض الشراب , وقلت له : " آسف لأنني تحدثت إليك بخشونة الآن . آمل أن تكون سعيداً وعلى ما يرام . كيف تعيش ؟ " فقال : " اشتغلت بتربية الخراف وتربية الماشية , إلى جانب بعض التجارة , بعيداً في العالم الجديد . " " وهل حققت النجاح كما آمل ؟ " " لقد حققت نجاحاً باهراً . " " يسرني سماع ذلك . " " هل لي أن أتجرّأ بسؤالك كيف حققت النجاح منذ تقابلنا في المستنقعات ؟ " بدأت أرتجف , وحملت نفسي على إخباره بأنه قد تم اختياري لوراثة إحدى الممتلكات . " هل لي أن أسأل ممتلكات من ؟ " " لست أدري . " " هل لي أن أخمن مقدار دخلك بعد أن بلغت الحادية والعشرين ؟ والآن بالنسبة للرقم الأول , خمسة ؟ وبالنسبة للوصي , لعله أحد المحامين . والآن إلى أول حرف من اسم المحامي هو حرف ( ج ) ؟ لعله جاغرز ؟ " ثم أخبرني لدهشتي بأنه هو المحسن إلي , وأنه عبر البحر إلى بورتسماوث وحصل على عنواني من ويميك . لقد جعل مني سيداً ! لقد عاش حياة خشنة كي أعيش حياة رقيقة . وعمل بجد كي أترفع عن العمل . ركع أمامي ودعاني ابنه , لقد عمل راعياً مأجوراً وأقسم أن كل جنيه يكسبه سيكون لي . ثم توفي سيده وترك له المال , فحظي بالحرية وعمل لحسابه فاغتنى وجعل مني سيداً . وضع يده على كتفي , فارتجفت للفكرة التي أعرفها جيداً , فلعل يده ملطخة بالدم .. ثم سألني : " أين ستضعني ؟ يجب أن أُوضع بمكان ما يا ولدي . " قلت : " ألتنام ؟ " أجاب : " أجل , لأنام طويلاً وبارتياح,فقد تقاذفني البحر وأرهقني شهوراً طويلة. " قلت : " إن صديقي وشريك منزلي غائب , عليك بغرفته . " " لن يأتي غداً , على ما أرجو . " قلت : " لا , لن يأتي غداً . " " أنظر يا بني العزيز , أقول هذا لأن الحذر ضروري . " " وماذا تقصد بالحذر ؟ " " إنه الموت , لقد حكم علي بالسجن مدى الحياة , والموت هو لمن يعود . " كان همي الأول إغلاق مصاريع النوافذ لكي لا يتسرب الضوء من الداخل , ثم إغلاق الأبواب وإقفالها . فأعرته بعض البياضات , وآوى إلى الفراش . جلست بجانب الموقد أخشى الذهاب إلى فراشي , وبقيت ساعة أو أكثر في ذهول لا أستطيع التفكير ؛ ولم أدرك تماماً , إلا حينما بدأت التفكير , كم كنت محطماً , وأن السفينة التي أبحرت على متنها أصبحت أشلاء . " نوايا الآنسة هافيشام نحوي , مجرد حلم , استيلا لم تكن من نصيبي ؛ فلم يبق لي سوى المعاناة في (( الساتيس هاوس )) لمثابة جزاء لعلاقات الجشع . تلك كانت أولى الآلام التي عانيت منها . لكن الألم الأشد والأعمق كان أنني هجرت جو وبيدي من أجل المجرم المتهم بجرائم لا أعرفها , والمعرض للشنق . يتبع ... |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
رواية الزمن قاسي ولايمكن يلين ..اول رواية لي في الذمة تقرونها ......بليز | بنت عز ومن شافني فز | أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه | 10 | 07-01-2011 07:45 AM |
رواية حب في السعوديه اقوى روايه ( رواية الحب بعد فوات الاوان ) | ЯǒǑǒйĝ3ħ | أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه | 9 | 05-19-2010 09:19 AM |
رواية بنات الرياض للكاتبة رجاء الصانع نسخة كاملة للتحميل | © بندر © | أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه | 384 | 01-13-2009 07:33 PM |
" إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري | سماح عبدو | قصص قصيرة | 2 | 06-19-2008 08:01 PM |
رواية عمارة يعقوبان للتحميل | © بندر © | قصص قصيرة | 123 | 03-05-2008 12:12 AM |