ملحمة تشايكوفسكي: كسارة البندق بقلم الشاعر سعود الأسدي - عيون العرب

**نبيل المجهول** · #1 01-05-2007, 04:06 PM

هناك نوع من التأليف في الموسيقى الأوروبية يعرف باسم السويت ( suite ) أي متتابعة , وهي بمثابة باقة تجمع عددا من الرقصات الارستقراطية , أو الشعبية (القومية) ويراعى في هذا النوع من التأليف الانتقال بين السرعة والبطء بحسب الإيقاعات المرافقة , وهي إيقاعات متنوعة ومتسلسلة , ويربطها جميعا مقام موسيقي واحد لا يتبدل .
لقد تطور هذا النوع من الموسيقى , وخاصة في العصر الرومانسي لينطلق في أجواء تعبيرية وتصويرية عن قصائد أدبية , أو حكايات وخرافات وأساطير , ولعل الموسيقي الروسي تشايكوفسكي ( 1840- 1893 ) من أشهر من عالج هذا اللون من الموسيقى المستوحاة من أشعار بوشكين , وشكسبير , وقصص الكسندر دوماس الأب , وخرافات هوفمان .. وقد اقترنت متتابعات تشايكوفسكي في هذا الباب برقص فني إبداعي مبتكر يسمى ( الباليه ) , ومن أشهرها بحيرة البجع , وكسارة البندق , والحسناء النائمة , واذكر أنني كنت قد تحدثت عن بحيرة البجع في مقالة لي سابقة من خلال زاويتي هذه , ونظرًا لحبي موسيقى تشايكوفسكي فقد رأيت أن أتحدث في هذه الحلقة عن كسارة البندق بعرض موجز يلقي ضوءاً على متتابعة تعتبر من أشهر المتتابعات التي تتنافس في عرضها أشهر فرق الباليه العالمية وأرقاها .
** بين بتهوفن وتشايكوفسكي **
ولكن قبل الشروع في عرض تلك المتتابعة , أرى أن أنوّه إلى مكانة تشايكوفسكي من بين المؤلفين الروس, ولعل مقارنة سريعة بينه وبين بتهوفن من شانها , فيما اعتقد , أن تشيد به, وتظهر شموخ هامته كفنان , فهو الموسيقي الأول , بعد بتهوفن , من بين موسيقيي القرن التاسع عشر الذي لقي حباً وتقديراً من الناس , فاقبلوا على سماع موسيقاه في عواصم أوروبا.
هذا مع العلم أن عالم بتهوفن يختلف عن عالم تشايكوفسكي , فالأول سحر الناس بالشكل الموسيقي المكتمل , وبالمضمون الروحي السامي والمتمثل في عنصر الصراع الدرامي المبثوث في تضاعيف سيمفونياته , وبقوة الفكرة , وحرية التعبير عنها بكسر التقليد الموسيقي الموروث , ولكن بصورة فنية تسبي الألباب قبل الأفئدة , بينما موسيقى تشايكوفسكي اجتذبت الناس بأسباب هي غير ما عند بتهوفن إن لم تكن على العكس , لان الشكل والمضمون عند تشايكوفسكي هما دون ما لديه هو ذاته من ألوان ساطعة , ومؤثرات نفسية, وتيارات روحية فيها الازدواجية , والتناقضية بين السطحية والعمق. وبدلا من عنصر الصراع الدرامي تتفجر عند تشايكوفسكي أعاصير من الشبق الروحي والمادي , وتهب زوابع من اللهفة والأشواق الإنسانية , وكذلك بدلا من تفوق العنصر الفني في التأليف تغلب لديه كموسيقي رومانسي صفة التعبير الذاتي عن أفكاره ومشاعره .. وإذا كانت موسيقى بتهوفن تدعو الإنسان إلى أن يترفّع عن عالمه الدنيوي, فإن موسيقى تشايكوفسكي تدعوه إلى الانغماس فيه إلى أذنيه , لأنها تخترق قلبه وأحاسيسه , في جميع ما أتاه من أعمال سيمفونية , وكونشيرتو , ومتتابعات والتي منها بحيرة البجع , وكسارة البندق . والأميرة ( الحسناء ) النائمة.
** من قصص هوفمان **
تنسب كسارة البندق في أصلها الأدبي إلى خرافة من خرافات هوفمان, وهو كاتب ألماني روائي , وموسيقي ورسام (1776- 1822) , وكان متعدد الجوانب الإبداعية حتى أصبح موضع اهتمام الموسيقيين أمثال روبرت شومان , وأوفنباخ , وهذا أفرد له أوبرا سنة 1881 بعنوان خرافات هوفمان .. ولما طُلب إلى تشايكوفسكي أن يؤلف متتابعة راقصة عمد إلى قصة كسارة البندق هذه فجعلها موضوع متتابعة من فصلين يضمان خمس عشرة مقطوعة تحكي في مجموعها قصة حلم جرت لفتاة صغيرة ـ كلارا- في ليلة عيد الميلاد.
ففي الفصل الأول ترى كلارا في المنام , وهي تغفو بمقربة من شجرة عيد الميلاد بين ألعاب وهدايا قدمت إليها , ومن جملتها كسارة بندق , أن فئة من الفئران اشتبكت في حرب مع جند القصدير الذين تقف على رأسهم " كسارة البندق" وفي اللحظة التي أوشكت فيها الفئران على أن تقترب من لحظة الانتصار تهب كلارا لنجدة ألعابها , فتضرب بحذائها البيتي كبير الفئران (قائدهم) , فتشجّ رأسه , ولما رأت الفئران المهاجمة مصير قائدها ذعرت ذعرًا شديدًا , وراحت تعدو في كل اتجاه , حتى توارت عن الأنظار .. وبلمسة سحرية لا يعرف أحد كنهها تنقلب كسارة البندق بطرفة عين إلى أمير شاب وسيم , فتقف الفتاة أمامه مأخوذة بسحره وجماله !!
وفي وسط الفرحة بالانتصار , وروعة المفاجأة السعيدة , تندفع مجموعة من الأطفال في موكب راقص بهيج , وتتلوها رقصة مرحة للأبوين , وأخرى للسيد الذي جلب الهدايا , ومن جملتها كسارة البندق .
وهنا تسمع نغمات تهليلية , وكأنما تهدهد كلارا لعبتها , وعلى الأثر تأتي رقصة الجد على نغمات ألمانية بطيئة تعود إلى القرن السابع عشر, ثم رقصة بولونية (بولونيز ) , فيما يغادر ضيوف المنزل القاعة , ويذهب الأطفال , وقد غلبهم النعاس ليرقدوا في فراشهم , وبينما تخلو القاعة تعود كلارا , وهي في ملابس النوم , إلى شجرة الميلاد التي أخذت تطول وتطول, وهنا بدا المشهد المفزع ( معركة الفئران مع الهدايا والألعاب ) , ولولا تدخل كلارا لنصرة كسارة البندق لما تمت هزيمة جند الفئران !!
وعندما حدثت المعجزة وتحولت كسارة البندق إلى أمير وسيم, تغير المشهد إلى منظر ثلجي , وانقلبت فيه غلائل الثلج إلى فرقة باليه راقصة تقف على رأسها " ملكة الثلج" لتشارك كلارا وفتاها في رقصة مرحة تصاحبها نغمات صوتية لجوقة أطفال محتفلين , وهنا ينتهي الفصل الأول , وتختفي كلارا والأمير بعيدا عن الأنظار .
وفي الفصل الثاني يأتي دور" مملكة الحلويات", وهنا تدخل كلارا برفقة الأمير وتتبعهما حورية جنيّة من " الخوخ والسكر" , ويعلن الأمير أن كلارا هي سبب نجاته من الفئران وتكون مكافأتها حفلة كبرى يغدق فيها الشراب والحلوى , وألوان مختلفة لرقصات للشوكولاتة ( رقصة إسبانية) , والقهوة(رقصة عربية) على الحان ميّاسة تتلوّى فيها الخصور ، وتتمايل فيها القدود , وتتثاءب النهود , وتتبعها رقصة الشاي (صينية) ثم رقصة قفقازية عنيفة وحماسية صاخبة , ورقصات أخرى منها (فالس الأزهار) وتارنتيلا .
وأخيرا الفالس الختامي , ورقصة التمجيد أو الشكر يشارك فيها جميع الراقصين , وتكون النهاية بانقشاع الحلم , والعودة إلى المنظر البيتي الأول: وتظهر كلارا فيه على مقربة من شجرة عيد الميلاد , وهي في عزّ نومها , والابتسامة على شفتيها , والى جانبها وعلى فراشها لعبتها الحميمة : كسارة البندق !!