|
أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه. |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
| ||
| ||
في حديقة الجامعة يحلو اللقاء، لا سيما في فصل الربيع الذي يحفها بهالة من الروعة والجمال، تفتن الناظر، وتشده إليها ليستمتع بخضرتها الخلابة، ويغرف من عبقها الفواح فيغسل به روحه المتعبة من أدران الحياة... وبين أزهارها المتألقة، وفي ظلال أشجارها الباسقة، وعلى بساط سندسي ممتد من الحشائش الخضراء كان الطلبة يتحلقون في مجموعات منسجمة، غارقين في أحاديث شتى.. عن الجامعة.. وعن المستقبل.. وعن الحياة بكل ما فيها، يطرحون المشاكل ويتبادلون الآراء، وتند عنهم الصيحات والضحكات التي تضفي على جو الحديقة حياة فريدة، تبعثها أرواح شابة تخفق بأعذب الأحلام والآمال وهي تتلمس طريقها إلى غدها الواعد ومستقبلها المنشود... وفي ركن هادئ من أركان الحديقة الفسيحة، كان عصام يجلس على كرسي منعزل، منهمكاً في مطالعة مجلة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور إياد، وبين الحين والآخر كان يرمي بنظراته الهادئة إلى خضرة الحديقة الموشاة بالأزهار والرياحين، فتشف روحه وتحلق في عالم من الصفاء المريح، فتقبس منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة، وتبعث في ذهنه النشاط، فيعود إلى المجلة في شوق، ليلتهم سطورها في شهية للمعرفة لا تقاوم لا يزعجه إلا تلك الهمهمة الغامضة التي تصدر عن أحاديث الطلبة المختلطة القادمة من بعيد، يتخللها فاصل متقطع من وقع الأقدام العابرة، وهي تقطع الطريق إلى غايتها عبر الأرصفة التي تخترق الحديقة الغناء.. وانساب إلى سمعه صوت هادئ يلقي عليه السلام، فرفع إلى صاحب الصوت عينين تشعان وداً واحتراماً، ونهض إليه في لهفة وشوق وهو يمد له يد الترحيب: - وعليكم السلام.. أهلاً سعد.. قال سعد بعد أن تصافحا بحرارة الأصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد الآخر في كفه وهو يشد عليها في مودة ظاهرة وكأنه لا يريد أن يفارق صاحبه: - كيف أنت يا عصام؟ - في شوق إليك يا صديقي.. ألا تجلس معي؟ - بودي أن أجلس، لكني أراك مشغولاً.. ما الذي تقرأه؟... - مجلة طبية صادرة عن الجمعية الأمريكية للسرطان.. اقرأها إن أحببت. - لا بد وأنها تحوي أبحاثاً قيمة... - فيها بحث طويل عن التدخين وعلاقته بسرطانات الرئة، اجلس معي فأنا في شوق لأحاديثك الممتعة. - قلب سعد صفحات المجلة بسرعة وقال وهو يهم بالجلوس: - لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا.. - لم نجلس معاً منذ زمن!. - لقد أصبحت صيداً ثميناً في هذه الأيام. لم يعد أحد يراك خارج أوقات الدوام.. تأتي مسرعاً وتخرج مسرعاً وكأنك لا تعيش معنا في كلية واحدة!!. - ماذا أفعل يا صديقي.. الواجبات أكثر من الأوقات كما يقول الدكتور إياد، ولولا هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخير موعد المحاضرة مقدار ساعة لما صادفتني هنا. هتف سعد كمن تذكر: - آه .. صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟ - أخبار طيبة.. علم غزير، وخبرة متنامية، وصحبة كريمة لرجل عظيم وأستاذ جليل، يمدك دوماً بملاحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وتجاربه الثرية.. همس سعد وهو يرمق صديقه في إعجاب: - عصام.. إنك تدهشني.. كيف تستطيع أن توفق بين دراستك وملازمتك للدكتور إياد وأمورك الأخرى؟ زفر عصام زفرة عميقة وشت بما يعانيه من إجهاد وعناء وقال: - لا أكتمك يا سعد، إني أعاني من كثافة المشاغل وضيق الوقت وضغط الأعباء، لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على تحقيق طموحي، هما اللذان يدفعاني للمتابعة ولولاهما لكنت تراجعت منذ زمن.. هل تعلم؟.. لقد خفَّ وزني خلال الأشهر القليلة الماضية سبعة كيلو جرامات. - وكم تنام في اليوم ؟ - خمس ساعات تقريباً. الوالدة تنهرني، فأمنيها بالمستقبل فترضخ لإرادتي على مضض، علماً بأنَّ سكني الجديد في عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي الكثير من الوقت والجهد فهو – كم تعلم – قريب من الجامعة وقريب من عيادة الدكتور إياد في آن واحد.. - وبيتكم القديم.. ماذا فعلتم به؟ - لقد أجرناه لنستفيد من أجرته.. سعد.. لماذا لا تنضم إلينا.. لقد حدثتني كثيراً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك للاختصاص فيه، كما أن الدكتور إياد سيرحب بانضمامك فهو يمدح دائماً تفوقك وسلوكك الممتاز. - حقاً؟.. هذه نظرة أعتز بها.. كان بودي الانضمام إليكما لكني بصراحة لا أملك جلدك ودأبك.. سأكتفي بزيادة مطالعاتي حول السرطان ريثما أتخرج ثم.. وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد: - أهلا ((عرفان)).. هلم إلينا.. وأردف عصام: - تعال إلى هنا يا عرفان، لم نرك منذ زمن.. مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته المعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حتى ارتمى بينهما على الكرسي الخشبي الطويل قائلاً لعصام: - لتتكلم عن نفسك يا عصام، أنت الذي لم تعد تظهر بيننا. لقد استغرقتك مشاغلك الكثيرة وأبعدتك عنا.. يجب أن تعترف بذلك يا أستاذ... ثم وهو يلتفت بحديثه إلى سعد: لقد أصبح الأخ كالبدر.. يظهر كل شهر مرة، وقد لا يظهر... ثم التفت إلى عصام ثانية وقال: - أصبحنا لا نراك إلاّ مسرعاً.. تأتي إلى المحاضرات وهي توشك على البداية وما إن تنتهي حتى تطوي كراستك وتمضي.. تصور يا سعد.. ((عصام السعيد)) أصبح يجلس في الصفوف الأخيرة من المدرج، وهو الذي لم يتنازل عن مكانه في الصف الأول منه منذ السنة الأولى. هل تذكر كيف كان يحجز لنا المقاعد الأمامية؟ ثم أردف ضاحكاً: - كان الطلبة يندهشون لوجودي في الصف الأول وأنا المشهور بالتأخر المزمن عن المحاضرات... (( ها.. ها.. ها)). ضحك الثلاثة في ود ثم ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائلاً: - أنت السبب يا عصام فلا تسألن عن قلة رؤيتنا لك.. أنت الذي لم تعد تسعى للقائنا، أما نحن فإننا نلتقي دائماً.. أنا وسعد ومجدي وبهاء وعثمان و.. على فكرة.. نحن مدعوون مساء الثلاثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة عند عثمان، ولن ندعوك طبعا. تساءل عصام في مرح: - ولماذا؟ - لأنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إلى طبقة جديدة.. طبقة العلماء والباحثين والحفلة معدة لطبقة الطلبة المساكين، فأين نحن منك يا صديقي؟.. أين الثرى من الثريا؟! ضحك عصام طويلاً ثم قال: - سامحك الله يا عرفان.. منذ متى لم أضحك هذا الضحك! - جميل أن تجد وقتاً لتضحك.. بودي لو كان بحوزتي آلة تصوير.. - لماذا؟!.. - لأجمد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن تنقرض الضحكة من على شفتيك. ثم نهض عرفان وهو يقول: - ائذنا لي الآن.. لدي ((مشوار)) مهم قبل أن يحين موعد المحاضرة. هتف عصام في توسل وهو يشده من يده ليجلس : - ابق معنا يا عرفان.. حديثك يمتعني.. لتؤجل ((مشوارك)) هذا. صاح عرفان: - إلا هذا ((المشوار))... - يبدو أنه على درجة من الأهمية!. مال عرفان على عصام وهمس:د - لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر. - القمر؟!.. قال سعد وقد سمع تحاورهما: - يقصد خطيبته.. إنها طالبة في كلية الآداب، وهو ينتهز الأوقات لرؤيتها... - حقاً؟.. مبروك.. ألف مبروك يا عرفان.. لماذا لم تخبرني بذلك؟. - ومتى رأيتك حتى أخبرك؟ - كفاك يا عرفان.. لقد أوغلت في المبالغة! قال عرفان وقد انحنى فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه: - قد أكون مبالغاً، لكن صدقني أنك أصبحت وكأنك تنتمي إلى عالم آخر... - عالم آخر!.. - أجل... عالم آخر. ثم قهقه قائلاً وهو يمضي: - إنه عالم السرطان... * * * هبت نسمات الربيع هادئة لطيفة فداعبت الوجوه الشابة وأنعشت النفوس الحالمة، وبعثت في الحديثة حياة جديدة فتمايلت الأشجار الفارعة في جلال، وخطرت الورود والأزهار في دلال تختال بفتنتها الخلابة وترسل بأريجها العطر ليلفت إليها القلوب والأنظار... قال عصام وهو يرنو إلى زهرة جميلة: - لشد ما يستهويني منظر الورود والأزهار! - كلنا ذاك الرجل... - عندما أنظر إليها تسربلني، طمأنينة غامرة، وتشعر نفسي بالارتواء، وكأنها تغرف من بحر الأمان الخالد. - نفس الشعور ينبثق في نفسي، لكن ثمة شعور آخر يهزني من الأعماق... - الشعور بعظمة الله، أليس هذا ما تريد قوله؟ أرسل سعد تنهيدة عميقة وشت بانفعاله وقال وقد لمعت عيناه بأنداء من الدمع: - هذا ما أردته فعلاً.. عندما أرمق الزهور تحلق روحي في عالم من الصفاء الخالص.. صفاء يقودني إلى خشوع غامر عميق إزاء عظمة الله وقدرته الخالدة.. همس عصام وقد اهتزت نفسه لكلمات سعد المؤمنة الندية: - إنك شاب شديد الإيمان يا سعد. لكم يسدني حديثك عن الله... الله... هو الحقيقة التي انحسرت من حياتنا فغابت بغيابها كل القيم النبيلة وأصبحت الحياة أشبه بغابة!.. ثم أردف بنبرة آسفة: - يا للجحود.. ترى الواحد منا إن قدم له أحد معروفاً أو خدمة شكره عليها وتحين الفرص ليرد له الجميل والله... الله الذي خلقنا في أروع صورة وأبدع تصميم وأنعم علينا بما لا نحصيه من النعم التي نستمتع بها ليل نهار... الله الذي بيده نهايتنا ومصيرنا الأخير، ترانا غافلين عنه.. ناسين لفضله السابغ.. منشغلين عنه بما وهبنا من الطيبات.. نلهث وراء غرائزنا وشهواتنا.. لا نكاد نذكره إلا في الملمات والمناسبات، وإن ذكرناه كان ذكره باهتاً ميتاً.. لا ينبض فيه حس أو تخفق فيه روح، وبعد كل هذا الجحود والنكران يفتح لنا أبواب العودة ليدلفها التائبون الصادقون، فيستقبلهم بحلمه الواسع، ويرحم ضعفهم، ويبدل سيئاتهم حسنات!!! تسربت كلمات سعد إلى أعماق عصام فمسّت ضميره المرهف فأحس بالندم وقال وهو يكابد شعوراً بالذنب: - لقد أشعرتني كلماتك بتقصيري وتفاهتي.. إنني قليلاً ما أذكر الله!!. قال سعد وهو يشد على كتفه في ود: - إنك تبخس نفسك حقها بهذا الكلام فأنت تنطوي على إيمان عميق ونفس نقية يعكسها سلوكك الرفيع. إن مجرد إحساسك بالتقصير هو نوع من التوبة.. إنه بداية الطريق إلى الله، ولكن.. ينبغي أن لا نكتفي بهذا الشعور، إذاً لتلبد واستحال إلى تبرير للإهمال والتقصير، بدل أن يكون حافزاً للتغيير. - لا أكتمك يا سعد.. إن نفسي كثيراً ما تهفو إلى التدين، لكن مشاغل الحياة سرعان ما تستغرقني فتذوب عزيمتي في زحمتها، لكني واثق من أني سأتجه إلى الدين يوماً.. - ومتى يكون هذا اليوم؟ باغت السؤال عصاماً فقال وهو يداري عجزه عن الإجابة: - في الحقيقة لا أدري!!. - لكن الأمر على درجة من الأهمية، لذا يتوجب التحديد. - هل تريد مني أن أحدد يوماً في مستقبل مجهول؟ - المستقبل المجهول.. هذا ما رمت الوصول إليه. نحن جميعا نقف على عتبة مستقبل مجهول المعالم نجهل أحواله وأحداثه ونهايته، فلا ندري متى سيسدل الموت ستارته السوداء على حياتنا الزاخرة، ولا ندري متى يأزف الرحيل.. نحن لا نملك إلا للحضات الحاضرة لنقرر فيها، أما الماضي والمستقبل فلا نملك من أمرهما شيئاً.. ذلك أن عجلة الحياة تدور باتجاه واحد، وأنّ الموت لم يحدث أن استأذن أحداً بالقدوم.. تساءل عصام في نبرات حزينة وشت بالضيق: - الموت؟؟. ¬ - أجل الموت إنه أوضح حقيقة في الوجود، لكنّ الحياة كثيراً ما تخدعنا وتجذبنا إليها فنتوهم أنّا باقون إلى ما لا نهاية!. - هل تريد الجدّ؟.. إني أخاف الموت وأخشاه!؟ ابتسم سعد وقال: - من منا لا يخاف الموت.. كلنا نخشاه.. هذه طبيعة الإنسان.. لقد جبل على حب الحياة والنزوع إلى البقاء. - كثيرا ما فكرت فيه.. آه ما أقساه.. إنّه المطرقة الفضيعة التي ستهوي يوماً على آمالنا وأحلامنا لتعصف بها، وتحيلها إلى سراب.. إنه وحش مخيف.. ينهش الأرواح بأنياب نافذة لا تخطئ.. يختطف من نحب أو لا نحب.. يخلف الضحايا.. ويزرع دنيانا بالأحزان.. - إنه قدرنا الذي لا مفر منه. لعل وفاة والدك رحِمه الله زادت من قتامة تصورك عن الموت؟ - هي عامل بلا شك، ولكن تفكيري بالموت ازداد أيام كنا ندرس مادة التشريح.. عندما كنا نعالج الأجساد الميتة بأيدينا ونعمل فيها المشارط والأدوات، لا شك أن فكرت مثلي. - هذا صحيح.. لطالما فكرت فيه آنذاك. - كان الموت يوحي لي بعجز الإنسان وضعفه، فأعظم إنسان وأقوى إنسان وأغنى إنسان يتحول بموته إلى كومة تافهة من العظم واللحم الذي سرعان ما تنبعث منه رائحة النتن، ويعبث فيه الدود.. الموت يا سعد شئ فضيع.. لقد كنت أحس بتفاهة الحياة عندما أرى نهايتها البئيسة. وآذت سمعهما ضحكات خافتة وهمسات ماجنة، فانتبها إلى مصدرها، ففوجئا بـ ((صفوان)) و ((منى)) وهما مستغرقان في وضع فاضح مريب وقد ظنا أنَّ هذا المكان الهادئ البعيد خال من الطلبة والرقباء وأثار المشهد اشمئزاز ((سعد)) و ((عصام)) فغادرا المكان في ضيق وانزعاج بالغ.. هتف عصام بنبرات ثائرة وهو يلوح بقبضته في الهواء: - أنا لا أفهم كيف يتجرأ هذان العابثان على حرمة الجامعة!!.. ألا من إدارة حازمة توقف هذه المهازل؟!.. قال سعد وقد تلونت ملاحمه بحمرة الغضب: - قد تحمي الإدارة الحازمة الجامعة من مظاهر العبث والفجور. لكنَّها لن تستطيع أن تسيطر على تيار الانحلال الجارف الذي يجتاح الوطن، أو توقف التردي والانحدار الذي يقود مجتمعنا إلى الهاوية.. نحن في حاجة ماسة إلى عملية تغيير عميقة داخل المواطن.. إلى إدارة حازمة واعية داخل الإنسان.. نحن في حاجة إلى ضمير. - وما الحل لأزمة الضمير هذه؟.. يجب أن يكون هناك حل ما يحمي الأمة من الضياع!. - الحل موجود.. لكنه يحتاج قبل كل شئ إلى إرادة قوية للتغيير.. إرادة تنبثق من قناعة الناسب الأذى والدمار الذي يحمله تيار الميوعة واللامبالاة لمجتمعنا ونهضتنا، وحتى تتولد هذه القناعة نحتاج إلى قراءة واعية عميقة في التجربة الأوروبية والأمريكية التي يحصد الغرب الآن نتائجها المأساوية المريرة بسبب تمرده على الأخلاق والمثل العليا.. الناس في بلادنا مبهورون بالحضارة الغربية ويعتقدون أن التقدم المذهل الذي وصلت إليه أوربا وهو نتيجة لتفلتها من الأخلاق والقيم الإنسانية الفاضلة، بينهما الحقيقة الصارخة التي يقرها كل عقلاء العالم ويتنادون إليها هي أن الإباحية التي تغرق أوربا وأمريكا الآن هي جرثومة الفناء التي تهدد الحضارة الفتية هناك. قال عصام وهو يجوب أرجاء الحديقة باحثاً عن مكان هادئ يجلسان فيه: - هذه مهمة وسائل الإعلام.. وسائل الإعلام هي المسئولة عن نقل مساوئ التجربة الغربية وثغراتها إلى الجماهير ومع هذا فإني أعتقد أنه لا مفر من الردع.. من الحزم في مكافحة هذا الوباء.. - الردع حلّ، لكنه آخر الحلول.. علينا قبله بالتربية.. تربية الأجيال على القيم الأخلاقية والحضارية الأصيلة.. تربية مدروسة تسلك أنجح الطرق العلمية والنفسية.. تربية شاملة منسجمة في البيت والمدرسة والمجتمع.. تدعمها حملة اجتماعية منظمة تكرس القيم الأخلاقية والمفاهيم الحضارية البالية عبر وسائل الإعلام المؤثرة من صحافة و ((راديو)) و ((سينما)) و ((تلفزيون)).. ((التلفزيون)) بات الآن أخطر وسيلة إعلامية في حياتنا فهو يعيش مع الناس جزءاً كبيراً من أوقاتهم. قاطعه عصام بقوله: - إنه يقاسم الناس ثلث حياتهم الواعية تقريباً.. - الأخطر من ذلك أنه يعيش مع الطفل أكثر من أهله في البيت ومعلميه في المدرسة وهو يجلس أمامه في أقصى حالات الوعي والتركيز، يتلقف كل ما يبثه من أفكار ومفاهيم وهو الصفحة النقية البيضاء الجاهزة للإملاء، فإذا لم يكن ((التلفزيون)) تربوياً هادفاً، كان خرباً هداماً يدمر الأجيال تلو الأجيال.. تساءل عصام: وماذا بعد التربية؟.. ما الخطوة التي تليها؟.. - لا بد لنا من حل المشاكل الاجتماعية التي مهدت لهذا الفساد.. مجتمعنا ليس شرا محضاً.. ثمة عوامل كثيرة تدفعه إلى أتون الشر.. الفقر مثلا.. الحرمان الفظيع الذي يدفع الكثيرين إلى هاوية الانحراف.. ((منى)) هذه التي رأيتها منذ قليل بهذا الوضع المخجل، ما الذي دفعها لهذا السلوك؟.. إنه الفقر والحرمان.. فتاة ناضجة تفيض أنوثة وجمالاً تتراقص في أعماقها أحلام وأشواق شتى.. فتاة فقيرة لم تذق يوماً طعم الحياة الهانئة السعيدة، تجد فجأة من يعدها بتحقيق كل أحلامها دفعة واحدة مستغلاً اندفاعاتها العاطفية العارمة فتنساق وراءه مبهورة، وتتدرج معه في مجاهل الضياع.. ثم مشاكل وأمراض أخرى تساهم في صنع المأساة.. الجهل.. التخلف.. الرشوة.. ((الواسطة))، لكن التربية الفاسدة تقف دائماً على رأس هذه السلسلة الرهيبة من الأمراض التي تكبل نهضتنا.. والد صفوان مثلاً.. رجل واسع الثراء والنفوذ، ربى ابنه تربية مائعة مدللة.. صفوان هذا لم يسمع من أبيه كلمة (لا) واحدة في حياته.. دائماً يجيبه لكل ما يطلب، ويضع بين يديه الأموال الطائلة ليبعثرها على أهوائه ورغباته، فيزيده المال طغياناً على طغيان.. وكلما تورط ابنه في خطأ أو انحراف سارع أبوه لإنقاذه بما يملك من مال ونفوذ.. أنقذه من تهمة تهريب مخدرات.. أنقذه من تهمة أخلاقية في أحد بيوت الدعارة منذ سنتين، فما تنتظر من شاب هذا شأنه؟ زوى عصام ما بين حاجبيه دهشة وقال: - وكيف توصلت إلى كل هذه المعلومات؟ - هذه المعلومات ليست سراً.. إنه يتصرف في تبجح ووقاحة.. لعلك فوجئت بها لأنك لا تهتم بهذه الأمور، لكني مهتم بالقضية الاجتماعية وصفوان نموذج من نماذج الانحراف في مجتمعنا يحلو لي أن أراقب تصرفاته وأتتبع أخباره وأحلل سلوكه. ولاحت لهما خميلة خضراء فلجآ إلى أفيائها، وجلسا على بساط الأرض السندسي الممتد، ثم ما لبث عصام أن قال في محاولة ليصل ما انقطع من حديثهما حول الموت: - سعد.. بماذا كان الموت يوحي إليك عندما كنت تقوم بتشريح الأجساد في المشرحة؟ أجابه سعد وقد تذكر الحوار الذي كان قبل هذا الحادث العابر: - عندما كنت أتأمل الأجساد الميتة الممدة أمامي على طاولات التشريح كان تفكيري يمتد إلى ما بعد الموت.. إلى اليوم الآخر. فيبدو لي الموت أنه البداية.. حقيقة أنه نهاية حياتنا على الأرض، لكنه البداية لمرحلة جديدة يتحدد فيها مصيرنا الخالد، تقرره العدالة الإلهية الرحيمة التي لا تظلم أو تتعسف، فتفرز البشر حسب أعمالهم وبواعثهم.. - إنني موقن بذلك، لكن قليلاً ما يراودني التفكير فيه!. - كلنا نقتنع باليوم الآخر، لكن الكثير من قناعاتنا تظل في أذهاننا فحسب، وكأنها معادلة رياضية مجردة أقنعتنا بها قواعد المنطق، بيد أنها لا تتجاوز العقل في الشعور، لتتحول إلى حس داخلي ننظر من خلاله للحياة لذلك ترانا نقتنع عقلاً بأن الموت ليس هو النهاية، ونشعر حساً بأنه النهاية لكل شئ ونشفق على آمالنا ومنجزاتنا ونخاف عليها على الرغم من أننا أبقى منها... قال عصام: - تحليل مقنع ودقيق، ولكن لا يمكن للإنسان إلا أن يحلم ويطمح ويحيا على أمل... - أنا معك في هذا. فالحياة بلا طموح وأمل تافهة لا معنى لها، لكن النقطة الأهم في آمالنا وأحلامنا ونشاطنا على هذه الأرض هو الغاية التي من أجلها نحيا ونعمل ونحلم.. إنّها الحلقة المفقودة التي نحتاج إليها ليستقيم تصورنا للكون والحياة والإنسان... - الغاية؟!.. - أجل.. لماذا نعيش؟.. لماذا نحلم؟.. لماذا تعيش أنت مثلاً؟ أجاب عصام بلهجة حائرة وقد باغته السؤال وكأنه يسمعه للوهلة الأولى: - أنا أحيا.. أحيا من أجل أن أصبح طبيباً ناجحاً مفيداً.. ومن أجل أن أساعد والدتي وأوفر لها حياة سعيدة وعندي طموحات علمية وشخصية لا تخفى عليك و.. وفقط!.. - لكن الموت سوف يطوي معه كل هذه الغايات والآمال... صدمت هذه الحقيقة عصاماً فوجم ولاذ بالصمت بينما تابع سعد: - كل هذه الغايات التي طرحتها غايات جزئية.. غايات مرحلة ينبغي أن تكون في إطار غاية أساسية جامعة. لا بد أن يكون لوجودنا الإنساني غاية كبرى توجه نشاطنا وأعمالنا.. غاية شاملة لحياتنا على الأرض وحياتنا فيما بعد الموت. قال عصام وقد تحمس للنقاش الذي أثار فضوله: - ما هي غاية وجودنا الإنساني في رأيك أنت؟ - إنها في كلمة واحدة ((العبودية لله)). - العبودية لله؟! لعلك تريد الصلاة والصيام؟.. ابتسم سعد وقال بنبراته الهادئة الرزينة: الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات والشعائر ليست هي العبودية التي أعنيها بل هي مظهر من مظاهرها... العبودية في حد ذاتها أكثر من صوم وصلاة... العبودية هي أن نعيش حياتنا كلها لله. - كيف؟.. كيف يمكن ذلك؟ - بأن نوظف كل ألوان نشاطنا الإنساني وكل أعمالنا وكل طموحاتنا لتحقيق دين الله الذي ارتضاه لنا منهجاً ونظام حياة. - ولكن هناك أمور لا علاقة للدين بها!!... هتف سعد في حماس: - هنا تكمن النقطة الحاسمة في الموضوع.. إنها فهمنا للإسلام... نحن - في الحقيقة - لا نفهم إسلامنا الفهم السليم. أرجو أن تعذرني بهذا الكلام، فأنا لا أقصد الإساءة أو الادعاء. قال عصام وهو في شغف لمتابعة الحوار: - أستمر أرجوك.. إني أفهمك، ثم إني مقر بجهلي حول الكثير من قضايا الدين. - أنا لا أقصد التفاصيل، فلا يمكن لإنسان مهما أوغل في العلوم والمعارف الإسلامية أن يحيط بكل التفاصيل، ما أريده هو المبادئ.. فهمنا لمبادئ الإسلام.. إدراكنا لروحة وخصائصه العامة بحيث يتكون لدينا حس إسلامي دقيق.. نتحسس به الحقائق.. ونتلمس الصواب.. ونصنع المواقف.. ونرصد الأحداث.. المهم يا عصام أن تستقر في حسنا أبجدية إسلامية واضحة.. تصيغ بأحرفها فهمنا للإسلام. فينطق بها سلوكنا، وتعبر عنها حركتنا في الحياة.. هذا أضعف الإيمان. قال عصام وقد تصاعد اهتمامه بالحديث: - ما هي الأبجدية التي كونتها أنت عن الإسلام؟.. أعطني فكرة عنها؟ - سأقول لك.. الإسلام قبل كل شئ منهج رباني صادر عن الله سبحانه، والله الذي خلقنا هو الأعلم بطبيعتنا وتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي، لذلك فإن دينه الذي ارتضاه لنا هو الأولى بالإتباع والتطبيق، لأنه منهج صمم للإنسان بيد خالق الإنسان.. هذه نقطة مهمة تقوم عليها أمور كثيرة... قاطعه عصام قائلا: - هذه نقطة جوهرية أؤيدك فيها.. فعلى صعيد حياتنا المادية مثلاً، لا يوجد عاقل يرضى أن يتلقى تعليمات آلة أو جهاز ما إلا من المهندس الذي صممه، أو العالم الذي اخترعه، فما بالك بالإنسان.. هذا الكائن المعقد الذي ما زال العلم والطب تائهاً في بحر أسراره وألغازه؟.. سرّ سعد لهذا التفاعل الذي أبداه عصام فعقب على كلامه قائلاً: - لهذا تُصدر الشركات الصناعية ((كتالوج)) أو دليل استعمال لمنتجاتها يعده المهندسون الذين صمموا أو اخترعوا هذه المنتجات. وما الإسلام إلا دليل لحركة الإنسان السليمة وفق تصميمه وطاقته وطبيعته.وما التخبط والتيه الذي تضرب فيه البشرية اليوم إلا نتيجة منطقية لاستغنائها عن المنهج الأصيل واستبداله بمناهج مشوهة من صنع الإنسان ووضعه وهو الكائن الضعيف القاصر بقدراته ومعارفه وإزاء هذا الكون الواسع الرحيب..الكائن المرهف الحساس المتأثر بعواطفه وانفعالاته.. الكائن اللغز الذي مازال يجهل نفسه.. سأل عصام وهو يرمق صديقه في إعجاب: -سعيد ..ما الأمور التي تريد أن تبنيها على هذه النقطة؟ -أمور كثيرة ..منها أن الإسلام منهج متوازن أعطى لكل جانب من الشخصية الإنسانية حقه وأشبع بتوازنه الروح والعقل والجسد.ففيه تروي الروح أشواقها إلي القيم والمثل والأخلاق، وتخفق بأنبل المشاعر والعواطف وأطهرها ،وفيه ينطلق العقل ليقتحم آفاق القلم والبحث والتجريب ويمخر عباب المعرفة، لا يضره إن يلتقطها من أي إناء أو منهل مادامت معرفة إنسانية مفيدة لا تفضي إلي شرّ ، وفيه تجد غرائز الجسد طريقها الطبيعي النظيف للإشباع دون إفراط أو تفريط ،بما لا يتعارض بين حرية الفرد والمجتمع. - جميل .. - والإسلام نظام واقعي يدرك واقع الإنسان وطاقته، ويرحم نقاط ضعفه التي جبل عليها فيراعيها ويعذره فيها ، لذالك نراه قد فتح له أبواب التوبة على مصراعيها ولم يحمله مالا يطيق، كما راعى الإسلام نقاط الضعف في الإنسان فقد شجع فيه نقاط القوة ورباه على البذل والعطاء ، ودفعه إلي الارتقاء وما استطاع الارتقاء . - وأيضاً... أفكارك تدهشني ... - وأجمل ما في الإسلام شموله.. فهو منهج حياة كامل يستغرق كل ألوان النشاط الإنساني، فينظمها، ويطلقها ضمن أطر واسعة رحيبة تسمح للناس بممارستها في مرونة عجيبة تتلاءم مع كل مجتمع وعصر دون أن تتجاوز الأصول الثابتة التي قررها الإسلام. تساءل عصام مفكراً: - لكن الحياة تتطور باستمرار.، فلماذا تستبعدُ أن يصطدم تطورها المطرد مع الأصول الثابتة التي طرحها الإسلام ؟ - سأقول لك. - تفضل .. - لان الإسلام استمد ثبات تلك الأصول من ثبات الخصائص الأساسية للشخصية الإنسانية ، فالعربي الذي كان يطوي الصحراء على جمل ،والأمريكي الذي وطئت أقدامه سطح القمر، يملكان نفس الجهاز الجسدي والفكري والنفسي، وتخفق بين جوانحهما فطرة واحدة. الذي أختلف وتبدل هو الوسائل والظروف والمعارف أما الجوهر الإنساني الذي يتعامل مع المعطيات المتبدلة فهوا ثابت لا يتغير. نعود لحديثنا.. عم كنتُ أتحدث ؟ - عن الشمول في الإسلام. - أجل.. لقد حول الإسلام حياة الإنسان بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة.. بجوانبها المتعددة.. بنشاطاتها المختلفة الغريزية والفكرية والروحية.. الضرورية منها والثانوية.. الفردية منها والجماعية، حولها جميعاً إلى عبادة متصلة بالله، فطعامك عبادة وشرابك عبادة ونزهتك عبادة ونومك عبادة وزواجك عبادة ودراستك عبادة وتخصصك عبادة وعملك عبادة.. حتى التلذذ بالطيبات.. حتى الإبتسامة تبذلها للآخرين عبادة لله تثاب عليها وترفك في ميزان الله درجة.. وحتى تحول كل هذه الأعمال إلى عبادة لله ما عليك إلا أن تنوي بها إرضاء الله، وأن تتجنب كل ما يغضبه، أو يؤذي الآخرين. الإسلام يا عصام منهج حياة متكامل.. إنه دين ودنيا.. سياسة واقتصاد.. فن واجتماع.. حياة طاهرة فريدة لا تدانيها حياة. - والصلاة والصيام وما إلى ذلك من شعائر؟... - إنها محطات للتزود بالطاقة، واستذكار للمبادئ، وصقل للنفوس، واعتذار إلى الله عما قد سلف من أخطاء، وعهد متجدد على الصبر والثبات على الدرب الطويل.. أعجب عصام بأفكار سعد أيما إعجاب، فقال وهو هائم مع أفكاره: - هل تريد الحق؟.. لقد فتحت أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها تماماً. أجاب سعد وهو ينظر إلى ساعته: - كان بودي لو استمرينا بالحديث، لكن موعد المحاضرة قد اقترب، وعلينا أن نمضي لنحجز مكاننا في الصفوف الأولى من المدرج، اسمع.. لماذا لا نلتقي ثانيةً لنتابع الحوار؟.. - سيسعدني ذلك، رغم كل مشاغلي.. سنلتقي السادسة... ما رأيك؟ - إن شاء الله.. هيا بنا... مضى الصديقان جنباً إلى جنب عبر أرصفة الحديقة الخضراء، يلفهما تأمل صامت عميق... كان سعد فرحاً مسروراً بهذا التجاوب الرائع الذي أبداه عصام.. أما عصام فقد كانت أفكاره تبحر نحو عالم جديد... * * * غادر عصام الكلية وفي أعماقه ثمة أسئلة حيارى تبحث عن جواب.. إنه لم يتعود أن يتقبل الأفكار دون أن يخضعها للدرس والتمحيص،فكيف استقرت في ذهنه تلك التصورات الخاطئة عن الإسلام؟.. لماذا لم يحظَ هذا الدين الذي ينتمي إليه باهتمامه وهو الذي لا ينجو من فضوله شئ؟.. كيف تسرب إلى ذهنه أن الإسلام مجرد صوم وصلاة؟.. كيف غابت عنه هذه الآفاق الرحيبة التي نقله إليها صديقه سعد؟.. تساؤلات عاصفة شتى تهز ضميره بقوة فينفض عنه ركام الأوهام والمفاهيم المزيفة الدخيلة، ويتهيأ للانطلاق نحو الحقيقة الخالدة في رحلة بحث طويلة.. لشد ما يعشق الحقيقة ويهواها وفي سبيلها سيقطع كل الدروب وسيجتاز كل صحاري الضياع والغموض ليحط رحاله في واحتها الخضراء ويرتاح في ظلالها الوارفة، ويروي روحه العطشى من مائها الزلال. وفي الحافلة التي استقلها إلى منزله الجديد في عمارة الدكتور إياد كان عصام يجلس واجماً.. ساهم النظرات.. ذاهلاً عن كل شيء.. إن قضية انتمائه للإسلام والتزامه به لتستولي على تفكيره، فهي قضية لا تقبل التمييع والتأجيل فالموت يأتي بغتة دون سابق علم أو إنذار، والله سوف يسأله عما قدمت يداه على هذه الأرض، فبماذا يجيب؟. وأفاق من خواطره على بكاء طفل صعدت أمه لتوها إلى الحافلة، فنهض وقدم لها مكانه فشكرته وجلست وهي تهدهد طفلها الذي ما لبث أن هدأ وراح يجول بنظراته بين وجوه الركاب في براءة وقد أفتر ثغره عن ابتسامة مشرقة دفعت عصام للابتسام وبعثت في نفسه السرور. وفي الطريق مرت الحافلة بمكتبة((دار المعرفة)) التي اعتاد عصام أن يبتاع كتبه منها فخطرت له فكرة طارئة سرعان ما استجاب لها فنزل عند أول محطة توقفت عندها الحافلة وقفل راجعاً باتجاه المكتبة.. وهناك طلب من صاحبها أن يرشده إلى مجموعة من الكتب الإسلامية العصرية التي توضح مبادئ الإسلام وتصوراته عن الوجود والحياة والإنسان، فأجابه إلى طلبه وزوده بمجموعة نفيسة منها فتناولها باهتمام وراح يتأمل عناوينها في شغف وهو في شوق لقراءتها وسبر أفكارها ليشبع أشواقه إلى الحقيقة التي أزمع البحث عنها. وبعد أن أتم شراء كتبه ودع صاحب المكتبة ومضى.. ولدى الباب ألقى نظره إلى ساعته فوجد عقاربها تقترب من موعد عمله في عيادة الدكتور إياد فغذ السير في الطريق إلى البيت، علّه يستطيع أن يتناول غداءه مع أمه التي لابد وأنها الآن بانتظاره... - آه.. لكم أتعبتك معي يا أماه... يا لقلبك الكبير الذي ينبض مع أنفاسي ويخفق على إيقاع خطواتي.. ما علينا.. عما قريب ستنتهي رحلة عذابك الطويل، ونحط الرحال في واحة الأمل... عما قريب يا أماه سيبدأ حصاد الأماني، وتتحقق الأحلام.. إيه.. في أعماقي ينابيع من الوفاء تروم الانبثاق، لتروي أيامك القادمة بالسعادة والبشر، وتسربلها بالأفراح.. * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#17
| ||
| ||
الفصل العاشر وصلت منى إلى شقة صفوان وهي غاضبة مضطربة، فضغطت على زر الجرس في عصبية ثم انهالت على الباب بقرع عنيف .... وانتظرت الرد بفارغ الصبر، لكن أحداً لم يفتح، فعاودت القرع وقد اجتاحت أعصابها شحنات هائلة من الثورة... وتفاقم غضبها حيال الباب الموصد بوجهها فهدرت في أعماقها أصوات غاضبة تهتف وتصيح: ((افتح.. افتح يا ***.. افتح لأريك من هي ((منى))... افتح لأريك كيف تتحول الظبية الوداعة إلى لبوة مفترسة.. افتح لألقنك درساً في الوفاء.. أتخدعني بعد كل هذا الحبّ.. أتخونني بعد كل هذا الإخلاص.. أتضحك على يا صفوان..افتح يا سافل.. افتح يا حقير.. افتح.. لماذا لا يفتح؟!.. إن أنوار الغرفة المطلة على الشارع مضاءة فأين ذهب هذا الوغد؟..)) وأدنت منى أذنها من الباب فتناهى إلى سمعها صوت بعيد ((لموسيقا)) تعرفها جيداً، فانتابها تيار جديد من الغضب والتهبت ثورتها العارمة وازداد قرعها للباب حدة وعنفاً... ((هذا السافل.. لا بّد وأنّه مشغول بجلسة معربدة.. أنني أعرفه.. لا يريق له سماع هذه ((الموسيقا)) إلا في المناسبات الداعرة.. افتح يا سافل.. يا قذر.. افتح لأريك غضبة المقهورين.. هذا الباب.. إنه بوابة الجحيم التي دلفت منها إلى العذاب!!.. إنّه النفق المظلم الذي نقلني من حياة الفضيلة إلى وحل الخطيئة ودنيا الضياع.. إنّه جسر الشيطان.. ترى من هي ضحيتك الجديدة؟!..لا بدّ أنها ميادة.. أجل إنها ميادة.. ومن غيرها ((حبيبة القلب وبلسم الحياة)) كما يسميها هذا المخادع الجبان؟!)) وتناولت ((منى)) الرسالة التي اكتشفتها اليوم صدفة في ((الكتاب)) الذي استعارته من صفوان ففضتها في مرارة وجعلت تعيد قراءتها في سخرية صامتة: ((حبيبتي ميادة.. يا فتاة الأحلام الوردية.. يا حبيبة القلب وبلسم الحياة.. إن حياتي بدونك جحيم وعذاب.. لماذا هذه القسوة عليّ وأنت الوديعة الرقيقة؟.. ولماذا هذا الجفاف وأنت اللطيفة الحنونة؟.. متى سترفعين أيتها الحبيبة سياط الصدّ والهجران عن قلبي الحزين ؟..متى سيصدر قلبك الكبير العفو عنّي؟.. أخبرتك ألف مرة بأنك الوحيدة في حياتي،وأنك الحب الأول والأخير.. قلت لك مراراً إن هؤلاء الفتيات اللواتي تسمعين بهن من بنات الجامعة ما هنّ إلا صديقات فحسب.. زميلات دراسة لا بد أن تنشأ بيني وبينهنَّ علاقات عفوية بحكم الدوام الجامعي الطويل.. علاقات بريئة لا تحمل أي معنى آخر.. فإلى متى تتركين الشك يفرق بيننا ويفسد سعادتنا؟.. حبيبتي ميادة.. أيها الخصم والحكم.. يا أحلى خصم وأرقّ حكم.. أرجوك أن تفهميني.. أيها القاضي الحبيب الذي كلما ازداد علي ّقسوة ازدادت له حباً.. أيها القاضي الجميل الرقيق.. افتح لي قلبك مرّة واحدة وامنحني فرصة للدفاع.. فرصة واحدة وستعلم بعدها أنني بريء من كلّ ما توهمك به الغيرة.. إني بريء يا حبيبي فلا تسجنيني وراء قضبان الحرمان)). ويبلغ الاشمئزاز بمنى منتهاه فتطوي أصابعها على الرسالة في غيظ وتبصق في احتقار ثم تنهال على الباب بكلتا يديها وقد حرق أعصابها الانتظار المّر وراء بوابة الخطايا والآثام.. ((افتح أيها الوغد الغادر السافل.. علاقات عفوية بريئة أليس كذالك؟.. أيها الماكر الماجن الغارق في الوحل من رأسه حتى قدميه!. لن يفتح.. إني أعرف.. هذا الوغد.. رغبته القذرة أهمّ عنده من كلّ شيء.. عندما تسيطر عليه ينسى نفسه ويذهل عن كلّ ما حوله.. ليتني أصغيت لنصائحك يا سامية.. ليتني لم أثق بهذا الحيوان.. ماذا ينفع الندم..آه....)). وتتراخى يدها على الباب في يأس فيعتري طرقاتها ضعف متدرج وشعرت بقواها تخور فاستندت على الباب في تهالك وانهيار وأصغت إلى صوت يعلو في داخلها وسط عواصف الغضب ليذكرها بالطريقة التي اعتزمت معاملة صفوان بها عندما اصطدمت بحقيقته المفجعة: -((ليس من الحكمة أن تواجهيه بالحقيقة.. إن المواجهة ستؤزم العلاقة بينك وبينه.. ستجعله ضعيفاً مكشوفاً أمامك، وهو لا يحب أن يظهر ضعفه ويرفض أن يعترف به، لذلك فإن محاصرته بالحقيقة ستدفعه للمكابرة والعناد.. سيعترف اعتراف المتحدي..سيصفعك ببجاحته ووقاحته وإصراره على الخيانة.. سيقول بأنك أنت التي استسلمت له، وسينفي عنه أي مسؤولية عما حدث.. إن مواجهته تعني القطيعة.. تعني نسف آخر جسر يربطك به تستطيعين من خلاله التأثير عليه.. ليس من الحكمة أن تواجهيه بالحقيقة فما زال هناك بقية من رجاء.. أوهميه بأنك مازلت واثقة به.. أشعريه بحرارة حبك وحنانك وعمق إخلاصك..حاولي دائماً أن تديري رأسه إليك..عساه يفيء إليك..عساه يبصر الفرق بينك وبين الأخريات.. أنت بحاجة إليه يا منى فلا تتسرعي.. لا تتسرعي فقد تستطيعين استنقاذ ما قد ضاع...)) وكبحت منى تيارات الثورة والغضب التي تعصف بها، استسلمت لصوت العقل فاسترخت بكامل جسدها على الباب وأجهشت بالبكاء.. ونما إلى سمعها صوت أقدام ترقى في الدرج،فلملمت نفسها المنهارة ومسحت دموعها بظاهر كفها ومضت تجرّ خيبتها وأحزانها.. وعندما خرجت من باب العمارة خطر لها أن تراقب الشقة لترى من هي ((ميادة)) هذه الفتاة الجديدة التي اقتحمت حياة صفوان ونافستها على قلبه، فراحت تذرع الشارع جيئة وذهاباً متظاهرة برؤية واجهات المحلات الأنيقة المجاورة لشقة صفوان.. مضت ساعة..وساعتان.. وهي ترابط قرب الشقة غير عابئة بالأنظار المتطفلة التي ترتاب في وجودها يعتريها فضول جارف لمعرفة هذه الفتاة التي انتزعت منها صفوان، لكنّ أحدا لم يظهر وملّت الانتظار وكادت أن تمضي،بيد أن حركة الأنوار في الشقة استوقفتها فانتظرت خروج((ميادة)) لكنها فوجئت بخروج فتاة أخرى تعرفها جيداً.. إنها ((رشا)).. ((رشا)) زميلتها في الكلية.. وانتبهت منى إلى صفوان وهو يلوح(( لرشا)) بيده من وراء زجاج النافذة مودعا ًفهالها أن تكتشف خيانتين في يوم واحد. ولمحت تلك الابتسامة الخبيثة التي ردت بها ((رشا)) على وداع صفوان فشعرت بالغيرة تمزق فؤادها، وثارت في أعماقها من جديد عواصف عاتية من الغضب. * * * الفصل الحادي عشر قال سعد وهو يقود عصاماً عبر حديقة بيته الجميلة: - أهلاً بك يا عصام.. لقد أعددت لك جلسة شاعرية هادئة لن تنساها أبداً.. جلسة حالمة بين الورود والأزهار التي تحبّها وتعشقها . قال عصام وهو يستنشق نفساً عميقاً قد أفعم بشذا الياسمين: - الله.. ما هذه الروائح العطرة التي تنعش القلوب والأرواح.. وهذه النسمات الندية.. إنها تملأ نفسي سروراً وانشراحاً، إن حديقتكم تزداد سحراً وجمالاً مع الأيام.. - هذا حق، فأختي طالبة في كلية الزراعة وهي تتخذ من الحديقة حقلاً لعلومها وتجاربها، لاسيما وأنها مهتمة بنباتات الزينة وتطمح للاختصاص فيها.. دعنا نجلس في ظلال شجرة الصنوبر، فقد رتبت تحتها الكراسي... هي ليست كراسي.. إنها جذوع أشجار ضخمة، قطعت وصممت للجلوس.. تفضل هنا إذا سمحت.. قال عصام وهو يتحسس أحد هذه المقاعد الطريفة: - إنها مقاعد بديعة فعلاً!. ثم أضاف وهو يجلس عليها في سرور: - ما أجمل الجلوس في أحضان الطبيعة، لا سيما في صحبة الأصدقاء. علق سعد وهو يجلس قبالته: - نحن أكثر من أصدقاء يا عصام.. نحن أخوة.. - لكم يسعدني أن تكون علاقتنا بمثل هذا الصفاء، على فكرة.. ما تعريفك لعلاقة الأخوة؟ أجاب سعد وهو يفرك إبهامه بسبابته وكأنه يتحسس شيئاً رقيقاً: - الأخوة هي انسجام وتآلف بين الأرواح المتحابة حتى تغدو روحاً واحدة تسري في أجساد المتآخين وتجعل منهم جسداً واحداً له قلب واحد وفكر واحد وشعور واحد.. إنها إحساس عميق بالتلاحم والاندماج والإيثار الرفيع. - ((تعريف جميل حقاً، لكن.. هل تتصور أن تقوم أخوة بين الأصدقاء دون حدوث مشاكل أو أخطاء؟.. أعتقد أن هذا غير ممكن!..)). - (( اعتقادك في محله، فالبعض يتصور الأخوة تصوراً مثالياً بعيداً عن الواقع، وينسى أنًّ الأخوة إنًّما هي علاقة بين بشر.. بشر لهم أخطاؤهم ونقاط ضعفهم وأمزجتهم المختلفة وطرقهم المتباينة في الحياة.. الأخوة الحقيقة ليست هي الأخوة المجردة من الأخطاء، بل هي الأخوة المجردة من الأنانية والكبر والحقد والحسد.. الأخوة القائمة على التفاهم والتسامح.. القائمة على الرضوخ للحق والتراجع عن الخطأ.. القائمة على الرفق بأخطاء الآخرين والتماس الأعذار لهفواتهم والثقة بنواياهم ومن منّا لا يخطىء!؟ قال عصام: - في أحاديثك يا سعد أجد متعة كبيرة.. إنك تتقن عرض الحقائق!.. هل تذكر ذاك الحديث؟ - في حديقة الجامعة؟ - هو ذاك. لقد أحدث في نفسي شوقاً كبيراً عارماً لفهم الإسلام والتعمق في أفكاره ومبادئه، فما كان مني إلا أن ذهبت في ذلك اليوم إلى مكتبة ((دار المعرفة)) واشتريت مجموعة من الكتب الإسلامية القيمة، وقد قرأت منها حتى الآن أربعة، ولولا مشاغلي لأتيت عليها جميعاً.. لا أكتمك يا سعد.. لقد شعرت بجهلي وتقصيري نحو عقيدتي وقد عزمت على التوبة. قال سعد في فرح غامر: -كلنا مقصرون. ولن نتجاوز التقصير إلاّ بالمزيد من الوعي والعمل، إني أهنئك يا عصام على هذا الشعور فهو دليل على إيمانك العميق. وانتبه سعد إلي والدته وهي تشير له من النافذة فغاب برهة ثم عاد يحمل عصير البرتقال وقال وهو يقدم كأساً مثلجة منه إلى عصام: - تجاوبك الرائع يا عصام مع أفكاري يملأني غبطة وسعادة.. كم هو جميل أن تجد من يفهمك ويلتقي معك في تصورك للحياة.. هنا تكمن السعادة الحقيقية. - لو أن كل الناس بإيجابيتك وإصغائك لصوت الحق لقطعنا رحلة التغيير المنشود في سنوات. صمت عصام ملياً وهو يتفكر ثم تساءل قائلاً: - سعد.. ألا ترى معي أن عملية التغيير هذه عملية صعبة؟!. أرسل سعد تنهيدة عميقة وقال: - هي صعبة فعلاً.. وقد تبدو مستحيلة عندما يري المرء العقبات الكؤود التي تعترض طريق العودة إلى الإسلام، لكني أعتقد أن المستقبل لهذا الدين... - كيف؟.. ما الذي يدفعك لهذا الاعتقاد؟ - ((سأقول لك: لقد جربت البشرية كل المذاهب والفلسفات فلم تجنِِ منها إلاّ التمزق والضياع. لقد أخفقت كل الأنظمة الأرضية في تأمين السعادة الحقيقية للإنسان.. في أيجاد التصور الذي ينسجم مع إنسانيته بجوانبها المختلفة.. التصور المتوازن الذي يشبع جسم الإنسان وعقله وروحه. لقد استطاعت حضارة اليوم أن تشبع جسد الإنسان وأن تقدم له كل ما يحتاجه من وسائل المتعة والراحة، واستطاعت أن تشبع عقله بالتقدم العلمي المذهل الذي أوصله إلى القمر، وحلّ له الكثير من أسرار الكون وألغاز الحياة. لكن روحه بقيت خاوية عطشى يعذبها الظمأ إلى القيم العليا، ويقلقل كيانها الضياع، فلا هي تدري لماذا وجدت ولا إلى أين تسير؟.، تجهل غاية وجودها ومعناه.. ويلف مصيرها الغموض)). وافقه عصام رأيه قائلاً: - هذا حق. إن انتشار الشذوذ والجريمة، وشيوع الأمراض العصبية والنفسية وارتفاع معدلات الانتحار دليل واضح على ما تقول . قال سعد وهو يخض كأس العصير ليزداد برودة: - لعلك قرأت أن أعلى نسبة للانتحار في العالم توجد في الدول (( الاسكندنافية)) التي تعتبر من أرقى دول العالم، حيث يبلغ فيها دخل الفرد أعلى مستوى.. ومنذ أيام سمعت من ((الراديو)) لدى متابعتي لأحد البرامج الثقافية خبراً طريفاً يدلك إلى أي مدى استبد الشقاء بإنسان قرننا هذا!.. - ما هو؟.. - لقد قامت في بريطانيا جمعية تضم المؤمنين بفكرة الانتحار وأطلقت على نفسها اسم ((جمعية الموت من أجل الرحمة)) كما أصدرت مرشداً خاصاً بأعضائها، سمته ((المرشد الخاص للتحرير الذاتي ))وفيه تشرخ الجمعية طرق الانتحار بدون ألم، وقد قدم للكاتب الكتاب الإِنجليزي المعروف ((آرثر كسلر)) ثم انتحر بالطريقة المعتمدة لدى الجمعية، كما انتحر كثيرون من أعضاء الجمعية الذين بلغ عددهم عشرة آلاف منتم في غضون أشهر..... قال عصام وابتسامة داهشة تحف بكلماته: - لقد أصبح للانتحار عندهم فلسفة ودعاة!.. - إنًّها حقائق تستحق التأمل.. إنها صدى ليأس الإنسان وفشله وضياعه.. تساءل عصام في حيرة: - لكن كيف نقنع البشرية بالإسلام كبديل ؟ أجاب سعد: - لن تؤمن البشرية بالإسلام كبديل فيما لو عرضناه عليها في قوالب نظرية وفكرية بحتة.. لقد ملّت النظريات والأفكار، وأصبحت تنظر إليها في شك وحذر بعد أن فقدت ثقتها بجدارتها في عالم الواقع وبعد أن حصدت منها الفشل المرير، البشرية اليوم تبحث عن مثل حي متحرك، وتتطلع إلى تجربة ناجحة تحظى بأيمانها وثقتها، وتجد فيها الإخلاص... - ولكن، ألم يكن الإسلام تجربة ناجحة في التاريخ؟.. - ((لقد كان، ليس تجربة ناجحة فحسب، بل وفريدة في نجاحها. لكن الإنسانية اليوم تشك في تكرار هذا التجربة، بعد التطور المذهل الذي طرأ على حياة الناس في العصر الحاضر. وعلى المسلمين أن يبددوا شكوكها بصناعة التجربة من جديد، وإخراجها عصرية ناجحة.. وبذالك تتحقق القفزة الحاسمة إلى الحياة الإِسلامية المنشودة..)). - لكن.. ألا تشك معي يا سعد في قدرة المجتمعات الإسلامية على تقديم الصورة الصحيحة الناصعة للإسلام؟.. - ((أنا متأكد من أنها لن تستطيع، لأن الإِسلام الحق قد انحسر من حياتنا منذ زمن، وذوت شعلته اللاهبة التي كانت تبعث فيها الحياة، وتنير لها دروب الحرية والتطور والحضارة.. الإسلام اليوم في أذهان المسلمين أجزاء ناقصة مبتورة.. وأفكار مشوهة مغلوطة وصور ساذجة بسيطة.. ومظاهر فارغة منفردة. ليس للمسلمين اليوم من إسلامهم إلا الاسم والعنوان.. تحمله أمة متخلفة ممزقة مقهورة.. المسلمون اليوم يا صديقي يسيئون للإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!)) تمتم عصام بعد أن تناول رشفة من عصيره: - تبدو متشائماً إلى أبعد الحدود!! - أبداً، فأنا شديد التفاؤل. إن بذور الخير موجودة رغم ما تراه.. إ ني أراهن على هذا.. فقط تحتاج لمن يصل إليها بوعي وروية، فينزع عنها قشرت التبلد، وينفض عنها غبار الضياع، ثم يغرسها في القلوب من جديد. - الحل؟.. - الحل يكمن في مجموعة من الناس تؤمن بالإسلام بشموله وعمقه ونصاعته وتفهم العصر بظروفه ومعطياته.. بسلبياته وإيجابياته، وتعيش الإسلام في حياتها العصرية الواقعية، فترسم بسلوكها الوضعي وتعاملها النظيف، وتحركها الإيجابي المفيد في المجتمع صورة الإسلام الصافي الأصيل كما أنزل الله. ثم تبني هذه المجموعة المؤمنة جسور المحبة والتفاهم مع الآخرين، وتنقل إليهم على متنها تصوراتها وأفكارها في حكمة وهدوء، فتأخذهم باللين وترحم ضعفهم وحداثة عهدهم بالإسلام، وتشجعهم على الارتقاء فلا تحملهم ملا يطيقون، وتستمر في رعايتهم وتستمر في رعايتهم وتشجيعهم حتى يصبحون مسلمين صادقين.. الإسلام اليوم قضيتهم الأولى، ومنهجهم الوحيد في الحياة، ومع الأيام ستزداد بقعة النور حتى تبدد الظلام.. وسينمو المجتمع الوليد حتى يشب على أنقاض المجتمع القديم المتهافت الذي نخره سوس الضياع والانحراف والطغيان. همس عصام: - لكنّ هذا طريق طويل!!. وأطول مما قد نتصور، لكنه الطريق.. الطريق الصحيح الذي مرت به التجربة الإسلامية الأولى فوصلت إلى ذروة النجاح.. الطريق الذي يرسمه المنطق وتؤيده التجارب الفاشلة التي سلكت غيره فأخفقت... - على هذا فقد نغادر الحياة دون أن نحقق واقعنا في التغيير الإسلامي المنشود!.. - قد يتحقق وقد لا يتحقق، المهم أن نضئ على دربه المشاعل الهادية، وأن نضع في بنيانه بضع لبنات لتأتي الأجيال القادمة فتكمل البنيان.. - إذن فقد تستغرق رحلة التغيير أجيالاً طويلة. - المهم أن نبدأ... - والبداية؟.. ما البداية؟ صمت سعد ملياً ثم قال: - البداية تنطلق من أنفسنا. ما لم يقم الإسلام في نفوسنا فلن يقوم في الأرض. - ثم؟ - ثم علينا أن نتعاون ونتكامل ونتكافل حتى تنمو الجهود المخلصة وتتجمع في تيار واحد..تيار قوى فعال.. يطوي حياة الفساد والضياع والتخلف التي نحياها، ويبعث في ظلمة عصرنا الرديء تباشير فجر مشرق جديد. أطرق عصام مفكراً وأخذته سَنة من الشرود ثم همس: - سعد.. إن كلامك هذا ينقلني إلى عوالم جديدة كانت محجوبة عني. لا أكتمك ، فأنا الآن إنسان جديد..صاحب قضية في الحياة.. قضية مقدسة سوف تلون تفكري وطموحي وتوجه خطاي إلى المستقبل... - يسرّني أن أسمع هذا.. عصام.. أنت دليل جديد على ثقتي ببذور الخير التي ينطوي عليها مجتمعنا.. مجتمعنا يا عزيزي يزخر بالنفوس النقية المؤمنة، لكنها حائرة ضائعة لا تجد من يأخذ بيدها إلى شاطىء الحقيقة وبَّر الأَمان. لنتعاون معاً على إيصال الحقيقة إلى عشاقها... لنبدأ رحلة التغيير في دأب وأناة ولنتعاهد على ذلك. - إني أعاهدك على ذلك، وبعد التخرج سنتفرغ لإِنجاز الكثير.... وران صمت قصير ما لبث أن قطعه عصام: - سعد.. لماذا لم تطرح علي أفكارك هذه قبل الآن، بالرغم من أن علاقتنا قد توطدت منذ سنوات؟!.. ابتسم سعد وأجاب: - سأقول لك.. أنا أكره الاندفاع، ولا أميل إلى التسرع، كان لا بد من التمهيد الهادئ.. لا بد من بناء جسور المودة والصراحة والتفاهم بيننا، حتى يتم عبرها تبادل الأفكار والآراء في يسر وتقبل وقناعة... - لكم يروقني هذا الأسلوب الحكيم. - الدعوة يا صديقي فنّ.. عليك حتى تتقنها أن تفهم النفوس وتدرك طبائعها.. أن تختار اللحظة المناسبة التي تلقي فيها فكرتك.. أن تختار المكان المناسب.. أن لا تثقل عليها.. فللنفس طاقة محدودة للاستقبال إذا ما نفذت حلّ مكانها الضجر والملل وسقطت الكلمات على أرض عقيمة لا تنبت إلا الرفض والضيق، لذا لا بد من التدرج، فالقناعة لا تتولد من كثافة الأفكار بل من وضوحها وترابطها، ومع ذلك فليست كل النفوس مهيأة لاستقبال الحقيقة إلاّ أن تكون نفوساً إيجابية طيبة. ثم أردف سعد وهو مطرق: - عصام.. هناك أمر هام. - تفضل.. قل ما عندك. - هل نتكلم بصراحة؟ - الصراحة مذهبي... - إن الالتزام بالإسلام يتطلب خطوات عملية.. خطوات سريعة حاسمة. قاطعه عصام: - إني أفهم ما ترمي إليه.. لكم يعذبني تقصيري. - الندم شرط من شروط التوبة الصادقة، لكنه ينبغي أن لا يتحول إلى عقدة الذنب.. فالله تواب رحيم - أستغفر الله وأتوب إليه.. سعد.. هل أجد عندك كتاباً مفصلا عن كيفية الصلاة؟ ذهب سعد ليحضر الكتاب، بينما شغل عصام بالمناظر الخلابة التي تحيط به من كل جانب وقد بهره هذا اللقاء الساحر بين الليل الهادئ والطبيعة الخلابة، وشدته الورود من حوله فقام يتجول بينها متأملاً ألوانها الزاهية مستنشقاً عبيرها المنتشر عبر الهواء الرطب، ومع النسمات العليلة تحركت خواطره الدفينة وحفت به الأطياف تحاوره وتناجيه، واستأثر به طيف سامية فتساءل في نفسه عن موقفها من تحوله الجديد وما إن عاد سعد حتى سأله وهو يتناول منه كتاب الصلاة: - سعد.. ما هي نظرة الإسلام للحب؟ أجاب سعد وهو لا يخفي دهشته من هذا السؤال المفاجئ: - الحب؟.. الحب عاطفة إنسانية نبيلة أودعها الله في قلب الرجل والمرأة ليكون الشرارة المقدسة التي تولد الحياة وتضمن استمرارها على الأرض. - بعضهم يدّعي بأنه حرام!. - الحب في حدّ ذاته ليس حراماً.. لكن الإسلام يرفض أن يكون الحب ذريعة للانحراف والفساد ووسيلة لتحقيق مآرب رخيصة، فباسم الحب ترتكب الآن أرذل الجرائم وتخدع نفوس طاهرة بريئة خفقت في فؤادها تلك العاطفة الفطرية النبيلة، فاستغلها آخرون من أصحاب الأهواء المريضة وقادوها إلى مواطن الرذيلة والفساد وجردوها من أخلاقها وعفتها وحطموا سمعتها ومستقبلها لعلك تذكر حديثنا حول ((منى وصفوان)).. - أجل أذكر.. وماذا يفعل المسلم إذا خفقت في نفسه هذه العاطفة نحو فتاة ما؟ - يسلك الطريق الطاهر النظيف ويتجنب الطرق الملتوية الآثمة، فيخطبها من أهلها بعد أن يدرس الموضوع من كل جوانبه ويتأكد من ملاءمة هذه الفتاة لحياته وطبعه وتفكيره، فإن وافقت الفتاة كان الالتقاء الحلال بينهما في ظلال الحب والتفاهم وإن رفضت لسبب أو لآخر فعليه أن يحترم رغبتها ويصون سمعتها وينسحب من طريقها حتى لا يكون سبباً في تعاسة إنسانة بريئة لم يقع اختيارها عليه. قال عصام وهو يرمي بنظراته إلى الأفق البعيد: - الإسلام منهج رائع حقاً... ضحك سعد وقال مداعباً: - عصام.. أرجو أن نسمع عما قريب أخبارك السعيدة... * * * بعد سهرة ثرية بالأحاديث والأفكار، ودع عصام سعداً ومضى.. كان القمر يتألق في كبد السماء الصافية بدراً منيراً ويلقي بأشعته الفضية على أشجار الطريق، فتضئ خضرتها الداكنة وتخلع عليها فتنة تسر الناظر وتشد العابر ليقضي الليل في ظلالها المزدانة ببقع النور المتسلل عبر الأغصان. وبهرته روعة المساء، وأغراه جمال الطريق بالمسير، فأطلق العنان لقدميه، فراحت تذرع الطريق بخطاً بطيئة كان وقعها يتردد إيقاعاً رتيباً يقطع الصمت الذي يلف الشارع الهادئ. هذا الصمت الشامل.. لكم يثير في نفسه الشجن!.. إنه يستجيش المشاعر، ويستدعي الخواطر فتتزاحم في وجدانه. إنه اليوم على أعتاب تحول جديد وحياة جديدة، فقد استيقظ في أعماقه إيمان عارم يلح عليه بالتغيير ويدفعه للعمل وينعطف به إلى عالم متميز.. وتحلق روحه مع الله.. فتشعر بين يديه بتقصيرها، وتدرك حقيقتها، وتتذكر مهمتها، وتعاهده على الالتزام بمنهجه الذي ارتضى.. ويتذكر عصام تصوراته السابقة عن الإسلام والتي تسربت إلى نفسه من البيئة المحيطة الجاهلة بأصول الإسلام ومبادئه العظيمة والتي ألصقت بالإسلام الكثير من عاداتها المنحرفة وتقاليدها الممجوجة وجهلها المريع.. يتذكر عصام كل ذلك، فيؤلمه ذلك التيه الذي كان ضارباً فيه. لقد وجد الآن تفسيراً شافياً لهذا الفهم الخاطئ الذي تحمله الأجيال الجديدة للإسلام والنفور الذي تبديه نحوه أحياناً.. إنه يكمن في أنها تلقت أفكارها وتصوراتها من البيئة، بدل أن تتلقاها من النبع الصافي الأصيل. ليس من المعقول أن تؤمن هذه الأجيال بإسلام مشوه مشوب بمفاهيم وعادات وتقاليد خاطئة متخلفة، وهي التي تفتح وعيها على حضارة العلم والاختراع وتشبع بمنهج البحث العلمي القائم على العقل والمنطق. لكم تؤلمه هذه الهوَّة السحيقة التي تفصل بين الإسلام الحق والمسلمين المتخلفين عنه فهماً واقعاً وسلوكاً!. ويزيده الواقع المؤلم اندفاعاً وحماساً، فيمنو شعوره بالندم ويحس بسياطه وهي تلهب ضميره التائب فتنتفض عنه الأدران والخطايا ويصغي لحديث نفسه اللوامة وهي تحاسبه وتعاتبه.. ((كيف ستقف أمام الله يوم القيامة.. يوم يسألك: أعطيتك الصحة فلأي شئ استعملتها؟ وأعطيتك العقل فكيف استخدمته؟ وأعطيتك العمر فكيف قضيته؟ أعطيتك وأعطيتك فماذا قدمت؟ حقاً ماذا قدمت حتى الآن؟)).. وفاضت نفسه بالتأثر والانفعال، وانطلقت من جفونه دموع التوبة صادقة حرّى، فشعر ببرد السلام يمس شغاف قلبه، ويسكب في روعه الأمان، وتراءت له من بين الدموع مئذنة بعيدة تتلألأ بالأنوار، فهفت نفسه إلى الصلاة وآلمه أنه لم يدخل المسجد منذ أمد بعيد وتمتم في خشوع: - (( اللهم إني أتوب إليك من كل ذنب مضى وأسألك القبول.. اللهم إني قادم إليك فاغفر لي وارحمني واجعلني من الصالحين.. اللهم إني قد عزمت على التوبة فبارك خطواتي، وأعنِّي على مشقات الطريق)). * * * عندما اقترب عصام من البيت لاح له شبح أمه وقد وقفت تنتظر قدومه على الشرفة، متكئة بكلتا يديها على جدارها وهي تحتضن وجهها الحزين بين كفيها، وما إن رأته حتى دبت الحركة في شبحها الذي كان جامداً تحت وطأة الهم والقلق. وأدرك عصام ما عانته أمه بسببه من اضطراب وانزعاج، فحث خطاه ومضى يرقى السلم بسرعة وما إن وصل إلى الدور الثالث حتى وجدها تنتظر لدى الباب فابتدرته بالسؤال معاتبة: - لماذا تأخرت حتى الآن؟ لقد شغلتني عليك يا بني. قال عصام وهو يعتذر لها ويطيب خاطرها: - اعذريني يا أماه.. لقد امتدت بنا السهرة ثم آثرت القدوم سيراً على الأقدام فتأخرت.. - ما كان ينبغي أن تتركني هكذا.. كدت أجن من الخوف والقلق.. قال لها عصام بعد أن دلفا إلى الداخل: أماه أنت دائماً هكذا.. تستسلمين للقلق بلا مبرر وتندلع في نفسك المخاوف لأدنى سبب.. قالت الأم باسمة وقد هدأ روعها: - ماذا أفعل؟!.. إنه قلب الأم.. - قلب الأم هذا يحيرني.. لا يقنعه منطق، ولا يكبح اضطرابه كابحّ... ضحكت الأم وقالت: - لا تقل لي بأنك غاضب.. إني أعرفك.. ما كان ليغضبك مني شئ.. هل أعد لك العشاء؟ - لا شهية لي للطعام. - بل سأعده لك.. يجب أن تتعشى. * * * كان عصام يتناول عشاءه في صمت.. شارد اللب.. ساهم النظرة.. مشغول الوجدان بهذا الانقلاب الجديد الذي أزمع على تحقيقه في حياته، ولم يخف هذا الذي يعتمل في صدره عن والدته التي كانت ترقبه بفراسة الأم، وقد أحست بما يعانيه من هم وتفكير، وزاد من قلقها عليه تلك الأنداء من الدمع التي كانت تلوح في عينيه الساهمتين بين الحين والآخر فسألته في إشفاق: - عصام.. ما الذي يشغل فكرك يا بني.. تبدو مهموماً شارد البال.. - أماه.. لقد قررت أن أصلي. - الحمدلله.. هذه بشارة خير، ولكن ما الذي أهمك هكذا.. وهذه الدموع التي تلوح في عينيك؟.. أخبرني ما الأمر؟ - لا شئ.. كل ما في الأمر أني نادم على تقصيري وأرجو من الله أن يقبل توبتي. هتفت الأم وهي تنظر إليه بدهشة واستغراب: - التوبة؟.. التوبة من ماذا؟.. إنك لم تفعل في حياتك ناقصة أو رذيلة.. أنت ولدي وأنا أعرف الناس بك... قال عصام واللقمة جامدة حبيسة في فمه: - إنها التوبة من التقصير والإهمال، والندم على الأيام الماضية التي قضيتها بعيداً عن الله كان ينبغي أن تنبهيني يا أماه... قالت الأم وهي تصب لابنها كوبا من الشاي: - لا عليك يا بني.. إن الله تواب رحيم، ثم إنك ما زلت شاباً وأمامك متسع من الوقت لتصلي وتصوم وتحج... قاطعها عصام موضحاً: من قال بأنك هناك متسعاً.. ليس هناك أي متسع، فالموت يتربص بنا، والله سوف يحاسبنا على الدقائق والثواني كيف قضيناها؟.. - الموت؟!.. ما الذي يجعلك تفكر فيه الآن؟ - الموت حق يا أماه. هتفت الأم في ضيق تريد إنهاء الحديث: - حسناً.. حسناً.. تناول الشاي فقد كان أن يبرد. * * * أنهى عصام طعام ثم مضى فاغتسل وتوضأ وعاد إلى الصالة فاستقبلته أمه بنظرات ملؤها الود والإكبار.. إنه في نظرها ملاك كريم يدب على الأرض.. كتلة من الطهر والنقاء.. شعلة من الأمل الواعد تتألق في دنياها المظلمة لتنير لها الدروب إلى مستقبل باسم سعيد.. إنه روحها التي تخفق في صدرها، وفؤادها الذي ينبض بالحياة. قام عصام يؤدي صلاة العشاء، ثم جلس يدعو الله في خشوع ضارع عميق، وبعد أن أنهى دعاءه اتجه إلى المصحف المعلق في صدر الصالة، فتناوله في لهفة، ثم نفض عنه الغبار في حياء، وحرره من بيته المخملي الأخضر، وفتحه في رفق وأراد أن يقرأ، لكنه انتبه إلى أمه وهي ترقبه في سرور باسم فلمح في عينيها الحب والحنان، وأراد أن يزيد سعادتها فقال لهم وهو يبتسم في حبور: - أماه.. نسيت أن أقول لك شيئاً مهماً. - يبدو أن هذه الليلة مليئة بالمفاجآت.. ماذا تريد أن تقول؟... - أرجو أن تستعدي لتخطبي لي سامية.. هذا قراري الأخير. * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#18
| ||
| ||
الفصل الثاني عشر (( اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من سامية خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي منها شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، اقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به.. آمين، والحمد لله رب العالمين)). لم يخفف هذا الدعاء الضارع الذي استخار عصام به الله في أمر زواجه من قلقه واضطرابه أو يحد من خفقان قلبه الشديد، الذي كان يتلاطم بين ضلوعه، ويرجّ رجاً عنيفا، فتتسارع نبضاته كلما اقتربت عقارب الساعة من السادسة مساء، حيث يأزف موعد زيارته وأمه لمنزل الدكتور إياد ليخطب منه ابنته سامية. إنّه لم يتوقع أن يحدث هذا الأمر في نفسه كل هذا الاضطراب، فمنذ الصباح الباكر، وهو يكابده بأعصاب مرهفة وخيال شارد ، حتى خطبة الجمعة التي كان يصغي إليه بعمق وتركيز أفلتت من إدراكه، عندما بدأ الخطيب يتحدث عن واجب الأمة في إحصان شبابها وفتياتها، وتأمين الضروف الملائمة للالتقاء الحلال بينهم، ومحاصرة أسباب الغواية والفساد في المجتمع فانطلق خياله ليحدثه عن سامية، والخطوة الحاسمة المنتظرة، لتحديد موقعها في حياته ومستقبله، ولم يستيقظ من شروده إلّا عندما رأى المصلين ينهضون لتأدية الصلاة... ودخلت الأم على عصام، وقد ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج فوجدته يطوي سجادة الصلاة فقالت بنبرات ضاحكة: - ما هذه الصلاة التي أديتها؟.. ألم نصلِّ المغرب معاً؟ - إنًّها صلاة الاستخارة.. ركعتان يصليهما المرء ثم يدعو الله عقبهما بدعاء خاص يسأل الله فيه التوفيق والتسديد بعد أن يعد للأمر عدته ويدرس الخطوات التي سيقدم عليها بدقة وروية، ثم يمضي لما ينشرح له صدره وترتاح إليه نفسه. سألته أمه وهي تمازحه: - وكيف تجد نفسك الآن؟ - أمّاه.. لقد عزمت، وتوكلت على الله، هيا بنا الآن.. * * * بين الدور الثالث حيث تقيم أم عصام، والدور الثاني حيث تقيم عائلة الدكتور إياد، مسافة قصيرة لا تحتاج لقطعها أكثر من لحضات قليلة، لكن أم عصام قطعت في خيالها خلال هذه اللحضات ربع قرن من الزمان، حافل بالذكريات والأحداث، وكلما هبطت في السلم درجة تراجعت في خضم السنين عاماً أو أكثر.. تذكرت خطبتها وزفافها.. تذكرت حملها وولادتها.. وتذكرت عصاماً من الميلاد حتى الشباب.. تذكرته وليداً يبكي، وتذكرته طفلاً يحبو.. تذكرته صبياً يلعب وتذكرته فتى ينمو، وتذكرته شابا يافعاً يسمو بأخلاقه وذكائه ونبوغه.. وعندما وصلت إلى الدور الثاني كانت نفسها قد تخففت من كل الهموم والأحزان، وتهيأت لتستقبل الفرحة الجديدة بكل ما أوتيت حواسها من إرهاف، وتخيلت ابنها عريساً وسيماً يزف إلى عروسه الجميلة ففاضت نفسها بالبشر والسرور، وطفح قلبها بالسعادة، ورفت على شفتيها ابتسامة طاغية لم تجد لإخفائها سبيلاً. وتقدم عصام من الباب فقرع الجرس ثم تنحى ليقف خلف أمه.. وفُتح الباب فأطل منه الدكتور إياد وزوجته وقد تأهبا لهذه الزيارة الموعودة، ولسانهما يلهج بكلمات الترحيب الحار، ونظراتهما تشع بالحب والاحترام العميق. واستقر بهم المجلس.. وتشعبت بهم الأحاديث.. فتبادلوا عبارات المودة وأشادوا بعلاقة الجوار الجديدة التي جمعتهم وشرعوا يتكلمون عن الماضي والحاضر، فذكروا الراحلين ومآثرهم وتحدثوا عن الآباء ونوادرهم ووقفوا طويلا عند حديث الأبناء ومشاكلهم، وكلما أوغلوا في السمر شعروا بالألفة تزداد وتتوطد بينهم. وحانت برهة صمت طارئة فانتهزتها أم عصام قائلة: - ليتكم تسمحون لي بكلمة... شعر عصام بأن اللحضات الفاصلة قد أزفت فتعالى وجيب قلبه، وتململ من شدة الارتباك، بينما قال الدكتور إياد وقد لاحظ ارتباكه: - أنت سيدة المجلس يا أم عصام، فكيف نعطيك الإذن بالحديث؟ - قالت أم عصام وملامحها تنطق بالسرور: - الله يبارك فيك يا حضرة الدكتور.. ثم تابعت في تدفق وحماس: - ((تعلمون أنه ليس لي في الدنيا أعز من ولدي عصام، ولن تكتمل سعادتي إلا بتمام سعادته وعما قريب سوف يتخرج –بإذن الله- ولم يبق أمامه إلا الزواج وقد فكرت في الأمر فلم أجد له خيراً من ابنتكم المصونة سامية التي لن أجد فتاة بمثل تربيتها وأخلاقها، لذلك فإني أتشرف بخطبتها بابني لما علمت من ارتياحه لها، وإعجابه بسلوكها المحتشم وخلقها الأصيل.. هذا كل ما عندي، فلا أدري ما هو الرأي عندكم؟..)). ابتسم الدكتور إياد ابتسامته المألوفة، وقال دون أن يفاجئه الكلام: - أشكرك بالنيابة عنا جميعاً على مدحك لابنتنا سامية وتربيتها، واعلمي أنها ابنتك كما هي ابنتنا، وإذا أردت رأيي بالموضوع فإني ألخصه لك في كلمة واحدة. إنني أنا الذي أخطب ابنك عصام لابنتي سامية، لأنني أكون بذلك قد توخيت الرجولة والأخلاق والشرف، ولا أطلب لابنتي أكثر من ذلك. وأردفت زوجة الدكتور إياد: - قد تكون معرفتي بعصام قليلة، لكنني بعد ما سمعته عنه وعن أخلاقه، وبعد أن تعرفت بأختي ((أم عصام)) وخبرت أخلاقها ومعاملتها الكريمة، فإني أتشرف أن يكون الدكتور عصام زوجاً لابنتي أأتمنه عليها. قال عصام بنبرات مرتجفة خنقها الانفعال: - أرجو أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً. قالت أم عصام: - هل نفهم...؟ لكن الدكتور إياد سرعان ما التقط الحديث منها ليزيد موقفه إيضاحاً وتفصيلاً: - ((أرجو أن يكون الأمر كما يتمنى الجميع، لكن رأينا يبقى ثانويا بالنسبة لرأي الفتاة، فهي صاحبة الشأن في هذا الأمر، وتبقى الكلمة الأخيرة الحاسمة لأنها حرَّة في حياتها وفيمن تختاره شريكاً لها وليس لنا إلا أن ننصحها ونوجهها.. أليس كذلك يا عصام؟.. تبدو خجولاً هذه الليلة!)). ضحك الجميع لهذه الدعابة بينما أرسل عصام ابتسامة عريضة فضحت ما يجول في داخله من سرور وارتياح لهذا المنحى الذي يسلكه الحديث، وقال وهو يفرك يديه ليداري انفعالاته: - ((إني أوافقك على ما تقول، فاستشارة الفتاة في أمر الزواج مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام)). وأضافت أم عصام: - هل نؤجل الموضوع يوماً أو أكثر حتى تعرفوا رأي الفتاة؟ أجاب الدكتور بعد أن تبادل مع زوجته نظرة تفاهم: - (( لا داعي للتأجيل.. سنسألها عن رأيها الآن، فأنا واثق من قدرة ابنتي على اتخاذ قراراتها بشجاعة ووضوح، وإذا ما أرادت مهلة لتحديد موقفها أمهلناها،.. عن إذنكم... )). ثم أومأ لزوجته فلحقت به.. كانت غرفة سامية قريبة من الصالة بحيث كانت تستمع لكل ما يقال، ورغم أنّها كانت تتوقع هذا الحدث وتترقبه، إلاّ أنّ الأمر أربكها تماماً، ووضعها فجأة في مواجهة حلم لذيذ. وسرت الفرحة في أوصالها، فاجتاحتها موجة من السعادة والحبور. وأرادت أن تستعلي على مشاعرها المتدفقة لتبدو في تماسك طبيبة رصينة توشك أن تحتل موقعها المميز في المجتمع، لكن الفرحة كانت أقوى منها، فأطلّت من عينيها، ورفرفت فوق شفتيها، وعندما سمعت وقع أقدام أبويها وهي تقترب من حجرتها، حاولت عبثاً إخفاء الفرح والسعادة التي أشرق بها وجهها، لكنها لم تستطع، فتضرجت وجنتاها بحمرة الحياء وخشيت أن تفضح ملامحها مشاعرها، فتناولت كتاباً وتظاهرت بأنها منهمكة في قراءته.. وسمعت طرقاً خفيفاً على الباب فاضطربت له، وماتت الكلمات على شفتيها فلم تنبس. وفتح الباب فخفق قلبها بعنف وانتشرت أمواج الانفعال في أغوارها وراحت تضغط على صدرها فأرسلت تنهيدة لتنفس بها عن جيشان مشاعرها المستبدة العارمة. أغلقت أمها الباب، وقالت مداعبة: - لا تقولي بأنك منهمكة في القراءة، لا بد أنك سمعت حديثنا مع عصام وأمه. لم تجرأ سامية أن ترفع رأسها من شدة الحياء، فلاذت بالصمت والإطراق، وازدادت ابتسامتها اتساعاً: ووجنتاها احمراراً، وأحاسيسها اضطراماً. قال الأب وقد فهم موقف ابنته الذي خمنه منذ مدة: - هل أفهم أنك موافقة؟.. فالسكوت علامة الرضا. أردفت الأم : - يجب أن تحددي موقفك، فالجماعة بانتظار جوابك.. عصام شاب ممتاز تعرفين عنه أكثر مما أعرف، وأمه سيدة طيبة.. إنكما لائقان ببعضكما فلا داعي للتردد. هل أفهم اعتصامك بالصمت على أنه الجواب؟ صمت الأبوان بانتظار جواب ابنتهما غير أنها داومت الصمت والإطراق وأخذ الحياء منها كل مأخذ فمدّ الأب يده إلى وجهها المورد ورفعه من ذقنها فأمالت رأسها في دلال وأسبلت جفنيها في وداعة، وقد أشرق وجهها بابتسامة تشي بالرضا والقبول، وأذاعت ملامحها الباسمة السعيدة السر المكنون، ونطقت بالقرار.. فامتلأت نفس الدكتور إياد بالغبطة وقال وهو يطبع على جبينها قبلة حانية: - مبروك يا ابنتي.. مبروك.. وفقك الله وكتب لكما السعادة والهناء. بينما مالت الأم على ابنتها وراحت تمطرها بالقبلات. * * * كان قلب عصام يخفق بشدة رغم أنه كان موقناً بالموافقة، أم الأم فقد كانت تنتظر الجواب على أحر من الجمر، فلقد أحبّت سامية وشعرت نحوها بارتياح عجيب إنها تشفق أن تفلت هذه الفتاة من يدها، لأنها أنسب من رأت لابنها الحبيب الذي باتت تشعر بأحاسيسه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه وتنظر إلى الوجود بعينيه، وما إن عاد الدكتور إياد حتى تعلقت العيون بشفتيه الباسمتين أن تنفرج عن القرار الأخير. - ((مبروك يا بني.. على بركة الله...)). هكذا هتف الدكتور إياد وهو يتجه إلى عصام.. وتصافح الرجلان، وشد كل منهما على يد الآخر في ود وحرارة وقال عصام بنبرات منفعلة: - بارك الله فيك يا عماه.. أطمئنك بأني سأضع سامية في عيني هاتين، وسأسعى لإسعادها السعادة التي تليق بها، ليس لأنها ستكون زوجتي الغالية فحسب، ولكن لأنها إبنة الرجل الذي هو في مقام والدي – رحمه الله - . - رحمهُ الله رحمهُ الله .. أنا واثق من أن سامية قد أحسنت الإختيار.. بارك الله لكما في زواجكما ومد في عمركما حتى تفرحا بأولادكما وأحفادكما يا.. يا صهري العزيز. ولم تستطع الأم أن تلجم فرحتها فأرسلت لسانها بالزغاريد، وعندما حاولت أن تبارك لابنها خانها لسانها، فهبت دموع الفرح لتكون ابلغ تهنئة في هذه المناسبة السعيدة. ودخلت زوجة الدكتور إياد والفرحة تطل في عينيها وهتفت في نبرات تضج بالسرور: - مبروك يا عصام.. لكم يسعدني أن تكون زوجاً لابنتي سامية. وصاح الدكتور إياد في إنكار تصنع ليداعب القلوب الفرحة: - ألا تجلسون؟.. لستم أول من خطب وتزوج!!. ثم وهو يرفع صوته أكثر: - سامية.. أين الشاي يا سامية؟ وقالت زوجته ترجوه: - بالله عليك لا تحرجها هكذا.. ثم وهي تتجه بالحديث إلى أم عصام: - لو ترين وجهها ونحن نسألها عن رأيها.. إنه بحمرة الورد من شدة الحياء.. قالت أم عصام: - لأنها فتاة أصيلة ومرباة. لو تعلمين كم أحببتها.. لقد دخلت إلى قلبي منذ أن رأيتها أول مرة. ثم وقد جلست بجانب ابنها الذي كان يعاني من الارتباك والخجل: - والآن ما رأيكما لو نتحدث عن المهر والذهب وكتب الكتاب وغير ذلك من الأمور؟... قال الدكتور إياد بعد أن تبادل مع زوجته نظرة فهمت مرماها فوافقته بإيماءة من رأسها: - ((أرجو أن تسمعا رأيي في هذه الأمور.. أنا لا أحب الوقوف عن المسائل المادية كثيرا، لا سيما مع من أحبهم واحترمهم وأثق بمعاملتهم.. مهر هذه الفتاة خاتم من الذهب، هذا المقدم، أما المتأخر فأترك تقديره لعصام، على أن لا يتجاوز المقدار المتوسط الذي اعتاد عليه الناس في مجتمعنا، وبعد ذلك فإن عصاماً حر فيما يقدمه لبيته وزوجته، أما بالنسبة لكتب الكتاب فأرجو أن يتم في أسرع وقت ممكن، حتى يتاح للعريسين حرية الالتقاء في ظلال الشرع والحلال، أما العرس فيتم حسب اتفاق العروسين.. بقي شئ آخر.. هديتي لابنتي سامية بمناسبة زواجها ستكون الشقة المقابلة للشقة التي تقيمان بها، وسأكتبها باسمها في أقرب وقت.. هذه شروط لا أتنازل عنها بحال.. ثمة رجاء أخير.. أرجو من عصام وسامية أن لا تلهيهما الخطبة والزواج عند دراستهما وطموحاتهما الكبيرة، التي تحتاج إلى جهد كبير، هذا كل ما عندي بصراحة وإصرار)). رفعت أم عصام حاجبيها دهشة وهمست: - لكن هذا كثير يا دكتور.. لقد غمرتنا بكرمك. اعترض الدكتور على كلامها بإشارة من يده وقال: - أستغفر الله يا أم عصام، هذا ليس كرما.. هذه واقعية، فأنا واثق من زوج ابنتي، ومتأكد من أنه لو كان يملك الملايين لفرشها لسامية، فلماذا أضع له شروطا تحرجه وتكبله؟. إن أخلاقه العالية هي خير ضمان لمستقبل ابنتي، وأمام الثقة والأخلاق تصبح المادة تافهة لا قيمة لها. كان عصام ينظر إلى الدكتور إياد في إكبار وإعجاب شديدين.. كان يشعر أنه جالس في حضرة عملاق، تحفه هالة من النبل والشهامة، وينبض قلبه بأرفع المشاعر وقال بنبرات تضح رجولة وقوة: - دكتور إياد.. بعد إذن والدتي، أنا موافق على كل شروطك، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك بي، وسوف تخبرك عن وفائي الأيام... - على بركة الله يا بني.. أتمنى لكما السعادة والهناء والتوفيق. ودخلت سامية وهي تحمل الشاي، وقد تألقت في ثوبها الأزرق السابغ الجميل، وبدا وجهها الذي توردت وجنتاه كزهرة ساحرة تقطر حسنا وروعة وصفاء، ورفع إليها عصام نظرات تفيض حباً وإعجاباً وخفق قلبه لمرآها الذي حرك عواطفه المكبوتة فراحت تتلاطم في أعماقه تريد أن تنبثق، فأشرق وجهه بابتسامةٍ وضيئة زادته جاذبية ووسامة، وأصاخ إلى صوتها العذب وهو ينسكب في أذنيه هامسا دافئا رقيقا: - تفضل ... فشكرها بنبرة هامسة خنقها الانفعال، واشتبكت نظراتهما للحظة، فومضت عيناها ببريق الحب، وأثار الموقف ذكريات الحاضرين، فانفجروا ضاحكين، فبددت الضحكات ارتباك العروسين، وطوحت خجلهما، وحطمت بينهما حواجز التكلف. فهدأ روعهما وانطلقت أساريرهما وسكنت روحاهما، وقد فردت أجنحة الشوق والحنين، فتعانقت في حب وامتزجت في نشوة وحلقت في دنيا فريدة من السعادة والطمأنينة والسلام. * * * الفصل الثالث عشر - إني أعترف لك بأنك طاهية ماهرةً يا أم عصام!.. هل تريدون الحق ؟ لقد بدات أحسد أبنتي على ما سوف تستمتع به من طعام حماتها الشهي اللذيذ ...الله أكبر .. هذا عشاء لن أنساه... تنحنحت زوجت الدكتور إياد تنبه زوجها إلي وجودها وقالت بلهجة متوعدة تصنعتها: _ (( أصبح طعامي الآن لا يعجبك يا دكتور!.. أليس كذالك)) ثم وهي تتجه بالحديث إلي إبنتها: _ هؤلاء هم الرجال يا ابنتي...دائما ينكرون الجميل وينسون المعروف..طبخة لذيذة صنعتها له حماتك ، أنسته كل ما أقدمه له من الأطباق الفاخرة الشهية. قال عصام وهو يرمي حماته بنظرة ودودة فيها دعابة وعتاب: _ سامحك الله يا حماتي .. إني أشم في كلامك لسامية دعوة إلي التمرد ؟؟...أخشى أن المعركة بيننا قد بدأت ! ضحك الجميع في سعادة بينها قالت سامية بلهجة تتراوح بين الجرأة والحياء: _ اطمئني يا أماه.. إن عصاماً رجل وفيّ لا كسائر الرجال. هتف عصام بنبرات مرحة: _ يحيا العدل .. هكذا النساء أو فلا ... بينما قال الدكتور إياد في إنكار: _ هكذا إذن.. يعني أنا رجل بلا وفاء .. أو كما قال الأوائل: (ربوا واتعبوا .. ))!. ضحك الجميع فى مرح،بينما قالت سامية معتذرة: - سامحك الله يا أبت .. لم أقصد هذا ابداً.. قالت أم عصام وهي فرحة بهدا الجوا العائلي المفعم بالسرور: - هنيئاً لكل من أكل .. بالصحة والعافية – إن شاء الله - والآن ما رايكم بكوب شاي ؟ ولم تنتظر جوابهم فهمت بالنهوض إلا أن سامية سبقتها قائلة: - بل أنا التي ستصنع الشاي .. استريحي يا أماه.. ابتسم الجميع لهذه المبادرة وقال الدكتور إياد: - يا لك من كنة وفية يا ابنتي!. أحرجت كلمات الأب سامية وكادت أن تتعثر في خطواتها ، بيد أن ملا محها كانت تنطق بالرضى والسرور، وأسرعت إلى المطبخ وسط سيل من الضحكات الودودة المشفقة ,وما هي إلا برهة حتى تململ عصام فى مكانه، ثم قام محاولاً الإنسحاب للحاق بسامية ،لكن الدكتور إياد فاجأه مداعباً: - إلي أين؟ أجاب مرتبكاً: - ((سوف..سوف أذهب لأساعد سامية فى تحضير الشاي)) ثم أستدرك وهو يمضي : - أخشى أنها لن تعرف مكان الأكواب... - يعني لم تصبر على فراقها .... ضحك عصام وأسرع إلي المطبخ حيث كانت سامية منهمكة في إعداد الشاي، فأطل من الباب ،وقال بصوت هو أقرب للهمس : - مالي أرى القمر شارداً هذا المساء.. - عصام؟ .. أهلاً... - بل أهلأ بك في بيتك . - كيف أنت ؟ - بعدك يعذبني . ابتسمت سامية ولم تنبس بينما تابع عصام: - ((حتى أني لم أصبر على فراقك حتى تحضري الشاي)). ثم تقدم منها في لهفة، وقال وهو يتناول يديها بين راحتيه - سامية ... همست وهيا ترقب الباب في حذر : - أخشى أن يدخل علينا أحد... - وهل نرتكب حراماً .. أنت زوجتي أمام الله وأمام الناس وما هيا إلا أسابيع قليلة ونتزوج ونستقر في بيت واحد... - أعرف ولكن .. - ولكن ماذا؟ - لن ننجو اليوم من ألسنتهم اللاذعة.. لا سيما ((أبي)). ابتسم عصام وقال: - لكم تسرني دعابات أبيك .. إنه ينسيني أنه أستاذي في الجامعة،ويشعرني بأبوة غامرة. قالت سامية كمن تذكرت: - علمت منه أنكما قد اتفقتما على ترك عملك معه في العيادة حتى تتفرغ للتحضير والاستعداد للتخرج. - هكذا كانت رغبته ، لكني سوف أعود إلي العمل معه فور انتهاء الامتحانات . - وكيف دراستك الآن - الحمد لله ، وأنت؟... - لقد أنهيت اليوم مقرر ((الجراحة)) وسوف ابدأ غداً بمراجعة مقرر ((الباطنية)) . - أما أنا فقد راجعت جميع المقررات تقريباً ، وسوف أعيد قرائتها مرة أخرى حتى أتمكن منها تماماً. - يا لدأبك وجلادتك !.. كيف تصبر على كل هذا؟.. إني أراجع المقررات في مشقة، فتكرار المعلومات يورثني السآمة والملل!. - لا أنكر أنني أعاني كما تعانين، لكني أجد في التكرار ترسيخاً للمعلومات وتثبيتاً للأفكار، مما يفتح أمامي آفاق جديدة من الفهم والتركيز ..دعينا من حديث الدراسة الآن ... - عم نتحدث إذاً؟. - عن القلوب .... - وماذا نقول ؟ سألها عصام في عتاب رقيق : - حقاً؟.. أليس عندك شئ تقولينه؟!. قالت وقد تقصدت أن تخفف النار تحت الإبريق: - عندي الكثير... - حدثيني إذاً !. - لا أتقن التعبير . - قولي أي شئ.. أي شئ... المهم عندي أن أستمتع بنبراتك الدافئة العذبة وهي تنسكب في سمعي وتملأ مسارب نفسي. قالت في حياء وهي تتشاغل برصف الأكواب على الصينية : - كثيراً ما تنهال المعاني على نفسي فتفيض بي المشاعر وتتدفق تريد أن تنبثق وتفصح عن مكنونها ،فأكنوها في أعماقي لأبوح لك بها ، وعندما أراك يثقل الحياء لساني فلا ينطلق بها ! - الحياء مني؟... ابتسمت وأجابت وكأنها تدافع عن نفسها : - كلانا على أبواب تجربة جديدة!. رمقها عصام بنظرة حانية،وقال وهو يتأمل عينيها الجميلتين وقد لاذتا بزاويتي محجريها من فرط الحياء: - أدرك هذا يا عزيزتي .. يكفيني حديث عينيك فحدثيهما أبلغ وأحلى...لقد باحتا لي بكل ما يخفق به قلبك من مشاعر وعواطف ، وأخبرتني بكل ما يمور في صدرك العامر بالحب والحنان. سألته في دلال : - هل تتحدث العيون ؟ - ولحديثهما الساحر همس لذيذ لا يتطرق إليه النسيان . - ماذا قالت لك؟ - قالت لي الكثير ، لكن اللسان يعجز أن ينطق بلغة العيون ، فحديث العيون لا تتقنه إلا العيون .... وقطع الحديث عليهما صوت الدكتور إياد وهو ينادي: - أين الشاي يا أولاد ؟ فضحك عصام وقال: - لقد بدأ أبوك هجومه. - الويل لنا من تعليقاته اللاذعة. - إسمعي ... سنقدم لهم الشاى ونستأذنهم لنجلس وحدنا على الشرفة , فالجو فيها هادئ لطيف. همست وهي راضية سعيدة : - ((كما تشاء)) حملت سامية الشاي فقدمته للحاضرين ، ثم مضت مع خطيبها إلي الشرفة الهادئة وكان أول لقاء منفرد بين الحبيبين في ظلال الحلال .. وتوالت بعده اللقاءات السعيدة اللذيذة فشهدت تلك الشرفة أجمل وأروع قصة حب بين قلبين عاشقين جمعت بينها الأقدار........ * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#19
| ||
| ||
الفصل الثاني عشر (( اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من سامية خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي منها شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، اقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به.. آمين، والحمد لله رب العالمين)). لم يخفف هذا الدعاء الضارع الذي استخار عصام به الله في أمر زواجه من قلقه واضطرابه أو يحد من خفقان قلبه الشديد، الذي كان يتلاطم بين ضلوعه، ويرجّ رجاً عنيفا، فتتسارع نبضاته كلما اقتربت عقارب الساعة من السادسة مساء، حيث يأزف موعد زيارته وأمه لمنزل الدكتور إياد ليخطب منه ابنته سامية. إنّه لم يتوقع أن يحدث هذا الأمر في نفسه كل هذا الاضطراب، فمنذ الصباح الباكر، وهو يكابده بأعصاب مرهفة وخيال شارد ، حتى خطبة الجمعة التي كان يصغي إليه بعمق وتركيز أفلتت من إدراكه، عندما بدأ الخطيب يتحدث عن واجب الأمة في إحصان شبابها وفتياتها، وتأمين الضروف الملائمة للالتقاء الحلال بينهم، ومحاصرة أسباب الغواية والفساد في المجتمع فانطلق خياله ليحدثه عن سامية، والخطوة الحاسمة المنتظرة، لتحديد موقعها في حياته ومستقبله، ولم يستيقظ من شروده إلّا عندما رأى المصلين ينهضون لتأدية الصلاة... ودخلت الأم على عصام، وقد ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج فوجدته يطوي سجادة الصلاة فقالت بنبرات ضاحكة: - ما هذه الصلاة التي أديتها؟.. ألم نصلِّ المغرب معاً؟ - إنًّها صلاة الاستخارة.. ركعتان يصليهما المرء ثم يدعو الله عقبهما بدعاء خاص يسأل الله فيه التوفيق والتسديد بعد أن يعد للأمر عدته ويدرس الخطوات التي سيقدم عليها بدقة وروية، ثم يمضي لما ينشرح له صدره وترتاح إليه نفسه. سألته أمه وهي تمازحه: - وكيف تجد نفسك الآن؟ - أمّاه.. لقد عزمت، وتوكلت على الله، هيا بنا الآن.. * * * بين الدور الثالث حيث تقيم أم عصام، والدور الثاني حيث تقيم عائلة الدكتور إياد، مسافة قصيرة لا تحتاج لقطعها أكثر من لحضات قليلة، لكن أم عصام قطعت في خيالها خلال هذه اللحضات ربع قرن من الزمان، حافل بالذكريات والأحداث، وكلما هبطت في السلم درجة تراجعت في خضم السنين عاماً أو أكثر.. تذكرت خطبتها وزفافها.. تذكرت حملها وولادتها.. وتذكرت عصاماً من الميلاد حتى الشباب.. تذكرته وليداً يبكي، وتذكرته طفلاً يحبو.. تذكرته صبياً يلعب وتذكرته فتى ينمو، وتذكرته شابا يافعاً يسمو بأخلاقه وذكائه ونبوغه.. وعندما وصلت إلى الدور الثاني كانت نفسها قد تخففت من كل الهموم والأحزان، وتهيأت لتستقبل الفرحة الجديدة بكل ما أوتيت حواسها من إرهاف، وتخيلت ابنها عريساً وسيماً يزف إلى عروسه الجميلة ففاضت نفسها بالبشر والسرور، وطفح قلبها بالسعادة، ورفت على شفتيها ابتسامة طاغية لم تجد لإخفائها سبيلاً. وتقدم عصام من الباب فقرع الجرس ثم تنحى ليقف خلف أمه.. وفُتح الباب فأطل منه الدكتور إياد وزوجته وقد تأهبا لهذه الزيارة الموعودة، ولسانهما يلهج بكلمات الترحيب الحار، ونظراتهما تشع بالحب والاحترام العميق. واستقر بهم المجلس.. وتشعبت بهم الأحاديث.. فتبادلوا عبارات المودة وأشادوا بعلاقة الجوار الجديدة التي جمعتهم وشرعوا يتكلمون عن الماضي والحاضر، فذكروا الراحلين ومآثرهم وتحدثوا عن الآباء ونوادرهم ووقفوا طويلا عند حديث الأبناء ومشاكلهم، وكلما أوغلوا في السمر شعروا بالألفة تزداد وتتوطد بينهم. وحانت برهة صمت طارئة فانتهزتها أم عصام قائلة: - ليتكم تسمحون لي بكلمة... شعر عصام بأن اللحضات الفاصلة قد أزفت فتعالى وجيب قلبه، وتململ من شدة الارتباك، بينما قال الدكتور إياد وقد لاحظ ارتباكه: - أنت سيدة المجلس يا أم عصام، فكيف نعطيك الإذن بالحديث؟ - قالت أم عصام وملامحها تنطق بالسرور: - الله يبارك فيك يا حضرة الدكتور.. ثم تابعت في تدفق وحماس: - ((تعلمون أنه ليس لي في الدنيا أعز من ولدي عصام، ولن تكتمل سعادتي إلا بتمام سعادته وعما قريب سوف يتخرج –بإذن الله- ولم يبق أمامه إلا الزواج وقد فكرت في الأمر فلم أجد له خيراً من ابنتكم المصونة سامية التي لن أجد فتاة بمثل تربيتها وأخلاقها، لذلك فإني أتشرف بخطبتها بابني لما علمت من ارتياحه لها، وإعجابه بسلوكها المحتشم وخلقها الأصيل.. هذا كل ما عندي، فلا أدري ما هو الرأي عندكم؟..)). ابتسم الدكتور إياد ابتسامته المألوفة، وقال دون أن يفاجئه الكلام: - أشكرك بالنيابة عنا جميعاً على مدحك لابنتنا سامية وتربيتها، واعلمي أنها ابنتك كما هي ابنتنا، وإذا أردت رأيي بالموضوع فإني ألخصه لك في كلمة واحدة. إنني أنا الذي أخطب ابنك عصام لابنتي سامية، لأنني أكون بذلك قد توخيت الرجولة والأخلاق والشرف، ولا أطلب لابنتي أكثر من ذلك. وأردفت زوجة الدكتور إياد: - قد تكون معرفتي بعصام قليلة، لكنني بعد ما سمعته عنه وعن أخلاقه، وبعد أن تعرفت بأختي ((أم عصام)) وخبرت أخلاقها ومعاملتها الكريمة، فإني أتشرف أن يكون الدكتور عصام زوجاً لابنتي أأتمنه عليها. قال عصام بنبرات مرتجفة خنقها الانفعال: - أرجو أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً. قالت أم عصام: - هل نفهم...؟ لكن الدكتور إياد سرعان ما التقط الحديث منها ليزيد موقفه إيضاحاً وتفصيلاً: - ((أرجو أن يكون الأمر كما يتمنى الجميع، لكن رأينا يبقى ثانويا بالنسبة لرأي الفتاة، فهي صاحبة الشأن في هذا الأمر، وتبقى الكلمة الأخيرة الحاسمة لأنها حرَّة في حياتها وفيمن تختاره شريكاً لها وليس لنا إلا أن ننصحها ونوجهها.. أليس كذلك يا عصام؟.. تبدو خجولاً هذه الليلة!)). ضحك الجميع لهذه الدعابة بينما أرسل عصام ابتسامة عريضة فضحت ما يجول في داخله من سرور وارتياح لهذا المنحى الذي يسلكه الحديث، وقال وهو يفرك يديه ليداري انفعالاته: - ((إني أوافقك على ما تقول، فاستشارة الفتاة في أمر الزواج مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام)). وأضافت أم عصام: - هل نؤجل الموضوع يوماً أو أكثر حتى تعرفوا رأي الفتاة؟ أجاب الدكتور بعد أن تبادل مع زوجته نظرة تفاهم: - (( لا داعي للتأجيل.. سنسألها عن رأيها الآن، فأنا واثق من قدرة ابنتي على اتخاذ قراراتها بشجاعة ووضوح، وإذا ما أرادت مهلة لتحديد موقفها أمهلناها،.. عن إذنكم... )). ثم أومأ لزوجته فلحقت به.. كانت غرفة سامية قريبة من الصالة بحيث كانت تستمع لكل ما يقال، ورغم أنّها كانت تتوقع هذا الحدث وتترقبه، إلاّ أنّ الأمر أربكها تماماً، ووضعها فجأة في مواجهة حلم لذيذ. وسرت الفرحة في أوصالها، فاجتاحتها موجة من السعادة والحبور. وأرادت أن تستعلي على مشاعرها المتدفقة لتبدو في تماسك طبيبة رصينة توشك أن تحتل موقعها المميز في المجتمع، لكن الفرحة كانت أقوى منها، فأطلّت من عينيها، ورفرفت فوق شفتيها، وعندما سمعت وقع أقدام أبويها وهي تقترب من حجرتها، حاولت عبثاً إخفاء الفرح والسعادة التي أشرق بها وجهها، لكنها لم تستطع، فتضرجت وجنتاها بحمرة الحياء وخشيت أن تفضح ملامحها مشاعرها، فتناولت كتاباً وتظاهرت بأنها منهمكة في قراءته.. وسمعت طرقاً خفيفاً على الباب فاضطربت له، وماتت الكلمات على شفتيها فلم تنبس. وفتح الباب فخفق قلبها بعنف وانتشرت أمواج الانفعال في أغوارها وراحت تضغط على صدرها فأرسلت تنهيدة لتنفس بها عن جيشان مشاعرها المستبدة العارمة. أغلقت أمها الباب، وقالت مداعبة: - لا تقولي بأنك منهمكة في القراءة، لا بد أنك سمعت حديثنا مع عصام وأمه. لم تجرأ سامية أن ترفع رأسها من شدة الحياء، فلاذت بالصمت والإطراق، وازدادت ابتسامتها اتساعاً: ووجنتاها احمراراً، وأحاسيسها اضطراماً. قال الأب وقد فهم موقف ابنته الذي خمنه منذ مدة: - هل أفهم أنك موافقة؟.. فالسكوت علامة الرضا. أردفت الأم : - يجب أن تحددي موقفك، فالجماعة بانتظار جوابك.. عصام شاب ممتاز تعرفين عنه أكثر مما أعرف، وأمه سيدة طيبة.. إنكما لائقان ببعضكما فلا داعي للتردد. هل أفهم اعتصامك بالصمت على أنه الجواب؟ صمت الأبوان بانتظار جواب ابنتهما غير أنها داومت الصمت والإطراق وأخذ الحياء منها كل مأخذ فمدّ الأب يده إلى وجهها المورد ورفعه من ذقنها فأمالت رأسها في دلال وأسبلت جفنيها في وداعة، وقد أشرق وجهها بابتسامة تشي بالرضا والقبول، وأذاعت ملامحها الباسمة السعيدة السر المكنون، ونطقت بالقرار.. فامتلأت نفس الدكتور إياد بالغبطة وقال وهو يطبع على جبينها قبلة حانية: - مبروك يا ابنتي.. مبروك.. وفقك الله وكتب لكما السعادة والهناء. بينما مالت الأم على ابنتها وراحت تمطرها بالقبلات. * * * كان قلب عصام يخفق بشدة رغم أنه كان موقناً بالموافقة، أم الأم فقد كانت تنتظر الجواب على أحر من الجمر، فلقد أحبّت سامية وشعرت نحوها بارتياح عجيب إنها تشفق أن تفلت هذه الفتاة من يدها، لأنها أنسب من رأت لابنها الحبيب الذي باتت تشعر بأحاسيسه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه وتنظر إلى الوجود بعينيه، وما إن عاد الدكتور إياد حتى تعلقت العيون بشفتيه الباسمتين أن تنفرج عن القرار الأخير. - ((مبروك يا بني.. على بركة الله...)). هكذا هتف الدكتور إياد وهو يتجه إلى عصام.. وتصافح الرجلان، وشد كل منهما على يد الآخر في ود وحرارة وقال عصام بنبرات منفعلة: - بارك الله فيك يا عماه.. أطمئنك بأني سأضع سامية في عيني هاتين، وسأسعى لإسعادها السعادة التي تليق بها، ليس لأنها ستكون زوجتي الغالية فحسب، ولكن لأنها إبنة الرجل الذي هو في مقام والدي – رحمه الله - . - رحمهُ الله رحمهُ الله .. أنا واثق من أن سامية قد أحسنت الإختيار.. بارك الله لكما في زواجكما ومد في عمركما حتى تفرحا بأولادكما وأحفادكما يا.. يا صهري العزيز. ولم تستطع الأم أن تلجم فرحتها فأرسلت لسانها بالزغاريد، وعندما حاولت أن تبارك لابنها خانها لسانها، فهبت دموع الفرح لتكون ابلغ تهنئة في هذه المناسبة السعيدة. ودخلت زوجة الدكتور إياد والفرحة تطل في عينيها وهتفت في نبرات تضج بالسرور: - مبروك يا عصام.. لكم يسعدني أن تكون زوجاً لابنتي سامية. وصاح الدكتور إياد في إنكار تصنع ليداعب القلوب الفرحة: - ألا تجلسون؟.. لستم أول من خطب وتزوج!!. ثم وهو يرفع صوته أكثر: - سامية.. أين الشاي يا سامية؟ وقالت زوجته ترجوه: - بالله عليك لا تحرجها هكذا.. ثم وهي تتجه بالحديث إلى أم عصام: - لو ترين وجهها ونحن نسألها عن رأيها.. إنه بحمرة الورد من شدة الحياء.. قالت أم عصام: - لأنها فتاة أصيلة ومرباة. لو تعلمين كم أحببتها.. لقد دخلت إلى قلبي منذ أن رأيتها أول مرة. ثم وقد جلست بجانب ابنها الذي كان يعاني من الارتباك والخجل: - والآن ما رأيكما لو نتحدث عن المهر والذهب وكتب الكتاب وغير ذلك من الأمور؟... قال الدكتور إياد بعد أن تبادل مع زوجته نظرة فهمت مرماها فوافقته بإيماءة من رأسها: - ((أرجو أن تسمعا رأيي في هذه الأمور.. أنا لا أحب الوقوف عن المسائل المادية كثيرا، لا سيما مع من أحبهم واحترمهم وأثق بمعاملتهم.. مهر هذه الفتاة خاتم من الذهب، هذا المقدم، أما المتأخر فأترك تقديره لعصام، على أن لا يتجاوز المقدار المتوسط الذي اعتاد عليه الناس في مجتمعنا، وبعد ذلك فإن عصاماً حر فيما يقدمه لبيته وزوجته، أما بالنسبة لكتب الكتاب فأرجو أن يتم في أسرع وقت ممكن، حتى يتاح للعريسين حرية الالتقاء في ظلال الشرع والحلال، أما العرس فيتم حسب اتفاق العروسين.. بقي شئ آخر.. هديتي لابنتي سامية بمناسبة زواجها ستكون الشقة المقابلة للشقة التي تقيمان بها، وسأكتبها باسمها في أقرب وقت.. هذه شروط لا أتنازل عنها بحال.. ثمة رجاء أخير.. أرجو من عصام وسامية أن لا تلهيهما الخطبة والزواج عند دراستهما وطموحاتهما الكبيرة، التي تحتاج إلى جهد كبير، هذا كل ما عندي بصراحة وإصرار)). رفعت أم عصام حاجبيها دهشة وهمست: - لكن هذا كثير يا دكتور.. لقد غمرتنا بكرمك. اعترض الدكتور على كلامها بإشارة من يده وقال: - أستغفر الله يا أم عصام، هذا ليس كرما.. هذه واقعية، فأنا واثق من زوج ابنتي، ومتأكد من أنه لو كان يملك الملايين لفرشها لسامية، فلماذا أضع له شروطا تحرجه وتكبله؟. إن أخلاقه العالية هي خير ضمان لمستقبل ابنتي، وأمام الثقة والأخلاق تصبح المادة تافهة لا قيمة لها. كان عصام ينظر إلى الدكتور إياد في إكبار وإعجاب شديدين.. كان يشعر أنه جالس في حضرة عملاق، تحفه هالة من النبل والشهامة، وينبض قلبه بأرفع المشاعر وقال بنبرات تضح رجولة وقوة: - دكتور إياد.. بعد إذن والدتي، أنا موافق على كل شروطك، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك بي، وسوف تخبرك عن وفائي الأيام... - على بركة الله يا بني.. أتمنى لكما السعادة والهناء والتوفيق. ودخلت سامية وهي تحمل الشاي، وقد تألقت في ثوبها الأزرق السابغ الجميل، وبدا وجهها الذي توردت وجنتاه كزهرة ساحرة تقطر حسنا وروعة وصفاء، ورفع إليها عصام نظرات تفيض حباً وإعجاباً وخفق قلبه لمرآها الذي حرك عواطفه المكبوتة فراحت تتلاطم في أعماقه تريد أن تنبثق، فأشرق وجهه بابتسامةٍ وضيئة زادته جاذبية ووسامة، وأصاخ إلى صوتها العذب وهو ينسكب في أذنيه هامسا دافئا رقيقا: - تفضل ... فشكرها بنبرة هامسة خنقها الانفعال، واشتبكت نظراتهما للحظة، فومضت عيناها ببريق الحب، وأثار الموقف ذكريات الحاضرين، فانفجروا ضاحكين، فبددت الضحكات ارتباك العروسين، وطوحت خجلهما، وحطمت بينهما حواجز التكلف. فهدأ روعهما وانطلقت أساريرهما وسكنت روحاهما، وقد فردت أجنحة الشوق والحنين، فتعانقت في حب وامتزجت في نشوة وحلقت في دنيا فريدة من السعادة والطمأنينة والسلام. * * * الفصل الثالث عشر - إني أعترف لك بأنك طاهية ماهرةً يا أم عصام!.. هل تريدون الحق ؟ لقد بدات أحسد أبنتي على ما سوف تستمتع به من طعام حماتها الشهي اللذيذ ...الله أكبر .. هذا عشاء لن أنساه... تنحنحت زوجت الدكتور إياد تنبه زوجها إلي وجودها وقالت بلهجة متوعدة تصنعتها: _ (( أصبح طعامي الآن لا يعجبك يا دكتور!.. أليس كذالك)) ثم وهي تتجه بالحديث إلي إبنتها: _ هؤلاء هم الرجال يا ابنتي...دائما ينكرون الجميل وينسون المعروف..طبخة لذيذة صنعتها له حماتك ، أنسته كل ما أقدمه له من الأطباق الفاخرة الشهية. قال عصام وهو يرمي حماته بنظرة ودودة فيها دعابة وعتاب: _ سامحك الله يا حماتي .. إني أشم في كلامك لسامية دعوة إلي التمرد ؟؟...أخشى أن المعركة بيننا قد بدأت ! ضحك الجميع في سعادة بينها قالت سامية بلهجة تتراوح بين الجرأة والحياء: _ اطمئني يا أماه.. إن عصاماً رجل وفيّ لا كسائر الرجال. هتف عصام بنبرات مرحة: _ يحيا العدل .. هكذا النساء أو فلا ... بينما قال الدكتور إياد في إنكار: _ هكذا إذن.. يعني أنا رجل بلا وفاء .. أو كما قال الأوائل: (ربوا واتعبوا .. ))!. ضحك الجميع فى مرح،بينما قالت سامية معتذرة: - سامحك الله يا أبت .. لم أقصد هذا ابداً.. قالت أم عصام وهي فرحة بهدا الجوا العائلي المفعم بالسرور: - هنيئاً لكل من أكل .. بالصحة والعافية – إن شاء الله - والآن ما رايكم بكوب شاي ؟ ولم تنتظر جوابهم فهمت بالنهوض إلا أن سامية سبقتها قائلة: - بل أنا التي ستصنع الشاي .. استريحي يا أماه.. ابتسم الجميع لهذه المبادرة وقال الدكتور إياد: - يا لك من كنة وفية يا ابنتي!. أحرجت كلمات الأب سامية وكادت أن تتعثر في خطواتها ، بيد أن ملا محها كانت تنطق بالرضى والسرور، وأسرعت إلى المطبخ وسط سيل من الضحكات الودودة المشفقة ,وما هي إلا برهة حتى تململ عصام فى مكانه، ثم قام محاولاً الإنسحاب للحاق بسامية ،لكن الدكتور إياد فاجأه مداعباً: - إلي أين؟ أجاب مرتبكاً: - ((سوف..سوف أذهب لأساعد سامية فى تحضير الشاي)) ثم أستدرك وهو يمضي : - أخشى أنها لن تعرف مكان الأكواب... - يعني لم تصبر على فراقها .... ضحك عصام وأسرع إلي المطبخ حيث كانت سامية منهمكة في إعداد الشاي، فأطل من الباب ،وقال بصوت هو أقرب للهمس : - مالي أرى القمر شارداً هذا المساء.. - عصام؟ .. أهلاً... - بل أهلأ بك في بيتك . - كيف أنت ؟ - بعدك يعذبني . ابتسمت سامية ولم تنبس بينما تابع عصام: - ((حتى أني لم أصبر على فراقك حتى تحضري الشاي)). ثم تقدم منها في لهفة، وقال وهو يتناول يديها بين راحتيه - سامية ... همست وهيا ترقب الباب في حذر : - أخشى أن يدخل علينا أحد... - وهل نرتكب حراماً .. أنت زوجتي أمام الله وأمام الناس وما هيا إلا أسابيع قليلة ونتزوج ونستقر في بيت واحد... - أعرف ولكن .. - ولكن ماذا؟ - لن ننجو اليوم من ألسنتهم اللاذعة.. لا سيما ((أبي)). ابتسم عصام وقال: - لكم تسرني دعابات أبيك .. إنه ينسيني أنه أستاذي في الجامعة،ويشعرني بأبوة غامرة. قالت سامية كمن تذكرت: - علمت منه أنكما قد اتفقتما على ترك عملك معه في العيادة حتى تتفرغ للتحضير والاستعداد للتخرج. - هكذا كانت رغبته ، لكني سوف أعود إلي العمل معه فور انتهاء الامتحانات . - وكيف دراستك الآن - الحمد لله ، وأنت؟... - لقد أنهيت اليوم مقرر ((الجراحة)) وسوف ابدأ غداً بمراجعة مقرر ((الباطنية)) . - أما أنا فقد راجعت جميع المقررات تقريباً ، وسوف أعيد قرائتها مرة أخرى حتى أتمكن منها تماماً. - يا لدأبك وجلادتك !.. كيف تصبر على كل هذا؟.. إني أراجع المقررات في مشقة، فتكرار المعلومات يورثني السآمة والملل!. - لا أنكر أنني أعاني كما تعانين، لكني أجد في التكرار ترسيخاً للمعلومات وتثبيتاً للأفكار، مما يفتح أمامي آفاق جديدة من الفهم والتركيز ..دعينا من حديث الدراسة الآن ... - عم نتحدث إذاً؟. - عن القلوب .... - وماذا نقول ؟ سألها عصام في عتاب رقيق : - حقاً؟.. أليس عندك شئ تقولينه؟!. قالت وقد تقصدت أن تخفف النار تحت الإبريق: - عندي الكثير... - حدثيني إذاً !. - لا أتقن التعبير . - قولي أي شئ.. أي شئ... المهم عندي أن أستمتع بنبراتك الدافئة العذبة وهي تنسكب في سمعي وتملأ مسارب نفسي. قالت في حياء وهي تتشاغل برصف الأكواب على الصينية : - كثيراً ما تنهال المعاني على نفسي فتفيض بي المشاعر وتتدفق تريد أن تنبثق وتفصح عن مكنونها ،فأكنوها في أعماقي لأبوح لك بها ، وعندما أراك يثقل الحياء لساني فلا ينطلق بها ! - الحياء مني؟... ابتسمت وأجابت وكأنها تدافع عن نفسها : - كلانا على أبواب تجربة جديدة!. رمقها عصام بنظرة حانية،وقال وهو يتأمل عينيها الجميلتين وقد لاذتا بزاويتي محجريها من فرط الحياء: - أدرك هذا يا عزيزتي .. يكفيني حديث عينيك فحدثيهما أبلغ وأحلى...لقد باحتا لي بكل ما يخفق به قلبك من مشاعر وعواطف ، وأخبرتني بكل ما يمور في صدرك العامر بالحب والحنان. سألته في دلال : - هل تتحدث العيون ؟ - ولحديثهما الساحر همس لذيذ لا يتطرق إليه النسيان . - ماذا قالت لك؟ - قالت لي الكثير ، لكن اللسان يعجز أن ينطق بلغة العيون ، فحديث العيون لا تتقنه إلا العيون .... وقطع الحديث عليهما صوت الدكتور إياد وهو ينادي: - أين الشاي يا أولاد ؟ فضحك عصام وقال: - لقد بدأ أبوك هجومه. - الويل لنا من تعليقاته اللاذعة. - إسمعي ... سنقدم لهم الشاى ونستأذنهم لنجلس وحدنا على الشرفة , فالجو فيها هادئ لطيف. همست وهي راضية سعيدة : - ((كما تشاء)) حملت سامية الشاي فقدمته للحاضرين ، ثم مضت مع خطيبها إلي الشرفة الهادئة وكان أول لقاء منفرد بين الحبيبين في ظلال الحلال .. وتوالت بعده اللقاءات السعيدة اللذيذة فشهدت تلك الشرفة أجمل وأروع قصة حب بين قلبين عاشقين جمعت بينها الأقدار........ * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#20
| ||
| ||
الفصل الرابع عشر خرجت منى من ((قاعة المطالعة)) ومضت إلى مطعم الكلية فطلبت فنجاناً من القهوة ثم اختارت ركناً هادئاً معزولاً وجلست تحتسي قهوتها في صمت وشرود... ورآها صفوان فتقدم منها وألقى التحية بلهجته المائعة المعروفة فرمقته منى بطرف عينيها وترددت برهة ثم قالت بنبرة جافّة تخلو من الترحيب : - أهلاً... - كيفك؟ - لست سعيدة ... قال وهو يجلس قبالتها.. - لعلك تشعرين بالوحشة...لماذا لم أعد أراك؟ أجابت وهي تحدجه بنظرة ذات معنى : - أنتظر دوري... - دورك؟...دورك في ماذا ؟! - صفوان ما رأيك ((برشا))؟ فاجأ السؤال صفوان فأجابها متجاهلاً وقد ساوره القلق: - رشا ... رشا زميلتنا في الكلية؟ قالت منى في سخرية : - نعم زميلتنا في الكلية ..أم أنك لا تعرفها ؟ - أعرفها . - ماذا تعرف عنها ؟ - ماذا أعرف عنها ؟!... منى ..عمّ ًتتحدثين؟!! سألته في حزم وتحدًًّ: - وميادة؟.. ساءل صفوان وقد ارتاب في أسئلة منى وشعر بأن أوراقه بدأت تنكشف: - ميادة ؟!! - نعم ميادة ..ميادة التي ليست زميلتنا في الكلية: تضاحك صفوان في فتور وقال متظاهراً بالمرح: - منى.... ما بالك اليوم تتحدثين بالأحاجي والرموز؟!! - هل تجد كلامي غامضاً إلي هذا الحدّ؟ - منى ... ماذا تقصدين بهذه الأسئلة الغريبة...ثم ...ثم من هذه التي تدعى ((ميادة))..؟ قالت وهي ترميه بنظرة ثاقبة: - صفوان... متى نتزوج؟ - نتزوج !... وهل هذا وقت زواج؟... - وقت ماذا إذن ؟! - وقت تعب وسهر ودراسة .. هل نسيت أننا على أبواب التخرج.. على فكرة ..لم تعودين تذاكرين عندي! - لم تجب على سؤالي. - زوريني اليوم وسأجيبك. - لن أزورك حتى تحدد موقفك منى . - موقفي؟.. أنت تشكين في موقفي منك يا منى ؟. - أريد ضماناً لمستقبلي . - ((وعد الحرًّ دَين)). أثارت كلمات صفوان سخرية منى لكنًّها تابعت قائلة: - صفوان ..يحب أن تفهمني .. مستقبلي بات في يديك وأنا أريد أن أطمئن عليه .. أريدك أن تخطبني من أهلي، أما الزواج فأجله ما شئت... - كلامك يدل على أنك تشكين بي وبنواياي نحوك .. أنا أحبك يا منى ..والله أحبك ..صدًّقيني. - قدم دليلاًّ واحداً.. قال صفوان في جدّ وامتعاض وقد بدأ يشعر أن منى بدأت تتمرد عليه: - هذا المكان ليس مناسباً لبحث هذه لأمر..تعالي إلي شقتي اليوم وسنناقشه بروية وهدوء. - لن أزور شقتك غير اليوم. - لماذا؟ - لأني أرفض أن أكون لك مجرد عشيقة. - قلت لك سنتزوج ...سنتزوج..صدًّقيني... - أريد الدليل .. قال صفوان في هدوء عاصف: - تتكلمين بنبرة جديدة.. - هذا حقي .. - هذه اللهجة لا تروقني. - أنت حرّ. - أبتسم صفوان في تحدٍّ وقال: - منى ..أنا لا أرحم من يتحداني . - تهددني؟ - بل أذكرك..أنت تعرفينني جيداً ولا أرغب في أن تسوء علاقتي بك.. تعالي اليوم وسنتحدث في هدوء.. وقفت منى غاضبة وقالت بلهجة حاسمة: - لن أدخل شقتك بعد اليوم حتى تقدم الدليل على إخلاصك فتخطبني من أهلي خطبة شرعية تكون لي ضماناً في المستقبل فإن أردتني زوجة كنت لك أخلص زوجة، أما إذا أردتني مجرد عشيقة تتسلًّى بها فأنا أرفض ذالك ..هل سمعت ؟..إني أرفض ذلك... ومضت منى وهي تشعر لأول مرة بأنها تضع قدمها على الطريق الصواب، لكنها ما كادت تمضي خطوات حتى خطر لها أنها تسرعت كثيراً في إعلان ثورتها !.. * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |