|
نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| ||
| ||
الإيمان بالقدر تعريفه ـ مراتبه ـ ثمراته الإيمان بالقدر تعريفه ـ مراتبه ـ ثمراته الشيخ/ ماجد بن سليمان الرسي من أصول الإيمان العظيمة، الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، والـقَدَر - بفتح الدال - هو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق في علمه واقتضته حكمته. والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وهذا تفصيل الكلام فيها. الأول: العلم، أي الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً، أَزَلاً(1) وأبدًا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، كالإحياء والإماتة وإنـزال المطر، أو بأفعال عباده، كأقوالهم وأفعالهم، بل حتى أفعال الحيوان كلها معلومة لله عز وجل، والدليل على هذا من الكتاب والسنة والعقل، فأما الكتاب فقوله تعالى:[ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]الأحزاب:40، وقال: [وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]الطَّلاق:12، وقال: [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] غافر:7، وقال: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]الأنعام:59 وظلمات الأرض هي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الطين وظلمة السحاب وظلمة المطر وظلمة الغبار، فهذه الظلمات الست لا تحول دون علم الله عز وجل بتلك الحبة ورؤيته لها، وربما كان هناك ظلمات غير هذه الظلمات الست لا نعلمها. والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في " شرح العقيدة الواسطية "(2): «هو لوح كتب الله فيه مقادير كل شيء، ووصف بكونه محفوظ لأنه محفوظ من أيدي الخلق ومحفوظ من التغيير، فالله عز وجل لا يغير فيه شيئا لأنه كتبه عن علم منه، ولأن الله أمر القلم أن يكتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، ولهذا قال شيخ الإسلام: ( إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً ) ». انتهى باختصار. ودليل علم الله بعمل الإنسان قوله تعالى: [أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ]الزُّخرف:80 ، فهو يعلم السر الذي يخفيه الإنسان في قلبه، والحديث الذي يحدث به نفسه، ويعلم النجوى، وهو كلام الإنسان مع صاحبه. ودليل ذلك من العقل أن الله تعالى هو الخالق وما سواه مخلوق، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمخلوقه، قال تعالى: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ]الملك:14 وعلم الله عز وجل لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، ولهذا لما قال فرعون لموسى: [فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى]طه:51؛ أجاب موسى فقال: [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى]طه:52، ومعنى لا يضل أي: لا يجهل. بينما علم البشر محفوف بهاتين الآفتين: جهل سابق ونسيان لاحق. وإنكار علم الله لما سيكون كفر، وقد ظهر قوم في القرن الأول يقولون إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فلما ذَكر ذلك يحيى بن معمر لعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ قال: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر؛ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم روى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلمحديث جبريل ـ الذي رواه مسلم ـ(3)، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجابه، وذكر فيه أركانه، وعدَّ منها الإيمان بالقدر. فبراءة ابن عمر ممن أنكرهم علم الله بما سيكون؛ دليل على كفرهم، هكذا قرر القاضي عياض في شرحه على الحديث، وقال: القائل بهذا كافر بلا خلاف.(4) الثاني: الكتابة، ومعناه الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة في اللوح المحفوظ، كتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي هذين الأمرين – العلم والكتابة - يقول الله تعالى: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ]الحج:70 وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كَتَبَ اللهُُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "(5) وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ". ثم قال عبادة لابنه: مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي(6). الثالث: المشيئة، ومعناها الإيمان بأن جميع ما يكون ويحصل في هذا الكون لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، أي: بإذنه الكوني، سواء كان مما يتعلق بأفعاله، كالإحياء والإماتة وتدبير أمور هذا الكـون، أو مما يتعلق بأفعال المخلوقين، من ذهاب ومجيء، وفعل وترك، وطاعة ومعصية، وغير ذلك من أفعال العباد التي لا تعد ولا تحصى، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله:[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص:68، وقال:[وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ]إبراهيم:27، وقال: [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ]آل عمران:6. وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: [وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ]النساء:90، فالاقتتال الذي هو فعل العبد لا يقع إلا بمشيئته، أي بإذنه الكوني، وقال:[ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]الأنعام:112، وقال: [وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا ]الأنعام:107. فلا يقع شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله تعالى وإذنه الكوني، سواء كان مما يتعلق بأفعاله أم بأفعال عباده، لأن هذا الكون ملك لله، فمادام الشيء ملكه فإنه لا يكون في ملكه إلا ما شاءه وأذِن به، ولا يكون في ملكه شيء بدون إذنه، ولو كان يقع شيء بدون إذنه لكان ملكه ناقصا، تعالى الله عن ذلك. الرابع: الخلق، ومعناه الإيمان بأن جميع الكائنات خلقها الله تعالى بذواتها وصفاتها وأفعالها من العدم، قال الله تعالى: [اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]الزُّمر:62، وقال: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا]الفرقان:2 وقال عن نبي الله إبراهيم أنه قال لقومه:[وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] الصَّفات:96 وثمت دليل عقلي على أنه الخالق لأفعال العباد، وهو أن الفعل وصف للفاعل، والصفة تتبع الموصوف، وإذ كان الإنسان مخلوقاً لله فكذلك أفعاله مخلوقة بدلالة التضمن، لأن خالق الأصل خالق للفرع. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: " وأن تُؤمنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشرِّه "؛ فوصفُ القدر بالخير ظاهر، وهو ما قدره الله من الخير للإنسان من صحة وعلم ومال ونحو ذلك. وأما وصف القدر بالشر؛ فالمراد به شر ما قُدِّر على الإنسان من مرض أو فقر ونحوه، لا أن القدر - الذي هو فعل الله تعالى - شر محض، لأن أفعال الله لا تكون إلا عن خير حكمة بالغة، سواء علمها الإنسان أم لم يعلمها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه: " والشَّر ليسَ إليك "(7). ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شرًا في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى عن الفساد الذي يظهر في البر والبحر من زلازل وفيضانات ونحوها [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]الرُّوم:41، فعلى هذا فالنتيجة طيبة، وهي أن يذيقهم عقوبة معاصيهم فيتوبوا قبل أن يموتوا، فصار الشر في هذا المقدور شراً إضافياً وليس شراً حقيقياً محضاً، لأن نتيجة ذلك المقدور صارت خيراً. ومما يحصل أيضاً من الشر في الأمور الكونية القدرية المرض، فالإنسان إذا مرض فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره يكمن في تكفير الذنوب، فقد يكون عليه ذنوب لم يكفرها الاستغفار والتوبة لوجود مانع ما، فتأتي هذه العقوبات لتكفر تلك الذنوب. ومن خير ذلك المرض أيضاً أن يعرف نعمة الله عليه بالصحة إذا مرض. ومن خير ذلك المرض أنه يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا ذاك المرض، بينما المريض لا يدري. وكذلك الأمر بالنسبة لما يقدره الله من الأحكام الشرعية، فحد الزاني مثلا لغير المحصن أن يُجلد مائة جلدة ويسفر ( أي يُغرَّب ويُبعد ) عن البلد لمدة عام، وهذا شر بالنسبة لذاك الزاني، لأن فيه تعذيب نفسي وحِسّي له، لكنه خير من وجه آخر في كونه كفارة له وزاجر له عن العود مرة أخرى، بعكس لو لم يقم عليه الحد ولم يغرب فإنه ربما يستمر في معصيته ويصر عليها حتى يلقى الله وهو على ذلك، وعندئذ فلا مقارنة بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة. ومن خير ذلك القدر الشرعي أن يرتدع غيره، فربما همَّ غيره بالزنى، ولكن لما علم أنه سيفعل به مثل هذا ارتدع، وصدق الله [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] البقرة:179. وخلاصة القول أمران؛ الأول، أن الشر في المقدور لا في تقدير الله عز وجل، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " والشر ليسَ إليك ". الثاني: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً، بل قد ينتج عنه من الخير ما هو أعظم منه، فتكون الشرِّية أمراً إضافياً وليس حقيقياً(8). بيان بطلان احتجاج العبد بالقَدَر على فعل المعاصي وترك الطاعات: والإيمان بالقدر على ما وصفنا لـيس فيه حجة للعبد على ترك الواجبات أو فِـعل المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه بالقدر على فعل المعاصي باطلٌ من سبعة وجوه: الأول: قوله تعالى:[سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ]الأنعام:148 ، فلم يقرهم الله على احتجاجهم بالقدر بقولهم: [لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا]، ولوكان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه. الثاني: قوله تعالى: [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]النساء:165، ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنقطع هذه الحجة بإرسال الرسل، بل استمرت باقية، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة، ولأن القدر لا يبطل بإرسال الرسل، بل هو باق. الثالث: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ " فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ " ثُمَّ قَرَأَ [ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى] إِلَى قَوْلِهِ:[ لِلْعُسْرَى ] ولفظ لمسلم: " فكلٌ ميسرٌ لما خُلقَ له "(9). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، ونهى عن الاتكال على القدر. الرابع:أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى:[فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]التغابن:16، وقال: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] البقرة:286، ولو كان العبد مجبرًا على الفعل لكان مكلفًا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل أو نسيان أو إكراه فلا إثم عليه لأنه معذور. الخامس: إن قدر الله تعالى سر مكتوم، لا يُعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله، فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر، إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه. السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر، أفليس شأن الأمرين واحداً ؟ وبالمثال يتضح الحال: لو كان بين يدي الإنسان طريقان، أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى وقتل ونهب وانتهاك للأعراض وخوف وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كله نظام وأمن مستتب وعيش رغيد واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدًا أن يسلك طريق بلد الفوضى والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟ مثال آخر: نرى المريض يُؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، ويُنهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبًا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر، فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله، ثم يحتج بالقدر؟ السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي؛ لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر وقال: ( لا تلمني، فإن اعتدائي كان بقدر الله )؛ لم يقبل منه حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج بالقدر لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟ ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رُفع إليه سارق استحق القطع فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله. فقال: ونحن إنما نقطع بقدر الله. وجوب الرضا بما قضاه الله وقدره: القضاء نوعان: شرعي، وكوني، فأما الشرعي فإنه قضاء الله بتحريم ما حرم، وإيجاب ما أوجب، وإباحة ما أباح، فالأول كعقوق الوالدين، والثاني كالصلاة، والثالث كأكل الطيبات. وأما القضاء الكوني فنوعان؛ نوع محبوب للنفوس وملائم للفطر كالمال والولد والصحة، فإذا قضى الله هذا للعبد فإنه ينبغي له أن يعترف بأنه من عند الله، ويشكره عليه، ويقوم بما أوجبه الله عليه تجاهه من زكاة واستعمال في طاعة ونحو ذلك. والنوع الثاني من القضاء الكوني هو ما كان غير ملائم للإنسان وينغص عليه عيشه، من مرض وفقد مال ووفاة ولد ونحو ذلك، وأحوال الناس هنا لا تخرج عن أربعة: الأول: السُّخط. الثاني: الصبر. الثالث: الرضا. والرابع: الشكر. فأما السخط فمحرَّم، والساخط يجد في نفسه سخط على تدبير الله عز وجل، ولا يخلو من ضرب وجه أو شق جيب أو رفع صوت بنحيب وبكاء، وأكثر ما يحصل هذا عند فقد عزيز كولد ونحوه، وفي حق هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ "(10) والساخط لا يخلو من التحسر واستعمال « لو »، وفي الحديث: " احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ "(11). والساخط لا يثاب على مصيبته، وسخطه لا يزيده إلا هماً في الدنيا، ووزرًا في الآخرة، والقدر جارٍ عليه لا محالة، سواء رضي أم سخط، نسأل الله العافية. وأما الصبر فمحمود، والصابر لا يتسخط بلسانه ولا يضرب بجوارحه، بل قابض على قلبه، شديد الحزن، متجلد، محتسب للأجر، يلهج لسانه بقول ( الحمد لله على كل حال، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها ). وأما الرضا فمرتبة أعلى من الصبر، وفيها يكون الإنسان راضٍ رضا قلبيا بما كتب الله عليه، حزنه قليل، موقن بأن قدر الله نافذ لا محالة. وأما الشكر فأعلى المراتب، وفيها يكون المصاب قد خالطه شيء من الفرح بما أصابه لما يرجوه من المثوبة، فيشكر الله على مصابه كلما تذكر ذلك، كما أنه يشكر الله على أن المصيبة لم تكن في دينه، ولم تكن أشد مما هي عليه، ويقارن تلك المصيبة بسائر النعم عليه. أحوال العبد في الأمور المقدرة: للعبد أحوال تجاه ما قدر عليه مما يكرهه، و يحسن في هذا المقام نقل كلام نفيس لابن القيم رحمه الله في هذا الأمر، قال: إذا جرى على العبد مقدور يكرهه؛ فله فيه ستة مشاهد: أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن. الثاني: مشهد العدل، وأنه ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه. الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه، ورحمته حشوه46. الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثاً. الخامس: مشهد الحمد، وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه. السادس: مشهد العبودية، وأنه عبد محض من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونِه ملكه وعبده، فيصرِّفه تحت أحكامه القدرية كما يصرِّفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه. انتهى(12). ثمرات الإيمان بالقدر: وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها: الأولى: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب، بحيث لا يعتمد على السبب نفسه، لأن كل شيء بقدر الله تعالى. الثانية: إضافة النعم إلى مُسديها، وأن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى بما قدره من أسباب الخير والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة. الثالثة: الطمأنينة والراحة النفسية بما يجرى عليه من أقدار الله تعالى، فلا يقلق بفوات محبوب أو حصول مكروه، لأن ذلك من عند الله، وحصل بقدر الله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة، وفي ذلك يقول الله تعالى:[مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ][الحديد: 22ـ23 ] وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه،ُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ "(13) الرابعة: رجوع العبد إلى ربه إذا علم أن ما أصابه من حسنة فمن الله، وأن ما أصابه من سيئة فمن نفسه. الخامسة: معرفة حكمة الله عز وجل بالنظر إلى ما قدر وقضى من المجريات والحوادث. ضلال الجبرية والقدرية في باب القدر والرد عليهم: وقد ضل في القدر طائفتان، إحداهما الجبرية، الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة. الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر. والرد على الطائفة الأولى ( الجبرية ) بالشرع والواقع، أما الشرع؛ فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ]آل عمران:152، وقال: [وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا]الكهف:29، وقال: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ]فصِّلت:46 وأما الواقع؛ فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته، كالأكل والشرب والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته، كالارتعاش والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه. ولولا هذا التفريق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية لكانت عقوبة العاصي ظلمًا، إذ كيف يعاقب الإنسان على شيء مجبر عليه، وليس له فيه اختيار، ولكان ثواب المطيع عبثاً، إذ كيف يثاب على شيء لا اختيار له فيه، والعبث ينـزه الله عنه، قال تعالى: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ]المؤمنون:115. إذن فالعبارة التي يتناقلها العامة ( الإنسان مُسَيَّر وليس مخير !! ) ليست صحيحة مطلقاً، بل هو مخير في أمور ومسير في أمور، والله أعلم. قال الشيخ ابن عثيمين: هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا في كلام الأئمة، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم، لكن حدثت هذه أخيرًا وبدءوا يطنطنون بها، ونحن نعلم أننا نفعل الأشياء باختيارنا وإرادتنا، ولا نشعر أبداً أن أحدًا يُكرهنا عليها، ويسوقنا عليها سوقاً، بل نحن الذين نريد أن نفعل فنفعل، ونريد أن نترك فنترك. انتهى باختصار يسير(14). والرد على الطائفة الثانية ( القدرية ) بالشرع والعقل، أما الشرع؛ فقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته، فقال تعالى: [وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ]البقرة:253، وقال تعالى: [وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]السجدة:13. وأما العقل؛ فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون، فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته. الفرق بين القضاء والقدر: القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن افترقا، أي: أنهما إذا ذكرا جميعًا فلكل واحد معنى، وإن ذكر أحدهما مفردًا فإنه يعني الآخر ويتضمنه. والقدر هو التقدير الذي كتبه الله عنده في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وأما القضاء فهو القضاء والحكم الذي قضاه الله في خلقه إذا حدث في الدنيا، من إيجاد أو إعدام أو تغيير. فعلى هذا فالتقدير – أو القدر – أوّلي، ويكون في الأزل، والقضاء يتبعه، ويكون في الدنيا. تنبيه مهم: إذا استقبل العبد أمراً فيه ضرر ظاهر فانصرف عنه فليس هذا فرارًا من قدر الله، بل هو من باب فعل الأسباب للوقاية من الشرور، وهذا مطلوب شرعاً، وقد روى عبد الرزاق عن عبد الله بن العباس قال: خرج عمر بن الخطاب يريد الشام، حتى إذا كان في بعض الطريق لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال: فاستشار الناس، فأشار عليه المهاجرون والأنصار أن يمضي، وقالوا: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال الذين أسلموا يوم الفتح: معاذ الله أن نرى هذا الرأي، أن نختار دار البلاء على دار العافية. وكان عبد الرحمـن بن عوف غائباً، فجاء فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدُموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " قال: فنادى عمر في الناس فقال: إني مُصبِح على ظهرٍ(15) فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين: أفِراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطْتَ وادياً له عُدوتان (16)، إحداهما خِصبة والأخرى جَدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: نعم. قال: وقال له: أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخِصبة، أكانت مَعجَزةً(17)؟ قال: نعم. قال: فسِر إذا. قال: فسار حتى أتى المدينة فقال: هذا المحل وهذا المنـزل إن شاء الله. قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رجع بالناس يومئذ من سَرْغ(18). |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
تعريفه .. تعريفة الكهرباء | ЯǒǑǒйĝ3ħ | مواضيع عامة | 0 | 11-26-2009 12:28 AM |
الفلاش : تعريفه و أدواته | نبيل المجهول | دروس الفوتوشوب - Adobe Photoshop | 7 | 12-18-2007 08:48 PM |
الشرخ الشرجي / تعريفه/ أعراضه/ تشخيصه/ علاجه/ مضاعفاته | الحكيم أدهم أحمد | صحة و صيدلة | 1 | 02-14-2007 04:44 PM |
( ماذا يعني الإيمان بالقدر ؟ ) | الشافعي | نور الإسلام - | 6 | 01-27-2007 10:08 AM |
حب الشباب / العد / تعريفه / أسبابه / علاجه Acne Vulgaris | الحكيم أدهم أحمد | صحة و صيدلة | 7 | 01-02-2007 12:24 PM |